مقدمات في العلوم الشرعية [19]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فنواصل الإجابة عما تبقى من أسئلة متعلقة بعلم الاعتقاد.

السؤال: بالنسبة لقضية التكفير، ما الضابط الذي يميز به الإنسان في كلام السلف بين تكفيرهم الذي يقصد به التنفير، وتكفيرهم الذي يقصد به الإخراج من الملة؟

الجواب: أن تكفيرهم الذي يقصد به الإخراج من الملة هو الذي يصحبه عمل في السعي في استتابة الإنسان أو قتله وقتاله كما حصل فعلاً.

وأما الآخر الذي يقصد به التنفير فإن صاحبه يبقى معهم ولا يسعون في قتله، وهذا الضابط هو الذي بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في قصة الشافعي مع حفص الفرد، فإن الشافعي قال له: كفرت بالله العظيم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يقصد بذلك خروجه من الملة وإلا لسعى الشافعي في قتله ولم يفعل، وإنما قصد بذلك التغليظ، وهذا في الجزء الحادي عشر من الفتاوي في قضية الكلام عن خلق القرآن.

السؤال: ما الفرق بين مذهب الأشاعرة والماتريدية؟

الجواب: أن الماتريدية مذهبهم مختص بالمذهب الحنفي، أخذ من قواعده ونقول أئمته ولم يتعد ذلك، فهو مذهب داخل المذهب الحنفي تقريباً، أما المذهب الأشعري فقد كان أوسع من ذلك؛ لأن أبا الحسن نفسه كان من المحدثين، فله ميل إلى أصحاب أحمد بن حنبل، وقد كان مذهبه شافعياً، ثم سلك في مذهبه عدد من أئمة الشافعية والحنابلة والمالكية، ومن مشاهيرهم الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، وهو من أئمة المالكية، والقاضي حسين وأبو المعالي عبد الملك بن محمد الجويني وهو من أئمة الشافعية.. وهكذا، فقد كان مذهباً جامعاً، وبالأخص أيضاً أن أبا الحسن انطلق من القواعد التي بينت من قبل فجعلها أصولاً وركز فيها على مسائل يريد أن يجعل أصولاً للاعتقاد مثل ما وضع الشافعي أصولاً للفقه.

بالنسبة للتفصيل فيما يتعلق بالنبوات والإمامة والموقف من الصحابة ونحو ذلك كثير من الكتب المعتنية بالآثار تكون ردوداً في الواقع، فلا تعتني بهذا، لكن من المؤلفين على مقتضى مذهب السلف الذين اعتنوا بهذا عدد من المؤلفين مثل كتاب (الإيمان) لـابن تيمية تعرض فيه لبعض الجوانب من هذا النوع، ومثل كتاب (غياث الأمم عند التياث الظلم) لـأبي المعالي الجويني، ومثل (كتاب الإمامة) للآمدي، ومثل (كتاب الإمامة) للأصبهاني، ومثل كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي، وكتاب (الأحكام السلطانية) لـأبي يعلى بن الفراء الحنبلي، فهؤلاء يتكلمون في الإمامة ومواقف الصحابة، وإن كان الواقع الذي نقر به بمضاضة أن أهل السنة في مجال الصحابة تقيدوا بمذهب الإمساك عما شجر بينهم فلم يدونوا لنا رؤيتهم في ذلك الباب، فبقي الذين يكتبون في هذا هم ليسوا من الثقات من المؤرخين والقصاص وأصحاب البدع، فلو أن أهل السنة انبروا من قبل لتسجيل مواقف الصحابة وأقوالهم لكان هذا أفضل، ولذلك إذا ذهبت إلى كتب التاريخ في مجال ما شجر بين الصحابة حتى الأمور التي تحتاج إليها الأمة وهي الفقه الواقع اليوم، إذا رجعت إلى كتب المؤرخين في بعض القصص المفيدة التي يمكن تنزيلها على الواقع وأخذ الأحكام منها، تجد ما ينقل فيها عن الصحابة هو من رواية أبي مخنف ونوح بن أبي مريم ونحوهم من الذين لا يمكن أن تقبل روايتهم، ولذلك فمن العجيب أن محمد بن جرير الطبري على إمامته وجلالة قدره من أئمة أهل السنة اعتمد في نقل آثار علي رضي الله عنه في قضية الفتنة، وآثار عن طلحة والزبير وعائشة عن أبي مخنف، وكذلك الحافظ ابن كثير، وابن الأثير في الكامل، وغيرهم من كبائر الأئمة المؤرخين.

