خطب ومحاضرات
دروس في العقيدة [11]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد سبق الكلام -فيما مضى- على الشرك بالكهانة والشرك بالتنجيم، وعرفنا أن الكهانة التي يتصل صاحبها بالشياطين يفسق صاحبها، وكذلك التنجيم، وعرفنا أن التنجيم المحرم هو علم التأثير، وأما علم التسيير فجائز عند جمهور العلماء، وهو الصواب، وهل تدخل معرفة وقت الكسوف والخسوف للشمس والقمر في المنهي عنه أم لا؟
الصواب أن كسوف الشمس والقمر يعرف بالحساب، وأن ذلك ليس من ادعاء علم الغيب، فالكسوف والخسوف كل منهما له سببان: سبب شرعي، وسبب حسي، فالسبب الشرعي هو ما جاءت به النصوص، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فاسعوا إلى الصلاة)، وفي لفظ: (يخوِّف الله بهما عباده) ، فالسبب هو تخويف الله لعباده، ولهذا جاءت الأحاديث بالأمر بالاستغفار والصدقة والعتق والتوبة.
والسبب الثاني: سبب حسي، وهو إدراك ذلك بالحساب، فإذا كان الحاسب متقناً فإنه يستطيع أن يدرك ذلك، وإذا لم يكن متقناً في الحساب فإنه يخطئ.
فالمقصود أن معرفة الكسوف والخسوف ليست من دعوى علم الغيب، فذلك يدرك بالحساب.
وقد سبق الكلام على الشرك الأكبر بأنواعه، والشرك في اللغة معناه: القسْم والنصيب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له في عبد قُوِّم عليه) ، أي: نصيباً وقسماً وجزءاً.
والمراد بالشرك الأصغر: ما ورد من الذنوب تسميته شركاً ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، أي أنه ليس شركاً في العبادة، ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، فإذا كان شركاً في العبادة فهو شرك أكبر، أما إذا كان من الذنوب التي سماها الشارع شركاً ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر -بأن لم يكن شركاً في العبادة، ولا ناقضاً من نواقض الإسلام- فإنه يكون شركاً أصغر.
والشرك الأصغر وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهو أكبر من الكبائر؛ لأن الشرك الأكبر يتعلق بالقلوب وصرفها عن الله، بخلاف الكبائر؛ فإنها طاعة للهوى والشيطان، فلذلك كان الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
شرك الألفاظ والأقوال
فمن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: الحلف بغير الله، وذلك كأن يقول: وحياتِه، فيحلف بحياته، أو وحياةِ فلان، أو أن يقول: والنبي، أو يحلف بالأمانةِ، أو بالكعبةِ، أو يقول: بأبيك، أو بشرفك، أو بلحيتك، وما أشبه ذلك، فهذا من الشرك الأصغر الذي هو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم ، فإذا حلف بغير الله فهو مشرك شركاً أصغر، وقد يكون شركاً أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به يستحق من التعظيم كما يستحق الله، أو أنه يستحق شيئاً من العبادة، فإنه يكون شركاً أكبر بهذا الاعتقاد، وإلا فالأصل أنه شرك أصغر.
ومن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: التسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة، كأن يقول: ما شاء الله وشئت، فهذا تسوية بين الخالق والمخلوق، وهو من الشرك الأصغر؛ لأن الواو تكون لمطلق الجمع وللتشريك والتسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، والتسوية بين الخالق والمخلوق شرك، فإن كان في الأصغر فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، ومن الشرك الأكبر التسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والتعظيم والخشية والإجلال والطاعة، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] ، فالتسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والعبادة شرك أكبر، والتسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة شرك أصغر، كأن يقول: ما شاء الله وشئت. فقد سوى بين الخالق والمخلوق في المشيئة.
وثبت أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده) ، فقوله: (أجعلتني لله نداً؟!) من التنديد الأصغر، فالتنديد يكون أكبر ويكون أصغر، فالأكبر يكون في العبادة، والتنديد الأصغر كالتشريك والتسوية في المشيئة.
وأما إذا أتى بكلمة (ثُمَّ) وقال: ما شاء الله ثم شئتَ؛ فهذا لا بأس به؛ لأن (ثُمَّ) تفيد العطف بتراخي ومهلة، فالمعطوف بـ(ثم) يأتي بعد المعطوف عليه بمهملة وتراخ، ولا تفيد التشريك والتسوية، فلذلك يجوز أن تقول: ما شاء الله ثم شئتَ.
وقد ثبت في الحديث عن قتيلة : (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: والكعبة، وتقولون: ما شاء الله وشئتَ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)، رواه النسائي بإسناد صحيح.
وعلى هذا فتكون الحالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يقول: ما شاء الله وشئتَ، وهذا ممنوع، وهو شرك أصغر.
الحالة الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، فهذا جائز.
الحالة الثالثة: أن يقول: ما شاء الله وحده، وهذا هو الأكمل والأفضل.
