نعم الله علينا


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله!

نعم الله تعالى في الكون لا تعد ولا تحصى، قال جل شأنه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وإذا كان الإنسان لا يعرف نعمة الله عليه فكيف له أن يقوم بشكرها؟!

ولقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن الإنسان محاط بنعم لو أفنى عمره كله في عدها لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فنعم الله أكثر من أن يحصيها العباد فضلاً عن أن يقوموا بشكرها.

عباد الله!

لن أحصي عليكم النعم، ولن أعدها عليكم، ولكني سأذكر نفسي وإياكم بنعم ثلاث ألفها الناس وتعودوها، فلذلك لم يعرفوا قيمتها، ولم يؤدوا شكرها، لكن من فقد هذه النعم فإنه يعرف قيمتها ومعناها.

عباد الله!

إنّ ما يحدث في بلادنا هنا وهناك من مواجهات، وتفجيرات، وقتال، وزعزعة للأمن، وترويع للآمنين لا نقبله، ولا يقره عاقل بأي حال من الأحوال، والمستفيد الوحيد من ذلك هم أعداء الله وأعداء الدين، الذين يسعون لزعزعة أمن هذا البلد خاصة وسائر بلاد المسلمين، والمتضرر من ذلك هم أهل هذا البلد الكريم الذين بدءوا يفقدون نعمة الأمن والأمان.

فهذه أول النعم التي أردت أن أذكِّر نفسي وإياكم بفضلها وعظيم شأنها، فالأمن نعمة عظيمة من نعم الله تبارك وتعالى، والله يمتنّ بها على من يشاء من عباده، حيث يشعر فيها الإنسان بلذة الدنيا والنعم التي فيها، فالخائف لا يذوق طعم النعمة لا في مال، ولا في صحة، ولا في غير ذلك، ولهذا كان الأمن نعمة عظيمة، وكان الخوف بلاء عظيماً، والأمن هو طمأنينة في النفس، يقابله الخوف، قال الراغب الأصفهاني : أصل الأمن طمأنينة النفس، وزوال الخوف.

عباد الله! إن الإنسان لا يشعر بحقيقة الأمن إلا عندما يخاف ويشتد خوفه، فكلما كان خوفه أكثر كان شعوره بالأمن حينما يأمن أعمق وأقوى، ومن عرف الشيء ثم فقده فإنه يعرف قيمته، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لما عرف قيمة الأمن دعا ربه أن يجعل البلد الذي ترك فيه ابنه وزوجه آمناً مطمئناً: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126]، فطلب نعمة الأمن أولاً، فاستجاب الله دعوة إبراهيم، ولهذا امتنّ الله على قريش بهذه النعمة التي كفروها بعدم إيمانهم واستجابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، فلما كفروا نعمة الله أبدلهم بالأمن خوفاً.

واستمع إلى حال موسى عليه الصلاة والسلام عندما كان خائفاً حينما قتل الرجل خطأ، فخرج خائفاً، ثم أنعم الله عليه بالأمن، قال تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:18-20]، وما أقل الناصحين اليوم! فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:21-25].

فحالة موسى عليه السلام عندما أصبح في المدينة خائفاً أيضاً، وعندما خرج من المدينة خائفاً يترقب تمثل حالة الإنسان الخائف الفزع الذي يريد الهروب من بطش الظالمين، وعندها توجه إلى ربه أن ينجيه من القوم الظالمين.

يقول صاحب (الظلال): ولفظ (يترقب) يصور هيئة القلِق المتوجِّس الذي يتوقع الشر في كل لحظة، والتعبير يصور هيئة القلق بهذا اللفظ، كما أنه يضخمها بكلمتي: (في المدينة)، فالمدينة عادة موطن للأمن والطمأنينة، فإذا انقلبت المدينة إلى مكان خوف وذعر، فأي نعمة أمن نتكلم عنها!

عباد الله!

