دروس في العقيدة [8]


الحلقة مفرغة

شرك الدعاء

فإنه لا يزال الحديث موصولاً بالكلام على توحيد الألوهية -وهو العبادة- وما ينافيه من الشرك، وقد سبق أن استعرضنا بعض أمثلة الشرك في العبادة، وهي: شرك المحبة، وشرك الخوف، وشرك الرجاء.

ومن الأمثلة كذلك: الشرك في الدعاء، وهو: أن يدعو الإنسان غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يدعو ميتاً أو غائباً أو حياً حاضراً أو جنياً أو شجرة أو قبراً أو ولياً أو ملكاً، أو غيرهم ممن هو عاجز لا يقدر، فيكون قد أشرك بالله عز وجل شركاً أكبر يخرجه من ملة الإسلام.

وسواء أكان هذا الدعاء طلباً للشفاعة أم لغيرها، كأن يسأل إنسان المدد، أو قضاء الحاجات، أو تفريج الكربات، أو إغاثة اللهفات، قال الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، يخبر الله تعالى عن المشركين أنهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله، وأخلصوا له العبادة، وأخلصوا له الدعاء، فإذا نجاهم إلى البر أشركوا بالله عز وجل، ودعوا غيره، وقال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال سبحانه: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء:213]، وقال سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] ، يعني: المشركين.

فقد حكم الله تعالى على من دعا غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه بالشرك قال:فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14] فسماه الله شركاً، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

وقد حكم الله سبحانه وتعالى على من دعا غيره بالكفر، فقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ [الزمر:3] يعني: قائلين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]، فحكم عليهم بالكذب، وكفرهم بهذا العمل في قولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

وبين الله سبحانه وتعالى أن غيره من المدعوين لا يملكون للداعي شيئاً، ولا يستطيعون إجابة دعائه، قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13]، والقطمير هو: اللفافة الرقيقة البيضاء على نواة التمرة، وقال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:14]، أي: لا يسمع؛ لأنه غائب، أو ميت قد بليت عظامه وصارت تراباً. وَلَوْ سَمِعُوا [فاطر:14] على الفرض والتقدير مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14].

وهذا النوع من الشرك في الدعاء انتشر ووقع فيه كثير من المشركين قديماً وحديثاً، فأنت تجد في بعض القبور من يسميه بعضهم بالولي، فتسمع ارتفاع الأصوات بالضجيج والدعاء: يا فلان، يا فلان، يا عبد القادر الجيلاني! أغثني، مدد مدد! يا دسوقي! مدد مدد! يا سيدي البدوي أغثني المدد المدد! يا حسين ! يا نفيسة ! يا ابن علوان !

وهكذا تسمع في كثير من الأماكن والبلدان في غير هذه البلاد قبوراً تدعى من دون الله.

وبعض الحجاج حينما يأتون للحج، ومن ثم زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام تجدهم يقعون في الشرك، فيقول أحدهم: يا سيدي يا رسول الله أغثني! يا سيدي يا رسول الله! فرج كربتي! يا سيدي يا رسول الله! جئتك من بلاد بعيدة، لا تخيب رجائي! أنا في حسبك! أنا في جوارك! وبعضهم يقول: اغفر ذنبي! أدخلني الجنة! نجني من النار! وهذا شرك أكبر، وهو شرك أهل الجاهلية.

والشرك الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، وقتال فاعله وتكفيره واستحلال دمه وماله هو شرك الدعاء الذي انتشر وعم وطم في كثير من البلدان، وفي كثير من الأقطار في الأزمنة القديمة، وفي العصور الحاضرة، فمن فعل ذلك فإنه يكون مشركاً وثنياً، إلا من تاب، ومن تاب تاب الله عليه، فمن دعا غير الله فقد أشرك، والمراد بالدعاء: الذي يكون فيما وراء الأسباب، أما إذا دعا حياً حاضراً قادراً معه أسباب ظاهرة فلا يكون دعاؤه شركاً، كأن يدعو شخصاً يطلب منه حاجة دنيوية فيقول: يا فلان! أعني على إصلاح بيتي، أعني على إصلاح سيارتي، يا فلان! ساعدني على إصلاح مزرعتي، أقرضني مالاً، أو كان غريقاً يطلب إنقاذه من غرقه، فهذا لا بأس به، وهذا بخلاف الميت، فإنه لا يستطيع؛ لأنه ليس معه أسباب ظاهرة، وكذلك الغائب، والحي الحاضر الذي لا يقدر.