وبالنسبة لكتاب (العواصم من القواصم) لـأبي بكر بن العربي لم يكن موثقاً بالنقول، وإنما كان استنباطات وآراء، وأكثر ما فيه طعون في النقول السابقة، هو بمثابة الرد، مثلاً تلقى القصة عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فيأتي هو فيكر عليها حتى يبطلها من ناحية الإسناد مثلاً، لكن هذا لا يكفي، أين البديل؟ تاريخهم ليس مجهولاً وهو تاريخ عاصر كثير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أين ذهب هذا الذي نفقده حتى الآن مع الأسف؟ حتى في ردود شيخ الإسلام ابن تيمية على الشيعة في منهاج السنة واضح جداً فيه أنه يفقد النقول الكافية فيما يتعلق بقضية ما جرى بين الصحابة، ولذلك ففي بعض المواقف يتشدد هو حتى يكون لازم قوله مخالفاً لمذهبه، ولا يقصد ذلك، لا يقصد النصب أعاذه الله من ذلك، لكن يفهم من كلامه بعض الأحيان رأي النواصب، وإنما ذلك تحمساً واندفاعاً في الرد.

أما ما يتعلق بالفرق الإسلامية وجمع عقائدها فقد ألف فيه عدد من المؤلفات، من أهمها كتاب (الفصل في الملل والنحل) لـأبي محمد علي بن حزم الأندلسي، وكذلك كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، و(كتاب الفرق) للبغدادي، وقد ذكرنا أن أبا الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين) أتى على أهم الفرق الموجودة في زمانه، وقد جاء ابن الجوزي أيضاً في كتابه (تلبيس إبليس) ببعض أقوال الفرق، وقد توسع الناس في الكلام في الفرق حتى أدخلوا أدياناً مثل الأديان التي هي خارج الإسلام أصلاً، وما ذلك إلا لأنهم درسوا مذاهب بعض الفرق المنحرفة التي كفر أصحابها، فلما كان هؤلاء وإن كانوا يدعون النسبة إلى هذه الأمة ليسوا منها، وليسوا من المصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، توسع الناس في البحث أتوا بالمذاهب اليهودية والنصرانية والمذاهب المنحرفة عموماً في أشكال الانحراف، وذلك حين توسعوا في دراسة مذاهب الشيعة، ودراسة مذاهب الخوارج، ودراسة مذاهب الصوفية الغلاة، وهذه الطوائف الثلاثة لديها بعض المعتقدات المأخوذة عن الملل الأخرى غير الإسلام، ولهذا تطورت حتى أصبحت ديانات مستقلة، فالسيخية الآن التي هي دين مستقل من أديان الهند الذين ينتحلونه في الأصل كان أجدادهم من المسلمين كانوا طائفة صوفية ثم انحرفوا، وكذلك الدروز كانوا شيعة.. وهكذا، فكثير من الطوائف التي بدلت دينها بالكلية كانت في الأصل داخل الملة الإسلامية ثم خرجت منه بالانحراف، خرجت من الملة الإسلامية بالانحراف؛ فهذا الذي أحوج إلى الكتابة في هذا المجال، وإن كان الواقع أن الديانات التي لا يزعم أصحابها الانتساب للإسلام أصلاً مثل النصارى ومذاهبهم وطوائفهم، وكذلك اليهود ومذاهبهم وطوائفهم، والمزدكية والمانوية والمجوس بأنواعهم، والصابئة، هذه الطوائف لا تنتسب للإسلام أصلاً، فلا مجال لإدراجها في هذا الباب باب العقائد، إلا إذا بين أن بعضها أقرب من بعض إلى الحق، من بعض مذاهب النصارى التي لا ترى التوحيد، وإن ضلوا فهم ضالون في أبواب أخرى، فإنهم لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عليهم العهد باتباعه، ولا ينفعهم اعتقادهم هذا بالتوحيد شيئاً، فهم قطعاً من مات منهم على ما هو عليه إلى النار، فهذا من التوسع الذي قد لا يحتاج إليه إلا عند المناظرة، ولا شك أن بعض فلاسفة المسلمين وبعض علمائهم احتاجوا إلى مناورة النصارى واليهود في بعض آرائهم؛ فلذلك درسوا مذاهبهم، ومن هؤلاء ابن حزم نفسه، والباجي، وقبل هؤلاء الباقلاني فقد درس مذاهب الديانات كلها، واشتهرت رسالته في مناظرته مع الكنيسة الشرقية حين وفده الخليفة إليه لمناظرته، وقصته معهم مشهورة عندما علموا بقدومه كان من عادتهم: أن الملك لا يدخل عليه أحد إلا ركع بين يديه، فقالوا: لا بد أن نجبر هذا الشيخ على الركوع بين يدي الملك، ففكروا فجعلوا درجاً في الباب من الخشب، إذا صعد معه الإنسان لا بد أن يركع عن الباب، فلما رآه والدرج في الباب علم أنها حيلة فولاهم قفاه وجاء يمشي إلى الخلف، فوضعوا أيديهم على عيونهم حياءً من المنظر، فلما جلس حول الملك أراد أن يعرفه على البابا فقال: هذا قداسة البابا عرفه به، فسلم على البابا بحفاوة وقال: كيف الزوجة والأولاد؟ فاستحى كل من في المجلس وضجوا، فقال له الملك: إنا لنعظم هذا عما تسأله عنه، فقال: سبحان الله! لا تعظمون ربه الذي خلقه عما تعظمونه هو عنه، فقالوا: أخرجوه فما هو إلا شيطان، فكان بعد ذلك المعتزلة وغيرهم من الفرق الإسلامية يلقبونه بالشيطان.