تلك هي صورة من صور الخوف والفزع الذي ينتاب الإنسان المؤمن الهارب من الظالمين، وهذه الصور كثيرة جداً، فتأمل في خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة هارباً من الظالمين، فأوى إلى الجبال وهم يطاردونه من كل الجهات، فالجبال تحبنا ونحبها كما قال صلى الله عليه وسلم: (أُحد جبل يحبنا ونحبه)، وأوى فتية الكهف إلى الكهف في الجبل لما خافوا على دينهم، فهيأ الله لهم من أمرهم رشداً، وهيأ الله لهم من أمرهم مرفقاً.

عباد الله! إن نعمة الأمن نعمة عظيمة لا تقدر بثمن، بل كل النعم تفقد طعمها ومعناها إذا فُقد الأمن والأمان، وتأمل قول الله تعالى عن موسى: فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]، فكان أول ما أعطاه إياه أن هدأ من روعه، وهذا أهم شيء يعطاه الخائف، فلا حاجة للطعام ولا للشراب إذا وجد الخوف والفزع، فإن أهم ما يحتاجه الإنسان في ذلك الموقف هو الأمن والأمان.

قال صاحب (الظلال): لقد كان موسى في حاجة إلى الأمن كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب، ولكن حاجة النفس إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الطعام والشراب، فتأمل في قول الشيخ الوقور له: (لا تخف) فجعل أول لفظ يعقِّب فيه على قصة موسى وخبره بالأمن والأمان، ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان.

عباد الله! ذكر الله لنا في القرآن أخباراً وقصصاً عن قرى وأقوام كانت آمنة مطمئنة، ثم تبدل أمنها خوفاً؛ بسبب تكبرهم وتجبرهم على أمر الله، وبسبب ذنوبهم ومعاصيهم وكفرهم بأنعم الله.

وضرب الله لأهل مكة الأمثال، وذكر امتنانه عليهم بالأمن والأمان، فالحرم آمن، ومن دخله كان آمناً، إلا أن الله أبدل أمنهم خوفاً بسبب كفرهم، قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، فهذا المثل يراد به أهل مكة وكل من امتن الله عليهم بالأمن والأمان، قال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4].

قال ابن كثير : وهذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف، فبدلوا نعمة الله كفراً.

وكذلك ذكر الله تعالى عن أصحاب الحجر أنهم كانوا يعيشون في أمن وأمان قال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ [الحجر:80-82]، فالأمن نعمة عظيمة من نعم الله تبارك وتعالى، فانظروا كيف يكون حال الإنسان لو أنه عاش في خوف وهلع، فإنه لا يحس بطعم الحياة ولا بلذتها؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه) تأمل كيف بدأ بنعمة الأمن قبل كل النعم (من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة .

قيل لأحد الحكماء: ما النعيم؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا يهنأ بعيش، قيل: زدنا؟ قال: العافية، فإني رأيت المريض لا يهنأ بعيش، قيل: زدنا؟ قال: الشباب فإني رأيت الهرم لا يهنأ بعيش.

والسؤال الذي يطرح نفسه عباد الله! هو: ما هو سبب ذهاب الأمن والأمان؟ والجواب: إن سب ذلك الظلم والطغيان والتكبر على أوامر الله، إنها المعاصي والمنكرات، ومحاربة رب الأرض والسموات، قال الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، والمجتمع المؤمن الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويتواصى بالحق، ويتواصى بالصبر، ينعم بالأمن والأمان، فلابد أن نعترف أن ما يحدث إنما هو بسبب ذنوبنا وعصياننا، فإذا اعترفنا فلابد من توبة وإنابة، فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة، قال الله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، وقال سبحانه: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، فراجعوا حساباتكم عباد الله! فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

عباد الله! ومن النعم العظيمة التي لم يعرف الناس قدرها وقيمتها نعمة الصحة والعافية، فنعمة الصحة والعافية نعمة عظيمة على الإنسان، ولكن الناس لطول إلفهم للصحة والعافية لا يعرفون قيمة هذه النعمة، وقد قيل في المثل: الصحة تاج على رءوس الأصحاء، ولا يعرفها إلا المرضى، فالإنسان المريض يكون ضعيفاً ولا يستطيع القيام بأمور الحياة على الوجه المطلوب، وأما الإنسان القوي فإنه يقوم بمهامه خير قيام، ولهذا امتدح الله ورسوله القوة، فقد جاء على لسان ابنة شعيب عن موسى عليه السلام قولها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، وكما قال الله عن طالوت : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، رواه مسلم .

