دروس في العقيدة [4]


الحلقة مفرغة

يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره ].

يدخل في هذه الجملة التي قررها الإمام الطحاوي رحمه الله أنواع التوحيد الثلاثة التي عرفت بالاستقراء والتتبع من النصوص الشرعية، وهي المعروفة عند أهل العلم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وقد عرفنا أن توحيد الربوبية جحدته بعض الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية.

وعرفنا أن توحيد الأسماء والصفات انحرفت فيه فرق المعطلة عن جادة الصواب، فلم يوحدوا الله في أسمائه وصفاته.

وعرفنا أن فرق المعطلة ثلاث: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأن فرقة الجهمية هي أصل الفرق في التعطيل؛ لأنهم ينفون أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.

يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره ].

يدخل في هذه الجملة التي قررها الإمام الطحاوي رحمه الله أنواع التوحيد الثلاثة التي عرفت بالاستقراء والتتبع من النصوص الشرعية، وهي المعروفة عند أهل العلم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وقد عرفنا أن توحيد الربوبية جحدته بعض الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية.

وعرفنا أن توحيد الأسماء والصفات انحرفت فيه فرق المعطلة عن جادة الصواب، فلم يوحدوا الله في أسمائه وصفاته.

وعرفنا أن فرق المعطلة ثلاث: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأن فرقة الجهمية هي أصل الفرق في التعطيل؛ لأنهم ينفون أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.

الجهمية الحلولية والاتحادية

والجهمية: هم الذين ينتسبون إلى جهم بن صفوان ، وهم طائفتان، ويجمع هاتين الطائفتين نفي الأسماء والصفات، ونفي العلو واستواء الرب سبحانه وتعالى على عرشه.

فالطائفة الأولى: المتقدمون، وهم عبادهم وصوفيتهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد، فقد قالوا بحلول الرب في جميع الأشياء، أو باتحاده معها، أي أنه اتحد مع جميع الموجودات، فصار الموجود شيئاً واحداً، ومن هؤلاء الاتحادية رئيسهم ابن عربي الطائي الذي تدرج في القول بالحلول والاتحاد، وسلك مسلك المنافقين الزنادقة، فزعم في أول الأمر أن النبوة ختمت بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الولاية لم تختم، وإنما ختمت به، فهو يزعم أنه خاتم الأولياء، ويزعم أن الولاية أعظم درجة من النبوة، وأن الأنبياء مستفيدون من الولاية، وقال: إن الولاية هي أعلى درجة، ثم تليها النبوة، ثم تليها الرسالة، هكذا زعم! فهي عنده آخر المراتب، ولهذا يقول:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

فقوله: (مقام النبوة في برزخ)، يعني: في مكان متوسط، وقوله: (فويق الرسول ودون الولي)، أي: مقام النبوة أعلى من مقام الرسول، ولكنه دون مرتبة الولي.

فهذه الطائفة الأولى من الجهمية، وهم عبادهم وصوفيتهم الذين قالوا بحلول الرب في خلقه، أو باتحاده معهم، فهذا التوحيد -أعني توحيد الجهمية، وهو القول بنفي الأسماء والصفات- قد أوصل قوماً إلى القول بالحلول، وأوصل آخرين إلى القول بالاتحاد.

وتوحيدهم هذا له فروع، ومن فروعه القول بأن فرعون وقومه على الحق والصواب! وأن فرعون حينما ادعى الألوهية وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] مصيب؛ لأن الرب حل في جميع الأشياء، أو لأنه اتحد بها.

ومن فروع توحيدهم هذا أن عباد الأصنام على الحق والصواب! لأنهم إنما عبدوا الله لا غيره، وكل من عبد معبوداً فهو مصيب، سواء أكان المعبود ناراً، أم صليباً، أم شجراً، أم شمساً، أم قمراً، أم آدمياً، أم جنياً، أم ملكاً، أو ما شاء أن يعبد، فالعابد مصيب؛ لأن الخالق والمخلوق واحد، أو لأن الرب حل في كل شيء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

ومن فروع هذا التوحيد أنه لا فرق في التحريم بين الأم والأخت وبين الأجنبية، بل ليس هناك شيء حرام! ولا فرق في التحريم والتحليل بين الزنا والنكاح! ولا فرق في التحليل والتحريم بين الماء والخمر! لأن الكل من عين واحدة، بل هو العين الواحدة.

ومن فروع هذا التوحيد أن الأنبياء ضيقوا على الناس، أبعدوا عنهم المقصود؛ حيث فرقوا بين الزنا والنكاح، فالزنا حرموه، والنكاح أباحوه، وفرقوا بين الخمر والماء، فالخمر حرموه، والماء أباحوه، وفرقوا بين الأم والأخت وبين الأجنبية، فالأم والأخت حرموهما، والأجنبية أحلوها، فهم ضيقوا على الناس بمثل هذا وأبعدوا عنهم المقصود، والأمر عندهم وراء ذلك كله.

