خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8330"> شرح مقدمة الترمذي
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [9]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، اللهم سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلا زلنا نتدارس الباب الثاني من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه رحمة رب العالمين، وعنوانه: باب ما جاء في فضل الطهور. وقد ساق الإمام الترمذي الحديث من طريق شيخيه: إسحاق بن موسى الأنصاري ، وقتيبة بن سعيد إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب)، قال أبو عيسى رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.
وكنا نتدارس المسألة الثانية من المبحث الثاني الذي دار حول فقه الحديث وبيان معناه، وقلنا: في ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: في تكفير الطاعات للسيئات. وفصلت الكلام على ذلك فيما تقدم.
والمسألة الثانية: في كيفية خروج الخطايا من أعضاء المتوضئ عندما يتوضأ.
وهذه المسألة الثانية في المبحث الثاني تدارسنا شيئاً منها وتحتاج إلى تكميل هذا الحديث لننتقل بعده إلى الباب الثالث بإذن الله جل وعلا.
تقدم معنا أن المعنى الحق لكيفية خروج الخطايا الذي دلت عليه الأدلة وشهدت له، أنه خروج حسي لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد يدركه أهل الأحوال وأرباب البصائر.
وقلنا: دل على هذا أمور كثيرة، فالمعاصي لها أثر في الظاهر وفي الباطن على الإنسان.
فأما أثرها في الباطن فقد صرح به نبينا عليه الصلاة والسلام، وذكرت الحديث الصحيح وبينت من خرجه: (إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء)، فهذا أثر حقيقي في الباطن (فإذا تاب واستغفر ونزع صقل قلبه، وإن زاد زادت النكتة حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )، فهذا السواد وهذه النكتة تغطي القلب بحيث يصبح القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذاً: زادت هذه النكت في قلبه بحيث عمت قلبه وغطته.
وأما أثرها في الظاهر، فقد ذكرت أيضاً الحديث الصحيح المتعلق بالحجر الأسود، وأنه عندما نزل من السماء من الجنة كان أبيض من اللبن، وإنما سودته خطايا بنو آدم، وبينت من خرجه.
وهناك قولان آخران في بيان معنى الحديث ينبغي أن نحكم عليهما بالهجران والبطلان، ولا يجوز أن نعول عليهما أبداً.
أولهما: أن هذا من باب الكناية والإشارة إلى مغفرة الذنب دون خروج شيء محسوس من أعضاء المتوضئ؛ لأن الذنوب على هذا القول ليست حسية بحيث تدخل وتخرج وتعلق بالبدن وتزول عنه، فهي شيء معنوي، فهذا كناية عن المغفرة، وقلت: هذا قول باطل، يكفي أنه خلاف ظاهر الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
والقول الثاني: أن هذا الخروج حقيقة، لكن مع إثبات عالم الإنسان، فهذه الذنوب وهذه الأشياء المعنوية لها جرم وجسم وحجم وحيز وشكل، لكن في عالم الإنسان، وقلت: إثبات هذا العالم يحتاج إلى دليل، وناقشت هذين القولين وأبطلتهما.
وسأزيد القول الأول بشيء من التقرير، ثم ننتقل إلى المعالم الثلاثة المتعلقة بهذا البحث، ومن أجلها تكلمت على هذه القضية، من أجل أن نثبت هذه المعالم في مثل هذه الأمور، وما موقف العقل في هذه الأشياء وما يشبهها؟ وما هو مجال العقل؟ ومتى ينبغي أن يعزل العقل عن البحث؟
إن القول: بأن هذه الذنوب لها آثار حسية على البدن وعلى القلب، على الظاهر والباطن، هذا القول هو الحق، وتقرره أدلة كثيرة وفيرة، وتقدم الإشارة إلى شيء منها في أول مدارستنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وفضل مدارسته، وذكرت أن أهل الحديث هم أشد الناس بهجةً وإشراقاً في وجوههم، فإذا نظرت إليهم تستأنس بسبب دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لهم، فالطاعات لها آثار حسنة ظاهرة على البدن، كما أن الذنوب لها آثار سيئة على البدن فضلاً عن الآثار على القلب التي هي آثار باطنة لا ترى.
الدليل الأول: حديث: (نضر الله امرأ سمع مقالة فوعاها...)
إذاً: (نضر الله امرئً)، من النضرة والنضارة وهي الذهب، أي: كسا الله حامل هذا الحديث الشريف نضرةً وبهجةً وإشراقاً وسروراً وضياءً ونوراً في وجهه في الدنيا وفي الآخرة، وهذه المنقبة موجودة لأهل الحديث في الدنيا، وستكون لهم في الآخرة بإذن ربنا جل وعلا، فهم أولى الناس بقول الله جل وعلا: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، بأن يكون إمامهم المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، وإن لم يصحبوا نفسه، أنفاسه صحبوا.
الدليل الثاني: أثر: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)
إذاً: حسن حسي وإشراق، وهذا الكلام رفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام من قبل عدد من الأئمة الكرام، وهم واهمون في ذلك، وأئمتنا مثلوا بهذا الحديث في مبحث الحديث الموضوع، ويسمى حديثاً بناءً على زعم قائله، وليس هو بحديث من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، بل وضع دون قصد الواضع، وإنما أخطأ فيه وظنه حديثاً وليس بحديث، والقصة التي جرت حول هذا الحديث كانت لـشريك بن عبد الله النخعي رحمه الله.
وهذا الحديث رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الجزء الأول صفحة واحدة وأربعين وثلاثمائة، وفي الجزء الثالث عشر صفحة ست وعشرين ومائة، وروي في سنن ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب في قيام الليل، رقم الحديث: ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون، ورواه ابن حبان في كتاب المجروحين.
