دروس في العقيدة [17]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد ذكرنا أن المعاصي والبدع تنقص كمال التوحيد وتضعف الإيمان، وذكرنا أن المعاصي الصغائر تكفَّر بأداء الفرائض واجتناب الكبائر، وأما الكبائر التي تُوعِّد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، أو كان فيها حد في الدنيا، أو نفي عن صاحبها الإيمان؛ فإنه لا بد لها من توبة، فإن مات صاحبها عليها فهو تحت مشيئة الله.

وتنقسم البدع إلى قسمين:

القسم الأول: بدع توصل صاحبها إلى الكفر، وهذه حكمها حكم الكفر، وقد سبق الكلام على الكفر وأنواعه.

القسم الثاني: بدع لا توصل إلى الكفر، وهذه كالكبائر بل هي أشد من الكبائر، وأحب إلى الشيطان من المعاصي والكبائر، لأن صاحب الكبيرة معترف بالخطأ، فحري به أن يوفق للتوبة، بخلاف صاحب البدعة فإنه غير معترف بالخطأ، ولذلك فإن صاحب البدعة لا يتوب في الغالب إلا من وفقه الله، والبدع كثيرة، وهي موجودة في الأذكار، وفي الصلوات، وفي الصيام، وفي الحج، لكن أشد البدع وأعظمها البدع التي ابتدعت في أسماء الله تعالى وصفاته، والبدع التي ابتدعت في كلام الرب سبحانه وتعالى، وفي علوه، وقد ذكرنا أشهر البدع التي قيلت في كلام الرب سبحانه وتعالى، وذكرنا أنها سبعة أقوال كلها مبتدعة، وأن بعضها يوصل إلى الكفر -والعياذ بالله- وبعضها دون ذلك.

إن أعظم بدعة قيلت في كلام الله هي بدعة الاتحادية الذين يقولون: كل كلام يسمع في الوجود هو كلام الله، سواء أكان حقاً أم باطلاً، شعراً أم نثراً، ولهذا يقول ابن عربي :

وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

فقوله: (وكل كلام في الوجود كلامه). يعني: كلام الرب، وهذا مبني على مذهبهم في القول بوحدة الوجود، نسأل الله السلامة والعافية.

والبدعة الثانية: البدعة التي قالها الفلاسفة المتأخرون كـابن سينا والفارابي تبعاً لمعلمهم الأول أرسطو ، وتبعهم على ذلك بعض من المتصوفة، وهي أن الكلام معنىً يفيض من العقل الفعّال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتحقيقات بحسب ما يفيض إليها، وهذا مبني على مذهبهم في القول بقدم العالم، وهذا قول كفري أيضاً.

البدعة الثالثة: بدعة السالمية أتباع هشام بن سالم الجواليقي ، وهي أن الكلام -وإن كان ألفاظاً ومعاني وحروفاً وأصواتاً- لا يتعلق بقدرة الرب ومشيئته، وهذه بدعة، وقول خطأ، فالرب لم يزل ولا يزال يتكلم، وسبق الكلام على شبهتهم، وأنهم بنو مذهبهم على القول بأن الكلام لا بد من أن يقوم بالمتكلم.

البدعة الرابعة: بدعة الكرَّامية، فهم يقولون: إن الكلام حادث في ذات الرب، كائن بعد أن لم يكن، وهذا كلام باطل، ويقولون أيضاً: إنه ألفاظ ومعان وحروف وأصوات تتعلق بقدرة الرب ومشيئته، وهذا كلام حق، ولكن قالوا: إنه كلام حادث في ذاته، فهو حادث النوع كائن بعد أن لم يكن، وقالوا: إن الرب لم يكن متكلماً، بل كان الكلام يمتنع عليه، ثم انقلب فجأة فصار الكلام ممكناً له، فنعوذ بالله.

وشبهتهم في هذا أنهم يقولون: لو قلنا: إن الرب يتكلم لكان يخلق بالكلام، فتتسلسل الموجودات والحوادث، وإذا تسلسلت الموجودات والحوادث في الماضي انسد علينا طريق الفهم الصحيح، فلا نستطيع أن نثبت وجود الله، وهذا باطل لأمور.

أولاً: أن الله سبحانه هو الأول فليس قبله شيء.

ثانياً: أن كل فرد من أفراد هذه الموجودات والمخلوقات مسبوق بالعدم، وهو كائن بعد أن لم يكن.

