ماذا بعد رمضان [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين, أما بعد:

فإن سؤالاً كبيراً يلوح في الأفق بعد أن وفق الله قيام رمضان وصيامه، وهو: ماذا بعد رمضان؟

فنحن جميعاً نعلم أننا عباد لله سبحانه وتعالى، خلقنا من أجل عبادته، وأنعم علينا بهدايته، وهدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأرسل إلينا أفضل الرسل، وأنزل إلينا أفضل الكتب، وشرع لنا خير شرائع الدين، وكل ذلك نعم منه جل جلاله وفضل، وقد امتن بذلك في كتابه على هذه الأمة فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وقال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143]. وقال: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8].

فكل هذا من فضله ونعمته علينا، فماذا عسى نجيب به هذا السؤال الواضح وهو: ماذا بعد رمضان؟

إنكم تعلمون أن كثيراً من الذين عاشوا في رحاب رمضان الماضي لم يدركوا رمضان القادم، بل سيمضي الزمان بطول أو قصر، ويمضي مع ذلك كثير من القوافل إلى الدار الآخرة، فلم يأت رمضان القادم إلا وكثير من الذين صاموا وقاموا بين الجنادل والتراب، قد قدِمُوا إلى ما قدَّمُوا، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وانقطعوا عن هذه الحياة الدنيا، ولم يعد بإمكانهم أن يزيدوا في ثقل كفة الحسنات، وكثير كذلك من الذين امتنعوا عن أداء ما افترض الله عليهم أو قصروا وفرطوا وندموا لن تتاح لهم الفرصة مرةً أخرى؛ ليروا الله من أنفسهم خيراً، وكثير من الذين امتن الله عليهم بالتوفيق وسددوا ووفقوا ونافسوا في هذا الشهر الكريم هم الآن في وقت يقتص فيه الشيطان منهم؛ لأن هذا الشهر -وهو شهر شوال- مجال لاستغلال الشيطان، فهو يريد أن يأخذ بثأره، فقد تقوى حين أطلق له جنوده الذين كانوا في الأسر عند الله سبحانه وتعالى، فإن الله تعالى في شهر رمضان يصفد مردة الشياطين، لكنه يطلقهم في شهر شوال، فتجتمع عدة إبليس، فيحاول القصاص من الذين فاتوه في شهر رمضان، فيقل الصيام، والقيام، وتدبر القرآن، وقراءته، والجلوس في المساجد، وتقل الدروس والعبر والمواعظ، ويقل البكاء والذكرى، وكل ذلك قصاص يقتصه الشيطان من المؤمنين في هذا الشهر، فلذلك لابد أن نعد العدة، وأن نستعد لمقارعة عدونا الذي يجلب بخيله وركابه ورجله وهو مستعد لأخذ ثأره، وأنتم تعلمون أن المعاصي هي بناؤه وهي لبناته، يأخذ من النظرة، ومن اللفتة، ومن التفكر، ومن غير ذلك مما نفعله من الأفعال القبيحة عند الله تعالى، فيجمع سوراً كبيراً يحيط به الإنسان ويمنعه به من التقدم في ميدان السباق إلى الله سبحانه وتعالى، فهو يبني ليله ونهاره في سوره، ويستعمل كثيراً من الخدم والعمال، يبنون له أسواراً من الذنوب والمعاصي لتحيط بالناس لتقطعهم عن طريق الله جل جلاله، ولكن لفتةً واحدةً من عفو الله تهدم جميع هذا البنيان، فإذا أقبل الإنسان على الله بقلب سليم، وتاب إليه توبةً نصوحاً فإن بنيان إبليس سينهدم من أساسه.

بنى ما بنى حتى إذا ظن أن ما بناه وطيد راسخ الأسس محكم

أتى العفو من كل القواعد ما بنى فخرَّ عليه سقفه المتهدم

ولو أن الفاً من البناة جنوده بنوا كل يوم ألف بيت ورمموا

لهدت بيوت الكل توبة مخلص على ما جناه وصح منه التندم

فلذلك لابد أن نهدم بناء إبليس، وأن نتدارك ما بقي من هذا الشهر ومن العمر، فنجعل الشهر مثالاً للعمر، وننظر إلى ما كنا فيه في أيام رمضان من الصيام، والقيام، وتدبر القرآن، وتلاوته، وسماع الدروس، والمواعظ، والبكاء، والتوبة، نحاول أن نستمر على هذا الحال وألا نتذبذب ونتردد، وأنتم تعلمون أن التذبذب والتردد هو من شأن المنافقين وليس من شأن المؤمنين، فقد قال الله تعالى في وصف المنافقين: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143]. والثبات من شأن المؤمنين, كما قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ( اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك ).

