أرشيف المقالات

وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم - سعود بن إبراهيم الشريم

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .


حجاجَ بيت الله الحرام، الحج ّ في الإسلام الأغرّ يُعدّ نقطةَ ارتكازٍ في ميدان التجرّد والإيثار والأخوة والمساواة، إضافةً إلى دقة أحكامه الشرعية ومسائله الفقهية كبابٍ من أبواب العبادات.

وعامّة أهل العلم مطبِقون على أنَّ النبي لم يحجَّ إلا مرة واحدة، وهي حجة الوداع المشهورة قبل وفاته بأشهر، غيرَ أنَّ آحادَ هذه الحجة وصورَها كانت وما زالت منهلاً للاعتبار ومنبَعاً للادّكار ومرتعاً خصباً لجمع الأوابِد فيها ولقط النِّثار، المتمثّل كلّه في الدروس والعبر والمواقف الموقظة للضمير المسلم الحيّ المهيّأ لفهم سيرة المصطفى واتِّباعها حذوَ القذّة بالقذّة، مع اعتقادنا الجازم بأنَّ هذه الدروسَ والعبر برمّتها لا يمكن أن تُستوعَب في مجرّد خطبة واحدة أو كلماتٍ عابرة، ولا جرَم فإنَّ حجته هي كالبحر من أي النواحي أتيتَه فإنما لُجّتُه المعروفُ وساحلُه البرُّ والتقوى.

الرأفة والرحمةُ والحرص على راحة الغير وسلامته من الأذى أمرٌ منشود بين أهل الإسلام على وجه التأكيد، ولربما ازداد هذا التأكيدُ بوضوح إذا كان الالتقاء الأخوي يسوده جوٌّ من أجواء العبادات الروحية، وفي حجة النبي يُسمع التوجيه المبارك من النبي إلى الفاروق رضي الله عنه حينما وجّهه لتقبيل الحجر الأسود، ونهاه أن يزاحم الناسَ، فإن وجد فرجة وإلا فليستقبلْه ويكبّر ولا يزاحم كما روى ذلك الطبراني وغيره.

وفي هذا الموقفِ يتجلًَّى حرص النبي ودعوتُه لعموم المؤمنين بالتخلّق باللين والرحمة والرأفة والرفق، وأن لا يكونوا سبباً في الإيذاء أو المزاحمة أو التنغيص لأجواءِ العبادة التي لا تكتمل إلا بالطمأنينة والصفاء والبُعد عن كل ما من شأنه تكديرُها وتشويشها.

ومن ذلكم المزاحمةُ والاقتتال في حال أداء بعض النسك في الحج، كتقبيل الحجر أو رمي الجمرات أو سدّ الطرقات في المساجد والممرات، دون مراعاة لأجواء السكينة في العبادة، أو احترامٍ لشعور الآخرين وحقوقهم، والنبي يقول: «إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه» (رواه مسلم).
وتحصيل الأجر في النسك لا يبلغ الكمالَ إلا بالرفق واللين؛ لأن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، كما صحّ بذلكم الخبر عن النبي عند مسلم في صحيحه.

في حجة الوداع المباركة يصعد النبي على الصفا فينظر إلى الكعبة ويستقبلها ثم يوحّد الله ويكبّره ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، أنجز وعده، ونصر عبدَه، وهزم الأحزاب وحدَه»، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
لقد قال هذه الكلمات في أرضِ أمنٍ وأمان، في زمن استقرّ فيه سلطانُه وغلبت فيه رسالته، وهو حينما يذكر اللهَ جل وعلا بهذه الألفاظ إبَّان النسك فإنما هو بهذا يثير في النفس كوامنَ الإيمان بقوةِ الله وقدرته وأثرِ الاعتماد عليه وحده ونسبة القوة والغلبة له سبحانه دونَ سواه، {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].

إن النبيَّ حينما يكبّر اللهَ عند كلّ شوط في الطواف ويكبّر الله عند الصفا والمروة ويكبّر الله عند رمي الجمار ويكبّر الله في أيام التشريق لهو يبعث في النفوس شعوراً عميقاً واستحضاراً أسيفاً لقيمة ذكر الله وتكبيره في حياة المرء المسلم.
وإن كلمة (الله أكبر) لهي رأسُ الذكر وعماده، وهي أوّل ما كلِّف به النبي حين أُمر بالإنذار: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ .
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
[المدثر:1 - 3].