ومن الشرك الأصغر أن يقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ولولا أنت لم يكن كذا، فكل هذه الألفاظ من الشرك الأصغر؛ لما فيها من التشريك بين الخالق والمخلوق والتسوية بينهما بالعطف بالواو، وهذا ممنوع، فإذا قلتَ: هذا من الله ثم منك، فلا بأس، وكذلك: أنا بالله ثم بك؛ لأن (ثم) للعطف، والمعطوف بعدها يأتي بتراخ ومهلة، وكذلك لو قلت: لولا الله ثم أنت، فذلك لا بأس به، وأما: أنا متوكل على الله ثم عليك فلا يجوز؛ لأن التوكل في الأسباب الظاهرة من الشرك الأصغر، وكذلك الحسْب، كأن تقول: أنا في حسب الله ثم في حسبك، فالحسب والكفاية خاصان بالله تعالى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أي: كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين، وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، فالحسب والتوكل خاصان بالله تعالى.
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] قال: الأنداد هو الشرك، وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلية هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، فهذا كله به شرك.
رواه ابن أبي حاتم .
فهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تفسير للأنداد في الآية، والتنديد ينقسم إلى قسمين:
تنديد أكبر وتنديد أصغر، فهذا من التنديد الأصغر، وهو من الشرك الأصغر.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. فهل يسمع الإنسان أو يرى دبيب النملة السوداء التي تمشي على صخرة ملساء في ظلمة الليل؟!
فالشرك أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو مثل أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، فتسند هذا إلى السبب، لكن لو قلت: لولا الله ثم كلبة هذا، ولولا الله ثم البط في الدار لأتانا اللصوص، جاز.
وقد ثبت في سنن ابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها أنه قال: (رأيت -يعني: في المنام- كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت على نفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن
وجاء -أيضاً- عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان) ، فدل هذا على أنه إذا أتى بالعطف بـ(ثم) فلا بأس به.
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه كان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوَّز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، وقال: قولوا: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
فهذه النصوص كلها تدل على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، وأنه من الشرك الأصغر، ولا تجوز التسوية بين الخالق والمخلوق بالواو في المشيئة، لكن إذا كان العطف بـ(ثم) فلا بأس به.
ومن الشرك في الألفاظ والأقوال أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، أو بنوء كذا، معتقداً أن المنزِّل للمطر هو الله والنجم سبب في نزول المطر، أو أنه ليس بسبب ولكن يعتقد أن الله أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فهذا من الشرك الأصغر إن كان يعتقد أنه سبب؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، وإن كان لا يعتقد أنه سبب ولكن يقول: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم؛ فهذا أيضاً من الشرك الأصغر على الصحيح؛ لأنه نسب ما هو من فعل الله الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر -وهو النجم- لا يضر ولا ينفع، ولو كان لا يعتقد أنه سبب؛ لأنه نسب ذلك إلى النجم، ولو على سبيل المجاز، فيمنع من ذلك حماية لجناب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، ولو كان بالعبارات الموهمة التي لا يقصدها صاحبها، فيمنع، فيكون كقوله: ما شاء الله وشئت.
وإذا كان يعتقد أن النجم له تأثير في إنزال المطر فهذا شرك أكبر، وأما إذا قال: مُطرنا في نجم كذا فلا بأس بذلك، والمراد: في وقت كذا، أي: في وقت الربيع، أو في وقت الخريف، أو في وقت طلوع النجم الفلاني، وعلى هذا تكون الحالات ثلاث في هذا الأمر:-
الحالة الأولى: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، معتقداً أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر، فهذا شرك أكبر في الربوبية؛ لأنه جعل النجم مؤثراً ومدبراً، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، نعوذ بالله من ذلك.
الحالة الثانية: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا، معتقداً أن مُنزل المطر هو الله، وأن النجم سبب، أو أنه ليس بسبب ولكن الله أجرى العادة في نزول المطر عند سقوط ذلك النجم، وهذا شرك أصغر لا يجوز؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، بل ولو لم يعتقد أنه سبب؛ لأن قوله: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم، ثم قوله: مطرنا بنجم كذا موهم أنه يجعله سبباً، فيُمنع؛ سداً لذريعة الشرك، وحماية للتوحيد.
الحالة الثالثة: أن يقول: مُطرنا في نجم كذا، وهذا جائز لا بأس به.
ومن الشرك في الأقوال أيضاً: التسميع، كأن يحسن صوته بالقراءة تسميعاً للناس، فهذا من الشرك في الألفاظ وإن كان من الرياء في الأقوال، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يدعو إلى الله مراءاة للناس وتسميعاً لهم، فهذا من الرياء في الأقوال، وقد جاء في الحديث: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به) ، فلا يجوز للإنسان أن يسمع الناس، ولا أن يحسن صوته، ولا أن يأمر بالمعروف أو يدعو إلى الله تسميعاً للناس، فهذا من الشرك الأصغر.