فالثبات مطلوب وهدف, ووعد أيضاً وعد الله به المؤمنين، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم:27]؛ فلذلك لابد أن نحرص على الثبات على ما كنا عليه من الدين، وأن نعلم أن الشواغل والملهيات كثيرة، لكن الزمن قليل، والفرص نادرة، فإذا أتيحت للإنسان فرصة الجلوس في المسجد فعليه ألا يضيعها، وأن يعلم أن هذا قد يفوت، وسيأتي يوم يريد فيه مجالسة الملائكة الكرام فلا يستطيع ذلك، وهو مشغول بما له من أعراض الدنيا، ومشكلاتها، وأمراضها، واشتغالات أهلها، وقد يحاول أن يجد وقت لقراءة ختمة واحدة للقرآن فلا يجدها لكثرة الانشغالات، وقد يحاول أن يجد وقتاً لتدبر صفحة واحدة أو نصف صفحة من المصحف فلا يجد إلى ذلك سبيلاً لانشغالاته، وقد يحاول أن يستطيع قيام الليل ولكن يشغله عن ذلك ما يعرض من العوارض، فإذا أتيحت للإنسان فرصة فعليه أن يبادرها، وأن يعلم أنها قد لا تتكرر.

ومن هنا فعلى الإنسان أن يقوِّم جهده وسعيه في شهر رمضان، فما كان من نعمة الله عليه فعليه أن يعترف بها لله، ( أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ), تقرءون هذا في وردكم اليومي، وهو تقويم شامل؛ لأن التقويم مطلوب في كل عمل، و إبراهيم عليه السلام كان في بنائه للكعبة إذا وضع دوراً من الحجارة نزل فنظر هل هو مستقيم مع ما تحته أم لا.

وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: إن من الصفوة أقواماً منذ استيقظوا ما ناموا, ومنذ قاموا ما وقفوا, فهم في صعود وترق, كلما قطعوا شوطاً نظروا فرأوا قصور ما كانوا فيه فاستغفروا.

ولذلك جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها مؤمناً بها في يوم فمات فيه دخل الجنة، ومن قالها في ليلة مؤمناً بها فمات فيها دخل الجنة ).

فهذا تقويم شامل؛ لأن فيه استغفاراً وإعذاراً إلى الله بالتوبة، وفيه إقراراً لله بنعمته عليك، وفيه استغفاراً لما قصرت فيه ووقعت فيه من الأخطاء، وهذا حقيقة ورد المحاسبة الذي يطالب به كل واحد منا في أصل تربيته؛ أنه إذا أوى إلى فراشه بعد أربع وعشرين ساعةً وهو يريد النوم، عليه أن يحاسب نفسه الآن، فينظر هذا الوقت الذي مضى كم كان عليه من الفرائض؟ ماذا أدى منها؟ وماذا قصر فيها؟ فما أدى منها فتلك نعمة لله في رقبته عليه أن يبادر لشكرها؛ ليديمها الله ويتمها، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

وكل نعمة قيدها شكرها، ومن توحيد الله تعالى، والإيمان به، وإحسان معاملته: أن تبدي له شكر نعمته عليك، ثم بعد ذلك ما وقعت فيه مما حرم الله عليك في هذا الوقت الذي مضى فتبادر للتوبة قبل أن يسخط الله عليك، والله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، فيؤخر العبد بعد أن يقع في الذنب لعله يندم ويتوب إلى الله، ثم يتيح له فرصةً أخرى، ثم يتيح له فرصةً أخرى، وهو الحليم جل جلاله، ولذلك اتصف بصفتين عظيمتين من صفات جلاله وقدسه: صفة الحلم، وصفة الشكر، فهو الشكور، وهو الحليم، فالشكور يتقبل الحسنة الضعيفة القليلة فيبارك فيها ويزيدها ويكبرها حتى تكون في الميزان كجبل كبير، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق امرؤ من كسب طيب إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل )، فهو الشكور جل جلاله، وهو غني عنا وعن عباداتنا، فأنت تسجد سجدةً واحدة فيتقبلها بصفة الشكر فيبارك فيها فتكون خيراً من ألف سجدة، أو من مليون سجدة، في بركة عجيبة جداً يبارك بها في الطاعات، وهو كذلك الحليم، فيأتي الإنسان بالذنب الكبير الذي فيه إسراف على نفسه، ومعاداة لها، وفيه اعتداء على حرمات الله، وتقصير في حق الله، وتفريط في جنبه، ومع ذلك يمهله الله تعالى لعله يتوب فلا يعاجله بالعقوبة، وهو قادر على معاجلته بالعقوبة، وهو قادر على أخذ أصحاب الذنوب قبل أن يقعوا فيها، وقادر على ألا يخلق الذنوب أصلاً، ولا يخلق إبليس، لكنه هو الحليم، فيعفو عن كثير من السيئات، ويعجل بعض العقوبات العاجلة المنقطعة للإنسان في الدنيا لتنبهه على خطئه ويجعلها تكفيراً لسيئاته، فكل مصيبة تصيب المؤمن هي من فضل الله؛ لأنها ستكون تكفيراً وحطاً من سيئاته، حتى الشوكة يشاكها، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فكثير جداً من السيئات يعفو الله عنها، فتدخل في نطاق العفو، فلا تضر الإنسان أصلاً، وتذهب كأن لم تكن، وكثير مما يقع تكون عقوبته أقل من المتوقع؛ لحلم الله جل جلاله، لكن مع ذلك إذا تكاثرت الذنوب، واسودت البصائر، وأدبر الإنسان عن الله، وبارزه بالعداء والمعصية، فكيف يرجى له حينئذ أن يوفق لحسن الخاتمة؟ كيف يرجى له أن يكون ممن يبيض الله وجوههم، وأن يكون وجهه من الوجوه الناظرة إلى وجه الله الكريم، وهو المقصر المفرط المعادي المستمر على إدباره عن الله؟! فالله عز وجل يفتح له الباب وهو يدبر ويوليه ظهره، ولا يقبل على الله في أية ساعة من ليل أو نهار، هذا ليس من المتوقع له القبول أبداً؛ لأنه قد ضل وأدبر بظهره، فلذلك لابد في ورد المحاسبة من تذكر هاتين الجملتين: ( أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي )؛ أن يقر الإنسان بنعمة الله عليه، جليلها وحقيرها، جميع النعم هي عظيمة جداً خصك الله بها، فنعمة النفس الواحد نعمة عظيمة، ونعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة الجوارح, ونعمة كل شعرة من شعرات جسمك، ونعمة كل ذرة من ذراته، فنعم عظيمة جداً أنعم الله بها عليك وخصك بها، فلابد أن تشكرها لله، ( أبوء لك بنعمتك علي ): أقر بها وأتحمل مسئوليتها، ( وأبوء بذنبي )، هذه الجملة الثانية: الإقرار بالذنب الذي يشمل كل تقصير في جنب الله، وكل تفريط في جنبه، فلابد من الإقرار لله بذلك، فكثير من الذين يقعون في الذنوب ينسونها أو يتناسونها، فتكون ذنوبهم كذنوب المنافقين، وقد قال ابن مسعود: لذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا.