شرك الاستعانة والاستغاثة

الشرك في الاستعانة هو: أن يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يستعين بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يقول للميت: أعني على قضاء ديني، أو ينادي غائباً أن يعينه، أو يستعين بأسماء الملائكة، أو أسماء الجن، أو الأنبياء.

والاستعانة لا تكون إلا بالله، قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فمن استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك، أما من استعان بحي حاضر قادر فلا بأس بذلك؛ لأن المراد بالاستعانة الممنوعة بالمخلوق: الاستعانة التي تكون فيما وراء الأسباب، أما إذا استعان بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة فلا يكون ذلك شركاً، بل هذا جائز مباح، كأن يقول: يا فلان! أعني على إصلاح سيارتي، أعني على إصلاح مزرعتي، ساعدني على إنكار المنكر، ساعدني على الدعوة إلى الله، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

أما الشرك في الاستغاثة فهو: أن يستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يستغيث بميت أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو يستغيث بأسماء الملائكة، أو بأسماء الجن، أو بأسماء الأنبياء، أو يستغيث الغريق بالميت أن ينقذه فيقول: يا فلان! أغثني. يا سيدي البدوي ! أغثني، أنقذني من الغرق! أو يا عبد القادر الجيلاني ! أنقذني من الغرق، أو: أنفذني من الحريق! وهكذا.

والاستغاثة لا تكون إلا بالله، قال الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فإذا استغاث بميت، أو غائب، أوحي حاضرٍ فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك، والمراد بالاستغاثة الممنوعة الاستغاثة فيما وراء الأسباب، أما من استغاث بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة فلا يكون ذلك شركاً، بل هذا جائز.

ومثال ذلك: أن يستغيث غريق برجل أمامه يعرف السباحة، فيقول: يا فلان! أغثني. فهذا لا بأس به، أو استغاثة مَنْ وقع في كربة كحريق، فيستغيث بمن يستطيع إنقاذه، فهذا لا بأس به، قال الله تعالى في شأن موسى عليه الصلاة والسلام لما خرج فوجد قبطياً وإسرائيلياً يقتتلان، وكان الإسرائيلي من شيعة موسى، والقبطي من عدوه، قال تعالى:فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15]، استغاث الإسرائيلي بموسى، فأغاثه موسى فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، فهذه استغاثة بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة.

والفرق بين الاستعانة والاستغاثة والدعاء من حيث العموم والخصوص: أن الدعاء والاستعانة أعم، والاستغاثة أخص؛ لأن الاستغاثة دعاء خاص لا تكون إلا ممن وقع في كربة أو شدة، فإذا دعا من هو في كربة أو شدة يقال لفعله: استغاثة، كالغريق إذا دعا من ينقذه من الغرق.

أما الدعاء فإنه يكون ممن هو في كربة ومن غيره، وكذلك الاستعانة أعم، فهي تشمل الداعي في كربة وفي غيرها، فالدعاء والاستعانة كل منهما أعم من الاستغاثة، فالاستغاثة نوع من الدعاء، لكنها تكون من المكروب، والدعاء من المكروب يسمى استغاثة، والدعاء من غير المكروب يسمى دعاء.

شرك الاستعاذة

الشرك في الاستعاذة هو: أن يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يستعيذ بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يقول: يا فلان -ينادي القبر-! أعذني، يا سيدي البدوي! أعذني من فلان، أعذني من العدو الفلاني، فيلوذ به ويلتجئ إليه، فهذا يكون شركاً؛ لأن الاستعاذة عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، وقال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1].

وثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك، فقال: (لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك)، فهذه استعاذت بالله، والاستعاذة بالله توحيد.

