الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهاد الفقهاء


الحلقة مفرغة

الحمد الله الذي أكمل الدين، وأتم النعمة، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعــد:

للحياة سمة هي التغير، وللدين سمة هي الشمول، وبين هاتين السمتين ترابط واتصال هذا بيانه:

إن أحوال الناس وتصرفاتهم تختلف باختلاف النسب الزمانية والمكانية والعرفية وغير ذلك.

فمن التغير تغير الاصطلاحات، فتنصرف العبارة عن معنىً إلى معنىً آخر، بحسب البلد أو الزمن المستعمل لذلك الاصطلاح.

ومن التغير تغير الحال من الوضع المعتاد إلى وضع الحاجة أو الضرورة.

ومن التغير تغير الأعراف، فيكون شيء ما قبيحاً في بلد، وهو في بلد آخر حسن غير قبيح.

ومن التغير تغير الوسائل، فلقد كان الناس في الماضي ينتهجون في معاملاتهم المالية نهجاً غير معقد، بينما هم اليوم يتعاملون عبر مؤسسات مالية طرق التعامل فيها شديدة التعقيد، وغير هذه الصور كثير، فإن المتغيرات لا تتناهى ولا تنقضي إلا بانقضاء الحياة ذاتها، هذا هو شأن الحياة.

أما الشريعة: فجاءت لتكون الشريعة الخاتمة الشاملة الصالحة لكل زمان ومكان، وشريعة بهذه المثابة لابد أن تستوعب الحياة كلها، ثابتها ومتغيرها، ولابد أن تنتظم كل فعل من أفعال المكلفين.

وإن العالم المسلم اليوم يريد أن يصحو صحوة رشيدة، وينهض نهضة قوية.

ولكننا نعلم علم اليقين أنه ما لم يواكب تلك النهضة فقه رشيد سديد يتصدى به أهل العلم لمتغيرات الزمان؛ فيجتهدون في استنباط الأحكام لها؛ فإنه ستكون فتنة مبناها على أحد منـزعين:

الأول: الجمود.

والثاني: الانفلات.

وقد رُئِيَتْ بوادرهما، فهناك أقوام ممن وهت صلتهم بالكتاب والسنة وكلام أهل العلم، أطلقوا دعاوى التجديد والتطوير وتغير الأحكام بتغير النسب، وجعلوا تلك الدعاوى تكأة يتكئون عليها، وهم يدعون إلى الانحلال أو الخروج عن أحكام الدين.

وفي المقابل جمد فريق على الماضي وأساليبه وطرائقه، فلم يواكبوا ولم يستوعبوا مستجداته.

وهذا كله يبين مدى الحاجة إلى تصدي أهل العلم للمتغيرات؛ حتى يستنبطوا الأحكام لها، لئلا يصبح الدين كلأً مباحاً يرتع فيه كل ضال.

إن أحكام المتغيرات لا تُلْقى جزافاً بلا حجة ولا برهان، بل هناك أصول صحيحة وقواعد قويمة وضوابط متينة، يبني عليها الفقيه اجتهاده، ويجب ألا يتصدى لهذه المتغيرات وتأصيل منهجها إلا قوم ممن جمعوا بين التأصيل العلمي العميق والفهم الواقعي الدقيق، ونحسب أن فضيلة محاضرنا الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد من أولئك، فقد هيأ الله عز وجل له المنبت الحسن، فهو ابن سماحة الإمام العلامة الفقيه: محمد بن عبد الله بن حميد أسبغ الله عليه شآبيب رحمته، وزانه الله عز وجل بالعلم، حيث أخذ عن والده علوم الشريعة واللغة، كما تلقى تعليماً نظامياً حتى حصل على درجة الدكتوراه عام (1402هـ)، ونفع الله عز وجل به؛ فتصدر لتعليم الناس وإفتائهم، فدرس في كلية الشريعة وفي المسجد الحرام ولا زال، وتدرج في عدة وظائف، وهو الآن نائب الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وإمام المسجد الحرام وخطيبه.