وإسناد الحديث: عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع الواسطي ، وهو صدوق أخرج حديثه أهل الكتب الستة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبينما شريك يحدث دخل ثابت بن موسى الضبي المكنى بـأبي يزيد الكوفي ، توفي سنة تسع وعشرين ومائتين، أخرج حديثه ابن ماجه فقط دون من عداه من أهل الكتب الستة، وهو ضعيف في الحديث، لكنه صالح عابد قانت، أي: ضعيف في حفظه، لما دخل ثابت بن موسى الضبي على شريك وهو يحدث بهذا الحديث، نظر شريك إلى وجه ثابت فوجده كالقمر ليلة البدر، وقال: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا المتن هو لذلك الإسناد، فكان يحدث به عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، لكن شريكاً لم يقصد أن هذا الكلام من كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو قطعاً كان يحدث بحديث آخر عندما قال عن جابر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثابت بن موسى الضبي ووجهه يتلألأ نوراً من قيامه وقنوته وعبادته، فالتفت إليه شريك فقال هذه الجملة: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا الكلام هو متن ذلك الإسناد، وأنه من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا كما قلت: مثل به أئمتنا للحديث الموضوع من غير قصد، إنما معناه صحيح من كلام هذا العبد الصالح: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وليس المراد من الحسن تغير البشرة، يعني: من سواد إلى بياض، من سمرة إلى شقرة، لا؛ إنما ترى بهاء، ترى إشراقاً، ترى نوراً، بحيث إذا نظرت إلى الوجه تتفاءل، وتشرق نفسك، وتبتهج، وتستريح، وبعض الناس -نعوذ بالله منهم- يصبح خبيث النفس كسلان، إذا نظرت إليه لا سيما في الصباح تستعيذ بالله من هذا المنظر عندما تنظر إليه، مع أنه قد يكون في منتهى البياض والشقرة، فهنا تستأنس وهناك تنقبض، من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
كما قلت: هذا من أنواع الموضوع الذي لم يقصد ومعناه صحيح، وأئمتنا نبهوا عليه عند بحث الحديث الموضوع، وبعض إخواننا من طلبة العلم ألح علي كثيراً إذا ذكرت شيئاً يتعلق بقواعد المصطلح، ومن نظم الألفية أن أذكر الأبيات المتعلقة بهذه القصة ليضبطها، وهو في الحقيقة يطلب شيئاً في محله؛ لأن الطباعة التي طبعت بها الألفية سواء بشرحها أو بدون شرحها هي شر الطبعات، وعندما يقرأ هذا الأخ الكريم يقول: أنا لا أستطيع أن أقرأ فيها، وأطرحها من يدي لسوء طباعتها؛ لأن الأبيات مكسرة فيها، وجمل متداخلة ببعضها فلا تضبط، والأبيات عندما تقال بطبيعتها لها حلاوة وعذوبة وترسخ في الذهن، وإذا كسرت وتلوعب فيها وحصل خطأ في ضبطها يكون للنفس نحوها نفور.
الإمام العراقي أشار إلى هذا النوع من الوضع عند مبحث الحديث الموضوع فقال عليه رحمة الله:
شر الضعيف الخبر الموضوع الكذب المختلق المصنوع
وكيف كان لم يجيزوا ذكره لمن علم ما لم يبين أمره
يعني: لا يجوز أن تذكر الحديث الموضوع لا في الأحكام ولا العقائد ولا في الترغيب والترهيب، وإذا ذكرته فحذر الأمة منه، وبين لهم أن هذا موضوع وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
وأكثر الجامع فيه إذ خرج لمطلق الضعف على أبا الفرج
وأكثر الجامع، أي: الذي جمع في الأحاديث الموضوعة، وهو شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله، أكثر في كتابه الموضوعات الذي هو في ثلاث مجلدات من الأحاديث الموضوعة، وبعضها لا تصل إلى الوضع، إنما غاية ما تكون ضعيفة، بل فيها ما هو حسن، بل فيها ما هو صحيح في صحيح مسلم ، فوهم ابن الجوزي وحكم عليه بالوضع، توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة للهجرة، عليه رحمة الله.
وأكثر الجامع فيه إذ خرج لمطلق الضعف على
من على؟ هو ابن الصلاح ؛ لأننا قلنا كما تقدم معنا: ضمير الغيبة إذا جاء فيراد به ابن الصلاح ؛ لأن العراقي نظم مقدمة ابن الصلاح في ألفيته، يعني: قال ابن الصلاح : أكثر الإمام ابن الجوزي في موضوعاته من ذكر الموضوع بما كان ضعيفاً ولم يصل إلى الوضع، على، أي: على ابن الصلاح بهذا القول أبا الفرج ابن الجوزي عليهم جميعاً رحمة الله.
قال العراقي :
والواضعون للحديث أضربُ أضرهم قوم لزهد نسبوا
(أضربُ) أي: جماعات وأقسام.
قد وضعوها حسبةً فقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت
يعني: شر الموضوع ما كان من قبل المشايخ الصالحين الزهاد الذين وضعوها حسبةً، أي: تقرباً إلى الله على زعمهم، زهد لكنه لم يبن على استقامة وعلى التزام.
وقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت، أي: قبلت منهم؛ لأن الناس يركنون إليهم لزهدهم وعبادتهم وصلاحهم، ولم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، كما في مقدمة صحيح مسلم ، والكلام يحمل على: أمرين:
الأمر الأول: قد يكونون صالحين حقاً وصدقاً ولكنهم يكذب عليهم الكذاب فيروون كذبه بظنهم أنه صادق، وأن الإنسان لا يمكن أن يكذب، وهذا غفلة في هؤلاء الصالحين.
والأمر الثاني: أنهم زهاد وفيهم صلاح في الظاهر، ولكنهم يكذبون على خير البرية عليه الصلاة والسلام تعمداً بتأويل خاطئ؛ ليرغبوا الناس في الدين، لا ليشينوا الدين.