فهذه هي فروع توحيدهم هذا ولوازمه.

الجهمية القائلون بنفي النقيضين

والطائفة الثانية من الجهمية هم الذين يقولون بنفي النقيضين عن الله، وسلبهما عنه، فيقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه.

وهذا وصف المعدوم، بل هو وصف الممتنع، ولو أردت وصف المعدوم بأكثر من هذا لما استطعت، فعجيب أن يكون شيء لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ومعنى (ولا محايث له)، ليس داخله، فالمحايث: الداخل، وهو -أيضاً- لا متصل به ولا منفصل عنه، فماذا يكون هذا؟! هل يكون له وجود؟!

فهؤلاء هم المتأخرون من الجهمية، وأولئك هم المتقدمون من عبادهم وصوفيتهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد.

ويقول بهذا القول -أيضاً- بعض المتأخرين من الأشاعرة، كـالرازي ، بل هو إمام المتأخرين من الأشاعرة، وقد قرر هذا في كتبه المتعددة كأساس التقديس وغيره، وهو يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، فـالرازي قال بقول الجهمية، لكنه أشعري، فهو أشعري جهمي يقول بنفي النقيضين عن الله، وكلتا الطائفتين قد قالت على الله قولاً عظيماً.

والجهمية: هم الذين ينتسبون إلى جهم بن صفوان ، وهم طائفتان، ويجمع هاتين الطائفتين نفي الأسماء والصفات، ونفي العلو واستواء الرب سبحانه وتعالى على عرشه.

فالطائفة الأولى: المتقدمون، وهم عبادهم وصوفيتهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد، فقد قالوا بحلول الرب في جميع الأشياء، أو باتحاده معها، أي أنه اتحد مع جميع الموجودات، فصار الموجود شيئاً واحداً، ومن هؤلاء الاتحادية رئيسهم ابن عربي الطائي الذي تدرج في القول بالحلول والاتحاد، وسلك مسلك المنافقين الزنادقة، فزعم في أول الأمر أن النبوة ختمت بمحمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الولاية لم تختم، وإنما ختمت به، فهو يزعم أنه خاتم الأولياء، ويزعم أن الولاية أعظم درجة من النبوة، وأن الأنبياء مستفيدون من الولاية، وقال: إن الولاية هي أعلى درجة، ثم تليها النبوة، ثم تليها الرسالة، هكذا زعم! فهي عنده آخر المراتب، ولهذا يقول:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

فقوله: (مقام النبوة في برزخ)، يعني: في مكان متوسط، وقوله: (فويق الرسول ودون الولي)، أي: مقام النبوة أعلى من مقام الرسول، ولكنه دون مرتبة الولي.

فهذه الطائفة الأولى من الجهمية، وهم عبادهم وصوفيتهم الذين قالوا بحلول الرب في خلقه، أو باتحاده معهم، فهذا التوحيد -أعني توحيد الجهمية، وهو القول بنفي الأسماء والصفات- قد أوصل قوماً إلى القول بالحلول، وأوصل آخرين إلى القول بالاتحاد.

وتوحيدهم هذا له فروع، ومن فروعه القول بأن فرعون وقومه على الحق والصواب! وأن فرعون حينما ادعى الألوهية وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] مصيب؛ لأن الرب حل في جميع الأشياء، أو لأنه اتحد بها.

ومن فروع توحيدهم هذا أن عباد الأصنام على الحق والصواب! لأنهم إنما عبدوا الله لا غيره، وكل من عبد معبوداً فهو مصيب، سواء أكان المعبود ناراً، أم صليباً، أم شجراً، أم شمساً، أم قمراً، أم آدمياً، أم جنياً، أم ملكاً، أو ما شاء أن يعبد، فالعابد مصيب؛ لأن الخالق والمخلوق واحد، أو لأن الرب حل في كل شيء، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

ومن فروع هذا التوحيد أنه لا فرق في التحريم بين الأم والأخت وبين الأجنبية، بل ليس هناك شيء حرام! ولا فرق في التحريم والتحليل بين الزنا والنكاح! ولا فرق في التحليل والتحريم بين الماء والخمر! لأن الكل من عين واحدة، بل هو العين الواحدة.

ومن فروع هذا التوحيد أن الأنبياء ضيقوا على الناس، أبعدوا عنهم المقصود؛ حيث فرقوا بين الزنا والنكاح، فالزنا حرموه، والنكاح أباحوه، وفرقوا بين الخمر والماء، فالخمر حرموه، والماء أباحوه، وفرقوا بين الأم والأخت وبين الأجنبية، فالأم والأخت حرموهما، والأجنبية أحلوها، فهم ضيقوا على الناس بمثل هذا وأبعدوا عنهم المقصود، والأمر عندهم وراء ذلك كله.