وله مؤلفات عدة منها رفع الحرج في الشريعة ضوابطه وتطبيقاته ، وكتاب تلبيس مردود في قضايا حية وتوجيهات وذكرى وهو ديوان خطب، وهو عضو في عدد من المجالس والهيئات العلمية.

ونسعد في هذه الليلة بسماع محاضرة لفضيلته، عنوانها المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء، وستكون محاضرة فضيلته في ضوء المحاور الآتية:

الأول: مصادر التشريع.

الثاني: ضوابط النظر في المتغيرات.

الثالث: تطبيقات لبعض مجتهدي الفقهاء في النظر إلى المتغيرات.

ولعل من الطالع أن تكون هذه المحاضرة هي فاتحة محاضرات النشاط الثقافي بمركز الملك فيصل هذا العام، فباسم المركز نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد ، ونشكر له استجابته لهذه الدعوة، كما نرحب بالأساتذة والإخوة الكرام والحضور، وقبل أن أترككم مع فضيلته أدعو الأساتذة الراغبين في التعليق أن يتكرموا بكتابة الاسم حتى تُنَظَّم التعليقات حفاظاً على الوقت، كما أدعو الإخوة الراغبين في طرح الأسئلة أن يكتبوا أسئلتهم، وأترككم مع فضيلته، داعياً الله عز وجل أن ينفعنا بعلمه، وأن يجزيه عنا خير الجزاء.

تصحيح ضبط العنوان

أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه، سيدنا ونبينا محمد سيد الأولين والآخرين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

أيها الأساتذة الفضلاء! أيها الإخوة الأعزاء! بعد حمد الله وشكره، أشكر لمؤسسة الملك فيصل -رحمه الله- الخيرية دعوتها لأشرف بالوقوف أمامكم في هذا الجمع الكريم وفي هذا اللقاء الطيب المبارك بإذنه تعالى؛ لأتحدث إليكم حديثاً حددت المؤسسة عنوانه، وأرسلت إلي باقتراحات حول أطره، ولقد حرصت أن ألتزم بهذه الأطر؛ لأنها كانت أطراً علمية ومدروسة، وهذا شأن المؤسسات العلمية التي تعرف ما يصدر عنها، وتحترم نفسها كما تحترم كل ما يتعلق بها.

والموضوع لعل الزميل الشيخ الفاضل الأستاذ: عبد الرحمن أتى بلبه، وأتى بشيء كثير من تأصيله، ولا أبالغ إن قلت: وبعض التفصيل.

غير أن ما أستفتح به هذا الحديث إليكم، هو أن لي نظراً في تغيير العنوان، لكني أرجو أن يكون داخلاً في المتغيرات ذات الضوابط إن صح هذا التعبير؛ لأن العنوان الذي اختاروه هو: " المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء " والواقع أن المتغيرات لا تنضبط، كما أشار الزميل في مقدمته وكما سوف تسمعون، وهذه سنة الله عز وجل كما هو ملحوظ، وسننه في خلقه وفي هذه الدنيا -لما تقتضيه طبائع الناس حسب ما أودع الله فيهم- متغيرة.

لكن الانضباط هو في النظر، ضوابط للنظر وليس ضوابط للمتغيرات، ولهذا أستحب أن يكون العنوان هكذا " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء " فإن هذا أدق لبيان المقصود، وإن كان العنوان مفهوماً وكما في الموجز الذي سمعتموه واضحاً، ولكن كعبارة أكثر علمية وأكثر التزاماً بالقيود، ينبغي أن يكون الاسم هكذا: " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها "؛ لأن المتغيرات لا تنضبط، والوقائع لا تتناهى، إنما الضابط في النظر أي في الاجتهاد؛ ضوابط الاجتهاد .. ضوابط الاستنباط .. قواعد الاستنباط .. أصول الاستنباط، هذه هي التي ينطلق منها المجتهد وينطلق منها المستنبط الراسخ.