ثالثاً: أن هذا فيه تنقص لله تعالى، ووصف له بالعجز عن الكلام، ومعلوم أن الكلام صفة كمال فكيف يخلو الله عنها في وقت من الأوقات؟! والرب هو الخلاق، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر:86]، وقال: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، فالقول بأن هناك فترة لا يتكلم فيها الرب ولا يخلق ولا يفعل فيه تنقص للرب سبحانه، وهو قول مبتدع ليس عليه دليل، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل الكلام والبدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، فقالوا: إن هناك فترة لم يتكلم فيها الرب، ولم يخلق ولم يفعل، فلا تتسلسل الحوادث في الماضي، ولكنها تتسلسل في المستقبل.

وللناس في سلسل الحوادث أقوال:

القول الأول -وهو القول الحق- قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الحوادث متسلسلة في الماضي والمستقبل، فالرب لم يزل فعالاً لما يريد، ولا يزال يفعل ما يريد في المستقبل، فلا يزال يحدث لأهل الجنة نعيماً بعد نعيم إلى ما لا نهاية، ويحدث لأهل النار عذاباً بعد عذاب إلى ما لا نهاية، وكذلك في الماضي لم يزل الرب يخلق ويفعل، فأهل السنة والجماعة يقولون بتسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل.

القول الثاني: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي لكنها متسلسلة في المستقبل، وهذا قول كثير من أهل الكلام وأهل البدع.

القول الثالث: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي ولا في المستقبل، وهذا أفسد الأقوال، وهو قول الجهم بن صفوان ، فيقول: إن الحوادث لا تتسلسل في الماضي ولا في المستقبل؛ لأن الجنة والنار تفنيان يوم القيامة، فينتهي الخلق، وهذا من أفسد الأقوال.

وقد أنكر أهل السنة على الجهم هذا القول وبدعوه وضللوه من أجله.

وأما القول بأن الحوادث متسلسلة في الماضي دون المستقبل فهذه صورة عقلية لم يقل بها أحد.

فتكون الصور العقلية في التسلسل أربع: ثلاث صور قيل بها، وصورة لم يقل بها أحد، وهذه الصور هي:

الأولى: أن الحوادث متسلسلة في الماضي والمستقبل، وهذا قول أهل السنة.

الثانية: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي ولا في المستقبل، وهذا قول الجهمية.

الثالثة: أن الحوادث متسلسلة في المستقبل دون الماضي، وهذا قول أهل الكلام.

الرابعة: أن الحوادث متسلسلة في الماضي لا في المستقبل، وهذه لم يقل بها أحد.

فإن قيل: هل يتصور العقل أكثر من هذه الصور الأربع؟

فالجواب: أنه لا يتصور أكثر من ذلك.

والمقصود أن الكرامية يقولون: إن الرب معطل عن الكلام والفعل فترة، وهذا قول باطل؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على هذه الفترة، ولأن هذا تنقص للرب، فالرب خلاق وفعال، ولا يصح أن يكون في وقت من الأوقات معطلاً، عن ذلك.

وأما قولهم: إن هذا يسد علينا طريق إثبات الخالق، فهو باطل؛ لأن الله هو الأول فليس قبله شيء، وهذه المخلوقات كلها حادثة وكائنة بعد أن لم تكن، فكل فرد من أفرادها كائن بعد أن لم يكن.

البدعة الخامسة: بدعة الكلابية، وهي القول بأن الكلام معنى قائم بنفس الرب لا يتعلق بقدرته ومشيئته، وأن الحروف والأصوات حكاية له دالة عليه.

والبدعة السادسة: بدعة الأشاعرة، وهي القول بأن الكلام معنىً واحد لا يتجزأ ولا يتعدد.

أما الكلابية فيقولون: الكلام أربعة أنواع في نفسه: أمر ونهي وخبر واستفهام.

البدعة السابعة: بدعة الجهمية والمعتزلة، وهي القول بأن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات متعلقة بقدرته ومشيئته، إلا أنه مخلوق خارج عنه.

القول الثامن -وهو القول الحق- قول أهل السنة والجماعة الذين تلقوا مقالتهم عن الرسل، وهو أن الكلام صفة ذاتية وفعلية، أي أن الكلام من صفات الرب الذاتية لاتصافه بها أزلاً وأبداً، ومن صفاته الفعلية لكونه واقعاً بقدرته ومشيئته، فهو قديم النوع حادث الآحاد، وكلام الرب صفة من صفاته، فالرب ليس حالاً في خلقه تعالى الله عن ذلك، بل هو مباين لخلقه بذاته وصفاته، فكلامه يتعلق بقدرته ومشيئته، وهو قديم النوع حادث الآحاد، والقرآن كلام الله حروفه ومعانيه، فليس كلام الله الحروف فقط دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.