فالصحة عباد الله! نعمة عظيمة يجب على الإنسان أن يحس بها، وأن يقوم بشكرها، فالإنسان لو أصيب بأدنى مرض فإنه لا يجد طعم الحياة، إذا قد يتمنى بعضُ المرضى الموت؛ لشدة الآلام التي يجدونها، لكن كما أن المرض عباد الله! ابتلاء عظيم يمتحن الله به الناس، فإن فيه من النعم العظيمة ما الله به عليم، إذا علم المرء أن هذا من البلاء وصبر واحتسب -أي: صبر على المرض- نال الأجر العظيم، ففي المرض حط للذنوب، وتكفير للسيئات، والله تعالى إذا أحب عبده المؤمن فإنه يبتليه بشتى الابتلاءات، وإذا صبر فإن له أجراً عظيماً، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة).

عباد الله! لقد ابتلى الله تعالى أيوب عليه الصلاة والسلام بالمرض، فقال الله عنه: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، ثم بسبب صبره وأوبته إلى الله امتن الله عليه بالصحة والعافية، قال الله عنه: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84]، فتأمل قول: (وذكرى للعابدين)، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، وقال أيضاً صلوات ربي وسلامه عليه: (إن أول ما يسأل عنه العبد من النعم يوم القيامة أن يقال له: ألم نُصحَّ جسمك، ونرويك من الماء البارد).

وأخرج ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: رءوس النعم ثلاثة: أولها نعمة الإسلام التي لا تتم النعم إلا بها، فاحمد الله على هذه النعمة العظيمة.

والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها.

والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.

وزدتُ أنا رابعة وقد ذكرتها قبلاً، وهي: نعمة الأمن والأمان، فلا تطيب كل هذه النعم إلا بها.

اللهم! عافنا في أبداننا، وأسماعنا، وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، ولا تجعل مصيبتنا يا ربنا! في ديننا، واحفظ علينا أمننا وأماننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الابتلاء نعمة عظيمة

الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.

اللهم! صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.

أما بعد:

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].

أحبتي! من النعم العظيمة التي لا يعرف الناس قيمتها، بل قد يستغرب البعض إذا ذكرتها: نعمة الابتلاء، فالابتلاء نعمة عظيمة يمنّ الله بها على عباده المؤمنين خاصة، فالمؤمن ينظر إلى الابتلاء على أنه نعمة عظيمة، فكلما كان الإنسان إلى الله أقرب فإنه ينزل عليه من البلاء ما يكفر به ذنوبه، ويرفع درجاته؛ حتى يكون عند الله من المقربين، فالابتلاء عباد الله! نعمة عظيمة إذا تلقاها العبد المؤمن بالصبر والاحتساب عند الله تعالى، وينظر إليها على أنها من محب لمحبوبه، فالله يحب عبده المؤمن حباً عظيماً، ومع هذا فإنه قد ينزل عليه من البلاء ما لا تطيقه عادة البشر.

والابتلاء معناه: الاختبار، قال الراغب الأصفهاني : بلوته: أي اختبرته، فكأني: أخلقته من كثرة اختباري له، قال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] أي: نعلم حقيقة ما عملتم، الله ينزل على العباد هذه الابتلاءات من خوف، وجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات؛ يختبرهم بذلك، فمن صبر واحتسب كان له الأجر العظيم، ومن لم يصبر كان له العذاب المقيم، قال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

فوائد الابتلاء في الدنيا والآخرة

عباد الله! إنّ في الابتلاء فائدة عظيمة تعود على المؤمن في أمور دينه ودنياه:

أما في دينه: فتقوى عقيدته، وتقوى صلته بالله تبارك وتعالى، وذلك أن الرضا بالبلاء يجعل المؤمن متصلاً بالله تبارك وتعالى، فهو متصل بربه في السراء والضراء، وفي جميع الأحوال.