ويذكر أنه دخل في نادي من نوادي البصرة من الجهمية، فدخل المجلس فرآه الجهمية، فقال أحدهم: أتاكم الشيطان، فسمع هو الكلمة فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83].

والباجي رحمه الله تخصص في عقائد النصارى؛ لأنه معاشر لهم مخالط لهم في الأندلس، وفي كل وقت يوصلون شبهةً من شبههم.

وكذلك ابن رشد الحفيد صاحب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) فقد رد عليهم في كثير من الكتب، واحتاج ابن القيم إلى مثل هذا فألف كتابه (هداية الحيارى)، وكتابه الآخر في الرد على اليهود والنصارى معاً وهو (أحكام أهل الذمة)، وقد تعرض فيه للرد على اليهود والنصارى، وكذلك بعض الصوفية في ردودهم على النصارى في المسائل التي يخالفونهم فيها، ومن ذلك همزية البوصيري الخبيبية التي اشتهرت بلقب الهمزية مطلعها:

كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء

لم يساووك في علاك وقد حال سناً منك دونهم وسناء

إنما مثلوا صفاتك للناس كما مثل النجوم الماء

هذا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يصل فيها إلى الرد على النصارى رداً بليغاً وناقشهم نقاشاً طويلاً مستفيضاً يقول فيها: هو راكب الحمار فقد جل حمار بجمعه النشاء.

فكثير من المسائل العقدية قد خرج بها عن مدارها، وتعدي بها طورها فأصبحت هي معيار الولاء والبراء، وأصبح من يجهلها خارجاً من الملة أو منبوزاً بالألقاب، والواقع أن هذا مخالف للهدي وللمنهج الصحيح، ولذلك فإن الغلو في هذا الجانب ما هو إلا جانب من جوانب الغلو واضحاً في زماننا هذا، وإن كان قد سبق في الأزمنة السابقة بعضه، لكن ظهر جلياً في زماننا هذا وانتشر، ولهذا من المستحسن جداً أن يركز على المسائل المهمة في زيادة الإيمان التي تزيد القرب من الله سبحانه وتعالى، وتزيد التعبد له، والعناية بشرعه، بدل التركيز على مسائل العقيدة التي كثير منها لو جهله الإنسان وأتى يوم القيامة وهو يجهله لم يكن في ذلك نقص عليه، ولذلك فرد المصيصي على أحمد بن أبي دؤاد كان بليغاً، فـأحمد بن أبي دؤاد مكث فترة طويلة أربعين سنة وهو يناظر أهل العلم، وما استطاع أحد منهم أن يكسره، وأتي بكبار العلماء من أمثال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة الكبار، لكن كانوا يناظرونه ويجادلونه بالنقل، ما عندهم إلا آراء أقوال عمن سلف: حدثنا فلان قال: أخبرنا فلان، وهو لا يعترف بهذا، حتى جاء المصيصي فسأله فقط سؤالين:

السؤال الأول: قال: أرأيتك هذا الذي تدعو إليه أشيء عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أم جهلوه؟ قال: بل عرفوه.