فهذه هي فروع توحيدهم هذا ولوازمه.

والطائفة الثانية من الجهمية هم الذين يقولون بنفي النقيضين عن الله، وسلبهما عنه، فيقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ولا متصل به ولا منفصل عنه.

وهذا وصف المعدوم، بل هو وصف الممتنع، ولو أردت وصف المعدوم بأكثر من هذا لما استطعت، فعجيب أن يكون شيء لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، ومعنى (ولا محايث له)، ليس داخله، فالمحايث: الداخل، وهو -أيضاً- لا متصل به ولا منفصل عنه، فماذا يكون هذا؟! هل يكون له وجود؟!

فهؤلاء هم المتأخرون من الجهمية، وأولئك هم المتقدمون من عبادهم وصوفيتهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد.

ويقول بهذا القول -أيضاً- بعض المتأخرين من الأشاعرة، كـالرازي ، بل هو إمام المتأخرين من الأشاعرة، وقد قرر هذا في كتبه المتعددة كأساس التقديس وغيره، وهو يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايث له، فـالرازي قال بقول الجهمية، لكنه أشعري، فهو أشعري جهمي يقول بنفي النقيضين عن الله، وكلتا الطائفتين قد قالت على الله قولاً عظيماً.

ولو سأل سائل: أي الطائفتين أشد كفراً؟

نقول: الطائفة الثانية عند العلماء -وهم الذين نفوا وسلبوا عن الله النقيضين- أشد كفراً من الطائفة الأولى، أي: طائفة الحلولية؛ لأن الحلولية أثبتوا شيئاً حالاً في شيء، لكن طائفة النفاة أو الذين يسلبون النقيضين عن الله لم يثبتوا شيئاً، وقد اختلف العلماء في تكفير الجهمية، فهل هم كفار أو ليسوا بكفار؟

فمن العلماء من أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة من فرق أمة الإسلام، فقال: إنهم كفار، وليسوا داخلين في فرق الأمة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة).

فقال بعض العلماء: الجهمية خارجون عن فرق الأمة، فهم كفار، وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أنه قد كفرهم خمسمائة عالم، فقال في نونيته:

ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان

وهناك نصوص كثيرة لعلماء الأمة في تكفير الجهمية نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه، ونقلها غيره، ومن ذلك قول عبد الله بن المبارك رحمه الله الإمام المعروف: إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نحكي قول الجهمية. يعني: نستطيع أن نحكي قول اليهود، ولكن لا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية؛ لخبثها وشرها وشناعتها وبشاعتها وإيغالها في الكفر.

ومن العلماء من قال: إنهم مبتدعة. ومن العلماء من فرق بين الغلاة وبين العامة، فقال: الغلاة كفار، وعامتهم مبتدعة. وعلى كل حال فإن من قال بقول الجهمية وهو يعلم ذلك، وليس عنده شبهة، وليس جاهلاً؛ فلا شك في كفره، كالمعاند والمتعنت، ورؤسائهم الذين يعلمون ذلك، فهؤلاء لا شك في كفرهم، أما من كان جاهلاً، أو تابعاً لغيره، فهذا هو محل النظر.

يرد على هؤلاء الجهمية وغيرهم بقول الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:64-65]، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة أنه أرسل الرسل ليطاعوا، وأمر بطاعتهم، وأمر بطلب الاستغفار منهم، ونفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول في موارد النزاع أو كان في نفسه حرج من حكم الله ولم يسلم لحكم الله ورسوله تسليماً كاملاً.

ومن الأدلة قول الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، فقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن علامة محبة الله اتباع الرسول، فمن اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فهو من أحباب الله، ومن خالف الرسول فهو من أعداء الله، ومن لم ينقد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يعمل بإرادة نفسه، وهذا غش للنفس، وهو من الكبر. وإذا كان الذين يقولون: لن نؤمن حتى يكون لنا مثل الرسل كفاراً، فكيف بمن قال: إنه أعلى من الرسل؟!

ولكن هؤلاء الجهمية -والعياذ بالله- استحوذ عليهم الشيطان فأعرضوا عن النصوص، ولم يعملوا بها، واتخذوها وراءهم ظهرياً، ولذلك وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الضلال والتيه، نسأل الله السلامة والعافية.

وظاهر النصوص، وظاهر كلام العلماء يوحي بأن الجهمية كفار، وأنه ليس معهم من الإيمان أو الدين شيء، ولهذا قال كثير من العلماء -وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله-: إن كلام الجهمية يدور على أنه ليس فوق العرش إله ولا رب، وقد رد عليهم الإمام أحمد رحمه الله في رسالة له صغيرة الحجم، لكنها عظيمة المعنى والمتن، تسمى الرد على الزنادقة، أو الرد على الجهمية والزنادقة، وهي رسالة صغيرة مطبوعة، وكثيراً ما ينقلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وينقل نصوصاً منها في كثير من كتبه، حتى إنه ربما نقلها كلها، وفرقها في كتبه، فهي رسالة عظيمة على صغر حجمها.