فهذه هي الأقوال المشهورة في كلام الرب تعالى، وهناك أقوال أخرى غيرها.

أصل الخلاف في صفة كلام الله تعالى

إذا نظرت إلى هذه الأقوال وجدتها تدور على أصلين لا تخرج عنهما، الأصل الأول: هل كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، أم أنه بغير مشيئته وقدرته؟

الأصل الثاني: هل كلام الرب قائم بذاته وهو متصف به، أم أنه خارج عن ذاته ومنفصل عنه؟

فأما الأصل الأول -وهو: هل كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته أم بغير مشيئته وقدرته- فقد قال فيه بعضهم: إن كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهم أربع طوائف:

فقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وإنما هو معانٍ تفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتفسيرات بحسب ما قبلت منه، وهذا قول الفلاسفة.

وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات قديمة في الأزل لم تزل ولا تزال، وهذا قول السالمية.

وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو معنىً قائم بالنفس جامع لأربعة معانٍ هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهذا قول الكلابية.

وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو معنىً واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، والحروف والأصوات عبارة دالة عليه، وهذا قول الأشاعرة.

وقال بعضهم: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهم أربع طوائف:

فطائفة قالت: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم حقه وباطله، وصدقه وكذبه، وهم الاتحادية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، لكنه خلق الحروف والأصوات خارجة عن ذاته فصار بها متكلماً، وهم الجهمية والمعتزلة.

وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات إلا أنه حادث في ذاته كائن بعد أن لم يكن، وهم الكرامية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو قديم النوع حادث الآحاد، فهو يتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهم أهل السنة والجماعة.

فصارت هذه الأقوال كلها داخلة في الأصل وهو: هل يتكلم الله بمشيئته وقدرته أم لا؟

وأما الأصل الثاني وهو: هل كلام الرب قائم بذاته متصف به، أم هو خارج عن ذاته ومنفصل عنه؟

فالجواب فيه: أن الناس اختلفوا في هذا الأصل، فقال بعضهم: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهم ثلاث طوائف:

فطائفة قالت: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهو معنى يفيض منه على نفس فاضلة شريفة تتكلم به، وهم الفلاسفة.

وقالت طائفة: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم، حقه وباطله صدقه وكذبه، وهم الاتحادية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، ولكنه خلق هذه الحروف والأصوات خارجة عن ذاته فصار بها متكلماً، وهم الجهمية والمعتزلة.

وقال بعضهم: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهم خمس طوائف:

فقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات قديمة في الأزل لم تزل ولا تزال، وهم السالمية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو معنى جامع لأربعة معان في نفسه هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهم الكلابية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، وهم الأشعرية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، إلا أنه حادث في ذاته كائن بعد أن لم يكن، وهم الكرامية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو قديم النوع حادث الآحاد، وهم أهل السنة والجماعة.

فصارت هذه الأقوال كلها ترجع إلى هذين الأصلين.

ذكر ما قيل في الصوت

الذين أثبتوا الصوت في كلام الله خمس طوائف:

فقالت طائفة: إن كلام الرب بصوت لم يزل ولا يزال، وهم السالمية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم، وهم الاتحادية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت، وهو مخلوق خارج ذاته، وهم الجهمية والمعتزلة.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت حادث في ذاته، وهم الكرامية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت قديم النوع حادث الآحاد، وهم أهل السنة والجماعة.

فالذين أثبتوا الصوت لكلام الله هم السالمية والجهمية والمعتزلة والكرامية والاتحادية وأهل السنة.

والذين لم يثبتوا الصوت لكلام الله ثلاث طوائف:

فقالت طائفة: لا يتكلم بصوت، بل هو معنى يفيض على النفس الشريفة التي تتكلم به، وهم الفلاسفة.

وقالت طائفة: لا يتكلم بصوت، بل هو معنى جامع لأربعة معان في نفسه: وهي الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهم الكلابية.

وقالت طائفة: لا يتكلم بصوت, بل هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، وهم الأشاعرة.

والصواب الذي تدل عليه النصوص أن كلام الرب بحرف وصوت قائم بذاته.