إذاً:
والواضعون للحديث أضرب أضرهم قوم لزهد نسبوا
قد وضعوها حسبةً فقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت
فقيض الله لها نقادها فبينوا بنقدهم فسادها
نحو أبي عصمة ..
هذا من العباد الصالحين، وكان قاضي مرو، يقول أئمتنا: جمع كل شيء إلا الصدق.
نحو أبي عصمة إذ رأى الورى زعماً نأوا عن القران فافترى
لهم حديثاً في فضائل السور عن ابن عباس فبئسما ابتكر
نوح الجامع أبو عصمة وضع حديثاً في فضل كل سورة من القرآن من أولها إلى آخرها، من أول القرآن إلى آخره، من قرأ سورة الفاتحة فله كذا، ومن قرأ سورة البقرة فله كذا، ومن قرأ سورة آل عمران فله كذا، فقيل له: من أين لك هذا عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، والناس لا يروون هذا عن ابن عباس ؟
قال: عملته من نفسي لكي أرغب الناس في قراءة القرآن فقط.
ثم الحديث عن أبي اعترف راويه بالوضع فبئسما اقترف
وكل من أودعه كتابه كالواحدي مخطئ صوابه
ثم يقول العراقي بعد هذه الأبيات مباشرةً:
وجوز الوضع على الترغيب قوم ابن كرام وفي الترهيب
أتباع محمد بن كرام السجستاني الذي انتقى من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها كما قال أئمتنا، ولد سنة خمس وعشرين ومائتين للهجرة، وله أتباع يسمون بالكرامية، يرون التدين بوضع الأحاديث على خير البرية عليه الصلاة والسلام، لكن في ترغيب الناس في الإسلام لا في ذم الإسلام.
وجوز الوضع على الترغيب قوم ابن كرام وفي الترهيب
انتبه لمحل الشاهد:
والواضعون بعضهم قد صنعا.
يعني: صنع الكلام من نفسه واخترعه.
من عند نفسه وبعض وضعا
والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعض وضعا
كلام بعض الحكماء في المسند...
يعني: جاء لجملة كلام من الحكمة فجعلها حديثاً، إما أن يضع هو من عنده شيئاً، وإما أن يأتي بحكمة يتناقلها الناس كقول طبيب العرب، ونسب بعد ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام وليس بحديث: المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء، فهذا من كلام الحارث بن كلدة ، وهي حكمة لكن نسبتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا تصح، فبعضهم وضع من عند نفسه، وبعضهم أتى لحكمة وركب لها إسناداً وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعض وضعا
كلام بعض الحكماء في المسند ومنه نوع وضعه لم يقصد
نحو حديث ثابت من كثرت صلاته الحديث وهلة سرت
إذاً:
ومنه نوع وضعه لم يقصد...، نحو حديث ثابت من كثرت...
أي: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقوله: الحديث، يعني: أكمل الحديث.
وقوله: وهلة سرت، يعني: غفلة من ثابت فظن هذا الكلام هو نفس ذلك الإسناد، فكان يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فسرت غفلة عليه وعلى من بعده وتناقلوه على أنه حديث وليس بحديث، إنما هو من كلام شريك بن عبد الله رحم الله أئمتنا أجمعين.
كما قلت: هذا ليس بحديث، وهذا الذي مال إليه وذكره وحققه أئمتنا الجهابذة النقاد كـابن عدي ، والدارقطني ، والعقيلي ، وابن حبان ، والحاكم ، وهكذا السخاوي وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله، وقد انفرد صاحب كتاب الشهاب وعمل له بعد ذلك مسند الشهاب، وأورد فيه ألفاً وأربعمائة وتسعةً وتسعين حديثاً، يعني ألف وخمسمائة إلا حديثاً، أوردها مجردة بدون إسناد، ثم ساق أسانيده لهذه المتون، وهو محمد بن سلامة -بفتح السين- ابن جعفر أبو عبد الله ، كان قاضياً في بلاد مصر، توفي سنة أربع وخمسين وأربعمائة للهجرة، وهو مشهور بالإمام القضاعي صاحب كتاب الشهاب، وهو متن مجرد دون إسناد، ومسند الشهاب أسانيد لهذه المتون.
يقول في هذا الكتاب -صفحة اثنتين وخمسين ومائتين- وذكر الأثر: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وساقه بأسانيد ثم تكلم كلاماً باطلاً مردوداً، يقول: وما طعن أحد منهم -يعني من المحدثين- في إسناده ولا في متنه، وقد أنكره بعض الحفاظ -انظر للتناقض، كيف تقول: ما طعن أحد في إسناده ولا في متنه ثم تقول: وقد أنكره بعض الحفاظ؟!- وقال: إنه من كلام شريك بن عبد الله ، ونسب الاشتباه فيه إلى ثابت بن موسى الضبي ، يعني: اشتبه عليه الأمر، فـثابت كان يرويه على أنه حديث وهو من كلام شريك ، ثم قال: وقد روي لنا هذا الحديث من طرق كثيرة وعن ثقات غير ثابت بن موسى ، وعن غير شريك .
ثم ساقه من طرق مسروقة من بعض الوضاعين سرقوها من طريق ثابت وركبوا لها أسانيد إلى غير جابر بهذا الإسناد إلى أنس وغيره، لكن كلها لا تصح ولا تثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: كيف قال الإمام القضاعي هذا؟
التمس أئمتنا له عذراً كما قال السخاوي في فتح المغيث في الجزء الأول صفحة سبع وأربعين ومائتين، يقول: ظن القضاعي صحة الحديث لكثرة طرقه وهو معذور؛ لأنه لم يكن من الأئمة الحفاظ، وليس من أهل هذا الفن بالاصطلاح الدقيق، فظن أن هذه الطرق إذا جاءت من طرق متعددة وفيها كذاب ووضاع وفيها من وهم بهذا الحديث دون قصد بوضعه، ظن أنها تتقوى، وفي الحقيقة لا تتقوى ولا تنجبر بحال.