والمراد بالاستعاذة الشركية: الاستعاذة فيما وراء الأسباب، أما من استعاذ بحي حاضر قادر معه أسباب ظاهرة فاستعاذته لا تكون شركاً؛ لأنه حي حاضر قادر أمامك، كأن تقول: يا فلان! أعذني من شر أولادك، أو يا فلان! أعذني من شر زوجتك؛ لأنها سليطة اللسان، أو: أعذني من شر خادمك، فلا بأس بهذا؛ لأنك تستعيذ بحي حاضر قادر يستطيع أن يمنع أولاده، ويستطيع أن يمنع خادمه، ويستطيع أن يمنع زوجته، فهذه استعاذة حسية أسبابها ظاهرة، فلا بأس بها.

شرك الرقى

الرقى المقصود بها: الرقية التي يُرقى بها صاحب الآفة، كالحمى والصرع، فإذا رقى شخص شخصاً بأسماء الملائكة، أو بأسماء الجن، أو بأسماء الأموات أو الغائبين أو غيرهم فهذا يقع في الشرك، أما إذا رقى شخصاً بآيات من القرآن، أو بأسماء الله وصفاته، أو بأدعية لا محذور فيها فلا يكون فعله شركاً، بل هي رقية مستحبة أو جائزة.

والرقية الشرعية لها ثلاثة شروط:

الشرط الأول: أن تكون الرقية بآيات من القرآن، أو بأسماء الله وصفاته، أو بأدعية شرعية، أو بأدعية مباحة لا محذور فيها، كأن يقول -كما ورد في الحديث-: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك)، وكذلك: (اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما).

وكذلك: (أعيذك بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، وكذلك: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم).

الشرط الثاني: أن تكون بلسان عربي، فلا يرقية بلغة أجنبيه كالإنجليزية أو غيرها، ولا يكون فيها تمتمة، كحال بعض السحرة، أو المشعوذين إذا أراد أن يرقي فيتمتم بكلمات فلا تدري ما يقول، فلابد من أن تكون بلسان عربي مفهوم معلوم، أما تمتمة السحرة والمشعوذين فلا تجوز، وبعض المشعوذين والسحرة يقرأ أمامك، فيجهر بقراءة الفاتحة، أو (قل هو الله أحد)، حتى تطمئن إليه في أول الأمر، ثم يتمتم، فلا تدري ماذا يقول؟ فيحتمل أنه يرقي بأسماء الجن، أو الشياطين، فلا بد من أن تكون بلسان عربي مفهوم.

الشرط الثالث: أن يعتقد بأنها سبب، والشافي هو الله.

فإذا وجدت هذه الشروط الثلاثة فهي رقية شرعية.

شرك الرياء

الشرك في الرياء هو: شرك النية والإرادة والقصد، وهؤلاء الذين يقعون في شرك الرياء على طبقتين:

الطبقة الأولى: المنافقون الذين أسلموا لأجل الدنيا، وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وإنما أسلموا لأجل الدنيا، فهم يصومون ويتصدقون ويحجون مراءاة للناس، فهؤلاء أشركوا شركاً أكبر، وهم أهل الرياء الكثير.

الطبقة الثانية: مؤمنون مسبحون، مؤمنون بالله واليوم الآخر، عملوا أعمالاً صالحة أرادوا بها الرياء، فهؤلاء وقعوا في الشرك الأصغر، فالرياء إذا كان كثيراً كان شركاً أكبر، وهذا الذي يكون من المنافقين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فيقع ممن معه ناقض من نواقض الإسلام كالمنافقين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فهم يصومون ويتصدقون ويحجون مراءاة للناس، كما كان يفعل ذلك عبد الله بن أبي زعيم المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون، ويحجون، ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يوم أحد رجع عبد الله بن أبي بثلث الجيش، وقال: إن محمداً لا يطيعني، فهو دخل في الإسلام نفاقاً فلم يكن مؤمناً بالله واليوم الآخر، وإن كان يصلي ويصوم ويتصدق.

أما المؤمن بالله واليوم الآخر إذا صدر منه الرياء في العمل فهو شرك أصغر، أما إذا كان الرياء في العقيدة فهو شرك أكبر، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، فهذه الآية في أهل الرياء الأكبر من الكفار، ولكن عمومها يتناول -أيضاً- أهل الرياء اليسير، وهم المؤمنون.

وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، وقال سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] .