شرك الأعمال
فالشرك في الأعمال كالرياء، والتصنع للخلق، وعدم الإخلاص لله في العبادة، فيعمل العمل لله تارة، وتارة يعمله لأجل حظ نفسه حتى يمدح ويثنى عليه، وتارة يعمله لأجل الدنيا.
وقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
وفي حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، فسئل عنه فقال: الرياء، يقوم الرجل يصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه)، رواه الإمام أحمد .
وروى الطبراني والبيهقي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء، إذا كان يوم القيامة وجازى الله الناس في أعمالهم قال للمرائين: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!) أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أبي سعيد السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء)، ففي هذا الحديث كان يخاطب الصحابة، فإذا كان يخشى الرياء على الصحابة مع علمه بفضلهم فغيرهم من باب أولى، ولهذا قال العلماء: إن الرياء يخشى على الصالحين أكثر من غيرهم، فلا يخشى على الفساق؛ لأن الغالب أن الفساق والعصاة لا يراءون، لكن الرياء إنما يقع في قلوب الصالحين، فيراءون بأعمالهم، ويحسنون أصواتهم في القراءة، أو يدعون إلى الله، أو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مراءاة للناس حتى يمدحوهم ويثنوا عليهم، فيقال: فلان مستقيم يدعو إلى الله، فهذا يقع في القلوب، فلابد من أن يجاهد الإنسان نفسه، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويطرد هذه الخواطر الرذيلة، وليعلم أن الناس لا ينفعونه ولا يضرونه.
ومن الشرك في العمل: التوكل على غير الله في الأسباب الظاهرة، وأما إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وذلك كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت؛ لحصول مطالبهم من نصر أو رزق أو شفاعة، فهذا شرك أكبر، لكن إذا توكل على غير الله في الأسباب الظاهرة -كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق، أو دفع أذى- فهذا نوع من الشرك الأصغر؛ لما فيه من ميل القلب إلى غير الله، فيجب أن تعلق القلوب بالله، ولا يجوز للإنسان أن يميل بقلبه إلى غير الله عز وجل.
والتوكل يجمع شيئين: الأول: الأخذ بالأسباب، والثاني: تفويض الأمور إلى الله، والاعتماد بالقلب على الله في حصول النتيجة، وهذه من أعمال القلوب، أعني تفويض الأمر والاعتماد على الله، وأما فعل الأسباب الحسية فمن أعمال الجوارح، ولهذا كان التوكل على غير الله داخلاً في شرك العمل؛ لأن الأسباب هنا من أعمال الجوارح، وتفويض الأمر إلى الله والاعتماد عليه في حصول النتيجة من أعمال القلوب، فإذا توكل في الأسباب الظاهرة فهو شرك أصغر؛ لما فيه من ميل القلب إلى غير الله، وأما إذا وكل شخصاً نيابة عنه فهذه وكالة جائزة، وبعض الناس حين يوكل يقول: توكلت عليك -يا فلان- في كذا، وهذا خطأ، بل عليه أن يقول: وكّلتك، ولا يقل: توكلت عليك، وإنما يقول: وكلتك هذه النيابة والوكالة، لكن ليس معنى ذلك أن يعتمد على موكله في حصول ما وكله فيه، بل عليه أن يعتمد على الله في توكيل أمره الذي يطلبه بنفسه أو يطلبه بوكيله، فالاعتماد والتوكل هو على الله، وأما الوكالة فهي من جملة الأسباب التي يفعلها الإنسان ولا يعتمد عليها، فلا يعتمد على السبب، بل يعتمد على المسبب، وهو الله الذي بيده السبب والوكالة سبحانه وتعالى، وكذلك على الوكيل أن يعتمد على الله في تيسير أمره الذي يطلبه لنفسه أو لموكله؛ لأن الوكالة سبب، ولا يجوز الاعتماد على السبب، وإنما يكون الاعتماد على الله سبحانه وتعالى الذي بيده السبب والمسبَّب.
شرك الاعتقاد
وأما إذا اعتقد أن النافع والضار هو الله، وأن هذه الحلقة أو الخيط أو التميمة سبب ووسيلة لحفظه فهذا شرك أصغر؛ لأنها لم يجعلها الله سبباً، فالسبب الشرعي هو الرقية الشرعية والتعوذات والأدعية وسؤال الله ودعاؤه بأسمائه وصفاته، وأما الخيط والحلقة والتميمة فكل هذه ليست أسباباً، فلم يجعلها الله أسباباً، بل هي محرمة.
وقد ثبت في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله بسند لا بأس به عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر -أي: من نحاس- فقال: ما هذا؟! قال: من الواهنة. قال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، والواهنة: مرض يأخذ في العضد أو في المنكب، فهذا الرجل وجد النبي صلى الله عليه وسلم في عضده حلقة من صفر -أي: من نحاس- فقال له: ما هذا؟ لماذا وضعتها؟! فقال: وضعتها لأجل الواهنة، أي: لأجل مرض الواهنة، يعني أنها وسيلة وسبب في الشفاء من هذا المرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً -أي: ضعفاً-، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) .