فالمؤمن يتذكر ذنبه دائماً ويسوؤه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه سئل عن المؤمن، فقال: من سرته حسنته، وساءته سيئته فذلك المؤمن )، فالمؤمن تسره حسنته, إذا وفق لأية حسنة عدها نعمةً عظيمةً لله عليه وتميزاً فشكرها وحمدها وفرح بها، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

وإذا وقع في سيئة ولو كانت صغيرةً حقيرة ساءته وكرهها من نفسه، وعزر نفسه لقيامها بمعصية الله ومخالفته، فهذا هو وصف الإيمان، ولذلك لابد في هذا الشهر الذي هو شهر شوال من تقويم عملنا في شهر رمضان، فهذا أول شيء في جواب هذا السؤال وهو: ماذا بعد رمضان؟ أولاً: كيف كان عملنا في رمضان؟

وبالتقويم يتبين أن الناس في رمضان على عدد من الفئات ليست متساوية, فهم درجات عند الله، فمنهم السابقون المقربون؛ الذين استغلوا جميع أوقات رمضان، فجاءوا إلى رمضان بقلوب متلهفة تائبة، وهم خالون من الدنس والأوساخ وآثار الذنوب، قد تخلصوا من وضر الذنوب وزهمها قبل دخول شهر رمضان، واستعدوا في رجب وشعبان لاستغلال رمضان في الطاعة، فكانت العشر الأوائل كالأواسط والأواخر مشحونةً بالطاعات في يومها وليلها، وهؤلاء هم السابقون الذين برزوا في الميدان وسبقوا فيه، ولم يدركهم من سواهم، فضاعف الله لهم الحسنات، وكانوا كأنما أدركوا كثيراً من الرمضانات، لم يعد لهم رمضان واحد، بل ضرب في سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، كأنما صاموا آلاف الرمضانات أو ملايين الرمضانات وأقاموها، وكانت الطاعات شغلهم الشاغل طيلة هذا الشهر، ملئوا ساعاته ودقائقه وثوانيه بالطاعات، فهؤلاء الفائزون، وقليل ما هم.

والمرتبة الثانية: الذين كانوا في غفلة قبل رمضان فباغتهم الشهر فجدوا واجتهدوا، وقاموا بما استطاعوا من الواجبات وما يتقربون به إلى الله من السنن والمندوبات طيلة الشهر، وكانوا بذلك من المقتصدين، ففازوا بالعفو والعتق، وأدركوا حضاً وافراً لا بأس به، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم.

والمرتبة الثالثة: الذين قصروا بعد دخول شهر رمضان، فإذا وفقوا للقيام ببعض الواجبات لم يكملوها بالسنن والمندوبات، وكانت واجباتهم ناقصة، فصيامهم ليس فيه كف للجوارح عن المعاصي، وفيه لغو كثير، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم.. إني صائم )، فالصوم جنة، يمنع الإنسان من الوقوع في المعصية والمخالفة، وإذا كان الإنسان ينتهك حرمته ولا يقدر له تقديراً، ولا يزن له وزناً فصومه غير نافع لإيمانه، ولذلك قال الشاعر الحكيم:

إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي بصري غض وفي منطقي صمت

فحسبي إذاً من صومي الجوع والظمأ وإن قلت: إني صمت يوماً فما صمت

وكما قال الآخر:

لا تجعلن رمضان شهر فكاهة تلهيك فيه من القبيح فنونه

واعلم بأنك لن تقوم بحقه حتى تكون تصومه وتصونه

ولكنهم في العشر الأواخر حاولوا الجد والاجتهاد فاعتكفوا، وعكفوا جوارحهم على الطاعة وردوها عن المعصية، وتابوا، فأراقوا العبرات وسكبوها، واجتهدوا في التوبة إلى الله سبحانه وتعالى بصدق وإخلاص، فهؤلاء أيضاً من الظالمين أنفسهم الذين تابوا, فهم معذورون في تقصيرهم، وعسى الله أن يبارك لهم بما وفقوا له، وهذه المراتب الثلاثة هي من الذين أورثوا الكتاب، كما قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32-33].