قال السخاوي : هذا الكلام باطل -أي: كلام القضاعي : أنه ما طعن أحد من الحفاظ في إسناده ولا في متنه- هذا كلام باطل، ولا اعتداد بما يخالف هذا، ثم قال: نعم يعرف معنى هذا الأثر أيضاً من كلام الحسن البصري ، يعني: هو ثابت عن شريك ، وثابت عن الحسن البصري أنه قيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بربهم فألبسهم من نوره، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.
خلاصة الكلام: إن الطاعة لها أثر ظاهر وباطن على الإنسان، فيتنور ظاهره، ويصبح له بهجة وإشراق ونور وضياء، ويتنور قلبه، ولذلك قال العبد الصالح سليمان التيمي الذي توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة للهجرة، وهو من رجال الكتب الستة، وكان شيخ الإسلام في زمنه، كما نعته الذهبي ، وهو القائل: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه، ومن الطرائف الطريفة اللطيفة أنني ذكرت هذا الأثر من قريب في بعض المواعظ ولعله في خطبة الجمعة، فكان بعض الحاضرين يستمع هذا الكلام فاشتبه عليه المعنى، ففي اليوم الثاني جاء بعض الإخوة وقد تأخر عن صلاة الفجر، وما أدرك تكبيرة الإحرام، فجاء ليصافحه فصافحه وذهب وغسل يديه، قال: لأنه سمع الشيخ يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه. وليس كما فهم، بل يعني: لا تشد يدك به ولا تعول عليه، أي: أنه متساهل لا يعول عليه، فظن أن المراد غسل اليدين إذا صافحت من لم يدرك تكبيرة الإحرام.
سليمان التيمي كما في حلية الأولياء، في الجزء الثالث صفحة ثلاثين، ونقله شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم -عليهم جميعاً رحمة الله- وردداه بكثرة، كان يقول: الحسنة نور في القلب وقوة في العمل، والسيئة ظلمة في القلب وضعف في العمل.
إذاً: هنا قوة ونور، وهناك ظلمة وفتور، وكان يقول كما في سير أعلام النبلاء، والأثر في الحلية وغيره أيضاً: إن العبد ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:152]، وهي لكل مبتدع إلى يوم القيامة: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]، فكل مفتر كذاب، وكل مبتدع ضال عليه أثر الذل، وعليه أثر الظلمة في حياته وبعد مماته.
وتقدم معنا الحديث: (نضر الله امرأ سمع مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، ولا أريد أن ذكر تخريج هذا الحديث، فقد تقدم معنا مطولاً مفصلاً عند فوائد دراسة الحديث الثلاث، وبينت طرق من خرجه، وبينت أنه حسن في درجة المتواتر أعلى درجات الصحة.
إذاً: (نضر الله امرئً)، من النضرة والنضارة وهي الذهب، أي: كسا الله حامل هذا الحديث الشريف نضرةً وبهجةً وإشراقاً وسروراً وضياءً ونوراً في وجهه في الدنيا وفي الآخرة، وهذه المنقبة موجودة لأهل الحديث في الدنيا، وستكون لهم في الآخرة بإذن ربنا جل وعلا، فهم أولى الناس بقول الله جل وعلا: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، بأن يكون إمامهم المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، وإن لم يصحبوا نفسه، أنفاسه صحبوا.
الأثر المشهور الذي أريد أن أنبه عليه حيث معناه صحيح وليس من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، ولفظه: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
إذاً: حسن حسي وإشراق، وهذا الكلام رفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام من قبل عدد من الأئمة الكرام، وهم واهمون في ذلك، وأئمتنا مثلوا بهذا الحديث في مبحث الحديث الموضوع، ويسمى حديثاً بناءً على زعم قائله، وليس هو بحديث من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، بل وضع دون قصد الواضع، وإنما أخطأ فيه وظنه حديثاً وليس بحديث، والقصة التي جرت حول هذا الحديث كانت لـشريك بن عبد الله النخعي رحمه الله.
وهذا الحديث رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الجزء الأول صفحة واحدة وأربعين وثلاثمائة، وفي الجزء الثالث عشر صفحة ست وعشرين ومائة، وروي في سنن ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب في قيام الليل، رقم الحديث: ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون، ورواه ابن حبان في كتاب المجروحين.
وإسناد الحديث: عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع الواسطي ، وهو صدوق أخرج حديثه أهل الكتب الستة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبينما شريك يحدث دخل ثابت بن موسى الضبي المكنى بـأبي يزيد الكوفي ، توفي سنة تسع وعشرين ومائتين، أخرج حديثه ابن ماجه فقط دون من عداه من أهل الكتب الستة، وهو ضعيف في الحديث، لكنه صالح عابد قانت، أي: ضعيف في حفظه، لما دخل ثابت بن موسى الضبي على شريك وهو يحدث بهذا الحديث، نظر شريك إلى وجه ثابت فوجده كالقمر ليلة البدر، وقال: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا المتن هو لذلك الإسناد، فكان يحدث به عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، لكن شريكاً لم يقصد أن هذا الكلام من كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو قطعاً كان يحدث بحديث آخر عندما قال عن جابر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثابت بن موسى الضبي ووجهه يتلألأ نوراً من قيامه وقنوته وعبادته، فالتفت إليه شريك فقال هذه الجملة: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا الكلام هو متن ذلك الإسناد، وأنه من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا كما قلت: مثل به أئمتنا للحديث الموضوع من غير قصد، إنما معناه صحيح من كلام هذا العبد الصالح: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وليس المراد من الحسن تغير البشرة، يعني: من سواد إلى بياض، من سمرة إلى شقرة، لا؛ إنما ترى بهاء، ترى إشراقاً، ترى نوراً، بحيث إذا نظرت إلى الوجه تتفاءل، وتشرق نفسك، وتبتهج، وتستريح، وبعض الناس -نعوذ بالله منهم- يصبح خبيث النفس كسلان، إذا نظرت إليه لا سيما في الصباح تستعيذ بالله من هذا المنظر عندما تنظر إليه، مع أنه قد يكون في منتهى البياض والشقرة، فهنا تستأنس وهناك تنقبض، من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
كما قلت: هذا من أنواع الموضوع الذي لم يقصد ومعناه صحيح، وأئمتنا نبهوا عليه عند بحث الحديث الموضوع، وبعض إخواننا من طلبة العلم ألح علي كثيراً إذا ذكرت شيئاً يتعلق بقواعد المصطلح، ومن نظم الألفية أن أذكر الأبيات المتعلقة بهذه القصة ليضبطها، وهو في الحقيقة يطلب شيئاً في محله؛ لأن الطباعة التي طبعت بها الألفية سواء بشرحها أو بدون شرحها هي شر الطبعات، وعندما يقرأ هذا الأخ الكريم يقول: أنا لا أستطيع أن أقرأ فيها، وأطرحها من يدي لسوء طباعتها؛ لأن الأبيات مكسرة فيها، وجمل متداخلة ببعضها فلا تضبط، والأبيات عندما تقال بطبيعتها لها حلاوة وعذوبة وترسخ في الذهن، وإذا كسرت وتلوعب فيها وحصل خطأ في ضبطها يكون للنفس نحوها نفور.