فالمنافق يكثر منه الرياء في العقيدة؛ لأنه دخل في الإسلام رياءً ونفاقاً، وأهل الرياء الكثير أعمالهم حابطة، وهم في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].

أما المؤمن فإنه يقع منه الرياء في العمل، كأن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، أو محمدة، أو جاهاً، كمن يحج ليأخذ مالاً، أو يجاهد ليأخذ مالاً، أو يتعلم العلم الشرعي ليأخذ مالاً، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يتعلم القرآن أو يحافظ على الصلاة لأجل وظيفة في المسجد، فهذا شرك أصغر ينافي كمال التوحيد، ويحبط العمل الذي قارنه فقط، وهو داخل في قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] .

وهناك صاحب الشائبتين، وهذا مسكوت عنه، وهو الذي يؤدي الواجبات إخلاصاً لله، ثم يعمل أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا، كالمؤمن الذي يؤدي الصلوات الخمس، والزكاة، ويصوم، ويحج، ثم يعمل أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا، كأن يحج فريضة الله عليه، ثم يحج بعد حجة الفرض لأجل الدنيا، فهذا صاحب الشائبتين، وهو مسكوت عنه، فالقرآن كثيراً ما يذكر أصحاب الجنة الخلص، وأصحاب النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، فهو لما غلب عليه منهما، فإذا غلب عليه قصد وجه الله فهو لما غلب عليه، وإذا غلب عليه قصد الدنيا فهو لما غلب عليه، وهو على خطر عظيم.

شرك التبرك

الشرك في التبرك كالتبرك بالأشجار، أو الأحجار، أو أن يتبرك ببقعة أو غار أو عين أو موطئ أو أثر أو مقام كمقام إبراهيم أو صخرة بيت المقدس أو حجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعنى التبرك: اعتقاد البركة ورجاؤه في هذا الشيء الذي يتبرك به.

وهذا هو الذي وقع فيه المشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا يدعون أوثانهم، ويذبحون لها وينذرون ويرجون ويؤملون منها، فهؤلاء وقعوا في الشرك الأكبر، فإذا تبرك بشجر، أو بحجر، واعتقد أن البركة حاصلة في ذاتها؛ فقد وقع في الشرك الأكبر؛ لأن الله لم يجعل فيها تلك البركة التي يعتقدها.

أما إذا اعتقد أن البركة من الله، ولكن الله جعل هذه الشجر سبباً للبركة، أو هذا الحجر سبباً للبركة، أو هذا المقام سبباً للبركة فهذا شرك أصغر؛ لأنه اعتقد أن البركة من الله، لكنه اعتقد أن هذا الشجر فيه بركة، أو أن هذا الحجر فيه بركة، أما إذا اعتقد أن البركة ذاتية فيها فهذا شرك أكبر.

أما إذا كان الشخص فيه خير، وجعل الله على يديه خيراً ونفعاً وقيل له: أنت رجل مبارك، أو هذه من بركتك، فهذا لا بأس به، والدليل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين في قصة التيمم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات لما أراد الرحيل انقطع عند رحيله عقد لـعائشة ، فحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأرسل رجالاً يطلبون عقد عائشة، وذهبوا بعيداً فلم يجدوه، وحضرت الصلاة وليس عندهم ماء، ولم يكن شرع التيمم بعد، فصلوا بغير ماء ولا تيمم، فلما بعثوا البعير وجدوا العقد تحته، وأقسام الناس وليس معهم ماء، وحضرت الصلاة، فأنزل الله آية التيمم، فتيمم الناس، فقال أسيد بن حضير لـعائشة رضي الله عنها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أي: هذه من بركاتكم التي جعل الله فيكم حيث حبست الناس من أجل العقد، ثم أنزل الله آية التيمم.

قال: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر -يخاطب عائشة - فو الله ما نزل بكِ أمرٌ تكرهينه إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وللمسلمين منه خير وبركة. أو كما جاء في الحديث، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة.