وفي كلامه عني شيء من الغلو، وإن كانت رسالة الأستاذ عبد الرحمن في الماجستير عن الغلو كما علمت، لكنه غلا بعض الشيء فيما سمعتم من تقديم لهذا المتحدث أمامكم، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يسامحه وأن يغفر لي وله ولكم.

والعنوان كما أسلفت " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء ".

أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه، سيدنا ونبينا محمد سيد الأولين والآخرين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعــد:

أيها الأساتذة الفضلاء! أيها الإخوة الأعزاء! بعد حمد الله وشكره، أشكر لمؤسسة الملك فيصل -رحمه الله- الخيرية دعوتها لأشرف بالوقوف أمامكم في هذا الجمع الكريم وفي هذا اللقاء الطيب المبارك بإذنه تعالى؛ لأتحدث إليكم حديثاً حددت المؤسسة عنوانه، وأرسلت إلي باقتراحات حول أطره، ولقد حرصت أن ألتزم بهذه الأطر؛ لأنها كانت أطراً علمية ومدروسة، وهذا شأن المؤسسات العلمية التي تعرف ما يصدر عنها، وتحترم نفسها كما تحترم كل ما يتعلق بها.

والموضوع لعل الزميل الشيخ الفاضل الأستاذ: عبد الرحمن أتى بلبه، وأتى بشيء كثير من تأصيله، ولا أبالغ إن قلت: وبعض التفصيل.

غير أن ما أستفتح به هذا الحديث إليكم، هو أن لي نظراً في تغيير العنوان، لكني أرجو أن يكون داخلاً في المتغيرات ذات الضوابط إن صح هذا التعبير؛ لأن العنوان الذي اختاروه هو: " المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء " والواقع أن المتغيرات لا تنضبط، كما أشار الزميل في مقدمته وكما سوف تسمعون، وهذه سنة الله عز وجل كما هو ملحوظ، وسننه في خلقه وفي هذه الدنيا -لما تقتضيه طبائع الناس حسب ما أودع الله فيهم- متغيرة.

لكن الانضباط هو في النظر، ضوابط للنظر وليس ضوابط للمتغيرات، ولهذا أستحب أن يكون العنوان هكذا " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء " فإن هذا أدق لبيان المقصود، وإن كان العنوان مفهوماً وكما في الموجز الذي سمعتموه واضحاً، ولكن كعبارة أكثر علمية وأكثر التزاماً بالقيود، ينبغي أن يكون الاسم هكذا: " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها "؛ لأن المتغيرات لا تنضبط، والوقائع لا تتناهى، إنما الضابط في النظر أي في الاجتهاد؛ ضوابط الاجتهاد .. ضوابط الاستنباط .. قواعد الاستنباط .. أصول الاستنباط، هذه هي التي ينطلق منها المجتهد وينطلق منها المستنبط الراسخ.

وفي كلامه عني شيء من الغلو، وإن كانت رسالة الأستاذ عبد الرحمن في الماجستير عن الغلو كما علمت، لكنه غلا بعض الشيء فيما سمعتم من تقديم لهذا المتحدث أمامكم، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يسامحه وأن يغفر لي وله ولكم.

والعنوان كما أسلفت " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء ".

نزلت شريعة الإسلام على الأرض وحياً من عند الله عز وجل وتبارك على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قرآناً وسنة، تحمل في أصولها ما يعالج قضايا الاعتقاد، ويرسي قواعد العدل والمصلحة والرحمة في الأحكام، وخلود الشريعة وكمالها وتمام النعمة بها يصدق بنصوصها وأصولها الثوابت، ينضم إلى ذلك مجالات الاجتهاد النابعة من أصالة الفكر في تفهم تلك النصوص ومقرراتها وفي حسن تطبيقها على كل ما يجد في الحياة من وقائع، وما يلم بها من تطورات وتطويرات ومتغيرات بسبب إحداثات الفكر الإنساني، وتلون البيئات، والتحولات في المجتمعات، وما تقتضيه سنن الله عز وجل في هذا.