الإمام العراقي أشار إلى هذا النوع من الوضع عند مبحث الحديث الموضوع فقال عليه رحمة الله:
شر الضعيف الخبر الموضوع الكذب المختلق المصنوع
وكيف كان لم يجيزوا ذكره لمن علم ما لم يبين أمره
يعني: لا يجوز أن تذكر الحديث الموضوع لا في الأحكام ولا العقائد ولا في الترغيب والترهيب، وإذا ذكرته فحذر الأمة منه، وبين لهم أن هذا موضوع وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
وأكثر الجامع فيه إذ خرج لمطلق الضعف على أبا الفرج
وأكثر الجامع، أي: الذي جمع في الأحاديث الموضوعة، وهو شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله، أكثر في كتابه الموضوعات الذي هو في ثلاث مجلدات من الأحاديث الموضوعة، وبعضها لا تصل إلى الوضع، إنما غاية ما تكون ضعيفة، بل فيها ما هو حسن، بل فيها ما هو صحيح في صحيح مسلم ، فوهم ابن الجوزي وحكم عليه بالوضع، توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة للهجرة، عليه رحمة الله.
وأكثر الجامع فيه إذ خرج لمطلق الضعف على
من على؟ هو ابن الصلاح ؛ لأننا قلنا كما تقدم معنا: ضمير الغيبة إذا جاء فيراد به ابن الصلاح ؛ لأن العراقي نظم مقدمة ابن الصلاح في ألفيته، يعني: قال ابن الصلاح : أكثر الإمام ابن الجوزي في موضوعاته من ذكر الموضوع بما كان ضعيفاً ولم يصل إلى الوضع، على، أي: على ابن الصلاح بهذا القول أبا الفرج ابن الجوزي عليهم جميعاً رحمة الله.
قال العراقي :
والواضعون للحديث أضربُ أضرهم قوم لزهد نسبوا
(أضربُ) أي: جماعات وأقسام.
قد وضعوها حسبةً فقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت
يعني: شر الموضوع ما كان من قبل المشايخ الصالحين الزهاد الذين وضعوها حسبةً، أي: تقرباً إلى الله على زعمهم، زهد لكنه لم يبن على استقامة وعلى التزام.
وقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت، أي: قبلت منهم؛ لأن الناس يركنون إليهم لزهدهم وعبادتهم وصلاحهم، ولم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، كما في مقدمة صحيح مسلم ، والكلام يحمل على: أمرين:
الأمر الأول: قد يكونون صالحين حقاً وصدقاً ولكنهم يكذب عليهم الكذاب فيروون كذبه بظنهم أنه صادق، وأن الإنسان لا يمكن أن يكذب، وهذا غفلة في هؤلاء الصالحين.
والأمر الثاني: أنهم زهاد وفيهم صلاح في الظاهر، ولكنهم يكذبون على خير البرية عليه الصلاة والسلام تعمداً بتأويل خاطئ؛ ليرغبوا الناس في الدين، لا ليشينوا الدين.
إذاً:
والواضعون للحديث أضرب أضرهم قوم لزهد نسبوا
قد وضعوها حسبةً فقبلت منهم ركوناً لهم ونقلت
فقيض الله لها نقادها فبينوا بنقدهم فسادها
نحو أبي عصمة ..
هذا من العباد الصالحين، وكان قاضي مرو، يقول أئمتنا: جمع كل شيء إلا الصدق.
نحو أبي عصمة إذ رأى الورى زعماً نأوا عن القران فافترى
لهم حديثاً في فضائل السور عن ابن عباس فبئسما ابتكر
نوح الجامع أبو عصمة وضع حديثاً في فضل كل سورة من القرآن من أولها إلى آخرها، من أول القرآن إلى آخره، من قرأ سورة الفاتحة فله كذا، ومن قرأ سورة البقرة فله كذا، ومن قرأ سورة آل عمران فله كذا، فقيل له: من أين لك هذا عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، والناس لا يروون هذا عن ابن عباس ؟
قال: عملته من نفسي لكي أرغب الناس في قراءة القرآن فقط.