وقد ثبت عن حذيفة رضي الله عنه -كما رواه ابن أبي حاتم-: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى -أي: وضعه من أجل الحمى-، فقطعه حذيفة رضي الله عنه وتلا قول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، فقطعه حذيفة إنكاراً لهذا من المنكر، وفي هذا دليل على أن للإنسان أن ينكر المنكر باليد إذا كان قادراً على ذلك ولم يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المنكر الذي أنكره، فإن عجز أنكره باللسان، وإن عجز أنكره بالقلب، كما ثبت في حديث أبي سعيد الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فـحذيفة كان مستطيعاً على الإنكار باليد فأنكر وقطع الخيط، وتلا قول الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، وهذه الآية نزلت في الشرك الأكبر، وإيمانهم بالله هنا هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك هنا هو الشرك في العبادة، وقد استدل حذيفة بهذه الآية على دخول الشرك الأصغر في عموم الشرك، وفيه دليل على أن الصحابة كانوا يستدلون على الشرك الأصغر بما نزل في الشرك الأكبر؛ لدخوله في عمومه.
ومن أمثلة ذلك: تعليق الأوتار على الدواب؛ لدفع العين، فهذا لا يجوز؛ لأنه من الشرك الأصغر.
وثبت في الصحيح عن أبي البشير الأنصاري رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً: ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)، وهذا إذا وضعها من أجل العين، وأما إذا جعلها في رقبة البعير أو الدابة لأجل الزينة والجمال، أو لأجل أن يقودها بها فهذا ليس من الشرك ولا بأس به، لكن إذا وضعها من أجل اتقاء العين ودفع العين فهذا من الشرك.
ومن ذلك التمائم التي تعلق في رقبة الإنسان، وأصل التميمة خرزات يعلقونها على الأطفال لدفع العين أو اتقاء العين، وهذا الذي يعلقونه قد يكون من الخرزات، وقد يكون من الحروز أو الحجب، وقد يكون من شعر الذئب أو غيره، فالتميمة التي تعلق لأجل دفع العين هي كل شيء يعلق في رقبة طفل، أو رجل، أو امرأة لأجل دفع العين وهي من الشرك، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من تعلّق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلّق وَدَعة فلا ودع الله عليه)، وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)، فهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من علق تميمة بأن الله لا يتم له أموره، (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله عليه) أي: لا جعله في دعة وراحة وسكون، والودَع: شيء يستخرج من البحر يشبه الصدف يعلقونه اتقاء العين، وقد تكون التميمة التي تعلق حرزاً كُتب فيه آيات من القرآن، وقد تكون من غيره، فإذا كان الحجاب أو الحرز أو التميمة التي تعلق فيها آيات من القرآن، أو تعوذات شرعية وأدعية لا محظور فيها فهذه قد أجازها بعض العلماء ورخص فيها، وقالوا: إنها آيات من القرآن، أو أدعية شرعية، فهي تعوذات شرعية، ويروى هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو ظاهر ما نقل عن عائشة رضي الله عنها.
والقول الثاني: المنع من تعليق التميمة ولو كانت من القرآن، وهذا هو ما روي عن عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة، وهو مذهب الجماهير، وهو الصواب، فيمنع تعليق التميمة -وهي الحرز والحجاب- ولو كانت من القرآن أو من الأدعية الشرعية؛ لأمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن النصوص عامة ولم تخصص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) ولم يُخص من ذلك شيء، بخلاف الرقى والتعوذات الشرعية، فإنه قد جاء فيها التخصيص، حيث جاء في الحديث الآخر: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) ، وفي الحديث الآخر: (لا رقية إلا من عين أو حُمة)، فدل ذلك على أن الرقية إذا لم يكن فيها محظور من شرك، وكانت بلسان عربي، واعُتقد أن الشافي هو الله فلا بأس بها، وأما إذا كانت من الشركيات، أو كانت مجهولة فهذه ممنوعة، بخلاف التمائم، فلم يأت ما يخصصها، فدل ذلك على أن التمائم ممنوعة مطلقة، سواء أكانت من القرآن أم من غير القرآن؛ لأن النصوص عامة.
والأمر الثاني: أن إباحة وإجازة تعليق التميمة من القرآن وسيلة وذريعة إلى تعليق التميمة من غير القرآن ومن الأدعية الشرعية، فالناس لا يقفون عند حد.
والأمر الثالث: أن تعليق التميمة من القرآن أو من الأدعية النبوية وسيلة إلى امتهانها، فقد يدخل بها الحمام ومكان قضاء الحاجة، وهي آيات من القرآن، وفيها اسم الله، وفيها أدعية شرعية، فيكون ممتهناً لها بذلك، فالصواب هو المنع من تعليق التميمة مطلقاً، ويجب أن تعلق القلوب بالله عز وجل ولا تتعلق بغيره.