معنى الاجتهاد

والاجتهاد في تفسير النصوص أو النظر في الوقائع لتنال حكمها في الشرع طريقه إما بالنص المنصوص عليه، وإما فهم النص فيما لم ينص عليه، ولا يكون ذلك إلا لذي الرأي الحصيف المدرك لعلم الشرع الشريف.

وفي هذا يقول الغزالي : وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وميدان هذا علم أصول الفقه؛ فإنه يأخذ في هذا سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسليم اهـ.

وذلكم هو ميدان الاجتهاد، من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير منصوصة، وبتعبير آخر فالاجتهاد هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال، هكذا عرفه الجرجاني في تعريفاته .

والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص وفي طريقة تطبيق حكمه، أو في مسالك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص، والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه، يوضح ذلك الإمام شمس الدين ابن القيم رحمة الله عليه في عبارة سلسة مبيناً نهج الصحابة رضوان الله عليهم فيقول: " فالصحابة رضوان الله عليهم مثلوا للوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله اهـ.

وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد، فهذا ليس منهجاً مشروعاً، بل هو -أعني التفكير العقلي المجرد- افتئات على حق الله في التشريع، حتى لو كان جاداً بعيداً عن الهوى، مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع ومبادئه وأصوله وحقائق تنـزيله ومثله العليا ومقاصده الأساسية.

ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل بفهم النصوص الشرعية وتطبيقاتها ودلالتها وقواعد الشرع المرعية.

والاجتهاد في تفسير النصوص أو النظر في الوقائع لتنال حكمها في الشرع طريقه إما بالنص المنصوص عليه، وإما فهم النص فيما لم ينص عليه، ولا يكون ذلك إلا لذي الرأي الحصيف المدرك لعلم الشرع الشريف.

وفي هذا يقول الغزالي : وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وميدان هذا علم أصول الفقه؛ فإنه يأخذ في هذا سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسليم اهـ.

وذلكم هو ميدان الاجتهاد، من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير منصوصة، وبتعبير آخر فالاجتهاد هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال، هكذا عرفه الجرجاني في تعريفاته .

والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص وفي طريقة تطبيق حكمه، أو في مسالك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص، والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه، يوضح ذلك الإمام شمس الدين ابن القيم رحمة الله عليه في عبارة سلسة مبيناً نهج الصحابة رضوان الله عليهم فيقول: " فالصحابة رضوان الله عليهم مثلوا للوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله اهـ.

وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد، فهذا ليس منهجاً مشروعاً، بل هو -أعني التفكير العقلي المجرد- افتئات على حق الله في التشريع، حتى لو كان جاداً بعيداً عن الهوى، مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع ومبادئه وأصوله وحقائق تنـزيله ومثله العليا ومقاصده الأساسية.

ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل بفهم النصوص الشرعية وتطبيقاتها ودلالتها وقواعد الشرع المرعية.

بعد هذه التقدمة الإجمالية أقول: إن من المعلوم أن مصادر التشريع الأساسية هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم بعدها مصادر توصف بالمصادر التبعية، وأحياناً يعبر عنها بالمصادر المختلف فيها، أي أنها مبنية على المصادر السابقة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس- ومنبثقة منها وفي إطارها، لا تعدوها ولا تخرج عنها.

وهذه المصادر يوجد اختلاف في اعتبار بعضها لدى المجتهدين من أهل العلم.

ومن أبرز هذه المصادر التبعية: المصلحة المرسلة .. العرف .. الاستحسان .. الاحتياط .. سد الذرائع .. قاعدة الضرر والضرورات .. عموم البلوى .. الاستصحاب والبراءة الأصلية.

والمقام لا يتسع لبسط القول في هذه المصادر كلها، وإن كانت مناسبة الحديث تقتضي ذلك، ولكن محدودية الوقت ومزاحمة العناصر الأساسية لأصل الموضوع تلجئ إلى الاختصار، فأستسمح الحضور الكرام العذر في بعض الاقتضاب، الذي أرجو ألا يكون مخلاً.