ثم الحديث عن أبي اعترف راويه بالوضع فبئسما اقترف
وكل من أودعه كتابه كالواحدي مخطئ صوابه
ثم يقول العراقي بعد هذه الأبيات مباشرةً:
وجوز الوضع على الترغيب قوم ابن كرام وفي الترهيب
أتباع محمد بن كرام السجستاني الذي انتقى من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها كما قال أئمتنا، ولد سنة خمس وعشرين ومائتين للهجرة، وله أتباع يسمون بالكرامية، يرون التدين بوضع الأحاديث على خير البرية عليه الصلاة والسلام، لكن في ترغيب الناس في الإسلام لا في ذم الإسلام.
وجوز الوضع على الترغيب قوم ابن كرام وفي الترهيب
انتبه لمحل الشاهد:
والواضعون بعضهم قد صنعا.
يعني: صنع الكلام من نفسه واخترعه.
من عند نفسه وبعض وضعا
والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعض وضعا
كلام بعض الحكماء في المسند...
يعني: جاء لجملة كلام من الحكمة فجعلها حديثاً، إما أن يضع هو من عنده شيئاً، وإما أن يأتي بحكمة يتناقلها الناس كقول طبيب العرب، ونسب بعد ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام وليس بحديث: المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء، فهذا من كلام الحارث بن كلدة ، وهي حكمة لكن نسبتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا تصح، فبعضهم وضع من عند نفسه، وبعضهم أتى لحكمة وركب لها إسناداً وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعض وضعا
كلام بعض الحكماء في المسند ومنه نوع وضعه لم يقصد
نحو حديث ثابت من كثرت صلاته الحديث وهلة سرت
إذاً:
ومنه نوع وضعه لم يقصد...، نحو حديث ثابت من كثرت...
أي: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وقوله: الحديث، يعني: أكمل الحديث.
وقوله: وهلة سرت، يعني: غفلة من ثابت فظن هذا الكلام هو نفس ذلك الإسناد، فكان يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فسرت غفلة عليه وعلى من بعده وتناقلوه على أنه حديث وليس بحديث، إنما هو من كلام شريك بن عبد الله رحم الله أئمتنا أجمعين.
كما قلت: هذا ليس بحديث، وهذا الذي مال إليه وذكره وحققه أئمتنا الجهابذة النقاد كـابن عدي ، والدارقطني ، والعقيلي ، وابن حبان ، والحاكم ، وهكذا السخاوي وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله، وقد انفرد صاحب كتاب الشهاب وعمل له بعد ذلك مسند الشهاب، وأورد فيه ألفاً وأربعمائة وتسعةً وتسعين حديثاً، يعني ألف وخمسمائة إلا حديثاً، أوردها مجردة بدون إسناد، ثم ساق أسانيده لهذه المتون، وهو محمد بن سلامة -بفتح السين- ابن جعفر أبو عبد الله ، كان قاضياً في بلاد مصر، توفي سنة أربع وخمسين وأربعمائة للهجرة، وهو مشهور بالإمام القضاعي صاحب كتاب الشهاب، وهو متن مجرد دون إسناد، ومسند الشهاب أسانيد لهذه المتون.
يقول في هذا الكتاب -صفحة اثنتين وخمسين ومائتين- وذكر الأثر: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، وساقه بأسانيد ثم تكلم كلاماً باطلاً مردوداً، يقول: وما طعن أحد منهم -يعني من المحدثين- في إسناده ولا في متنه، وقد أنكره بعض الحفاظ -انظر للتناقض، كيف تقول: ما طعن أحد في إسناده ولا في متنه ثم تقول: وقد أنكره بعض الحفاظ؟!- وقال: إنه من كلام شريك بن عبد الله ، ونسب الاشتباه فيه إلى ثابت بن موسى الضبي ، يعني: اشتبه عليه الأمر، فـثابت كان يرويه على أنه حديث وهو من كلام شريك ، ثم قال: وقد روي لنا هذا الحديث من طرق كثيرة وعن ثقات غير ثابت بن موسى ، وعن غير شريك .
ثم ساقه من طرق مسروقة من بعض الوضاعين سرقوها من طريق ثابت وركبوا لها أسانيد إلى غير جابر بهذا الإسناد إلى أنس وغيره، لكن كلها لا تصح ولا تثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: كيف قال الإمام القضاعي هذا؟
التمس أئمتنا له عذراً كما قال السخاوي في فتح المغيث في الجزء الأول صفحة سبع وأربعين ومائتين، يقول: ظن القضاعي صحة الحديث لكثرة طرقه وهو معذور؛ لأنه لم يكن من الأئمة الحفاظ، وليس من أهل هذا الفن بالاصطلاح الدقيق، فظن أن هذه الطرق إذا جاءت من طرق متعددة وفيها كذاب ووضاع وفيها من وهم بهذا الحديث دون قصد بوضعه، ظن أنها تتقوى، وفي الحقيقة لا تتقوى ولا تنجبر بحال.
قال السخاوي : هذا الكلام باطل -أي: كلام القضاعي : أنه ما طعن أحد من الحفاظ في إسناده ولا في متنه- هذا كلام باطل، ولا اعتداد بما يخالف هذا، ثم قال: نعم يعرف معنى هذا الأثر أيضاً من كلام الحسن البصري ، يعني: هو ثابت عن شريك ، وثابت عن الحسن البصري أنه قيل له: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بربهم فألبسهم من نوره، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.
خلاصة الكلام: إن الطاعة لها أثر ظاهر وباطن على الإنسان، فيتنور ظاهره، ويصبح له بهجة وإشراق ونور وضياء، ويتنور قلبه، ولذلك قال العبد الصالح سليمان التيمي الذي توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة للهجرة، وهو من رجال الكتب الستة، وكان شيخ الإسلام في زمنه، كما نعته الذهبي ، وهو القائل: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه، ومن الطرائف الطريفة اللطيفة أنني ذكرت هذا الأثر من قريب في بعض المواعظ ولعله في خطبة الجمعة، فكان بعض الحاضرين يستمع هذا الكلام فاشتبه عليه المعنى، ففي اليوم الثاني جاء بعض الإخوة وقد تأخر عن صلاة الفجر، وما أدرك تكبيرة الإحرام، فجاء ليصافحه فصافحه وذهب وغسل يديه، قال: لأنه سمع الشيخ يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون بتكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه. وليس كما فهم، بل يعني: لا تشد يدك به ولا تعول عليه، أي: أنه متساهل لا يعول عليه، فظن أن المراد غسل اليدين إذا صافحت من لم يدرك تكبيرة الإحرام.