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إنها لكلمةٌ عظيمة تحيي مواتَ النفس الهامدة، لصوتها هديرٌ كهدير البحر المتلاطم أو هي أشدُّ وقعاً، بل إنها سلاحٌ فتاك في وجوه أعداء الملة ولصوص الأرض، وهي سيفُ الحروب الذي لا يُثلم، كيف لا! وقد ذكر النبي أن مدينةً تُفتَح في آخر الزمان بهذه الكلمة، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: «فإذا جاؤوها نزلوا -أي: المسلمون-، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحدُ جانبيها، ثمّ يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبُها الآخر، ثم يقولوا في الثالثة: لا إله إلا الله واللهُ أكبر، فيفرَّج لهم، فيدخلوها فيغنموا» الحديث.
(رواه مسلم).

وعلى صخرات الصفا والمروة يذكر النبي نعمةَ ربِّه عليه وعلى المؤمنين، ويحمده على أن ردَّ كيد الأحزاب وحده ونصر عبده وأعزَّ جنده، وذلك يوم الخندق الذي قال عنه الباري جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً .
إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}
[الأحزاب:9 - 11].

إن الإيمان بقدرةِ الله وحدَه وقهره وغلبته هو الشعورُ الذي ينبغي أن يخامرَ قلوبَ المسلمين في كلّ حين وآن، لأن ذلك يثمر الإقدامَ والاعتمادَ عليه وحدَه، ويبعث في النفس خلقَ الشجاعة وعدم الاستخذاء لصروفِ الأيام وتكالب الأعداء وتحزّبهم ضدَّ أمة الإسلام، وأنه لا ينبغي أن تكونَ الآذان رَجْعَ صدىً للذين يقولون: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، بل ينبغي أن يزيدَهم ذلك إيماناً مع إيمانهم وتعلقاً بالله ويقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.

ولا غروَ أنَّ من يعتقد أنَّ الأجل محدودٌ والرزق مكفول والأشياء بيد الله يقلّبها كيف يشاء فلن يرهبَ الموت والبِلى، ولن يخشى الفقر والفاقة، مهما طقطقت أرجلُ الأعداء الحاقدين، بل سيكون حديثه (تترى) قولَ الله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا} [ التوبة : 51]، أو قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، يعنون بذلك كسبَ المعركة بالنصر أو الموت دونَ الظفر بها وهو حسَن كذلك لأنه شهادة في سبيل الله، {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60].

أما الذين لا إيمانَ لهم بالله ولا بقضائه وقدره، بل طغوا وبغوا وعتَوا عتوّاً كبيراً، فهؤلاء إن انتصروا أو انهزموا فهم بين عذابين: آجل أو عاجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].
وأمثالُ هؤلاء سيحيَون بأفئدة هواء، تلعب بهم الأحداثُ والظنون، وتقف لهم أشباحُ الموت والمصائب عند كلّ أفق، بل هم: {قَوْمٌ يَفْرَقُونَ .
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}
[التوبة:56 - 57].

حجاج بيت الله الحرام، لما غربت شمسُ يوم عرفة، وذهبت الصُّفرة قليلاً حتى غاب القرصُ دفع النبي من عرفة، وقد شنق لناقته القصواء الزمامَ حتى لا تسرعَ وهو يقول بيده اليمنى: «أيها الناس، السكينةًَ السكينة، السكينة السكينة».

إنَّ هذا الموقفَ الجليل الذي تتسابق فيه النفوس إلى الخير، وهي أينما حلت في عرصات المشاعر فهي في نسك ومع نسك ووسط نسك، غير أن الهدوءَ والطمأنينةَ والتأنيَ والسكينة وعدمَ الاستعجال هو الشعور الإيجابيّ المربّي، وهو الطريقة المباركة لكلّ نجاح أمثل.
فالسكينة لا يعدِلها شيء، إذ العجلةُ هي داء المجتمعات، وهي الألغام الموقوتة التي لا تثمِر إلا الأشلاءَ والدَّمار، بل هي من مقتضيات حظوظ النفس البغيضة والجهل بالعواقب وسوءِ المغبّة، وذلك لخروجها عن الإطار المشروع حتى في حال العبادة، يقول الباري سبحانه: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11]، بل حتّى في أدقّ مواضع العبادة يقول النبي: «إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجَب لي» (رواه البخاري ومسلم).