وأما في دنياه: فإنه يعتاد أن يتلقى المصائب بصبر واحتمال، وبالتالي فإن الأمر يكون بالنسبة له سيان، أي: سواء أكان في السراء أو في الضراء، فإنه يتلقى المصائب بالرضا، فتتحول حياته إلى عطاء وبذل دائم، فلا يعرف الجزع ولا القنوط ولا اليأس؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن).

قال صاحب (الظلال) في بيان الابتلاء: ولا بد من تربية النفوس بالبلاء، ولا بد من امتحان التصميم على المعركة مع الباطل بالمخاوف والشدائد، ولا بد من الابتلاء ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تربي، والشدائد وتخرج الرجال، تخرج مكنون القوى، ومذخور الطاقات، وتخرج من النفوس والقلوب أشياء ما كان ليعلمها المرء لولا الشدة والامتحان، ولن يعرف ذلك إلا تحت مطارق الشدائد. انتهى كلامه رحمه الله.

فوائد الابتلاء بالفقر

عباد الله! إنّ الابتلاءات والمحن نعم عظيمة على المؤمن، تتربى فيها النفوس على الصبر، فيقوى بذلك الإيمان، فالفقر ابتلاء من الله، فإذا صبر الفقير واحتسب كان الفقر له نعمة عظيمة من الله.

فمن فوائد الفقر:

أن الفقير أقل حساباً يوم القيامة من الغني، ولهذا فإن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام)، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعتُ في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء).

وقد ذكرنا في الخطبة الأولى أن المرض ابتلاء من الله وامتحان، فإذا صبر المريض على ذلك واحتسب كان المرض له نعمة عظيمة، فالمرض تكفير للذنوب، وحط للخطايا، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، رواه مسلم .

إذاً عباد الله! فكل مصيبة تصيب المؤمن فإنها تكون نعمة عليه إذا صبر واحتسب، وتكون نعمة عليه لو أنه نظر في أمور أخرى منها: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت.

أخرج ابن أبي الدنيا عن شريح قال: ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عز وجل فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت، وأنها لا بد كائنة مهما كان.

وعن عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: كان يقال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، ويعد الرخاء مصيبة.

ذكر الإمام الغزالي رحمه الله كلاماً طويلاً في بيان نعمة الله في الابتلاء حيث يقول: في كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور ينبغي أن يفرح العاقل بها، ويشكر عليها:

أولها: أن هناك مصائب وأمراض أكبر من هذه، فليشكر إذ لم تكن أعظم مما هي عليه.

الثانية: أنه كان يمكن أن تكون هذه المصيبته في دينه، قال رجل لـسهل رضي الله تعالى عنه: دخل اللص في بيتي وسرق متاعي، فقال سهل : اشكر الله تعالى، كيف لو دخل الشيطان إلى قلبك، وسرق التوحيد وأفسده، ماذا كنت تصنع؟

وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما ابتليتُ ببلاء إلا كان لله تعالى عليّ فيه أربع نِعَم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم تكن أعظم مما كانت، وإذ لم أُحرم الرضا بتلك المصيبة، وأني أرجو الثواب عليها من الله.

ولعل قائلاً يقول: كيف أفرح وأنا أرى جماعة ممن زادت معصيتهم على معصيتي ومع ذلك لم يصابوا بمثل ما أصبت به، وقد يكونون كفاراً؟!

فأقول: اعلم بارك الله فيك أن الكافر والعاصي قد خُبِّئ لهم ما هو أكثر، وإنما أمهلهم الله حتى يستكثروا من الإثم قال تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178].