وهذه قصة فيها فوائد، منها:

أولاً: أن فاقد الماء والتراب يصلي بغير ماء ولا تراب؛ لأن الصحابة الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون العقد حضرت الصلاة وليس معهم ماء، ولم يشرع التيمم، فصلوا بغير تراب ولا ماء، فدل ذلك على أن فاقد الطهورين يصلي بغير ماء ولا تراب، مثل إنسان مريض في المستشفى لا يستطيع أن يتيمم وليس عنده تراب، ولا عنده أحد ييممه، ولا يستطيع الوضوء، فيصلي بالنية على حسب حاله، أو إنسان محبوس، أو مصلوب على خشبة لا يستطيع أن يتيمم، فيصلي بغير ماء ولا تراب.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ففيها الرد على من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب كما قاله بعض الطوائف التي غلوا في النبي صلى الله عليه وسلم، ويدَّعون أنه يعلم الغيب، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدري أين عقد عائشة ، ولذلك أرسل رجالاًيبحثون عنه، وذهبوا بعيداً يبحثون عنه ولم يجدوه، فلما بعثوا البعير وجدوا العقد تحته، فلو كان يعلم الغيب لما بحث عنه، ولا أرسل أناساً يبحثون عنه.

وفي هذا الباب قصة أبي واقد الليثي رضي الله عنه أنه قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين، وكنا حديثي عهد بشرك، فمررنا بالمشركين ولهم سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم -يعني: يعلقون بها أسلحتهم- يقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، أي: اجعل لنا سدرة نتمسح بها ونتبرك، ونجعل عليها سلاحنا مثلهم، فأنكر ذلك عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (الله أكبر؛ إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل مقالة الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط) كمقالة بني إسرائيل لموسى، فالعبرة بالمعنى.

ولكن الصحابة لم يفعلوا الشرك، فهم قالوا ذلك عن جهل، واعتذر أبو واقد الليثي بقوله: (وكنا حديثي عهد بشرك) أي: أسلمنا قريباً، فلما زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم انزجروا وامتنعوا فلم يفعلوا الشرك، ففيه دليل على أن الإنسان إذا طلب أن يفعل الشرك جاهلاً ثم منع منه، وبين له فانزجر وامتنع لا يقع في الشرك، وكذلك بنو إسرائيل لم يقعوا في الشرك؛ لأنهم ما فعلوا، وإنما طلبوا عن جهل، فبين لهم نبي الله موسى عليه السلام وزجرهم عن ذلك، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين لهم أن هذه المقالة مثل مقالة بني إسرائيل، فلم يقعوا في الشرك، كما أن بني إسرائيل أيضاً لم يقعوا في الشرك.

فالمقصود أن التبرك بالشجر والحجر وغيره إذا فعله الإنسان، واعتقد أن فيه بركة، فإن كان يعتقد أن البركة ذاتية منه فهذا شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه سبب، والبركة من الله، وأن الله جعله سبباً للبركة فهذا شرك أصغر.

أما إذا استظل تحت الشجرة وعلق عليها سلاحه لا يقصد شيئاً من ذلك؛ فهذا لا شيء فيه.

شرك النذر

الشرك في النذر هو: أن ينذر لغير الله تقرباً لذلك الغير يرجو شفاعته، أو نفعه، كالذين ينذرون للقبور تقرباً إلى أصحابها؛ ليشفعوا لهم ويقضوا حوائجهم، أو ينذرون للأموات، كأن يقول: يا سيدي البدوي ! إن شفى الله مريضي فلك علي كذا وكذا من الجنيهات أو من الدراهم يقسمها على روحه أو: إن شفى الله مريضي فلك ذبيحة أذبحها أتقرب بها إليك! أو ينذر أن يصلي له، أو ينذر أن يصوم له، فالنذر عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله، قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29]، وقال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270].

ومن نذر وجب عليه الوفاء، قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فإذا نذر الإنسان طاعة لله -سواء أكان نذراً معلقاً أم غير معلق- أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وجب عليه أن يصوم، أو نذر أن يصلي عشرين ركعة وجب عليه الوفاء، أو نذر أن يحج وجب عليه كذلك.

وهذا إذا كان نذر طاعة، أما إذا كان نذر معصية فليس له الوفاء به، مثل من نذر أن يشرب الخمر، أو يشرب الدخان، أو نذر أن يعق والديه، أو يقطع رحمه، فلا يجوز له الوفاء به، وعليه التوبة والاستغفار، وعليه مع ذلك كفارة يمين، كما جاء في بعض الأحاديث (وعليه كفارة يمين) أما إذا نذر لغير الله فهذا شرك.