لقد جاء لفظُ العجلة في القرآن متصرفاً في سبعة وثلاثين موضعاً، كلّها على سبيل الذم إلا موضعاً واحداً، وهو قوله جل شأنه: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203].
فالعجلةُ من الخلال المذمومة في أعمال المرء العبادية والحياتية. والواجب على العاقل أن يلزمَ التأنيَ في الأمور كلها؛ لأنَّ الزيادةَ على المقدار في المبتغى عيبٌ كما أن النقصان فيما يجب من المطالب عجزٌ، ومن لم تصلحه الأناة فلن تنفعَه العجلة، بل تضرُّه، وصفاتُ العَجِل أنه يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهَم، ويحمَد قبل أن يجرّب، ويذمّ بعدما يحمَد.
المرءُ العجِل تصحبه الندامة، وتخذله السلامة، وقد كانت العربُ في القديم تكنّي العجلة أم الندامات، ففي العجلة الندامةُ، وفي التأني السلامة، ولقد صدق الله: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37].

خذوا من هديِ نبيكم تفلحوا وتحسِنوا، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
حجاج بيت الله الحرام، لقد تمثّل النبي في حجته بأعظم معاني التيسير والتسهيل والرحمة للعالمين والرأفة بالمؤمنين.
ولقد كان صلوات الله وسلامه عليه حريصاً أشدّ الحرص على أمته بأن لا يكلّفهم ما لا يطيقون أو أن يفعلوا ما لا يستطيعون، ففي يوم العيد يوم الحجِّ الأكبر ما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر في ذلك اليوم إلا قال: «افعل ولا حرج"، فجاءه رجل وقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: «اذبح ولا حرج»، وجاءه آخر فقال: لم أشعر فنحرتُ قبل أن أرمي، قال: «ارمِ ولا حرج»، فما سئل يومئذ عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: «افعل ولا حرج» (حديث متفق على صحته)، ويقول: «نحرتُ ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفتُ ها هنا وجمعٌ كلها موقف» (رواه مسلم).
هذا هو ديدنُه، فلقد كان يأمر دعاتَه ورسلَه باليسر والتيسير، فقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: «يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفّرا» (رواه البخاري).
وهذا التيسيرُ منه هو فيما كان جارياً وفق الشرع والعدل، لا وفق الأهواء والرغبات، إذ لو كان الأمرُ كذلك لما كان هناك تكليف أصلاً، لأن في التكليف نوعَ مشقة ونصَب.

فالواجب على الناس بعامة أن يراعوا مثلَ ذلك، فلا يضيّقوا على أنفسهم فيما جعل الله لهم فيه سعَة، كما ينبغي أن لا يضيِّق المرءُ على نفسه في وقتٍ يخصّصه للطواف مثلاً فيزاحم ويشاغب، وقد جعل الله له فسحةً في الوقت ليتخيّر أيسرَه وأرفقه، وقولوا مثلَ ذلك في الهدي وفي الرمي ونحوهما.

كما أنَّه ينبغي للمفتين والمرشدين في الحجّ أن لا يعسِّروا على الناس بفتاوى لم يصحَّ الدليل فيها، أو بفهمٍ شخصيّ للمسألة دون دليل يجب الرجوع إليه، أو أن يتوسَّعوا في فتاوى ليس لهم فيها سعَة، أو أن يستقلّ بعضُهم برأي أو فتيا تتعلّق بمصير كثير من الحجاج دون تروٍّ أو مراعاة لنصوص الشريعة ، وبدون مشورةٍ عامة لأهل العلم، ولا سيما في موسم الحج لئلا يحدث الخلل بين الحجيج، ويقعوا في التذبذب بين الفتاوى والآراء، فالمفتون مسؤولون أمام الله على فتاواهم، وقد قال النبي: «من أُفتي له بغير علم كان إثمه على من أفتاه» (رواه أبو داود).

وإنَّ من الأخطاء المشهورة بين بعض المرشدين عدمَ التفريق بين الدم في ترك الواجب وبين التخيير في فدية الأذى أي: في ارتكاب محظور من محظورات الإحرام عدا الجماع ، حيث يفتي بعضهم في الجميع بالدم، وهذا خطأ بيّن، فإن الحاجَّ إذا ارتكبَ محظوراً عدا الجماع فإنه مخيّر بين أن يذبح شاةً أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين بنصّ حديث النبي .
وأما إيجابُ الدم استقلالاً فإنما هو في حق من ترك واجباً من واجبات الحج كترك المبيت بمنى أو ترك رمي الجمار ونحو ذلك كما قرره جمهور أهل العلم.

تقبّل الله من الحجاج حجَّهم، ويسّر نسكهم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