أرشيف المقالات

الوضوء والطهارة في الشتاء

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الوضوء والطهارة في الشتاء

طهارة ماء المطر:
ماء المطر طاهر يرفع الحدث ويزيل الخبث؛ قال تعالى: ﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ [الأنفال: 11]، قال الإمام البغوي في تفسير هذه الآية: (يعني المطر، وهو الطاهر في نفسه، المُطهِّر لغيره،...
فالماء مطهر؛ لأنه يطهر الإنسان من الحدَث والنجاسة).
 
إسباغ الوضوء على المكارِهِ، خاصة في الشتاء:
إن من مخالفات الطهارة في الشتاء عدم إسباغ الوضوء لشدة البرد، بل إن بعض الناس لا يأتي بالقدر الواجب من الغسل، فترى البعض لا يشمر يديه بشكل كامل إلى المرفقين عند غسلهما، بل إن البعض يكاد يمسح وجهه ويديه مسحًا بدل غسلهما، وهذا لا يجوز، ويبطل الوضوء، وبناءً عليه تبطل الصلاة تبعًا لبطلان الوضوء؛ إذ إن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين والقدمين إلى الكعبين من أركان الوضوء (مع مراعاة موضوع المسح على الخفين والجوربين والنعلين الذي سنبينه في الفصل الثاني من هذا الباب).
 
وعليه ينبغي على المسلم أن يسبغ الوضوء في أيام البرد، ففضلًا عن وجوبه فإن فيه الأجر العظيم، والدرجات العلى، ومغفرة الذنوب والخطايا؛ روى الإمام مسلم وأحمد والنسائي والترمذي من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)).
 
عن معاذ بن جبل قال: احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا فثوَّب بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: ((على مصافكم كما أنتم))، ثم انفتل إلينا، ثم قال: ((أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري - قالها ثلاثًا - قال: فرأيته وضع كفَّه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثَدْيي، فتجلَّى لي كلُّ شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولِين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام، قال: سَلْ، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكَرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوَفَّني غيرَ مفتون، أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرِّب إلى حبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حقٌّ فادرسوها، ثم تعلموها))؛ (أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل - يعني: البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا صحيح)، وأخرجه أحمد في مسنده، وصححه الألباني).
 
قال الشيخ المباركفوري مبينًا معنى قوله: ((فيم يختصم الملأ الأعلى؟)) في كتابه تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: ((فيم) أي: في أي شيء (يختصم) أي يبحث (الملأ الأعلى) أي الملائكة المقربون، والملأ هم الأشراف الذين يملؤون المجالس والصدور عظمة وإجلالًا، ووُصفوا بالأعلى إما لعلو مكانهم، وإما لعلو مكانتهم عند الله تعالى، واختصامهم إما عبارة عن تبادرهم إلى إثبات تلك الأعمال والصعود بها إلى السماء، وإما عن تقاولهم في فضلها وشرَفها، وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل؛ لاختصاصهم بها، وتفضلهم على الملائكة بسببها).
 
ومعنى إسباغ الوضوء على المكاره: قال الإمام النووي في شرح مسلم: (وإسباغ الوضوء إتمامه، والمكاره تكون بشدة البرد وألم الجسم، ونحو ذلك).
 
وقال القرطبي: (إسباغ الوضوء على المكاره، أي: تكميله وإيعابه مع شدة البرد وألم الجسم ونحوه).
 
وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: (إسباغ الوضوء على المكاره، يعني إتمام الوضوء في أيام الشتاء؛ لأن أيام الشتاء يكون الماء فيها باردًا، وإتمام الوضوء يعني إسباغه، فيكون فيه مشقة على النفس، فإذا أسبغ الإنسانُ وضوءه مع هذه المشقة، دل هذا على كمال الإيمان، فيرفع اللهُ بذلك درجاتِ العبد، ويحط عنه خطيئته).
 
وروى ابن سعد في (الطبقات الكبرى) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه وصى ابنه عبدالله رضي الله عنهما عند موته فقال له: (أي بني، عليك بخصال الإيمان)، قال: وما هي؟ قال: (الصوم في شدة الحر أيام الصيف، وقتل الأعداء بالسيف، والصبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصلاة في يوم الغيم، وترك رَدْغَة الخبال))، قال: وما رَدْغة الخبال؟ قال: (شرب الخمر).
 
ملاحظة هامة جدًّا: بيَّن الشيخ ابن عثيمين في شرحه (إسباغ الوضوء على المكاره) في كتابه شرح رياض الصالحين نقطة هامة فقال: (المهم أنه يتوضأ على كُرْه ومشقة، لكن بدون ضرر، أما مع الضرر فلا يتوضأ، بل يتيمم، هذا مما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات).
 
فديننا دِين يسر لا عسر وشدة، فمن كان مريضًا لا يقوى على استعمال الماء البارد، واستعماله يُلحق به الضرر والأذى، ولا يستطيع تسخين الماء - يجوز له التيمم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