سليمان التيمي كما في حلية الأولياء، في الجزء الثالث صفحة ثلاثين، ونقله شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم -عليهم جميعاً رحمة الله- وردداه بكثرة، كان يقول: الحسنة نور في القلب وقوة في العمل، والسيئة ظلمة في القلب وضعف في العمل.
إذاً: هنا قوة ونور، وهناك ظلمة وفتور، وكان يقول كما في سير أعلام النبلاء، والأثر في الحلية وغيره أيضاً: إن العبد ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:152]، وهي لكل مبتدع إلى يوم القيامة: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]، فكل مفتر كذاب، وكل مبتدع ضال عليه أثر الذل، وعليه أثر الظلمة في حياته وبعد مماته.
إذاً: الحسنة لها أثر في البدن وفي القلب، في الظاهر وفي الباطن.
وهكذا السيئة، فهناك آثار حسية قلنا: يدركها أهل البصائر وأرباب الأحوال، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]. وهناك آثار بعد ذلك باطنية خفية على القلب على الظاهر وعلى الباطن.
وقد ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن الترمذي فهو في الصحيحين والسنن الثلاثة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم)، والقافية هي مؤخرة الرأس، (على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على مكان كل عقدة فيقول: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها -انتبه- فأصبح نشيطاً طيب النفس).
إذاً: حصَّل الخيرين: النشاط في الظاهر والبدن، وطيب النفس ونور القلب، وإن نام حتى طلع عليه الفجر -ليس طلعت الشمس- وما استيقظ، يعني نام كالجيفة إلى أن أدركه الفجر، (وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).
إذاً: في نفسه هذا الضنك وهذا القذر، وفي بدنه هذا الفتور وهذا الإعياء وهذا التعب، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فآثار حسية، وآثار معنوية للطاعة والمعصية، (أصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).
وقد بوب عليه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التهجد ليشير به إلى قيام الليل، وقال: باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل، فإن قيل: إن الشيطان سيعقد إذا صليت وإذا لم تصل؟ نقول: مقصود الإمام البخاري بهذا: أنك إذا صليت بالليل أزلت العقد التي عقدت على قافيتك، وإذا لم تصل فهذه العقد تبقى، ويعني بأن هذه العقد على كل نائم، لكن إن صليت تزول وإلا تبقى.
قال الحافظ في الفتح: وقد أخرج محمد بن نصر -في كتاب قيام الليل- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه من قوله، والأثر له حكم الرفع، قال: حسب الإنسان من الخيبة والشر أن ينام حتى يصبح -يعني: يدخل الصباح بطلوع الفجر- وقد بال الشيطان في أذنيه.
وهذا الأثر الذي له حكم الرفع روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام مرفوعاً بأصح إسناد وفي أثبت الكتب بعد كتاب الله، رواه الشيخان في الصحيحين، والنسائي في السنن، وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح -طلع عليه الفجر وهو نائم- فقال: ذاك إنسان بال الشيطان في أذنه -وفي رواية-: في أذنيه)، بالإفراد والتثنية.
ورواه الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بالإفراد: (ذاك إنسان، ذاك رجل بال الشيطان في أذنه).
إذاً: هنا حصل أيضاً عقد، وحصل بول في أذن من لم يستيقظ حتى طلع الفجر، وبوب عليه الإمام البخاري باباً في كتاب التهجد فقال: باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه.
وقد أخرج سعيد بن منصور بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال -وهو موقوف عليه من قوله-: ما أصبح رجل على غير وتر إلا أصبح على رأسه جرير طوله سبعون ذراعاً.
جرير، أي: حبل طويل يعقده الشيطان عليه طوله سبعون ذراعاً.
وهذا كله -كما سيأتينا- الضابط له ولأمثاله: أن نؤمن به ونثبته على حقيقته دون البحث في كيفيته، ولذلك عندما ذكر أئمتنا: (بال الشيطان في أذنيه في أذنه)، قال الإمام أبو العباس القرطبي في المفهم في شرح صحيح مسلم : هذا البول محمول على الحقيقة ولا مانع منه، ولا إحالة فيه، وإذا ثبت أكل الشيطان وشربه فما المانع أن يبول؟ نام حتى الفجر جاء الشيطان وبال في أذنيه، لم لم يقل: في عينيه؟
لأن الأذن هي التي يتعلق بها السمع والاستيقاظ، فأنت إذا سمعت تستيقظ والعينان تتفتح، وإذا كنت خاملاً كسولاً فالعينان تتبعان الأذنين، فلذلك بال في أذنه، وهل هذا على الحقيقة؟
هذا كقوله هنا: خرجت خطاياه من وجهه ومن يديه على الحقيقة، بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، أما الذين قالوا: الحقيقة ليست مرادة، فانظر للتخبط الذي ذكروه، فبعضهم قال: هذا كناية عن سد الأذنين بالنوم، وثقل الإنسان إذا نام.
وبعضهم يقول: هذا كناية عن أن الشيطان ملأ مسامع الإنسان بالباطل وشغله عن الحق.
وبعضهم يقول: هذا كناية عن ازدراء الشيطان للإنسان واحتقاره له كأنه بال به.
وبعضهم يقول: استولى عليه واستخف به وجعله كالكنيف الذي يقضى فيه الحاجة.