وقد جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن. يعني: كان أصحاب عبد الله بن مسعود يكرهون التمائم، أي: كراهة التحريم.
وجاء عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة. يعني: من وجد إنساناً قد علق تميمة في عنقه ثم قطعها كان أجره كمن أعتق رقبة، والصواب أن من قطع تميمة من إنسان أفضل ممن أعتق رقبة؛ لأن من قطع تميمة من إنسان فقد أعتقه من الشرك، وأما إذا أعتق رقبة فقد أخرجها من الرق، وإعتاق الإنسان من الشرك أفضل من إعتاقه من الرق.
وأما التِوَلة فهي شيء يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته، فهذا من الشرك الأصغر إذا اعتقد الإنسان أنه سبب، وأما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتِوَلة شرك)، فهو من الشرك الأصغر إذا كان يعتقد أنه سبب في جلب المحبة، فيحبب المرأة إلى زوجها، ويحبب الزوج إلى امرأته، فهذا من الشرك ولا يجوز استعماله، وهذا إذا اعتقد أنه وسيلة وسبب، وأما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر، فلا يجوز للإنسان أن يعلق التميمة، ولا أن يستعمل التولة، ولا أن يلبس حلقة أو خيطاً لأجل رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله، فيعتقد أنه سبب في رفع البلاء، فبعض الناس يلبس حلقة أو خيطاً ويعتقد أنها سبب في رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله، وهذا غلط، فليست الحلقة والخيط سبباً، وهذا شرك أصغر إذا اعتقد أن ذلك سبب، أما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر.
ومن الشرك في الاعتقاد: الطِّيَرة والتطير، والطيرة: اسم مصدر لـ(تطير يتطير تطيراً)، فالتطير مصدر، والطيرة اسم مصدر، مثل: تخير يتخير خيرة، والطيرة: هي التشاؤم بالمرئيات أو المسموعات، أو التشاؤم بالأشخاص أو البقاع أو الأمكنة، فكل هذا من التطير المذموم، وهو من عمل أهل الجاهلية المشركين، قال تعالى عن آل فرعون: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف:131] أي: إذا أصابتهم حسنة من خصب وسعة قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابتهم سيئة من جدب وقحط قالوا: هذا بسبب موسى ومن معه، فقد أصابنا هذا بشؤمهم، قال الله تعالى: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:131] .
وقال عن أصحاب القرية لما جاءتهم الرسل: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:18-19] أي: أمن أجل أن ذكرناكم ووعظناكم تطيرتم بنا؟! بل أنتم قوم مسرفون، فالطيرة من عمل أهل الجاهلية، ومن عمل أهل الشرك.
وفي حديث قطن بن قبيصة عن أبيه أن الرسول قال: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) ، قال عوف : والعيافة زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت قال الحسن : رنة الشيطان. إسناده جيد.
وأصل الطيرة: ما كان يستعمله العرب من التشاؤم بالسوانح والبوارح من الطيور والظباء، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنهى الشرع عنه وأبطله، وبيّن أنه لا تأثير لها في نفع أو ضر، أو خير أو شر، وإنما ذلك بيد الله.
قال المدائني : سألت رؤبة بن العجاج قلت: ما السانح -يعني: من الطير والظباء-؟ قال: ما ولاك ميامنه، قلت: فما البارح؟ قال: ما ولّاك مياسره، والذي يجيء من أمامك هو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك هو القاعد والقعيد. فقد كانت العرب تتشاءم وتتيامن بالطيور، فكانوا يزجرون الطير ويسمون ذلك العيافة، فكان الواحد منهم إذا أراد سفراً أو زواجاً أو تجارة يزجر الطير، فإذا ذهب جهة اليمين تيامن ومضى في سبيله، وإذا ذهب جهة اليسار أحجم ونزل، ومن كان لا يعرف العيافة كان يذهب إلى بعض العرب كي يعملها له، وهناك بعض القبائل التي لها اختصاص بالعيافة وزجر الطير، ومن ذلك: بنو لِهْب، ولذلك يقول الشاعر:
خبير بنو لهب فلا تك ملغياً مقالة لهبي إذا الطير مرتِ
يعني أن بني لهب عندهم خبرة في زجر الطير وفي العيافة، فلا تلغي مقالتهم إذا مرت الطير، بل اعتمدها واعمل بها، وهذا من جهلهم في الجاهلية، فأبطل الإسلام هذا ونفاه، وأمر الناس أن يعلقوا قلوبهم بالله، وعوضهم عن ذلك بالقرعة والاستخارة.