قبل أن ننتقل إلى فرقة المعتزلة لابد من أن نبين أن جهم بن صفوان قبحه الله اشتهر بأربع عقائد:

العقيدة الأولى: عقيدة نفي الأسماء والصفات، وورثها عنه المعطلة من المعتزلة وغيرهم بعد الجهمية.

العقيدة الثانية: عقيدة الإرجاء، وهو القول بأن الإيمان هو مجرد معرفة الرب بالقلب فقط، والكفر هو مجرد جهل الرب بالقلب، وأما الأعمال فليست من الإيمان، بل تكفي هذه المعرفة، فإذا عرف الإنسان ربه بقلبه فهو مؤمن، وإذا جهل ربه بقلبه فهو كافر، وورثها عنه المرجئة، ويلزم على هذه العقيدة أن يكون إبليس مؤمناً؛ لأنه عرف ربه، قال الله تعالى عنه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] .

ويلزم على ذلك أيضاً أن يكون فرعون مؤمناً؛ لأن فرعون عرف ربه بقلبه، قال الله تعالى عنه وعن ملئه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].

ويلزم على هذه العقيدة أن يكون اليهود مؤمنين؛ لأن الله تعالى قال عنهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] يعني: يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام.

وكذلك يلزم على هذه العقيدة أن يكون أبو طالب الذي دل الحديث الصحيح على أنه مات على الكفر مؤمناً؛ لأن أبا طالب يعرف صدق الرسول، ويعرف أن الدين حق، ولهذا يقول في قصيدته المشهورة:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

فيكون مؤمناً على مذهب الجهم، وقد ثبت في صحيح البخاري أن أبا طالب مات على الشرك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جاءه وأمره بأن يتشهد شهادة الحق، وكان عنده عبد الله بن أمية وأبو جهل بن هشام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله) لكن كان عنده قرينا السوء فلقناه الحجة الملعونة، وهي اتباع الأباطيل، فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! أي: أترغب عن ملة أبيك عبد المطلب؟! وهذا من أضرار قرناء السوء والعياذ بالله، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه أصحاب الحجة المعلونة قولهم: تترك ملة آبائك وأجدادك؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، ومات على الشرك، نسأل الله السلامة والعافية، لكنه عند الجهم مؤمن؛ لأنه عرف أن الإسلام حق ولو لم يدخل فيه، نسأل الله السلامة والعافية.

العقيدة الثالثة: عقيدة الجبر، وهو القول بأن الإنسان ليس له أفعال، وإنما أفعاله هي أفعال الله، وتنسب إليه على سبيل المجاز، فالصلاة والصيام، والسرقة وغيرها كلها أفعال لله، والعياذ بالله، فالأفعال أفعال الله، والإنسان وعاء لها فقط، وإنما تمر عليه مروراً كالماء الذي يصب في الكوب، فهم يقولون: بنوا آدم كأنهم كأس، والله كصاب للماء فيه، فالأفعال أفعاله، وهذه هي عقيدة الجبر، وأول من قال بها وابتدعها الجهم، وورثها عنه الجبرية.

العقيدة الرابعة: القول بفناء الجنة والنار، أي أن الجنة والنار تفنيان.

التوحيد

فاشتهر بهذه العقائد الأربع، قبحه الله وأخزاه.

وورثت المعتزلة عن جهم نفي الصفات، وهم الفرقة الثانية من فرق المعطلة، وهم يقولون بالنفي، إلا أنهم أخف منهم؛ لأن الجهمية ينكرون الأسماء والصفات لله عز وجل، وأما المعتزلة فهم يثبتون الأسماء وينكرون الصفات، فتقول المعتزلة: نؤمن بأن الله عليم حي قدير سميع مسمى بهذا، لكن ليس له علم، ولا سمع، ولا بصر! أي: يثبتون الأسماء أعلاماً محضة فقط، فهو عندهم عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا يثبتون الأسماء وينفون الصفات، وهذا داخل في أصلهم الذي أصلوه؛ لأن المعتزلة لهم أصول، فأصول الإيمان عندهم خمسة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمعتزلة فرقة منتشرة كثيرة، ولهم مؤلفات وأئمة، فمنهم المفسرون، كـالزمخشري ، وهو إمام طائفة تسمى: الزمخشرية، وله كتاب الكشاف، وينبغي لطالب العلم أن يكون على حذر من بدع هذه الطائفة، وأن يكون على بصيرة من أمره، وكتاب الكشاف للزمخشري -وهو إمام من أئمة المعتزلة عموماً وإمام الزمخشرية خصوصاً- قد يجرك إلى مذهب الاعتزال وأنت لا تشعر إذا لم يكن عندك حذر، ولم تكن على بصيرة، ولهذا قال البلقيني رحمه الله: استخرجت من كتاب الكشاف للزمخشري اعتزالاً بالمناقيش. أي: بالإبر؛ لأنها شيء مخفي، ومنها أنه قال في قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز [آل عمران:185] قال الزمخشري تعليقاً عليها: أي فوز أعظم من الجنة؟! قال البلقيني : وقصده من ذلك إنكار رؤية الله في الآخرة؛ لأن رؤية الله أعظم فوز، وأعظم نعيم يعطاه أهل الجنة، فهذا من الأشياء الخفية، فهو يريد أن يقرر أن المؤمنين لا يرون ربهم يوم القيامة. فلا بد لطالب العلم من أن يعرف هذه الفرقة، وشبهها، ومعتقداتها حتى يحذرها، وحتى يكون على بصيرة.