والسؤال الثاني: أفدعوا الناس إليه، أم سكتوا عنه؟ قال: بل سكتوا عنه.

قال: شيء عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي فسكتوا عنه، جدير بك أن تسكت عنه، فقال: أقلني والمسألة على حالها، بل جهلوه، فهذا شيء جهله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي من أين لك علمه؟ إنما يتنزل به الشيطان، فأسكته في مجلسه بخلال دقائق محصورة، ما يستطيع أن يجيب ولا أن يتكلم بكلمة، فلذلك هذا النوع من المسائل المهم أن يقتصر الإنسان على ما ينفع، وأن يترك الأمور الأخرى، وليس هذا تزهيداً في تلك المسائل ولا نقص من شأنها لكنها لأهل الاختصاص، ولا ينبغي إشاعتها بين الناس، ولا إذاعتها بينهم، وهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا خلفاؤه الراشدون، ولا الأئمة من بعدهم، وإنما كانت القصة في طلبتهم، ولذلك فكثير من المؤلفين الذين ألفوا في هذا الباب كانوا يسمون بعض كتبهم (المضنون به عن غير أهله)، مثل كتاب الغزالي، ومثل كتاب عبد الحق الإشبيلي (المضنون به عن غير أهله)، جان من طب لمن حب، وهو انتخابات مختصة لأهل الاختصاص، ولهذا ألف الغزالي كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام)، وألف السيوطي كذلك في هذا الباب، وألف شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على المنطقيين.

السؤال: ما سبب انتشار المذهب الأشعري في العالم الإسلامي؟

الجواب: أقول: إن المذهب الأشعري هو أقدم مذاهب أهل السنة، فالأقدمية لها اعتبار، ثم بعد ذلك أنه مذهب أكثرهم، فلم يكن مختصاً بمذهب من المذاهب الفقهية بل فيه حنابلة وفيه شافعية وفيه مالكية وفيه حنفية، بخلاف المذهب الماتريدي هو مختص بعلماء الحنفية، والمذهب الحنبلي هو مختص بالحنابلة في ذلك الزمان أو أهل الحديث معهم، فهذا السبب الأساسي من أسباب انتشاره، لكن الذي انتشر في الأخير مع الأسف في أكثر البلدان ليس هو مذهب الأشعري، بل هو االأقوال التي طور إليها مذهب الأشعري، وذكرنا أن بداية تطويره كانت مع الفخر الرازي.

السؤال: ما يتعلق بالفرق المعاصرة وبالأخص الروافض وكذلك الإباضية التي ابتلي بها بعض البلدان، كيف التعامل مع هؤلاء هل بالكبت وكتمان أنفاس هذا المذهب حتى يذهب، أو بمجادلتهم ومناظرتهم؟

الجواب: إن للسلف في هذا مذاهب شتى، فمنهم من كان يتسع باله لمناقشة أهل الزيغ والإلحاد لعل الله أن يهديهم، أو على الأقل يقيم هو عليهم الحجة بما أخطئوا فيه، وهذا المذهب سلكه عدد كبير من الأئمة، منهم عبد العزيز المكي صاحب الحيدة، والإمام أحمد نفسه، وعدد آخر من الأئمة منهم البخاري، والدارمي.

ثم المذهب الثاني: هو مجانبتهم بالكلية، وهذا الذي يفهم من كلام مالك رحمه الله، فقد كان يقول في حق هؤلاء: أما سمعتم قول الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].

وعندما أتاه رجل من الجهمية أو القدرية يريد مناظرته، قال: أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك فاذهب إلى شاك مثلك فجادله، ولم يقبل جوابهم، وهذه عادته رحمه الله، حتى في المسائل الفقهية لم يكن يقبل المناظرة والمجادلة، ولذلك يقول فيه عبد الملك بن المعلل:

يأبى الجواب فما يكلم هيبةً والسائلون نواكس الأذقان

شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان

وحتى في الحديث إذا بلغ حديثاً أي: قال: أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع أحد أن يسأله عن إسناده، يذكر أنه مرةً واحدةً سأله شعبة بن الحجاج قال: ممن سمعت هذا يا أبا عبد الله؟ قال: ما جالست سفيهاً قط، ولم يجبه. يعني: أنه لا يروي إلا عن الثقات عنده، لكن من مذاهبهم أيضاً التفريق بين من يرجى رجوعه وهو من يصلح للدعوة مثل عوام الناس الذين يقلدون أهل الأخطاء في انحرافاتهم وأخطائهم، وبين من لا يرجى رجوعه، فمن لا يرجى رجوعه هؤلاء لا يناظرون ولا يجالسون، ومناظرتهم هي من جنس المراء في الدين المذموم، وأما من يرجى رجوعه فتمكن مناظرته ومجادلته وكثيراً ما يرجعون، أو تقام عليه الحجة أو تضعف ثقته بالذين يقلدهم.