وفي مدخل هذا الموضوع أقول: إن هذه المصادر من العرف والاستحسان والمصلحة هي المحك الدقيق، والمرتقى الصعب في النظر فيما بسطه علماء الأصول والقواعد -رحمهم الله- حينما بحثوا في أعراف الناس وحاجاتهم وضروراتهم وأثر المتغيرات والأحداث على استمساكهم بدينهم وعلى انتظام أمور معاشهم، وكان ذلك معتركاً دقيقاً يجب التثبت فيه على ما سيتبين إن شاء الله.

وعليه فإن الحديث سيكون متناولاً ثلاث قضايا رئيسية:-

أولاها: استعراض لبعض هذه المصادر التي نعتبرها قواعد أساسية تنطلق منها أحكام التغيير المنبنية على هذا التغيير، على أنني سوف أنهي الحديث عن كل مصدر بما يضبطه بخصوصه.

ثانيها: ضوابط عامة في النظر في المتغيرات.

ثالثها: نماذج من الاجتهادات الفقهية في هذا المضمار.

المصلحة المرسلة وضوابط الأخذ بها

وسوف يقتصر الكلام على المصادر التالية: المصلحة المرسلة، الاستحسان، سد الذرائع والاحتياط، عموم البلوى، العرف.

المصلحة المرسلة هي: المصلحة التي شهد الشرع لجنسها، بمعنى: أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة، وليست هي المصلحة الغريبة التي لم تشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياساً، ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً، فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة، والغزالي الشافعي والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة، ويدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي وشدد النكير على القائلين به، وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما، فهذا الأخير استدلال بنص أو إجماع أو عرف أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس، وهو الذي سوف تأتي الإشارة إليه.

غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:-

الأول: أن تكون معقولة، بحيث تجري على الأوصاف المناسبة، التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.

الضابط الثاني: أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين، بحيث لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها؛ لكان الناس في حرج شديد.

الثالث: الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشرع؛ فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها وليست غريبة عنها.

ومن أجل هذا -أيها الإخوة- ونحن نتحدث عن الضوابط نقول: إن المصلحة أو الاستصلاح باب واسع ومدخل عريض، قد يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها، ومن هنا منع منها من منع من المجتهدين خشية من هذا الباب، ومن المقرر والمعلوم أن الشريعة تراعي مصالح العباد، وباب الاجتهاد مفتوح فيما لا نص فيه، ولكن للاجتهاد شروطه، وللمصلحة ضوابطها وحدودها، فليس مرد المصلحة إلى تقدير الناس فيما يكون به الصلاح والفساد.

فإذا حسب الناس أن التعامل بالربا -مثلاً- قد بات مصلحة نحتاج إليها، ولا يقوم أمر الناس إلا به، فهو بمقتضى هذا النظر مصلحة حقيقة، وعلى الشريعة بما التزمته من تحقيق مصالح الناس ورفع الحرج عنهم أن تتسع لرفع هذا الحكم؛ لأنه قد رأى ذلك علماء في الاقتصاد، وخبراء في التجارة، من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها.

وقد يتفق علماء التربية وعلماء النفس -مثلاً- على أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب الأخلاق، ويخفف من شدة الميل الجنسي، ويمكن من استخدام كافة القوى البشرية المتاحة من أجل التنمية، فلا يبقى نصف المجتمع معطلاً، فهي مصلحة ينبغي تحقيقها، والشريعة تراعي تحقيق المصالح.

وقد يقول الأطباء: إن لحم الخنـزير ليس بمستخبث، وإن أكله لا يعقب أي آثار سيئة في الخلق أو الجسم.

إننا نقول لهؤلاء وأولئك وكل من يسير في ركابهم من المستغربين والمستشرقين والذين في قلوبهم مرض: إن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها، وقد وضع ذلك في مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل، ثم حفظ النسل، ثم حفظ المال.

ويبدو لي أن " ثم " هنا استعمالها ليس دقيقاً؛ فأقول: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وإن كانت قمتها -لا شك- حفظ الدين، بل إن بعض الأصوليين يؤكد هذا: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل ... إلخ.