فإن قيل: هل الصوت المسموع من كلام الله مخلوق أم غير مخلوق؟ قلنا: فيه تفصيل: فإن أريد به المسموع عن الله فهو كلامه غير مخلوق، وإن أريد به المسموع عن المبلِّغ ففيه تفصيل: فإن أريد به الصوت الذي روي به كلام الله فهو مخلوق، وإن أريد به الكلام المؤدى بالصوت فهو كلام الله.

ذكر ما قيل في اللفظ والمعنى في كلام الله تعالى

هل يسمى الكلام حقيقة في اللفظ أو حقيقة في المعنى؟

اختلف الناس في ذلك على أقوال، فقيل: إن الكلام حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وهذا قول الأشاعرة.

وقيل: إن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى، وهذا قول المعتزلة.

وقيل: إن الكلام حقيقة في كل من اللفظ والمعنى، فإطلاقه على المعنى وحده يعد حقيقة، وإطلاقه على اللفظ وحده يعد كذلك حقيقة، وهذا قول أبي المعالي الجويني .

وقيل: إن الكلام حقيقة في اللفظ والمعنى على سبيل الجمع، فإطلاقه على أحدهما إطلاق على جزء المسمى، وإطلاقه عليهما جميعاً بدلالته على اللفظ والمعنى بالمطابقة، ودلالته على اللفظ وحده أو على المعنى وحده بالتضمن، وهذا هو الذي عليه أكثر العقلاء، فكما أن مسمى الإنسان هو اسم لروحه وجسده جميعاً، فكذلك مسمى الكلام هو اسم للفظ والمعنى جميعاً.

ولا يخفى على مسلم أن قول الاتحادية قول باطل كفري لا إشكال فيه، وكذلك قول الفلاسفة قول باطل كفري، وكذلك قول السالمية قول باطل أيضاً لا يخفى على أحد، وكذلك قول الكرامية والكلابية، وبعضهم يرى أنه لا فرق بين مذهب الكلابية والأشاعرة.

فقال بعض الكلابية: لا فرق بين المذهبين؛ لأن كلاً من المذهبين قد اتفقا على أن كلام الرب معنى قائم بذاته، وأن الحروف والأصوات ليست من كلام الله، أما القول بأن الحروف والأصوات حكاية أو عبارة فهذا لا يتعلق به غرض علمي، ولهذا يرى بعضهم أن المذهب واحد.

بيان المنتشر اليوم من العقائد في صفة الكلام

الأقوال المنتشرة الآن والسائدة في الكتب والمؤلفات هي أقوال هذه الطوائف الثلاث:

قول الأشاعرة وقول المعتزلة الذي هو قول الجهمية فتحول إليهم، وقول أهل السنة والجماعة، فهذه هي الأقوال الثلاثة المنتشرة، وأما الأقوال الأخرى فبطلانها وفسادها واضح، وقول الأشاعرة منتشر الآن في الكتب والمؤلفات، ففي كتب التفسير كتاب: (مفاتيح الغيب) للرازي ، فقد نشر هذا المذهب ودعا إليه، وقول المعتزلة موجود في الكتب والمؤلفات، ففي كتب التفسير كتاب: (الكشاف) للزمخشري ، فقد نشر مذهب الاعتزال في تفسيره.

أما قول أهل السنة والجماعة فهو القول الحق.

إذاً: فلا بد للمسلم ولطالب العلم على وجه الخصوص من أن يعرف حقيقة هذه المذاهب الثلاثة، وأن يعرف القول الحق الذي تقتضيه النصوص الشرعية. وتشهد له العقول والفطر، وهو قول أهل السنة والجماعة.

ولا بد من أن يعرف شبه المعتزلة، وشبه الأشاعرة؛ لأن لهم شبهاً يلبسون بها على الناس، والأشاعرة قد يسمون أنفسهم بأهل السنة، والمعتزلة أيضاً يرون أنهم على الحق.

ونريد أولاً أن نقرر حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة الذين تلقوا هذا الباب عن الرسل، فحقيقة مذهب أهل السنة والجماعة أن كلام الله محفوظ في الصدور ومقروء بالألسن ومكتوب في المصاحف، وهو حقيقة في هذه المواضع كلها، فإذا قيل: في المصحف كلام الله فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل: في المصحف مداد كتب به فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قولك: في المصحف السماوات والأرض وموسى وعيسى، وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قولك: فيه كلام الله، ومن لم يتنبه لهذه الفروق ضل ولم يهتد للصواب.