والمعتزلة قرروا أصول الإيمان عندهم، أما أصول الإيمان عند أهل الحق فهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهي ستة أصول، ومنهم من يجعلها خمسة، ويجعل الإيمان بالقدر داخلاً في أصل الإيمان بالله، لكن المعتزلة استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فقالوا: أصولنا غير هذه الأصول التي عندكم أهل السنة، فأصول الدين عندنا هي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل أصل من هذه الأصول ستروا تحته معنىً باطلاً، فإذا أردت أن تعرف مرادهم من التوحيد تجدهم يريدون بالتوحيد غير ما يريده أهل السنة والجماعة، والعدل كذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك.

فنفي الصفات داخل تحت الأصل الأول، فستروا تحت التوحيد القول بنفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، هذا هو التوحيد عند المعتزلة!! فمن أثبت الصفات لله فليس بموحد عندهم، بل مشبه مجسم، ومن أثبت رؤية الله في الآخرة أو قال: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ فليس بموحد عندهم، بل مشبه مجسم.

شبهة المعتزلة في القول بخلق القرآن والرد عليها

تقول المعتزلة: إن القرآن خلق من المخلوقات، ودليلنا قول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] وكلام الله شيء من الأشياء، فيكون داخلاً في عموم الكل، إذاً: فهو من المخلوقات، وهذه من شبههم العظيمة.

وأجاب أهل الحق عن هذه الشبهة بأجوبة، منها أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق بذاته وصفاته، فليست صفاته منفصلة عنه، وليست صفاته شيئاً آخر، بل هو سبحانه الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فلا تدخل الصفات ولا يدخل كلام الله في عموم الكل؛ لأن أسماء الله وصفاته داخلة في مسمى اسمه الخالق، فهو الخالق سبحانه بذاته وصفاته، فلا يدخل الكلام، ولا العلم، ولا القدرة في الشيء المخلوق، بل هو الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فقول المعتزلة: إن الصفات نخرجها من اسم الخالق ونجعلها مخلوقة من أبطل الباطل؛ لأن الصفة تابعة للموصوف، والله بذاته وصفاته هو الخالق.

ومما يدل على تعسف المعتزلة وانحرافهم أنهم أخرجوا من هذا العموم أفعال العباد، فقالوا: ليست مخلوقة لله، وأدخلوا في هذا العموم ما لا يصح دخوله، مثل كلام الله، وقالوا: نحن نخرج أفعال العباد من عموم الآية؛ لأنها لم يخلقها الله.

فنقول لهم: كيف تدخلون كلام الله الذي هو صفة من صفاته في هذا العموم مع أن كلامه داخل في مسمى اسمه وتخرجون أفعال العباد من هذا العموم، وتقولون: إنها ليست مخلوقة؟! هذا يدل على تعسفكم؛ لأن أفعال العباد داخلة في هذا العموم، ولا دليل معتبر على إخراجها، وصفات الله ليست داخلة؛ لأنه بذاته وصفاته هو الخالق.

ثانياً: أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، أي: يكون الخلق بالكلام، كما قال الله سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقد فرق الله بين الخلق والأمر في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فعلمنا أنهما شيئان، ولو كان الكلام مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بكلام آخر، والآخر بآخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية، فيفضي هذا إلى التسلسل، وهو باطل، فثبت بهذا أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، فلا يكون مخلوقاً، وإنما يخلق الله بالكلام، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

ثالثاً: يقال لهم: إن عموم الكل في كل شيء يختلف باختلاف مواضعه، فأحياناً يخرج من هذا العموم ما دل عليه الدليل، ومن ذلك أن الله تعالى قال في الريح التي أهلك الله بها عاداً: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] ، ثم قال: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] فخرجت المساكن والأرض والسماء من هذا العموم، والمعنى -والله أعلم- أن الريح التي أرسلها الله على عاد تدمر كل شيء يستحق التدمير، ولهذا فإن المساكن ما دمرت.