وأصل النذر مكروه؛ لأنه يلزم نفسه بشيء، ويوجب على نفسه شيئاً عافاه الله منه، وقد لا يستطيع الوفاء به، وقد يشق عليه بعد ذلك، فلا ينبغي للإنسان أن ينذر، بل ينبغي للإنسان أن يفعل الطاعة بدون نذر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إياكم والنذر؛ فإنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)، فالبخيل هو الذي لا يخرج شيئاً إلا إذا نذر، لكن غير البخيل يتصدق، ويصوم، ويصلي، ولو لم يوجب على نفسه شيئاً، ولأن الناذر قد يتصور أن النذر هو السبب في قضاء حاجته، وهذا غلط كبير، فليس النذر سبباً في قضاء الحاجة، فالله تعالى يقضي الحاجة، سواء نذرت أو لم تنذر، وقد لا تُقضى حاجتك، سواء نذرت أو لم تنذر.

فالنذر مكروه أو حرام، وبعض العلماء قال بأنه مكروه، لكن إذا نذر طاعة وجب الوفاء بها، وقد مدح الله الأبرار في وفائهم بالنذر، فإذا وقع النذر وكان طاعة فإنه يمدح الوفاء به، ويثنى على من وفى به، قال الله تعالى في وصف الأبرار: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7].

وقد ينذر الإنسان نذراً ثم يعجز بعد ذلك عن الوفاء به، فيكون وعد الله بشيء ثم لم يف بوعده، فيكون شبيهاً بالمنافقين الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].

وقد يشق على الإنسان الوفاء بالنذر، ثم يذهب إلى عتبة كل عالم لعله يجد مخرجاً يخلصه من هذا النذر، فالذي ينبغي للإنسان ألا ينذر، بل يفعل الطاعة من دون نذر.

شرك الذبح

الشرك في الذبح هو: أن يذبح لغير الله تقرباً لذلك الغير.

قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163] ، فنفى أن يكون لله شريك في هذه العبادات، فيجب أن تكون الصلاة، والنسك، والذبح، والحياة، والممات كلها لله لا شريك له في ذلك، قال سبحانه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وفي حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض).

شرح التوبة

الشرك في التوبة هو: أن يتوب العبد لغير الله فيما هو من خصائص الله وفيما لا يقدر عليه غير الله تعالى، وفي العبادات التي تخص الله عز وجل.

فإذا تاب لغير الله، وطلب التوبة والمغفرة من غير الله فقد وقع في الشرك، قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135].

وثبت في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: (أن أسيراً أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب لمحمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله) ، قال الله تعالى: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:56] ، فالله أهل المغفرة وأهل التقوى، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135].

فمن تاب لمخلوق وطلب منه أن يغفر ذنبه، وأن يمحو سيئته؛ لأنه ترك شيئاً من أنواع العبادة فقد وقع في الشرك، وهذا يقع عند الصوفية، فالمريد يتوب عند الشيخ، فيتوب عليه ويغفر ذنبه، وهذا شرك؛ لأن التوبة عبادة كما أن الصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والتوبة عبادة لا تكون إلا لله، وكذلك النصراني يتوب عند القسيس، فيغفر ذنوبه كلها، فهو قد فعل الجرائم كلها ثم يتوب منها.

وبعض الشيعة يتوب عند الرئيس من الشيعة، ويعطيه صك المغفرة، وفيه فتوى بأنه مغفور له، وأنه يدخل الجنة، فهذا شرك بالله تعالى، كتوبته من الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، أو ترك الصلاة، أو غير ذلك من العبادات، والمسلم يتوب إلى الله لتقصيره في الواجبات، أو اجتراحه لبعض المحرمات، فيتوب إلى الله، فلا أحدَ يُتابُ إليه في فعل شيء من المحرمات أو ترك شيء من الواجبات، فالتوبة من خصائص الله، وهي عبادة لا تكون إلا لله، فليس بعد التوبة النصوح إلا تكفير السيئات ورفع الدرجات، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8]، وقال الله سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

فلا يتاب إلا إلى الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يغفر الذنوب، فإذا قصرت في واجب فإنك تتوب إلى الله، وإذا فعلت محرماً تتوب إلى الله، وتندم على ما مضى، وحقيقة التوبة الندم على ما مضى، والإقلاع عن المعصية، والعزم على ألا تعود إلى المعصية مرة أخرى.