وبناءً عليه فإن كل ما توهمه الناس مصلحة مما يخالف تلك الأسس العامة في جوهرها، أو الترتيب فيما بينها -أيضاً- ترتيباً مرعياً، أو يخالف دليلاً من الأدلة الشرعية، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح، ليس من المصلحة في شيء، وإن توهمه من توهم.

أما نتائج خبرات الناس وتجاربهم، فيجب عرضها على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة، فما وافقها أخذ به، والحكم بذلك للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة، وما خالف ذلك وجب طرحه وإهماله واعتباره مصلحة ملغاة.

ويجب أن يفهم أن الشارع لم يلغ مصلحة دلت عليها تجارب الناس وعلومهم، بل الواقع أن تقدير هؤلاء المجربين والخبراء للمصلحة كان خطأً، صاحبه خلل وفساد نابع من هوى في نفس المجربين، أو خطأ في وسائل التجربة، أو نقص في الاستقراء، فنحن نتهم تقدير هؤلاء، ولا نتهم نصوص الشريعة.

نخلص من ذلك إلى أن الخبرات العادية والموازين العقلية والتجريبية المحضة لا يجوز أن تستقل وحدها بفهم مصالح العباد وتنسيقها.

وهذا فيما يتعلق بالمصلحة.

الاستحسان تعريفه وأقسامه

أما الاستحسان فقد عرفه ابن رشد المالكي فقال: إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنىً يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.

وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال: الاستحسان هو العدول عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول.

فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة، وحقيقته كما يلاحظ وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.

ويقسم الأصوليون الاستحسان إلى أنواع ثلاثة:

أولها: الاستحسان بالنص، وذلك يجري في كل أنواع العقود التي قالوا: إنها على خلاف القياس كالسلم والإجارة والقرض ونحوها، وهي استحسان بالنص لأنها قد ثبتت بنصوص شرعية على غير وفق القاعدة العامة من عدم صحة بيع المعدوم وعقود الربا ونحو ذلك.

وأغلب إطلاقات الاستحسان في كتب الفروع تنصرف إلى هذا النوع، وعلى الخصوص في كتب الفروع عند الحنفية فيقولون: هذا جائز استحساناً، ويعنون هذا النوع من الاستحسان بالنص.

الثاني: الاستحسان بالإجماع. أي أن سند هذا الاستحسان هو الإجماع كما في مسألة الاستصناع.

الثالث: استحسان الضرورة، كما في مسألة تطهير الحياض والآبار؛ لأن الأصل أن الماء إذا خالطته نجاسة ولو كان كثيراً فإنه ينجس مادام أنه ليس جارياً، ولكن عفي عن ذلك استحساناً للضرورة، ووجه ذلك أن القياس يأبى طهارتها لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء، فلا يزال يعود وهو نجس، ولأن نزع بعض الماء لا يؤثر في طهارة الباقي، وكذا خروج بعضه عن الحوض، وكذا الماء ينجس بملاقاة الآنية النجسة، والنجس لا يفيد طهارة؛ فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة، فإن الحرج مرفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ بالقياس.

الرابع: الاستحسان بمعنى القياس الخفي، وقد سمي قياساً خفياً في مقابلة القياس الجلي، وهو القياس المصطلح عليه، والاستحسان بهذا المعنى يقصدون به ما قوي أثره.

ومن أمثلته: طهارة سؤر سباع الطير، فالقياس الجلي أن سؤره نجس لأنه من السباع، ودليل النجاسة حرمة أكل لحمه كسائر السباع، وفي الاستحسان هو طاهر، لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعاً كالصيد، وكذا الانتفاع بجلده وعظمه، ولو كان نجس العين لما جاز كالخنزير.

وإن كان بعض التمثيل فيه نظر، فإن الكلب على ما قرره أهل العلم نجس العين وإن كان حلاً صيده.