دون هذه المستويات الثلاث كثير من المستويات المتفاوتة، منها: الذين يعتبرون رمضان فرصةً للمجون والفسوق، فما كانوا عاجزين عنه أو مقصرين فيه من المعصية في غير رمضان انتهزوا ليالي رمضان وغفلات الناس فوقعوا فيه، فلياليهم سهر في المعصية، وأيامهم غفلة وإعراض عن الله تعالى ونوم وسبات، فهؤلاء كان رمضان وبالاً عليهم، ومحرقةً لأعمالهم، ومضيعةً لأوقاتهم، يقصيهم عن الله سبحانه وتعالى، فهم محجوبون عن ربهم جل جلاله، كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].

وآخرون دون هؤلاء يؤدون الفرائض مدخونة، ولا يزيدون عليها، ولا يستشعرون فرقاً بين رمضان وغيره من الشهور، وهؤلاء لم ينتفعوا بهذه المدرسة التي قال الله فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فلم يتقوا، ولم ينتفعوا، ليست عليهم تبعة دنيوية، فقد صاموا أيام الشهر؛ فعقدوا النية، وأمسكوا عن المأكولات والمشروبات والشهوات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ولكن لم يمسكوا عما سوى ذلك، ولم يؤدوا شيئاً من السنن والمندوبات الزائدة على ذلك، فإذا اجتهد أحدهم صلى ركعتين مع الإمام ثم انصرف.

ودون هؤلاء قوم آخرون من ضعفاء الهمم، الضعفاء الإيمان، الذين يرضون باليسير القليل، فيصومون ويحاولون إمساك جوارحهم عن المعصية بالتلهي ببعض اللعب، كأنهم أطفال يشغلون أنفسهم بالألعاب، وفي الليل يبحثون عن أقصر المساجد صلاةً، وأسرع الأئمة قراءةً، فيصلون معه، فإذا صلى ثمان ركعات وأوتر فرحوا بذلك فرحاً شديداً؛ لأنه لم يأخذ منهم إلا عشرين دقيقة، وفرغوا لما هم فيه من الملاهي، وهؤلاء وإن لم تكن عليهم تبعة؛ لأنهم في الجملة كانوا مشاركين في الصيام وفي القيام، لكن مع ذلك كانوا من ذوي الهمم الدنيئة، ورضوا لأنفسهم بأرخص الصفقات وأخسرها وهؤلاء لابد من معالجة لواقعهم قبل فوات الأوان.

وقوم آخرون وفقوا للطاعة، ولكن أنفسهم تغلبهم في بعض الأحيان، فتقع في بعض الخروقات لشهر رمضان إما في الصيام أو في القيام، وهم مع ذلك على ندم وخوف شديد مما وقعوا فيه، وهؤلاء ما وقع من الخرق في صيامهم وقيامهم كان من قبل شيطانهم وهواهم، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، فإذا أروا الله من أنفسهم خيراً فعليهم أن يتداركوا التقصير في شهر شوال، من لم يرض عن صيامه فليصم الآن، من لم يرض عن قيامه فليقم الآن، فيكون ذلك ترقيعاً لما حصل من التقصير والنقص، ثبت ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فجاء مرةً يريد أن يدخل معتكفه، فرأى الأخبية كثرت في المسجد، فقال: آلبر تردن؟ ثم لم يعتكف، فلما كان شوال اعتكف عشر ليال منه ).

فما يقع من الترقيع في شوال هو إلحاق برمضان كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صام رمضان ثم أردفه بست من شوال كان كأنما صام الدهر، الحسنة بعشر أمثالها ).

فرمضان ثلاثون يوماً إذا ضربتها في عشرة تكون ثلاثمائة، وست من شوال إذا ضربتها في عشرة تكون ستين يوماً؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، والسنة القمرية ثلاثمائة وستون يوماً تقريباً، فيكون الإنسان كأنما صام الدهر كله.