وكذلك قول الله تعالى حكاية عن الهدهد في ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] والمعنى: أوتيت من كل شيء يصلح للملوك، أو يكون للملوك، وهناك أشياء لم تؤتها، فكذلك عموم: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فالمراد: أن الله خالق كل شيء مخلوق، أما صفات الله فليست مخلوقة، فلا تدخل في هذا العموم.

رابعاً: يقال للمعتزلة: إن الله سبحانه وتعالى توعد من قال: إن القرآن كلام البشر بأن يصليه سقر، كما قال سبحانه في الوليد بن المغيرة : إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:18-25]، ثم قال الله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، والمعتزلة يقولون: إن كلام الله مخلوق، وأن الله خلقه، فهو -إذاً- قول البشر، وليس كلام الله، فهم إذاً داخلون في هذا الوعيد؛ لأن الله توعد من قال: إنه قول البشر بأن يصليه سقر، والمعتزلة لا يقولون: إنه قول الله ولا كلام الله، بل يقولون: إنه قول البشر خلقه الله فيهم، فلهم نصيب من هذا الوعيد.

فالمعتزلة يُدخلون في الأصل الأول الذي أصلوه -وهو التوحيد- القول بأن القرآن مخلوق، والقول بنفي الصفات.

اللوازم الباطلة التي تلزم القائل بخلق القرآن

يقال للمعتزلة: أنتم نفيتم الصفات، وقلتم: إن القرآن مخلوق، فيلزمكم أحدكم أمرين: إما أن تقولوا: جميع الصفات مخلوقة كما قلتم في الكلام، وإما ألا تقولوا ذلك.

فإن قلتم: إن جميع الصفات مخلوقة مثل الكلام؛ فإنه يلزمكم أن تقولوا: إن علم الله مخلوق، وقدرته مخلوقة، وحياته مخلوقة، ومن قال: إن حياة الله مخلوقة فقد وصل إلى الكفر الصريح.

وإما أن لا تقولوا إن الصفات مخلوقة فتخالفون أصلكم.

وإما أن تفرقوا بين الكلام وبين غيره من الصفات، فتقولوا: الكلام مخلوق، وبقية الصفات ليست مخلوقة، فتقعون في التناقض، وهو دليل فساد معتقدكم.

وعلى كل حال فإن الشبهة التي يعتمدون عليها هي قولهم: لو أثبتنا الصفات لله للزم من ذلك التشبيه والتجسيم والتركيب؛ لأننا لا نرى متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم، والأجسام تتشابه، وهي مركبة.

فيقال لهم: يلزمكم -أيضاً- أن تنفوا الأسماء إذا نفيتم الصفات؛ لأنكم لا ترون متصفاً بهذه الصفات إلا ما هو جسم، فكذلك انفوا الأسماء؛ لأنكم لا ترون مسمى بهذه الأسماء إلا ما هو جسم.

ويقال لهم أيضاً: ما مرادكم بالتركيب؟ وما مرادكم بالجسم؟ فالجسم يطلق على عدة أمور، فهل تريدون بالجسم البدن الكثيف، فإن الذي لا يسمى جسماً في اللغة هو الشيء الخفيف، كالماء والهواء والنار، فمثل ذلك لا يسمى جسماً في اللغة العربية، فهل مرادكم بالجسم البدن الكثيف؟! إن كان هذا مرادكم فالله منزه عن ذلك، وإذا أردتم بالجسم ما هو مركب من متباينين -كالحيوان المركب من الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والمركب من أعضاء- إن أردتم هذا فالله منزه عنه، وإن أردتم بالتركيب تركيب الجوار -كمصراعي الباب- فالله منزه عن ذلك أيضاً، وإن أردتم بالتركيب التركيب من الهيولى والصورة -والهيولى هي: المادة، والصورة هي: الشكل، كالخاتم مثلاً، فهو مركب من الهيولى وهي: المادة الصلبة أو الذهب، والصورة، وهي كونه دائرياً مثلاً- فالله منزه عن هذا، وإن أردتم بالجسم ما هو مركب من الجواهر المفردة -وهي الأجزاء التي لا تقبل الانكسار- فالله منزه عن ذلك، وإن أردتم بالجسم ما هو متصل بالصفات -أي: كونه يسمع ويبصر ويعلم ويُرى يوم القيامة- فنحن نثبت هذه المعاني لله ولا ننفيها عنه، لكونكم تسمونهاً جسماً وتركيباً.