وكذلك لا بد من التنبه للفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ وبين المقروء الذي هو كلام الباري سبحانه وتعالى، فمن لم يتنبه ضل ولم يهتد للصواب.

إذا نظرت إلى هذه الأقوال وجدتها تدور على أصلين لا تخرج عنهما، الأصل الأول: هل كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، أم أنه بغير مشيئته وقدرته؟

الأصل الثاني: هل كلام الرب قائم بذاته وهو متصف به، أم أنه خارج عن ذاته ومنفصل عنه؟

فأما الأصل الأول -وهو: هل كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته أم بغير مشيئته وقدرته- فقد قال فيه بعضهم: إن كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهم أربع طوائف:

فقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وإنما هو معانٍ تفيض من العقل الفعال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتفسيرات بحسب ما قبلت منه، وهذا قول الفلاسفة.

وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات قديمة في الأزل لم تزل ولا تزال، وهذا قول السالمية.

وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو معنىً قائم بالنفس جامع لأربعة معانٍ هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهذا قول الكلابية.

وقالت طائفة: كلام الرب واقع بغير مشيئته وقدرته، وهو معنىً واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، والحروف والأصوات عبارة دالة عليه، وهذا قول الأشاعرة.

وقال بعضهم: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهم أربع طوائف:

فطائفة قالت: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم حقه وباطله، وصدقه وكذبه، وهم الاتحادية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، لكنه خلق الحروف والأصوات خارجة عن ذاته فصار بها متكلماً، وهم الجهمية والمعتزلة.

وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات إلا أنه حادث في ذاته كائن بعد أن لم يكن، وهم الكرامية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب واقع بمشيئته وقدرته، وهو قديم النوع حادث الآحاد، فهو يتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهم أهل السنة والجماعة.

فصارت هذه الأقوال كلها داخلة في الأصل وهو: هل يتكلم الله بمشيئته وقدرته أم لا؟

وأما الأصل الثاني وهو: هل كلام الرب قائم بذاته متصف به، أم هو خارج عن ذاته ومنفصل عنه؟

فالجواب فيه: أن الناس اختلفوا في هذا الأصل، فقال بعضهم: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهم ثلاث طوائف:

فطائفة قالت: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهو معنى يفيض منه على نفس فاضلة شريفة تتكلم به، وهم الفلاسفة.

وقالت طائفة: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم، حقه وباطله صدقه وكذبه، وهم الاتحادية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب خارج عن ذاته ومنفصل عنه، ولكنه خلق هذه الحروف والأصوات خارجة عن ذاته فصار بها متكلماً، وهم الجهمية والمعتزلة.

وقال بعضهم: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهم خمس طوائف:

فقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات قديمة في الأزل لم تزل ولا تزال، وهم السالمية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو معنى جامع لأربعة معان في نفسه هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهم الكلابية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، وهم الأشعرية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، إلا أنه حادث في ذاته كائن بعد أن لم يكن، وهم الكرامية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب قائم بذاته ومتصف به، وهو قديم النوع حادث الآحاد، وهم أهل السنة والجماعة.

فصارت هذه الأقوال كلها ترجع إلى هذين الأصلين.

الذين أثبتوا الصوت في كلام الله خمس طوائف:

فقالت طائفة: إن كلام الرب بصوت لم يزل ولا يزال، وهم السالمية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت، وهو الذي يتكلم به الناس كلهم، وهم الاتحادية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت، وهو مخلوق خارج ذاته، وهم الجهمية والمعتزلة.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت حادث في ذاته، وهم الكرامية.

وقالت طائفة: إن كلام الرب بحرف وصوت قديم النوع حادث الآحاد، وهم أهل السنة والجماعة.

فالذين أثبتوا الصوت لكلام الله هم السالمية والجهمية والمعتزلة والكرامية والاتحادية وأهل السنة.

والذين لم يثبتوا الصوت لكلام الله ثلاث طوائف:

فقالت طائفة: لا يتكلم بصوت، بل هو معنى يفيض على النفس الشريفة التي تتكلم به، وهم الفلاسفة.

وقالت طائفة: لا يتكلم بصوت، بل هو معنى جامع لأربعة معان في نفسه: وهي الأمر والنهي والخبر والاستفهام، وهم الكلابية.

وقالت طائفة: لا يتكلم بصوت, بل هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا يتكثر، وهم الأشاعرة.

والصواب الذي تدل عليه النصوص أن كلام الرب بحرف وصوت قائم بذاته.