لابد بعد تقويم ومعرفة ما حصل من الخطأ والتقصير في شهر رمضان من التوبة النصوح من الآن، فنتوب، وحقيقة التوبة إنما هي الندم على ما فرطنا فيه في جنب الله، وما قصرنا فيه، وهذا الذي لا يستشعره الإنسان إلا إذا أدرك المنافسة والمسابقة، فكثير من الشباب الآن يقول: الحمد لله، أنا كنت صائماً قائماً، وقد قرأت عدة ختمات، وحضرت كثيراً من الدروس، وبكيت من خشية الله في شهر رمضان، وما كنت من أصحاب المعاصي فيه ولا التقصير، لكن يقال له: هل أنت راض في المنافسة؟ هل ستكون من الرعيل الأول ومن أول زمرة يدخلون الجنة؟ لا يمكن أن يرضى عن عمله إلا إذا كان منافقاً، فالمنافق هو الراضي عن عمله الصالح، أما أهل الإيمان فإنهم لا يرضون عن أعمالهم الصالحة أبداً، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، والوجل أشد الخشية.

فلذلك لابد أن تستشعر يا أخي! أنك في منافسة ومسابقة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حدود هذه المسابقة فقال: ( انظر في الدين إلى من هو فوقك، وانظر في الدنيا إلى من هو دونك )، جاء ذلك في حديث أبي ذر وفي حديث أبي هريرة، وقال: ( فذلك قمن ألا تزدري نعمة الله عليك )، فإذا نظرت في أمر الدين إلى من هو فوقك فستنافسه, وتعلم أنك مقصر، وإذا نظرت في أمر الدنيا إلى من هو دونك فذلك أجدر ألا تزدري ولا تحتقر نعمة الله عليك، فإذا تذكرت أن كثيراً هم من المصابين في أبدانهم، أو في عقولهم، أو في أهليهم، أو يشكون من الداء العضال، أو من نقص السعادة في حياتهم، وتذكرت أنت نعمة الله عليك أن هداك للإسلام، وجعل في قلبك هذا النور الذي يخص به من شاء من عباده، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فإنك ستعلم أن الله فضلك على كثير من خلقه، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]، فإذا شعرت بذلك لن تزدري نعمة الله عليك، لن تقول: أنا فقير، ولن تقول: أنا مصاب، ولن تقول: أنا ذو عاهة؛ لأنك تعرف أنه دونك كثير من عباد الله هم أقل منك شأناً، وأقل منك حالاً، وخصك الله بما لم يعطهم من النعم، فلن تزدري نعمة الله عليك إذا نظرت إلى من دونك.

ثم بعد الندم العزيمة على ألا يعود الإنسان لمثل ما حصل من التقصير، وهذه العزيمة تقتضي من الإنسان أن يكون الآن كأنما يعيش في رمضان، فهو عازم إذا أدرك رمضان أن يكون من الرعيل الأول، وأن يجتهد ويجد في تكميل صيامه، وقيامه، وقراءته، وشكره، وذكره، وصدقته، وغير ذلك من الطاعات، ويحاول أن يكون من الذين ينادون من جميع الأبواب، ولا يبقى باب من أبواب الجنة ليس فيه ذكر لاسمه، ولا تبقى ميدالية من ميداليات الشرف التي يوزعها الرب جل جلاله في نهاية رمضان إلا كانت له مشاركة فيها، ولذلك يريد أن يهيئ نفسه من الآن ويعدها، فهو دائماً في رمضان شعاره: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163].

ثم إذا تحققت هذه التوبة النصوح أتى بعد التقويم الأمر الثالث؛ وهو أن تستشعر عداوة إبليس, وأنك في حرب معه، فالإنسان الذي يستشعر الأذان أنه لا يهدد من أية جهة سينام ويمشي على رسله الهوين؛ لأنه لا يحس بأية مضايقة، ولا يحس بأي تهديد، ولا يحس بأي منافسة، ولا يستشعر حرارة الهجوم الذي يهجم به عدوه عليه، لكن إذا أحس الإنسان أنه يتعرض لهجوم شرس من قبل عدو مسلط عليه، يراه هو وقبيله من حيث لا يراهم، فيأتيه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ويجري منه مجرى الدم، وهو يكيد له في وقت نومه فينفخ في أنفه وأذنيه ويبول في أذنه، ويحاول في يقظته إدخال الحزن عليه، إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10]، ويحاول أن يبث العداوة بينه وبين إخوانه، ولكن بالتحريش بينهم، فهو يسعى لإلحاق الضرر به، ولا يمكن أن تتوقع منه طرفة عين من النصيحة لابن آدم أبداً، لا يمكن أن تتوقع أن الشيطان سينصح لك في أية لحظة، أو سيكون محايداً بالنسبة لك في أية لحظة من عمرك، إذا أحسست بهذا التحدي فستستشعره وستقوم حينئذ بالواجب، وما رأيت كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.

فستجد وتجتهد؛ لأنك تستشعر أنك في منافسة ومسابقة، وأنك تتعرض لهجوم شرس، هذا الهجوم لا تستطيع أن تكف سلاح العدو فيه أبداً، لكنك تستطيع إذا أصبت أن ترجع كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202].