وبعضهم يقول وهو خامس الأقوال: هذا مثلٌ للغافل، أي: من كان غافلاً يضرب به المثل؛ لأنه وقع عليه بول والشيطان بال عليه، حسناً: ما الدليل على هذا؟ ولماذا التشتت والخلاف؟ ولم كل هذه الأقوال؟ ولا داعي لهذا، بال الشيطان في أذنيه: البول معروف، وبال: معناها معروف، والأذن: معروف معناها وانتهى الكلام، وأي مانع من حمل الكلام على حقيقته؟! هل نحن بعد ذلك بحاجة حتى نأتي بهذا الفضول المردود؟!
وقوله: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم)، عقد في مؤخر الرأس على الحقيقة كما قال أئمتنا، وأما ما قيل: إنه مجاز عن التصديق فكلام باطل.
وما قيل: إن المراد من العقد وسوسة الشيطان للإنسان لكثرة الأكل والشرب والنوم، هذه العقد الثلاث، يأكل كثيراً، يشرب كثيراً حتى ينام كثيراً؛ لئلا يستيقظ، ولئلا يتوضأ، ولئلا يصلي، هذا كله كلام باطل، والأحاديث ينبغي أن تحمل على ظاهرها.
خلاصة الكلام: ما تقدم من قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (خرجت خطاياه من وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، خرجت خطاياه من يديه مع الماء أو مع آخر قطر الماء)، محمول على الحقيقة، ولا داعي للقول: بأن هذا مجاز عن المغفرة، ولا داعي للقول: بأن هذا حقيقة وهناك عالم آخر للإنسان... إلخ.
بعد هذا عندنا ثلاثة معالم ينبغي أن ننتبه لها غاية الانتباه في مثل هذه المباحث، وفي وظيفة العقل في هذه الحياة.
المعلم الأول: إن هذا العقل وظيفته ومجاله أن يبحث في الأمور المادية ليقرر ما يتوصل إليه من نتائج، كما يكون في علم الطب والجيولوجيا والهندسة والرياضيات وما شاكل هذا من الأمور التي تبحث فيها بعقلك وتصل إلى نتائج، عندما تبحث في هذا الكون وأنت مأمور بالبحث، لكن هذا البحث تفتتحه باسم الله، وعندما تبحث تستعين بذلك على تقوية الإيمان، ثم إن هذه الأبحاث لابد أن تحصلها بطريقة شرعية، فما كان كذلك لا حرج فيه، بل أنت مأمور به في هذه الأمور المادية، فكلما أمكنك أن تبحث وأن تتوصل إلى نتائج فهذا أحسن لك، وهذا هو وظيفة عقلك، والعقل يكدح في هذه الأمور ويتوقف.
لكن كما قلت: غاية ما يصل إليه العقل كيف تعمل الأشياء دون إدراك حقيقتها، فلا يعلم حقيقة الأشياء إلا رب الأرض والسماء، فأنت غاية ما عندك أن تبحث وتثبت أن اللسان فيه كذا حليمة ذوقية لتمييز الطعوم من بعضها، وأن هذا اللسان اختص بهذه الحليمات، هذا مجال بحثك، أما كيف يعمل اللسان؟ وكيف يذوق؟ فحقائق هذه الحليمات الذوقية التي جعلها الله في هذا العضو هذا مما استأثر الله بعلمه.
والجاذبية الموجودة في هذا العالم علويه وسفليه، والتي بها انتظم هذا الكون، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41]، بإمكانك أن تقرر الجاذبية وأن تصل إليها، وأنها موجودة، وأن الكون يسير بدقة وانتظام لوجود هذا النظام فيه، وعرفت كيف تعمل، ووصلت إلى آثارها، لكن ما هي الجاذبية؟
أنت وغيرك عاجزون عن إدراكها، فالجاذبية في الحقيقة هي العبودية لرب البرية، عبودية المخلوقات العلوية والسفلية بأسرها لمن خلقها، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، هذه عبودية جعلها الله نظاماً في هذا الكون، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، فحقيقة هذه الجاذبية مما يقف عنده العقل البشري عاجزاً، ويقول: لهذا الخلق خالق استأثر بإدراك سر هذه الأشياء والإحاطة بها، وهو الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
فأنت غاية ما عندك أن تثبت مشاهدات، وأن تعرف كيف يعمل خلق الله الذي خلقه وأوجده في هذا الكون، لكن إدراك حقيقته وكنهه لا تستطيعه، وبإمكانك أن تبحث في عمل الروح في البدن، ومتعلقات الروح بالبدن في حال اليقظة، وفي حال النوم، وفي حال وجود الروح، وفي الجنين إذا كان في بطن أمه، كل هذا ممكن أن تبحث فيه وأن تصل إليه، أما كيف تتصل الروح بالبدن؟ وما حقيقة الروح؟ وما ماهية ذلك الاتصال؟
هذا كله أنت خارج عنه، غاية ما قلنا: تثبت مشاهدات لهذا المخلوق ولهذا الشيء، لكن إدراكه بحقيقته وكنهه من جميع الوجوه هذا ليس في وسعك ولا في وسع أحد من خلق الله جل وعلا.
وأنت عندما تتوصل إلى ما تتوصل إليه من نتائج، وقد تكون هذه النتائج قاصرة، ويأتي من بعدك ويكمل هذا، عندما يبحث الآن علماء الفيزياء في تركيب الأشياء والإلكترونات التي فيها يحار عقل الإنسان؛ يحار ليسلم بعجزه إلى الرحمن جل وعلا، لا ليتعالى بعد ذلك على الله ويهذي هذيان المجانين، ويقول: هذا الكون كيف وكيف.
حقيقةً: إن تأمل الإنسان لهذا الكون وما فيه من دقة وإحكام، مما أوجبه ربنا الرحمن، ثم إن الإنسان يحار، وهو عن إدراك -كما قلت- الكنه عاجز، فالواجب عليه أن يثبت المشاهدات، ويتوصل إلى النتائج التي أداه إليها عقله بواسطة ما قام به من تجارب.