فإن قيل: هل الصوت المسموع من كلام الله مخلوق أم غير مخلوق؟ قلنا: فيه تفصيل: فإن أريد به المسموع عن الله فهو كلامه غير مخلوق، وإن أريد به المسموع عن المبلِّغ ففيه تفصيل: فإن أريد به الصوت الذي روي به كلام الله فهو مخلوق، وإن أريد به الكلام المؤدى بالصوت فهو كلام الله.

هل يسمى الكلام حقيقة في اللفظ أو حقيقة في المعنى؟

اختلف الناس في ذلك على أقوال، فقيل: إن الكلام حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وهذا قول الأشاعرة.

وقيل: إن الكلام حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى، وهذا قول المعتزلة.

وقيل: إن الكلام حقيقة في كل من اللفظ والمعنى، فإطلاقه على المعنى وحده يعد حقيقة، وإطلاقه على اللفظ وحده يعد كذلك حقيقة، وهذا قول أبي المعالي الجويني .

وقيل: إن الكلام حقيقة في اللفظ والمعنى على سبيل الجمع، فإطلاقه على أحدهما إطلاق على جزء المسمى، وإطلاقه عليهما جميعاً بدلالته على اللفظ والمعنى بالمطابقة، ودلالته على اللفظ وحده أو على المعنى وحده بالتضمن، وهذا هو الذي عليه أكثر العقلاء، فكما أن مسمى الإنسان هو اسم لروحه وجسده جميعاً، فكذلك مسمى الكلام هو اسم للفظ والمعنى جميعاً.

ولا يخفى على مسلم أن قول الاتحادية قول باطل كفري لا إشكال فيه، وكذلك قول الفلاسفة قول باطل كفري، وكذلك قول السالمية قول باطل أيضاً لا يخفى على أحد، وكذلك قول الكرامية والكلابية، وبعضهم يرى أنه لا فرق بين مذهب الكلابية والأشاعرة.

فقال بعض الكلابية: لا فرق بين المذهبين؛ لأن كلاً من المذهبين قد اتفقا على أن كلام الرب معنى قائم بذاته، وأن الحروف والأصوات ليست من كلام الله، أما القول بأن الحروف والأصوات حكاية أو عبارة فهذا لا يتعلق به غرض علمي، ولهذا يرى بعضهم أن المذهب واحد.

الأقوال المنتشرة الآن والسائدة في الكتب والمؤلفات هي أقوال هذه الطوائف الثلاث:

قول الأشاعرة وقول المعتزلة الذي هو قول الجهمية فتحول إليهم، وقول أهل السنة والجماعة، فهذه هي الأقوال الثلاثة المنتشرة، وأما الأقوال الأخرى فبطلانها وفسادها واضح، وقول الأشاعرة منتشر الآن في الكتب والمؤلفات، ففي كتب التفسير كتاب: (مفاتيح الغيب) للرازي ، فقد نشر هذا المذهب ودعا إليه، وقول المعتزلة موجود في الكتب والمؤلفات، ففي كتب التفسير كتاب: (الكشاف) للزمخشري ، فقد نشر مذهب الاعتزال في تفسيره.

أما قول أهل السنة والجماعة فهو القول الحق.

إذاً: فلا بد للمسلم ولطالب العلم على وجه الخصوص من أن يعرف حقيقة هذه المذاهب الثلاثة، وأن يعرف القول الحق الذي تقتضيه النصوص الشرعية. وتشهد له العقول والفطر، وهو قول أهل السنة والجماعة.

ولا بد من أن يعرف شبه المعتزلة، وشبه الأشاعرة؛ لأن لهم شبهاً يلبسون بها على الناس، والأشاعرة قد يسمون أنفسهم بأهل السنة، والمعتزلة أيضاً يرون أنهم على الحق.

ونريد أولاً أن نقرر حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة الذين تلقوا هذا الباب عن الرسل، فحقيقة مذهب أهل السنة والجماعة أن كلام الله محفوظ في الصدور ومقروء بالألسن ومكتوب في المصاحف، وهو حقيقة في هذه المواضع كلها، فإذا قيل: في المصحف كلام الله فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل: في المصحف مداد كتب به فهم منه معنى صحيحاً حقيقة، وإذا قيل المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قولك: في المصحف السماوات والأرض وموسى وعيسى، وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قولك: فيه كلام الله، ومن لم يتنبه لهذه الفروق ضل ولم يهتد للصواب.