فأنت تستشعر أنه قد يتمكن من قلبك لحظةً، أو من عينك دقيقةً، أو من أذنك ثانيةً، أو من يدك أو رجلك، أو أية جارحة من جوارحك، فيحاول استغلالها، وينتهز الفرصة, فلا تظن أن قلباً قد وقع في يد إبليس اليسرى سيبقى معطلاً، بل لابد أن يجتهد في استغلاله في تلك الطرفة، ولا تظن أن عيناً أسلمها صاحبها لإبليس ستكون فارغةً من المعصية أبداً ولو في طرفة عين، ولا تظن أن أذناً تمكن منها الشيطان ستخلو من المعصية أبداً، ولا أن يداً ولا فرجاً ولا رجلاً ولا أي جارحة من الجوارح أمسكها إبليس لا تظن أبداً أن الوقت سيفوت دون استغلالها في معصية الله ومخالفته، لكن ستأتي المبادرة، ويأتي عدم الاستمرار على مكائد إبليس، كما قال تعالى: تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فيتذكر الإنسان عداوة إبليس له، وما يريد له من الوقوع في نار الجحيم، وما يريد له من المساواة معه في دخول النار، لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:85]، فهو يريد أن يكثر أتباعه في النار، فلذلك لابد أن تجتهد في التذكر والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والإنابة إليه، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، فالتوابون لا يمكن أن يكونوا من التوابين إلا إذا كانوا يخطئون ثم يتوبون، ومن كان يخطئ ثم يتوب فهو متصف بهذه الصفة؛ أنه من التوابين، وهم الذين يحبهم الله جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، ( لو لم تذنبوا ثم تتوبوا لذهب الله بكم ثم لجاء بقوم يذنبون فيتوبون فيستغفرون فيغفر لهم ).

ثم بعد ذلك تأتي المرتبة الرابعة وهي: استغلال نعم الله عليه استغلالاً رشيداً، فتذكر نعمة شبابك وفراغك وصحتك، وغير ذلك من النعم التي يغبن فيها الناس، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة, والفراغ )، فتذكر صحتك الآن وفراغك، وتذكر شبابك قبل هرمك، وتذكر حياتك قبل موتك، وتذكر غناك قبل فقرك، فكثير من النعم التي أنت فيها الآن وتتمتع بها إذا لم تستغلها فإنها تكون حسرةً وندامةً عليك، فلابد أن تستغلها من الآن استغلالاً حسناً، والاستغلال الحسن هو الاستغلال الرشيد، فتنظر إلى أربح الصفقات وأزكاها في ميزان الحسنات، فتبادر إليها، ولن تعدل حينئذ بالفرض؛ لأنه أربح شيء عند الله: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )، والفرض إنما يتم أيضاً بأربع مراتب:

المرتبة الأولى: تعلمه، فلا يمكن أن تؤدي فرضاً وأنت لا تعرف حكم الله فيه، فإذاً لابد أن تتعلم ما فرض الله عليك فتبادر إلى ذلك، وتستغل هذه الأيام, فكل يوم من الأيام تحاول أن تزداد فيه علماً يقربك من الله، ويزيدك خشيةً له، والعلم هو ما أدى إلى خشية الله، فالذين يدرسون في الجامعات، ويأخذون الشهادات العليا والتميز، ولكنهم لا يزدادون خشيةً لله لا فائدة في علمهم، والكلمة الواحدة تسمعها من الصدق والحق فتقربك من الله، وتقتضي منك توبةً وندامةً هي خير لك مما طلعت عليه الشمس، وخير لك من كل تلك الشهادات والعلوم، فإذاً المهم في العلم هو ما يؤدي إلى خشية الله جل جلاله، ويزيد خوفاً منه ومعرفةً به.

ثم المرتبة الثانية من أداء الفرائض: هو تنفيذها على وفق العلم أي: أن تعمل على نحو ما علمت، وقد أحسن من انتهى إلى ما عمل، فإذا علمت أن الله أوجب عليك هذه الصلاة، وعلمت هيأتها، فأدها على وفق ما علمت، وإذا علمت أن الله أوجب عليك الزكاة، وحدد لك الجزء المأخوذ، وحدد النصاب، وحدد لك المصرف، فأدها على وفق ما علمت، وهكذا في كل الفرائض أن تؤديها على نحو ما علمت من الشرع.

ثم بعد ذلك المرتبة الثالثة: الحضور فيها والصدق، فالعبادة تكون جثةً إذا أديتها على نحو ما علمت في ظاهرها، ولكن مات باطنها، فالذي يصلي الصلاة ما نقص شيئاً من قيامها، ولا من ركوعها، ولا من سجودها، وسلم تسليمتين عن يمينه وشماله، لكنه لم يكن حاضر القلب، ولم يكن خاشعاً في أية لحظة من اللحظات، وما شعر بمناجاة الله جل جلاله، ولا ذاق طعم الأنس بالله في صلاته، فصلاته جيفة، والجيفة نجس، لا يؤتى بها إلى المسجد أصلاً، ولا يرضى أحد بمخالطة الجيف والقاذورات، فلذلك لابد أن نحرص على المعنى المقصود من الفرائض، والمعنى المقصود من الفرائض هو ما يتعلق بتحقيق العبودية فيها لله، فالتوحيد معناه: أن تكون هذه العبادة خالصة لوجه الله الكريم، وأن يكون العبد يريد بها خدمةً لمولاه وخالقه وباريه، فإذا كان العبد يؤديها كالمكره، أو يريد بها أعين الناس يرائي بها، أو يؤديها وهي ثقيلة عليه، أو يؤديها وهو غافل لاه عنها، فهذه العبادة لا معنى لها، ولا طعم، ولا رائحة، وليس فيها فائدة.