وإذا كانت المعصية بينك وبين الناس فإنك ترد المظلمة إلى أهلها، فإن كانت مالاً ترده لأهله، أو كانت تتعلق بالبدن تسلم نفسك حتى يقتص منك، أو تُسامَح فيه، وإن كانت في عرض فإنك تتحلل منهم.

فإذا كانت التوبة في حق المخلوق فلا بأس، أن تطلب منه أن يسامحك، فتقول: يا فلان! سامحني، فأنا تبت من تقصيري في حقك. فلو قصرت في حق والدك، أو حق صديقك فلا بأس بأن تتوب إليه فيما هو من حقه، وفيما هو من خصائصه.

وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: (أنها وضعت نمرقة فيها صور فتغير النبي صلى الله عليه وسلم وهتكها، قالت عائشة : ماذا أذنبت يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم) فهي تتوب إلى الله فيما هو من خصائص الله، وتتوب إلى الرسول فيما هو من حقه، أي: إن كنت قصرت في حقك فأنا أتوب إليك يا رسول الله مما وقعت فيه من التقصير في حقك، وأتوب إلى الله من المعصية إن كنت فعلت المعصية.

وأما التوبة في العبادات والواجبات وترك المحرمات فإنها تكون إلى الله، قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، وقال سبحانه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:56].

وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على محمد وآله.

الشرك في التوبة هو: أن يتوب العبد لغير الله فيما هو من خصائص الله وفيما لا يقدر عليه غير الله تعالى، وفي العبادات التي تخص الله عز وجل.

فإذا تاب لغير الله، وطلب التوبة والمغفرة من غير الله فقد وقع في الشرك، قال الله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135].

وثبت في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: (أن أسيراً أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب لمحمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله) ، قال الله تعالى: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ[المدثر:56] ، فالله أهل المغفرة وأهل التقوى، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ[آل عمران:135].

فمن تاب لمخلوق وطلب منه أن يغفر ذنبه، وأن يمحو سيئته؛ لأنه ترك شيئاً من أنواع العبادة فقد وقع في الشرك، وهذا يقع عند الصوفية، فالمريد يتوب عند الشيخ، فيتوب عليه ويغفر ذنبه، وهذا شرك؛ لأن التوبة عبادة كما أن الصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والتوبة عبادة لا تكون إلا لله، وكذلك النصراني يتوب عند القسيس، فيغفر ذنوبه كلها، فهو قد فعل الجرائم كلها ثم يتوب منها.

وبعض الشيعة يتوب عند الرئيس من الشيعة، ويعطيه صك المغفرة، وفيه فتوى بأنه مغفور له، وأنه يدخل الجنة، فهذا شرك بالله تعالى، كتوبته من الزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، أو ترك الصلاة، أو غير ذلك من العبادات، والمسلم يتوب إلى الله لتقصيره في الواجبات، أو اجتراحه لبعض المحرمات، فيتوب إلى الله، فلا أحدَ يُتابُ إليه في فعل شيء من المحرمات أو ترك شيء من الواجبات، فالتوبة من خصائص الله، وهي عبادة لا تكون إلا لله، فليس بعد التوبة النصوح إلا تكفير السيئات ورفع الدرجات، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ[التحريم:8]، وقال الله سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31].

فلا يتاب إلا إلى الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يغفر الذنوب، فإذا قصرت في واجب فإنك تتوب إلى الله، وإذا فعلت محرماً تتوب إلى الله، وتندم على ما مضى، وحقيقة التوبة الندم على ما مضى، والإقلاع عن المعصية، والعزم على ألا تعود إلى المعصية مرة أخرى.

وإذا كانت المعصية بينك وبين الناس فإنك

فإنه لا يزال الحديث موصولاً بالكلام على توحيد الألوهية -وهو العبادة- وما ينافيه من الشرك، وقد سبق أن استعرضنا بعض أمثلة الشرك في العبادة، وهي: شرك المحبة، وشرك الخوف، وشرك الرجاء.