وهم يقولون: من اتصف بالصفات فهو مركب، وإثبات الصفات عندهم تركيب، ونقول: هذا باطل، فنحن نثبتها لله ولو سميتموها تركيباً، فالتسمية هذه باطلة، فالله متصف بالصفات كالعلم والقدرة والبصر وسائر ما ورد في الكتاب والسنة، وهذه نثبتها لله ولو سميتموها تركيباً، وهذه التسمية لا تمنعنا من إثبات الصفات لله عز وجل؛ لأن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وهذه هي طريقة أهل الزيغ الضلال، فهم يسمون الحق بأسماء باطلة؛ كي ينفروا الناس عنها، والعبرة بالمعاني والحقائق، فإذا سميت الأشياء الباطلة بأسماء تتضمن معاني صحيحة لا تخرجها هذه التسمية عن كونها باطلة، وكذلك إذا سميت المعاني الحقة بأسماء باطلة، فالتسمية لن تغير حقاً، كأن يصطلح الناس -مثلاً- على تسمية الخمر تسمية لا تنفر منه، فلو سموه شراباً روحياً أو الشراب اللذيذ، فهل معنى ذلك أن يكون الخمر حلالاً؟ لا؛ لأن الخمر حرام ولو سميته شراب الروح أو الشراب اللذيذ، وكذلك إذا سمى الناس الربا بالفائدة، أو العمولة، أو الربح المركب، وهو ربا، فهذه التسميات لا تخرجه عن كونه ربا.

فكذلك هؤلاء المعتزلة نقول لهم: إذا سميتم إثبات الصفات لله تركيباً فهي صفات لله نثبتها، ولا تضرنا هذه التسمية الباطلة؛ لأن العبرة بالمعاني، فهذا هو الأصل الأول من أصول المعتزلة، وهو التوحيد.

فاشتهر بهذه العقائد الأربع، قبحه الله وأخزاه.

وورثت المعتزلة عن جهم نفي الصفات، وهم الفرقة الثانية من فرق المعطلة، وهم يقولون بالنفي، إلا أنهم أخف منهم؛ لأن الجهمية ينكرون الأسماء والصفات لله عز وجل، وأما المعتزلة فهم يثبتون الأسماء وينكرون الصفات، فتقول المعتزلة: نؤمن بأن الله عليم حي قدير سميع مسمى بهذا، لكن ليس له علم، ولا سمع، ولا بصر! أي: يثبتون الأسماء أعلاماً محضة فقط، فهو عندهم عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهكذا يثبتون الأسماء وينفون الصفات، وهذا داخل في أصلهم الذي أصلوه؛ لأن المعتزلة لهم أصول، فأصول الإيمان عندهم خمسة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمعتزلة فرقة منتشرة كثيرة، ولهم مؤلفات وأئمة، فمنهم المفسرون، كـالزمخشري ، وهو إمام طائفة تسمى: الزمخشرية، وله كتاب الكشاف، وينبغي لطالب العلم أن يكون على حذر من بدع هذه الطائفة، وأن يكون على بصيرة من أمره، وكتاب الكشاف للزمخشري -وهو إمام من أئمة المعتزلة عموماً وإمام الزمخشرية خصوصاً- قد يجرك إلى مذهب الاعتزال وأنت لا تشعر إذا لم يكن عندك حذر، ولم تكن على بصيرة، ولهذا قال البلقيني رحمه الله: استخرجت من كتاب الكشاف للزمخشري اعتزالاً بالمناقيش. أي: بالإبر؛ لأنها شيء مخفي، ومنها أنه قال في قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز [آل عمران:185] قال الزمخشري تعليقاً عليها: أي فوز أعظم من الجنة؟! قال البلقيني : وقصده من ذلك إنكار رؤية الله في الآخرة؛ لأن رؤية الله أعظم فوز، وأعظم نعيم يعطاه أهل الجنة، فهذا من الأشياء الخفية، فهو يريد أن يقرر أن المؤمنين لا يرون ربهم يوم القيامة. فلا بد لطالب العلم من أن يعرف هذه الفرقة، وشبهها، ومعتقداتها حتى يحذرها، وحتى يكون على بصيرة.

والمعتزلة قرروا أصول الإيمان عندهم، أما أصول الإيمان عند أهل الحق فهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهي ستة أصول، ومنهم من يجعلها خمسة، ويجعل الإيمان بالقدر داخلاً في أصل الإيمان بالله، لكن المعتزلة استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فقالوا: أصولنا غير هذه الأصول التي عندكم أهل السنة، فأصول الدين عندنا هي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل أصل من هذه الأصول ستروا تحته معنىً باطلاً، فإذا أردت أن تعرف مرادهم من التوحيد تجدهم يريدون بالتوحيد غير ما يريده أهل السنة والجماعة، والعدل كذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك.

فنفي الصفات داخل تحت الأصل الأول، فستروا تحت التوحيد القول بنفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، هذا هو التوحيد عند المعتزلة!! فمن أثبت الصفات لله فليس بموحد عندهم، بل مشبه مجسم، ومن أثبت رؤية الله في الآخرة أو قال: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ فليس بموحد عندهم، بل مشبه مجسم.