ومنهم من يرى جواز المناظرة مطلقاً، والمجادلة مطلقاً مع كل أحد لهم، حتى مع الذين لا يرجى رجوعهم، وهذا مذهب الباقلاني ومن بعده، وهو الذي سلكه ابن تيمية رحمه الله، يرون مناظرة الجميع ومجادلتهم وحتى إثبات أقوالهم والرد عليها، ابن تيمية أخذ كتاب الرافضي ورد عليه حرفاً حرفاً، وفيه عقائد الروافض، وفي عصور المتأخرين عقدت مؤتمرات للمناظرات كان بعض الأمراء والملوك يعتنون به فيجمعون طوائف متعددة للمناظرة بينها، وكان هذا مما يبقى له الأثر على عوام الناس عندما يعلن نصرة الحق وانتشاره، فلذلك الذي أراه أن زماننا هذا ليس زمان كبت الآراء، فالآراء الآن لا يقتلها الكبت بل الكبت يولد ردة فعل في زماننا، فلهذا ينبغي بيان تلك الآراء ونشرها ونشر الرد عليها، ومناقشتها، ومناظرتهم عليها، وإرجاع من رجي رجوعه عنه.

وبالنسبة لمعاملتهم فيما سوى ذلك مثل مخالطة الجار أياً كان، فالجار المسلم له حقان، والجار غير المسلم له حق واحد، كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كنت تكفره منهم كالذي يرمي عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه ويعلن ذلك فهو كافر، فأنت تكفره صراحةً بما قال، وتعامله معاملة الجار الكافر؛ لأنه وإن كان ليس مثل الكافر الأصلي فهو كافر مرتد، لكن لا تستطيع إقامة الحد عليه الآن، وليس بيدك ذلك، فتجعله كالكافر الأصلي، وبالأخص أنه إذا كان نشأ على هذا قبل بلوغه فليس هو بالمرتد؛ لأنه وجد أعباؤه على هذا، فهو بمثابة الكافر الأصلي، وأما من لا تسمع منه مثل هذا القول من لديه تقية منهم فتعامله معاملة عوام المسلمين، وتحاول هدايته وإزالة ما لديه من هذا النوع بحسن التعامل.

وبالنسبة لرد السلام فمن كفرته منهم لا ترد عليه السلام، ولا تبدأه بالسلام، ومن كنت لا تكفره كعوامهم فتبتدئه بالسلام وترد عليه السلام، أما معاملتهم في العمل فلا يحل، بل هو ظلم محرم في جميع الشرائع، لا يحل ظلم اليهودي، ولا ظلم النصراني، ولا ظلم الرافضي، ولا ظلم المنحرف في أي ملة من الملل، فإذا كان تلميذاً فلا يحل لك أن تهضم شيئاً من حقه الذي استحقه في الامتحان، وإذا كان عاملاً أو موظفاً لا يحل لك هضم شيء من حقه، الظلم ظلمات يوم القيامة، فالله تعالى يقول حتى في حق المشركين الأصليين: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

وحتى المحارب لا يظلم، إنما يقاتل بمقتضى القتال، حتى إن أهل العلم ترددوا في ضرب الكفار بالسهام المسمومة، هل يحل ذلك أو لا يحل إلا إذا فعلوا؟

وهل لنا بالنبل سن رميهم ثالثها يجوز إن رموا بسم

كما محمد مولود في الكفاف.

ففي معاملة المسلمين للكفار دائماً كثير من التعامل الدعوي الذي أثر في نفسياتهم، وجعل كثيراً منهم يسلمون وينقادون.

وحتى مع اليهود لا يظلمون، لكنهم في قتالهم وظلمهم فيما ظلموه فيه ردوا عليهم ظلمهم، ويقتلون بما قتلوا به، لكن بالنسبة لمن كان لديه أمانة أو نحو ذلك يؤديها إليه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين ظلمه أهل مكة وأخرجوه بغياً وعدواناً وكذبوه، أدى إليهم أماناتهم جميعاً، ترك علياً يؤدي إليهم أماناتهم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.