فإذاً: لابد أن نستشعر المعنى في العبادات وبالأخص في الفرائض، وهذا المعنى يشمل النية، والحضور، والخشوع، ثلاثة أمور لابد منها في الفرائض كلها، وهي من معناها الزائد على مبناها، فمبناها هو ظاهرها أي: الحركات والسكنات، ومعناها هو: النية, والحضور, والخشوع.

ثم بعد ذلك تأتي المرتبة الرابعة وهي: عدم إبطالها، فحاول يا أخي! أن تزك فرائضك، وألا تبطلها، فكثير من الناس يوفقون للطاعات، ولكنهم يبطلونها إما بالمحاذيات والقرائن، وإما بالمبطلات من اللواحق، فيخالفون ما كانوا فيه، فهو الآن ساجد لله غير متكبر عن حكمه، يعفر أشرف ما فيه في الأرض، ويضع جبهته وأنفه ويديه منبطحاً بين يدي الله إجلالاً لوجهه الكريم، لكن عندما يقوم ويخرج من المسجد يخالف أمره، ويرد حكمه، فهذا أين هو من التواضع الذي كان فيه الآن لله؟ كيف يبادر إلى معصيته فيبيع بالربا، ويغش، ويكذب، ويمشي بالنميمة، وينظر إلى ما حرم الله عليه وهو الآن كان منخفض الوجه بين يديه متذللاً لوجهه؟! هذا التناقض غير مقبول، ولا تقبله الفرائض، فالفرائض بنيان، وهذا البنيان إذا كنت تبني ثم تهدم فمتى يصل إلى كماله؟ ومتى يبلغ البنيان يوماً كماله؟ إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم، فضلاً إذا كنت أنت تهدمه بنفسك، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، فلذلك لابد ألا تقع في تناقض فيما يتعلق بفرائضك، فهذه أربع مراتب: تعلم أحكامها، ثم تطبيقها على وفق العلم، ثم العناية بمعناها، ثم بعد ذلك عدم إبطالها باللواحق أو القرائن التي تفسدها.

ثم بعد هذا إذا أكملت الفرائض فأنت ولله الحمد على خير، فاجتهد بعد ذلك في السنن والمندوبات، وتدرج فيها، فنحن نعلم أن الإنسان إذا شق على نفسه، وبالغ في وقت من الأوقات، فقال: سيجعل شوالاً تماماً مثل رمضان، فأقوم نصف الليل، وأصوم أيام الشهر جميعاً، وأجلس من الظهر إلى العشاء في المسجد مثلاً أو إلى المغرب، فلا يستطيع القيام بذلك، ولا أداء الحقوق والواجبات، وما شرع الله هذا، ( والمنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى )، والإيغال في الدين لابد أن يكون برفق؛ فلذلك على الإنسان ألا يتشدد في هذا الجانب أبداً، فليس الحال كذلك، بل لابد من الفقه بالدين الذي يقتضي أن تأخذ لنفسك حقها، ولأهلك حقهم، ولجيرانك حقهم، وأن تعطي ربك حقه أيضاً، فآت كل ذي حق حقه، فمن هنا لابد أن تكون من الذين يأخذون قسطاً من السنن، وقسطاً من المندوبات، وقسطاً أيضاً من الراحة، وقسطاً من أعمال الدنيا، والحقوق التي عليك، فتوزع وقتك توزيعاً رشيداً في هذا، ثم بعد ذلك لابد أيضاً أن تحرص على أن تكون من المهتمين بالشق الثاني من التكليف، فالتكليف شقان: شق خصوصي يتعلق بخاصة نفسك، كترك المعاصي وفعل الطاعات، وشق لا يتعلق بك وحدك؛ لكن يتعلق بالأمة جميعاً من المسلمين، وهو فروض الكفايات، فلابد أن تهتم بها، ولابد أن تكون لك مشاركة في الدعوة، ولابد أن يكون لك مشاركة في الجهاد، ولابد أن تكون لك مشاركة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولابد أن تكون لك مشاركة في التعليم، ولابد أن تكون لك مشاركة في إماطة الأذى عن الطريق، ولابد أن تكون لك مشاركة في أمر عام ينفع المسلمين، فأنت خلقك الله لنفع الناس، ( فالناس عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله )، فنحن أمة خلقنا من أجل النفع، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ[آل عمران:110], فنحن خير للناس من كل الأمم، فلابد أن نفعل ذلك، وأن نضحي من أجل الناس، وأن نقوم بأمورهم كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار ).