ومن الأمثلة كذلك: الشرك في الدعاء، وهو: أن يدعو الإنسان غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يدعو ميتاً أو غائباً أو حياً حاضراً أو جنياً أو شجرة أو قبراً أو ولياً أو ملكاً، أو غيرهم ممن هو عاجز لا يقدر، فيكون قد أشرك بالله عز وجل شركاً أكبر يخرجه من ملة الإسلام.

وسواء أكان هذا الدعاء طلباً للشفاعة أم لغيرها، كأن يسأل إنسان المدد، أو قضاء الحاجات، أو تفريج الكربات، أو إغاثة اللهفات، قال الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، يخبر الله تعالى عن المشركين أنهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله، وأخلصوا له العبادة، وأخلصوا له الدعاء، فإذا نجاهم إلى البر أشركوا بالله عز وجل، ودعوا غيره، وقال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال سبحانه: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ [الشعراء:213]، وقال سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] ، يعني: المشركين.

فقد حكم الله تعالى على من دعا غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه بالشرك قال:فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14] فسماه الله شركاً، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

وقد حكم الله سبحانه وتعالى على من دعا غيره بالكفر، فقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ [الزمر:3] يعني: قائلين: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]، فحكم عليهم بالكذب، وكفرهم بهذا العمل في قولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

وبين الله سبحانه وتعالى أن غيره من المدعوين لا يملكون للداعي شيئاً، ولا يستطيعون إجابة دعائه، قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13]، والقطمير هو: اللفافة الرقيقة البيضاء على نواة التمرة، وقال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [فاطر:14]، أي: لا يسمع؛ لأنه غائب، أو ميت قد بليت عظامه وصارت تراباً. وَلَوْ سَمِعُوا [فاطر:14] على الفرض والتقدير مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14].

وهذا النوع من الشرك في الدعاء انتشر ووقع فيه كثير من المشركين قديماً وحديثاً، فأنت تجد في بعض القبور من يسميه بعضهم بالولي، فتسمع ارتفاع الأصوات بالضجيج والدعاء: يا فلان، يا فلان، يا عبد القادر الجيلاني! أغثني، مدد مدد! يا دسوقي! مدد مدد! يا سيدي البدوي أغثني المدد المدد! يا حسين ! يا نفيسة ! يا ابن علوان !

وهكذا تسمع في كثير من الأماكن والبلدان في غير هذه البلاد قبوراً تدعى من دون الله.

وبعض الحجاج حينما يأتون للحج، ومن ثم زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام تجدهم يقعون في الشرك، فيقول أحدهم: يا سيدي يا رسول الله أغثني! يا سيدي يا رسول الله! فرج كربتي! يا سيدي يا رسول الله! جئتك من بلاد بعيدة، لا تخيب رجائي! أنا في حسبك! أنا في جوارك! وبعضهم يقول: اغفر ذنبي! أدخلني الجنة! نجني من النار! وهذا شرك أكبر، وهو شرك أهل الجاهلية.

والشرك الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، وقتال فاعله وتكفيره واستحلال دمه وماله هو شرك الدعاء الذي انتشر وعم وطم في كثير من البلدان، وفي كثير من الأقطار في الأزمنة القديمة، وفي العصور الحاضرة، فمن فعل ذلك فإنه يكون مشركاً وثنياً، إلا من تاب، ومن تاب تاب الله عليه، فمن دعا غير الله فقد أشرك، والمراد بالدعاء: الذي يكون فيما وراء الأسباب، أما إذا دعا حياً حاضراً قادراً معه أسباب ظاهرة فلا يكون دعاؤه شركاً، كأن يدعو شخصاً يطلب منه حاجة دنيوية فيقول: يا فلان! أعني على إصلاح بيتي، أعني على إصلاح سيارتي، يا فلان! ساعدني على إصلاح مزرعتي، أقرضني مالاً، أو كان غريقاً يطلب إنقاذه من غرقه، فهذا لا بأس به، وهذا بخلاف الميت، فإنه لا يستطيع؛ لأنه ليس معه أسباب ظاهرة، وكذلك الغائب، والحي الحاضر الذي لا يقدر.