وسؤر سباع البهائم إنما كان نجساً باعتبار حرمة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها، ولعابها متولد من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها، ومنقارها عظم، وعظم الميتة طاهر، فعظم الحي أولى؛ فصار هذا الاستحسان وإن كان باطناً أقوى من القياس وإن كان ظاهراً.

وهذا النوع من الاستحسان هو الذي يغلب إطلاقه عند الأصوليين.

سد الذرائع والاحتياط

سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه، فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم، وإن كان في أصله حلالاً.

ومعنى هذا أن الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى ما لا يجوز، فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ولكن قاعدة سد الذرائع تقضي ببطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم، أو كان الباعث والدافع إليه غير مشروع، كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلماً، أو لأهل الحرب، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً أو ما شابه ذلك.

أما الاحتياط فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه.

- مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين: في مجال تحقق الشبهة، وفي مجال حصول الشك في الحكم الشرعي.

أما مجال تحقق الشبهة فذلك في الشبهة التي تعرض للمكلف في الأحكام الشرعية.

- أقسام الشبهة: وذلك قسمان:

القسم الأول: شبهة حكمية، أي تقع في الحكم الشرعي بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذه غالباً مختصة بالمجتهدين -مختصة بالعلماء- حينما ينظرون في حديث -مثلاً- ولا يتبين لهم حكم، فتقع شبهة عند المجتهد.

فمعلوم أنه يجتنب مثل هذه التي لم يتوصل فيها إلى يقين أو ظن غالب يفيد الاطمئنان، فهذه لا تكون إلا في مجال المجتهدين والعلماء -أعني الشبهة في الحكم- وهي التي تقع في الحكم الشرعي، بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذا متوجه إلى حكم الشرع نفسه.

ومن هنا تأتي توقفات بعض العلماء والمجتهدين في بعض المسائل من حل أو حرمة أو غير ذلك من أقسام الحكم الشرعي؛ لذا سميت بالشبهة الحكمية.

القسم الثاني: الشبهة المحلية، وهي التي ترد على المحكوم فيه، الذي هو محل الحكم من حيث دخوله تحت حكم الشارع من حل أو حرمة أو غير ذلك.

إذاً: هذه أيضاً مجال ثان من تحقق الشبهة في المحل.

المجال الثاني: الشك في الحكم الشرعي الطارئ بسبب الشك في الواقع، فيطرأ الشك في الحرمة والوجوب أو الإباحة؛ فيحتاط المكلف من نفسه، وذلك بالخروج من دائرة الخلاف؛ فإذا طرأ الشك في الحرمة -أي بين الحل والحرمة- أو بين الوجوب والاستحباب ونحو ذلك، فإن المكلف يحتاط لنفسه، فإنه -مثلاً- لا يخرج من عهدة الواجب إلا بيقين أو ظن غالب إذا كانت المسألة مترددة بين الوجوب والاستحباب.

على أن الاحتياط في جملته مطلوب فيما علم أمره وتحقق فيه يقيناً اختلاط الحلال بالحرام أو ظن ذلك ظناً غالباً -إما يقين أو ظن غالب- وذلك بقرائن وعلامات توصل إلى ذلك، كما لو كان في بلاد المسلمين أو مع فساق لا يتورعون عن اقتراف المنهيات، أما إذا كان في ديار المسلمين ولم يظهر ما يدعو إلى الاشتباه، فلا ينبغي التدقيق والإلحاح في الأسئلة مع أعيان المسلمين، بل قد يصل الأمر إلى تحريم السؤال إذا كان فيه إيذاء لمسلم ظاهره الاستقامة.

- موضع عموم البلوى:

يظهر عموم البلوى في موضعين:

الموضع الأول: ما تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.

الموضع الثاني: شيوع الوقوع والتلبس بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.