وتصوروا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المثل العظيم: شخص جمع حطباً كثيراً، وأخذ ناراً كبيرةً في الليلة الظلماء في وقت الخريف، فجاءت الحشرات تتساقط في النار، وهو لا يريد أن تحترق فيها أي حشرة، فهو مشغول في كل أوقاته بردها من جميع الجوانب, ويحاول منعها من الوقوع في النار، ( ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار )، فهو عمل شاق ومكلف، ولكنه لابد منه، فلابد أن تحرص يا أخي! على النفع العام، وأن تكون مشاركاً فيه، ولا يكون ذلك إلا بالاهتمام بشأن أمتك، فتتذكر ماذا على هذه الأمة الآن في شوال من المشكلات؟ وما هي فيه من البوائق والمعضلات؟ أين مشاركتك أنت وأنت عضو من أعضاء هذه الأمة؟ ولديك كثير من الطاقات التي تملكها الأمة، هل ستعطلها فتكون عبئاً عن الأمة وكلاً عليها أو تستغلها فتكون نفعاً للأمة، وتكون قائماً بجزء من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل مما كان يعمله، والأمة في أمسِّ الحاجة إليه، فلا تخيب الأمل المعقود عليك، فالأمة الآن تنتظر ماذا سيفعله شبابها؟ وماذا سيقدمون لها؟ وهل ستكون لهم نصرة وقيام بهذا الحق؟ وهل سيكون لهم أثر في قمع الأعداء ورد كيدهم وعدوانهم؟ فلذلك حاول ألا تخرب الأمل المعقود عليك.

ثم بعد هذا تذكر أن مواسم الخير تأتي تباعاً، فقد كنت في موسم الصيام في شهر رمضان، لكن بليلة العيد دخلت في موسم جديد وهو موسم الحج، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وهي شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، فقد دخلت الآن في موسم الحج، فمن استطاع أن يخرج فعليه أن يعقد النية لذلك، وأن يباشر الأسباب، وأن يكون الآن في نشاط يؤدي إلى الحج، ومن كان عاجزاً عن ذلك حج بقلبه فهو متعلق بحج محب له، محب لأهله، مكتوب معهم، ( إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً، ولا نزلتم منزلاً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر ).

فلذلك تجتهد في موسم الطاعة الجديد وهو موسم الحج، ثم تذكر أنه إذا انتهى شوال فسيدخل موسم آخر وهو الأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة أشهر سرد من الأشهر الحرم، التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36].

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صم من الحرم وأفطر، صم من الحرم وأفطر، صم من الحرم وأفطر ).

ثم بعد ذلك تذكر أنه عندما ينتهي الحج ستنتهي السنة معه، وتبدأ سنة جديدة بدايتها المحرم، فهذا موسم جديد في العمر، ومحطة جديدة من محطاته, قد تكون الأولى ختمت بخير، ولكن يحتاج الإنسان من جديد إلى همة عالية لاستئناف السنة الجديدة، وقد تكون الأولى ختمت بتقصير ونقص -والأمور بخواتيمها- فيمكن أن يتدارك ذلك في السنة التي بعدها، وقد قال الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه:

بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمن

يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

نقتصر على هذا.

اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد, وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السموات والأرض، أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا بين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.

اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ولا تجعلنا أتباعه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا من حبك، وإذا أردت بقوم فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم املأ قلوبنا من الإيمان، وأجسادنا من الصحة، وجوارحنا من الطاعة، وأيدينا من الخير، وأغننا عمن أغنيته عنا من خلقك، اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واكلفنا بركنك الذي لا يرام، واجعلنا في جوارك الذي لا يضام، وارحمنا بقدرتك علينا، فلا نهلك وأنت رجاؤنا، فكم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك بها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل لك بها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلا يحرمنا، ويا من قل عند بليته صبرنا فلم يخذلنا، ويا من رآنا على الخطايا فلم يفضحنا، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً، ويا ذا النعمة التي لا تحصى عدداً، نسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وبك ندرأ في نحور الأعداء والجبارين، اللهم أعنا على ديننا بالدنيا، وعلى آخرتنا بالتقوى، واحفظنا فيما غبنا عنه, ولا تكلنا إلى أنفسنا فيما حضرناه، يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو هب لنا ما لا ينقصك، واغفر لنا ما لا يضرك، إنك أنت الوهاب، نسألك فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً، ورزقاً واسعاً، والعافية من البلايا، ونسألك تمام العافية، ونسألك دوام العافية، ونسألك الشكر على العافية، ونسألك الغنى عن الناس.

اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك رهابين أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوباتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.

اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك، اللهم إنا نسألك بوجهك الكريم الفردوس الأعلى من الجنة، ونسألك الفرح عند لقائك، ونسألك الثبات عند النزع، والأمن تحت اللحد، والتوفيق عند السؤال، اللهم اجعل قبورنا رياضاً من رياض الجنة، ولا تجعلها حفراً من حفر النار، اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم اجعل وجوهنا أجمعين من الوجوه الناظرة إلى وجهك الكريم، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وثقل موازين حسناتنا، وأظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقنا من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شربةً هنيئةً لا نظمأ بعدها أبداً، وجوِّزنا على الصراط كالبرق الخاطف، اللهم إنا نسألك مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.