والتشاؤم عام، فقد يكون بالطيور أو بالأشخاص، فبعض الناس إذا رأى شخصاً أعمى أو أعور أو أعرج تشاءم به، فهذا من التشاؤم، وبعض الناس إذا فتح دكانه للبيع فمر به أعمى أو أعرج أو أعور، أو اشترى منه أعور أغلق الدكان ذلك اليوم تشاؤماً، وهذا من عمل أهل الجاهلية، وهو من الطيرة المحرمة، فلا يجوز أن تتشاءم بشخص ولا بطير ولا بمكان ولا بلفظ ولا ببقعة، فالتشاؤم والتطير من عمل أهل الجاهلية، وهو من الشرك الأصغر؛ لكونه من إلقاء الشيطان ووسوسته وتخويفه، ولأنه مناف للتوكل على الله عز وجل، فقد يرجع عما كان عازماً عليه من الفعل بسبب اعتقاده حصول نفع أو دفع ضر في طائر أو نحوه، أو لا يرجع عن ذلك ولكن يبقى أثر ذلك في نفسه من الهم والحزن والوساوس والضعف.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) ، والصواب في معنى: (لا عدوى) أي: على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من كون الأمراض تعدي بطبعها وبذاتها، ففيه نسبة الفعل إلى غير الله، ولكن الله جعل بمشيئته من به مرض سبباً في العدوى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يورد ممرِض على مُصحٍّ) ، وقال: (فر من المجنون فرارك من الأسد) ، وقال في الطاعون: (إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا كان بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)، فقد يجعل الله مقاربة الصحيح للمريض سبباً في انتقال العدوى، وقد لا تحصل العدوى، لكن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) أي: على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من كون المرض والعدوى تنتقل بنفسها وبذاتها من غير مشيئة الله وتقديره، فهذا باطل، وهكذا قوله: (لا طيرة) نفي للتشاؤم، وقوله: (ولا هامة) الهامة: هي طير من طيور الليل، وهي البومة، قال ابن الأعرابي : كانت إذا وقعت على بيت أحدهم قال: تنعى إلي نفسي أو أحد من أهل بيتي، يعني أنها تخبر بقرب موته، وهذا باطل، وقيل: كانوا يعتقدون أن روح الميت تكون هامة تطير.
وقوله: (ولا صفر) قيل: الصفر: حية تكون في البر، وهي أعدى من الجرب عند العرب، وعلى هذا فالنفي هنا نفي للعدوى واعتقاد العدوى، أو (لا صفر) أي: شهر صفر، فقد كانوا يتشاءمون به، ويقولون: إنه شهر مشئوم، أو أن هذا نفي للعمل الذي كان يعمله أهل الجاهلية، فقد كانوا يجعلون شهر صفر بدل محرم، ويحلون شهر الله المحرم، فإذا احتاجوا إلى القتال فيه أحلوه، ثم جعلوا صفر مكانه.
وقوله: (ولا نوء ولا غول) هذا فيه نفي اعتقاد أهل الجاهلية من أن النوء -وهو النجم- له تأثير، (ولا غول)، لأنه كانت العرب تعتقد أن الجن تتراءى للناس فتضلهم وتهلكهم، فقيل: إن الحديث نفي لها، وقيل: إن الحديث نفي لما كانوا يعتقدونه، وإلا فالغول موجودة، كما في الحديث: (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان) ، فهي لا تؤثر إلا بإذن الله.
وفي حديث أنس : (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟! قال: الكلمة الطيبة) ، فالفأل مستثنى من الطيرة، وهو الكلمة الطيبة يسمعها الإنسان فيسر بها، كأن يسمع مريض شخصاً يقول: حالت، فيتفاءل بالسلامة، أو إنسان ينشد ضالته فيسمع آخر يقول: راشد، فيتفاءل بأنه يجد ضالته، أو تاجر ذهب في تجارته فسمع قائلاً يقول: رابح، فيتفاءل بالربح، فهذا لا بأس به؛ لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها الإنسان فإنه يسر بها لما فيها من التعبير بالخير وحسن الظن بالله، بخلاف الطيرة، فإن فيها سوء ظن بالله، فافترقا، فالفأل يُباح لما فيه من التعبير بالخير، ورجاء الفائدة والعائدة من الله، ولما فيه من حسن الظن بالله، والإنسان مأمور بحسن الظن بالله على كل حال، بخلاف الطيرة، فإن فيها سوء ظن بالله فمنعت.
وقد جاء في الحديث بيان لكفارة الطيرة، فقال: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك يا رسول الله؟! قال: أن تقول: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك)، فهذا في بيان كفارة الطيرة إذا وقعت، فعلى الإنسان أن يستغفر ويتوب إلى الله، ويقول: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك).
وجاء في الحديث الآخر بيان حد الطيرة، ففي حديث الفضل بن عباس قال: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، فقوله: (ما أمضاك) أي: جعلك تسير وتسافر من أجل التطير، أو يمنعك من السفر، فهذه هي الطيرة، فعليه التوبة والاستغفار والندم، وأن يقول هذا الدعاء: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك).
في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الطيرة فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً)، فجعل الفأل أحسن الطيرة، وفي الحديث الآخر: (ويعجبني الفأل)، وقال هنا: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم! لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)، فهذا دعاء عظيم يقوله الإنسان إذا رأى ما يكره.