وكذلك لا بد من التنبه للفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ وبين المقروء الذي هو كلام الباري سبحانه وتعالى، فمن لم يتنبه ضل ولم يهتد للصواب.

لقد استدل الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح) بنصوص التبليغ على خلق أفعال العباد، وأن التلاوة من أفعالهم، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وقوله: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48].

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وهذا يدل على رسوخ الإمام البخاري في العلم.

والتبليغ يتضمن أصلين ضل فيهما أهل الزيغ:

أحدهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الكلام إلا مجرد تبليغه، إذ لو كان أنشأ كلاماً لم يكن مبلغاً وإنما سيكون منشئاً مبتدئاً.

والأصل الثاني: أن التبليغ فعل المبلغ، وتبليغه هو تلاوته للصوت نفسه، وحقيقة التبليغ أن يورد إلى الموصل إليه ما حمله إياه غيره، فله مجرد إيصاله.

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح) فقال: باب قراءة الفاجر والمنافق وتلاوتهم لا تجاوز تراقيهم، فأراد من هذا أن تلاوتهم من أفعالهم وهي مضافة إليهم.

وحقيقة كلام الله الخارجية أنه: ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع وعلمه وحفظه فكلام الله له مسموع معلوم محفوظ، وإذا قرأه القارئ فكلام الله له مقروء متلو، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة، لا يصح نفيه، ولو كان مجازاً لصح نفيه، كأن يقال: ما قرأ القارئ كلام الله ولا كتب الكاتب كلام الله، وهذا قول باطل.

الحقائق لها وجود لفظي، ووجود عيني، ووجود ذهني، ووجود رسمي، فالحقائق تعلم ثم تذكر ثم ترسم، فلها أربعة أنواع من الوجودات: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في الرسم.

فالوجود في الأعيان: كالسماء تراها عيناً قائمة، فهذا وجود عين.

والوجود في الأذهان: بأن تتصورها في ذهنك.

والوجود في اللفظ: حينما تقول: السماء.

والوجود في الرسم: حينما تكتب: (السماء). فهذه أنواع الوجود الأربعة.

وقد تتداخل أحيانا هذه الأنواع من الوجود ويعسر التمييز بينها، وليس بين وجودها في الرسم ووجودها في الكلام واسطة؛ لأن مرتبة الكلام تليها مرتبة الرسم، فوجود الكلام العيني واللفظي يتساوى ويعسر التمييز بينهما، والفرق بين كون كلام الله في زبر الأولين، أو في رق منشور، أو في لوح محفوظ، أو في كتاب مكنون واضح، فإن معنى قوله سبحانه عن القرآن: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:196]، يعني: ذكره، فذكر القرآن والإخبار عنه ووصفه موجود في زبر الأولين، أي: في كتبهم؛ لأن القرآن لم ينزل على الأولين كموسى وعيسى، وإنما نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]، وقوله: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22]، وقوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، فيعني أنه مكتوب في رق منشور وفي لوح محفوظ.

فهذه الأنواع من الوجود لا بد لطالب العلم من أن يعلمها جيداً، وأن يعلم أن كلام الله موجود في المصاحف حقيقة، وهو في الصدور حقيقة، ويقرؤه القارئ حقيقة، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة والجماعة- في كتابه الذي سماه (الفقه الأكبر) وما يتعلق بأصول الدين، قال: والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق والقرآن غير مخلوق.

وما ذكر الله تعالى في القرآن عن موسى عليه الصلاة والسلام وعن فرعون وعن إبليس فذلك كلام الله أخبرنا به، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، وكلام الله ليس ككلامنا، وسمع موسى عليه الصلاة والسلام كلام الله، فلما كلمه كلمه بكلامه الذي هو من صفاته ولم يزل به قائماً، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، فهو يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو كلام عظيم.

ذكر القول والتكليم

من أدلة أهل السنة والجماعة على أن الله سبحانه وتعالى يتكلم حقيقة، وأن الكلام بحروف وأصوات وألفاظ ومعان: قوله سبحانه: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، وقوله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه رحمه الله في سننه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فنادى: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا كذلك حتى يتوارى عنهم وتبقى بركته ونوره). وهذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- له شواهد تقويه، ففيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وفيه إثبات صفة العلو؛ لأنهم يرفعون رءوسهم والله يكلمهم من فوقهم، وفيه إثبات صفة الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم، وصفة الرؤية والكلام والعلو من أعظم الصفات، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع.