قال الغزالي : الثالثة من نعم البلاء أنه ما من عقوبة إلا كان يتصور أن تؤخر إلى الآخرة، ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخرى تهون المصيبة فيخف وقعها، وأما مصيبة الآخرة فتدوم، وإن لم تدم فلا سبيل إلى تخفيفها بالتسلي، ومن عُجِّلت عقوبته في الدنيا فلا يعاقب مرة ثانية، فالله أكرم من أن يعاقب العبد مرتين.

قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي وابن ماجة : (إن العبد إذا أذنب ذنباً، فأصابته شدة أو بلاء في الدنيا، فالله أكرم من أن يعذبه ثانية).

الرابعة من نعم البلاء: أن هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب، وكان لا بد من وصولها إليه، ووقوعها عليه، وقد وصلت ووقع الفراغ، واستراح من بعضها أو جميعها، وهذه نعمة من نعم الله.

الخامسة من نعم الابتلاءات: أن ثوابها أكبر منها، فإن مصائب الدنيا طريق إلى ثواب الآخرة، كما يكون الدواء الكريه نعمة في حق المريض، فمن عرف هذه الأمور تُصوِّر منه أن يشكر على البلايا، ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر، إنما الشكر يتبع معرفة النعم بالضرورة، ومن لم يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة أصلاً.

البلاء نعمة إذا صبر واحتسب العبد

عباد الله إنّ في الابتلاء نعم عظيمة إذا رافقها صبر واحتساب، لكن لا يفهم من هذا أن الابتلاء أفضل من العافية، بل العافية أفضل من البلاء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة، روى أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول: اللهم إني أسألك الصبر! فقال صلى الله عليه وسلم: قد سألت البلاء، فاسأل الله العافية).

وأخرج ابن أبي الدنيا عن مطرف بن عبد الله قال: لئن أُعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر.

وقال صلى الله عليه وسلم: (يا عباس يا عم النبي! أكثر الدعاء بالعافية).

وخير ما سألتم الله عباد الله! هو العفو والعافية، فالبلاء أجره عظيم، إلا أن العافية أحب إلى نفس المؤمن، فلعل الإنسان لا يستطيع الصبر على البلاء.

اعلم -رعاك الله، وبارك فيك- أن مفاتيح السعادة ثلاثة:

إذا أنعم الله على العبد شكر، وإذا ابتلاه صبر، وإذا أذنب استغفر، واعلم - بارك الله فيك- أن الله قد يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب والآلام، ووالله الذي لا إله لا هو! إن امتحان النعم أشد من امتحان المصائب والآلام ، وذلك أن النعم تلهي وتطغي وتنسي إلا من رحم الله، قال الله: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا [الإسراء:83-84].

فتأمل أخي! نعمة الأمن والأمان، وتأمل ما يحدث لإخواننا في فلسطين والشيشان، وفي العراق وفي كل مكان، وتأمل نعمة العافية، فهناك مرضى وجرحى لا يجدون من يواسيهم أو يدفع عنهم ذلك الألم، تأمل ولعل الله تعالى أنهم قد أحبهم فابتلاهم، وهو ينظر في أحوالنا وأوضاعنا وماذا نصنع لإخواننا هؤلاء.

اللهم أنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة.

اللهم احفظنا في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه وتذكرهم به إذا نسوه.

اللهم احفظ علينا أمننا وأماننا، اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين!

اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان وفي العراق وأفغانستان، اللهم انصرهم في كل مكان يا رب العالمين!

اللهم إنهم قلة فكثرهم، حفاة فاحملهم، اللهم سدد رأيهم ورميهم، اللهم كن معهم ولا تكن عليهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم مظلومون فانتصر لهم يا رب العالمين!

اللهم اقلب أرض الفلوجة على الكفار ناراً، واجعل سماءها شهباً وإعصاراً، اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض، وما نزل من السماء.

اللهم اشدد وطأتك على اليهود والنصارى المعتدين، واشدد وطأتك على المنافقين وعلى من عاون الظالمين يا قيوم السماوات والأرضين!

اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج المؤمنين من بينهم سالمين.

عباد الله!

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].