وجاء في كفارة الشرك الخفي في الحديث الآخر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر أنه يقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، وفي لفظ: (وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم)، وجاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر : (إذا قلت ذلك أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره) .
فعلى المؤمن أن يلزم الأذكار والأدعية، ويستعمل ما صح منها.
والخلاصة: أن الشرك الأصغر يكون في الألفاظ، ويكون في الأعمال، ويكون في الاعتقاد، وإذا فعل إنسان هذه الأمور -فتطير أو علّق حلقة، أو خيطاً، أو تميمة، أو تولة، أو زجر الطير، أو خط في الأرض أو ما أشبه ذلك- فإنه إن اعتقد أنها وسيلة وسبب لحفظه، أو وسيلة وسبب في حصول المطلوب؛ فذلك شرك أصغر؛ لأن الله لم يجعلها وسيلة.
أما إذا اعتقد أنها مؤثرة بذاتها، فتحفظه هي بذاتها؛ فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله سبحانه وتعالى أن يهدي قلوبنا، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يرزقنا الإخلاص في العبادة، والصدق في القول، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
والشرك الأصغر يكون في الألفاظ والأقوال ويكون في الأعمال، ويكون في الاعتقاد، ولكل واحد من هذه الأنواع أمثلة.
فمن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: الحلف بغير الله، وذلك كأن يقول: وحياتِه، فيحلف بحياته، أو وحياةِ فلان، أو أن يقول: والنبي، أو يحلف بالأمانةِ، أو بالكعبةِ، أو يقول: بأبيك، أو بشرفك، أو بلحيتك، وما أشبه ذلك، فهذا من الشرك الأصغر الذي هو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم ، فإذا حلف بغير الله فهو مشرك شركاً أصغر، وقد يكون شركاً أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به يستحق من التعظيم كما يستحق الله، أو أنه يستحق شيئاً من العبادة، فإنه يكون شركاً أكبر بهذا الاعتقاد، وإلا فالأصل أنه شرك أصغر.
ومن أمثلة الشرك في الألفاظ والأقوال: التسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة، كأن يقول: ما شاء الله وشئت، فهذا تسوية بين الخالق والمخلوق، وهو من الشرك الأصغر؛ لأن الواو تكون لمطلق الجمع وللتشريك والتسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، والتسوية بين الخالق والمخلوق شرك، فإن كان في الأصغر فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، ومن الشرك الأكبر التسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والتعظيم والخشية والإجلال والطاعة، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] ، فالتسوية بين الخالق والمخلوق في المحبة والعبادة شرك أكبر، والتسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة شرك أصغر، كأن يقول: ما شاء الله وشئت. فقد سوى بين الخالق والمخلوق في المشيئة.
وثبت أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده) ، فقوله: (أجعلتني لله نداً؟!) من التنديد الأصغر، فالتنديد يكون أكبر ويكون أصغر، فالأكبر يكون في العبادة، والتنديد الأصغر كالتشريك والتسوية في المشيئة.
وأما إذا أتى بكلمة (ثُمَّ) وقال: ما شاء الله ثم شئتَ؛ فهذا لا بأس به؛ لأن (ثُمَّ) تفيد العطف بتراخي ومهلة، فالمعطوف بـ(ثم) يأتي بعد المعطوف عليه بمهملة وتراخ، ولا تفيد التشريك والتسوية، فلذلك يجوز أن تقول: ما شاء الله ثم شئتَ.
وقد ثبت في الحديث عن قتيلة : (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: والكعبة، وتقولون: ما شاء الله وشئتَ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)، رواه النسائي بإسناد صحيح.
وعلى هذا فتكون الحالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يقول: ما شاء الله وشئتَ، وهذا ممنوع، وهو شرك أصغر.
الحالة الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، فهذا جائز.
الحالة الثالثة: أن يقول: ما شاء الله وحده، وهذا هو الأكمل والأفضل.
ومن الشرك الأصغر أن يقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا في حسب الله وحسبك، ولولا أنت لم يكن كذا، فكل هذه الألفاظ من الشرك الأصغر؛ لما فيها من التشريك بين الخالق والمخلوق والتسوية بينهما بالعطف بالواو، وهذا ممنوع، فإذا قلتَ: هذا من الله ثم منك، فلا بأس، وكذلك: أنا بالله ثم بك؛ لأن (ثم) للعطف، والمعطوف بعدها يأتي بتراخ ومهلة، وكذلك لو قلت: لولا الله ثم أنت، فذلك لا بأس به، وأما: أنا متوكل على الله ثم عليك فلا يجوز؛ لأن التوكل في الأسباب الظاهرة من الشرك الأصغر، وكذلك الحسْب، كأن تقول: أنا في حسب الله ثم في حسبك، فالحسب والكفاية خاصان بالله تعالى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] أي: كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين، وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، فالحسب والتوكل خاصان بالله تعالى.