وهذه من الصفات الفارقة بين أهل السنة وغيرهم، وأعظم نعيم يلقاه أهل الجنة هو رؤيتهم لربهم سبحانه وتعالى وسماعهم لكلامه.

وإنكار الكلام إنكار لأعلى نعيم يعطاه أهل الجنة الذين ما طابت لهم الجنة إلا بذلك.

وأهل البدع -والعياذ بالله- أنكروا كلام الله وعلوه وأنه يُرى في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.

الإخبار بأن الله لا يكلم أعداءه يوم القيامة

ومن الأدلة على إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى مما فيه الرد على أهل البدع: قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، ووجه الدلالة أن الله أهانهم بترك تكليمهم، وأنه لا يكلمهم كلام تكريم؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يكلمهم كلام غضب فقال: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فدل على أنه يكلم عباده المؤمنين في الرضا، ولو كان لا يكلم عباده المؤمنين لتساووا مع وأعدائه في عدم الكلام، ولم يكن في الإخبار بأنه لا يكلم أعداءه فائدة، فلما أخبر أنه لا يكلم أعداءه دل على أنه يكلم أولياءه في الرضا.

الاستعاذة بكلمات الله تعالى

ومن الأدلة على إثبات الكلام للرب سبحانه وتعالى: ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ بهذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) ولو كان كلام الله مخلوقاً لما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بالمخلوق، فدل على أن كلام الله منزل غير مخلوق، وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق، وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح) بقوله: (باب كلام الرب سبحانه وتعالى مع أهل الجنة وغيرهم)، وذكر في ذلك عدة نصوص.

ثبوت وصف الكمال في الكلام

ومن الأدلة العقلية على أن الله يتكلم: أن الوصف بالتكلم كمال وضد التكلم نقص؛ كما قال تعالى عن العجل: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف:148]، وقال سبحانه في الآية الأخرى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا يعني العجل وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89]، فدل على أن نفي رد القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم إلهية العجل، فالله تعالى بين أن هذا العجل لا يتكلم ولا يرد القول ولا يسمع ولا يملك ضراً ولا نفعاً فكيف يعبد من دون الله؟! وكيف تعبدون عجلاً لا يسمع ولا يرد القول ولا يتكلم؟! فدل على أن عدم التكلم نقص يستدل به على عدم إلهية العجل.

وبنو إسرائيل الذين عبدوا العجل -مع كفرهم- هم أعرف بالله من المعتزلة في هذه المسألة؛ لأنهم لم يردوا على موسى ويقولوا: وربك لا يتكلم أيضاً، فهذا يدل على أنهم يثبتون الكلام، أما المعتزلة فقالوا: إن الله لا يتكلم، فنعوذ بالله؛ فالذين عبدوا العجل في هذه المسألة صاروا أحسن من المعتزلة.

من أدلة أهل السنة والجماعة على أن الله سبحانه وتعالى يتكلم حقيقة، وأن الكلام بحروف وأصوات وألفاظ ومعان: قوله سبحانه: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، وقوله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه رحمه الله في سننه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فنادى: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا كذلك حتى يتوارى عنهم وتبقى بركته ونوره). وهذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- له شواهد تقويه، ففيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وفيه إثبات صفة العلو؛ لأنهم يرفعون رءوسهم والله يكلمهم من فوقهم، وفيه إثبات صفة الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم، وصفة الرؤية والكلام والعلو من أعظم الصفات، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع.

وهذه من الصفات الفارقة بين أهل السنة وغيرهم، وأعظم نعيم يلقاه أهل الجنة هو رؤيتهم لربهم سبحانه وتعالى وسماعهم لكلامه.

وإنكار الكلام إنكار لأعلى نعيم يعطاه أهل الجنة الذين ما طابت لهم الجنة إلا بذلك.

وأهل البدع -والعياذ بالله- أنكروا كلام الله وعلوه وأنه يُرى في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس في العقيدة [12] 2283 استماع
دروس في العقيدة [9] 2216 استماع
دروس في العقيدة [2] 2127 استماع
دروس في العقيدة [11] 2046 استماع
دروس في العقيدة [18] 1874 استماع
دروس في العقيدة ]16[ 1666 استماع
دروس في العقيدة [10] 1435 استماع
دروس في العقيدة [4] 1376 استماع
دروس في العقيدة [14] 1345 استماع
دروس في العقيدة [8] 1329 استماع