تقول المعتزلة: إن القرآن خلق من المخلوقات، ودليلنا قول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] وكلام الله شيء من الأشياء، فيكون داخلاً في عموم الكل، إذاً: فهو من المخلوقات، وهذه من شبههم العظيمة.

وأجاب أهل الحق عن هذه الشبهة بأجوبة، منها أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق بذاته وصفاته، فليست صفاته منفصلة عنه، وليست صفاته شيئاً آخر، بل هو سبحانه الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فلا تدخل الصفات ولا يدخل كلام الله في عموم الكل؛ لأن أسماء الله وصفاته داخلة في مسمى اسمه الخالق، فهو الخالق سبحانه بذاته وصفاته، فلا يدخل الكلام، ولا العلم، ولا القدرة في الشيء المخلوق، بل هو الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، فقول المعتزلة: إن الصفات نخرجها من اسم الخالق ونجعلها مخلوقة من أبطل الباطل؛ لأن الصفة تابعة للموصوف، والله بذاته وصفاته هو الخالق.

ومما يدل على تعسف المعتزلة وانحرافهم أنهم أخرجوا من هذا العموم أفعال العباد، فقالوا: ليست مخلوقة لله، وأدخلوا في هذا العموم ما لا يصح دخوله، مثل كلام الله، وقالوا: نحن نخرج أفعال العباد من عموم الآية؛ لأنها لم يخلقها الله.

فنقول لهم: كيف تدخلون كلام الله الذي هو صفة من صفاته في هذا العموم مع أن كلامه داخل في مسمى اسمه وتخرجون أفعال العباد من هذا العموم، وتقولون: إنها ليست مخلوقة؟! هذا يدل على تعسفكم؛ لأن أفعال العباد داخلة في هذا العموم، ولا دليل معتبر على إخراجها، وصفات الله ليست داخلة؛ لأنه بذاته وصفاته هو الخالق.

ثانياً: أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، أي: يكون الخلق بالكلام، كما قال الله سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقد فرق الله بين الخلق والأمر في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فعلمنا أنهما شيئان، ولو كان الكلام مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بكلام آخر، والآخر بآخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية، فيفضي هذا إلى التسلسل، وهو باطل، فثبت بهذا أن كلام الله صفة من صفاته به تكون المخلوقات، فلا يكون مخلوقاً، وإنما يخلق الله بالكلام، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

ثالثاً: يقال لهم: إن عموم الكل في كل شيء يختلف باختلاف مواضعه، فأحياناً يخرج من هذا العموم ما دل عليه الدليل، ومن ذلك أن الله تعالى قال في الريح التي أهلك الله بها عاداً: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] ، ثم قال: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] فخرجت المساكن والأرض والسماء من هذا العموم، والمعنى -والله أعلم- أن الريح التي أرسلها الله على عاد تدمر كل شيء يستحق التدمير، ولهذا فإن المساكن ما دمرت.

وكذلك قول الله تعالى حكاية عن الهدهد في ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] والمعنى: أوتيت من كل شيء يصلح للملوك، أو يكون للملوك، وهناك أشياء لم تؤتها، فكذلك عموم: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فالمراد: أن الله خالق كل شيء مخلوق، أما صفات الله فليست مخلوقة، فلا تدخل في هذا العموم.

رابعاً: يقال للمعتزلة: إن الله سبحانه وتعالى توعد من قال: إن القرآن كلام البشر بأن يصليه سقر، كما قال سبحانه في الوليد بن المغيرة : إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:18-25]، ثم قال الله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، والمعتزلة يقولون: إن كلام الله مخلوق، وأن الله خلقه، فهو -إذاً- قول البشر، وليس كلام الله، فهم إذاً داخلون في هذا الوعيد؛ لأن الله توعد من قال: إنه قول البشر بأن يصليه سقر، والمعتزلة لا يقولون: إنه قول الله ولا كلام الله، بل يقولون: إنه قول البشر خلقه الله فيهم، فلهم نصيب من هذا الوعيد.

فالمعتزلة يُدخلون في الأصل الأول الذي أصلوه -وهو التوحيد- القول بأن القرآن مخلوق، والقول بنفي الصفات.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس في العقيدة [12] 2283 استماع
دروس في العقيدة [9] 2217 استماع
دروس في العقيدة [2] 2127 استماع
دروس في العقيدة [11] 2046 استماع
دروس في العقيدة [18] 1874 استماع
دروس في العقيدة [17] 1827 استماع
دروس في العقيدة ]16[ 1666 استماع
دروس في العقيدة [10] 1435 استماع
دروس في العقيدة [14] 1345 استماع
دروس في العقيدة [8] 1329 استماع