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] قال: الأنداد هو الشرك، وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلية هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، فهذا كله به شرك.
رواه ابن أبي حاتم .
فهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تفسير للأنداد في الآية، والتنديد ينقسم إلى قسمين:
تنديد أكبر وتنديد أصغر، فهذا من التنديد الأصغر، وهو من الشرك الأصغر.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. فهل يسمع الإنسان أو يرى دبيب النملة السوداء التي تمشي على صخرة ملساء في ظلمة الليل؟!
فالشرك أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو مثل أن تقول: والله وحياتك -يا فلان- وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، فتسند هذا إلى السبب، لكن لو قلت: لولا الله ثم كلبة هذا، ولولا الله ثم البط في الدار لأتانا اللصوص، جاز.
وقد ثبت في سنن ابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها أنه قال: (رأيت -يعني: في المنام- كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت على نفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، فقالوا: لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن
وجاء -أيضاً- عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان) ، فدل هذا على أنه إذا أتى بالعطف بـ(ثم) فلا بأس به.
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه كان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوَّز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، وقال: قولوا: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
فهذه النصوص كلها تدل على أنه لا يجوز الحلف بغير الله، وأنه من الشرك الأصغر، ولا تجوز التسوية بين الخالق والمخلوق بالواو في المشيئة، لكن إذا كان العطف بـ(ثم) فلا بأس به.
ومن الشرك في الألفاظ والأقوال أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، أو بنوء كذا، معتقداً أن المنزِّل للمطر هو الله والنجم سبب في نزول المطر، أو أنه ليس بسبب ولكن يعتقد أن الله أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فهذا من الشرك الأصغر إن كان يعتقد أنه سبب؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، وإن كان لا يعتقد أنه سبب ولكن يقول: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم؛ فهذا أيضاً من الشرك الأصغر على الصحيح؛ لأنه نسب ما هو من فعل الله الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر -وهو النجم- لا يضر ولا ينفع، ولو كان لا يعتقد أنه سبب؛ لأنه نسب ذلك إلى النجم، ولو على سبيل المجاز، فيمنع من ذلك حماية لجناب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، ولو كان بالعبارات الموهمة التي لا يقصدها صاحبها، فيمنع، فيكون كقوله: ما شاء الله وشئت.
وإذا كان يعتقد أن النجم له تأثير في إنزال المطر فهذا شرك أكبر، وأما إذا قال: مُطرنا في نجم كذا فلا بأس بذلك، والمراد: في وقت كذا، أي: في وقت الربيع، أو في وقت الخريف، أو في وقت طلوع النجم الفلاني، وعلى هذا تكون الحالات ثلاث في هذا الأمر:-
الحالة الأولى: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا، معتقداً أن للنجم تأثيراً في إنزال المطر، فهذا شرك أكبر في الربوبية؛ لأنه جعل النجم مؤثراً ومدبراً، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، نعوذ بالله من ذلك.
الحالة الثانية: أن يقول: مُطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا، معتقداً أن مُنزل المطر هو الله، وأن النجم سبب، أو أنه ليس بسبب ولكن الله أجرى العادة في نزول المطر عند سقوط ذلك النجم، وهذا شرك أصغر لا يجوز؛ لأن الله لم يجعل النجم سبباً في نزول المطر، بل ولو لم يعتقد أنه سبب؛ لأن قوله: إن الله أجرى العادة بنزول المطر عند سقوط ذلك النجم، ثم قوله: مطرنا بنجم كذا موهم أنه يجعله سبباً، فيُمنع؛ سداً لذريعة الشرك، وحماية للتوحيد.
الحالة الثالثة: أن يقول: مُطرنا في نجم كذا، وهذا جائز لا بأس به.
ومن الشرك في الأقوال أيضاً: التسميع، كأن يحسن صوته بالقراءة تسميعاً للناس، فهذا من الشرك في الألفاظ وإن كان من الرياء في الأقوال، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يدعو إلى الله مراءاة للناس وتسميعاً لهم، فهذا من الرياء في الأقوال، وقد جاء في الحديث: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به) ، فلا يجوز للإنسان أن يسمع الناس، ولا أن يحسن صوته، ولا أن يأمر بالمعروف أو يدعو إلى الله تسميعاً للناس، فهذا من الشرك الأصغر.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
دروس في العقيدة [12] | 2283 استماع |
دروس في العقيدة [9] | 2217 استماع |
دروس في العقيدة [2] | 2128 استماع |
دروس في العقيدة [18] | 1875 استماع |
دروس في العقيدة [17] | 1827 استماع |
دروس في العقيدة ]16[ | 1666 استماع |
دروس في العقيدة [10] | 1436 استماع |
دروس في العقيدة [4] | 1377 استماع |
دروس في العقيدة [14] | 1346 استماع |
دروس في العقيدة [8] | 1330 استماع |