إذاً: هو جانبان؛ إما أن يكون مس حاجة وضرورة يحتاجها المكلف، أو جانب بلاء واقع لا يستطيع الإنسان أن ينفك أو يحترز عنه، كأنهما وجهان -كما يقال- لعملة واحدة، ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الموضع الثاني ابتلاء بمشقة الدفع، ويضبط ذلك ميدانان أساسيان:

الأول: نزار الشيء وقلته، فمشقة الاحتراز من الشيء، وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته، ومن هنا كان العفو عن يسير النجاسات وعن أثر الاستجمار في محله، والعفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة، وونيم الذباب -فضلات الذباب- وما ارتش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات، فهذا يعفى عنه لعموم البلوى لأنه يشق الاحتراز عنه.

الثاني: كثرة الشيء وشيوعه، كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه، فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.

وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنها فيه مشقة وصعوبة، نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح، واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذارت واختلاط الأموال.

معذرةً أحياناً إذا كانت بعض العبارات فيها شيء من الجفاف كما تقتضيه أحياناً بعض العبارات العلمية على أني حرصت حقيقة أن أبسط قدر الإمكان، لكن على كل حال إن كنت أحسنت ففضل من الله، وإن كان غير ذلك فأرجو العفو والمعذرة.

العرف

وهو أيضاً مصدر من المصادر، ويراد به: ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته، سواء كان قولاً أو فعلاً، ولا ينكره أصحاب الذوق السليم.

ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة.

ويخرج من ذلك العرف الفاسد، وهو ما استقر لا من جهة العقول، كتعاطي المسكرات وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات.

كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول، كالكشف عن العورات وعدم الاحتشام، والألفاظ المستقبحة، فهذه كلها غير داخلة في العرف المصطلح أو المعتبر.

وسوف يقتصر الكلام على المصادر التالية: المصلحة المرسلة، الاستحسان، سد الذرائع والاحتياط، عموم البلوى، العرف.

المصلحة المرسلة هي: المصلحة التي شهد الشرع لجنسها، بمعنى: أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة، وليست هي المصلحة الغريبة التي لم تشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياساً، ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً، فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة، والغزالي الشافعي والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة، ويدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي وشدد النكير على القائلين به، وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما، فهذا الأخير استدلال بنص أو إجماع أو عرف أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس، وهو الذي سوف تأتي الإشارة إليه.

غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:-

الأول: أن تكون معقولة، بحيث تجري على الأوصاف المناسبة، التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.

الضابط الثاني: أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين، بحيث لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها؛ لكان الناس في حرج شديد.

الثالث: الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشرع؛ فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها وليست غريبة عنها.

ومن أجل هذا -أيها الإخوة- ونحن نتحدث عن الضوابط نقول: إن المصلحة أو الاستصلاح باب واسع ومدخل عريض، قد يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها، ومن هنا منع منها من منع من المجتهدين خشية من هذا الباب، ومن المقرر والمعلوم أن الشريعة تراعي مصالح العباد، وباب الاجتهاد مفتوح فيما لا نص فيه، ولكن للاجتهاد شروطه، وللمصلحة ضوابطها وحدودها، فليس مرد المصلحة إلى تقدير الناس فيما يكون به الصلاح والفساد.

فإذا حسب الناس أن التعامل بالربا -مثلاً- قد بات مصلحة نحتاج إليها، ولا يقوم أمر الناس إلا به، فهو بمقتضى هذا النظر مصلحة حقيقة، وعلى الشريعة بما التزمته من تحقيق مصالح الناس ورفع الحرج عنهم أن تتسع لرفع هذا الحكم؛ لأنه قد رأى ذلك علماء في الاقتصاد، وخبراء في التجارة، من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها.

وقد يتفق علماء التربية وعلماء النفس -مثلاً- على أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب الأخلاق، ويخفف من شدة الميل الجنسي، ويمكن من استخدام كافة القوى البشرية المتاحة من أجل التنمية، فلا يبقى نصف المجتمع معطلاً، فهي مصلحة ينبغي تحقيقها، والشريعة تراعي تحقيق المصالح.

وقد يقول الأطباء: إن لحم الخنـزير ليس بمستخبث، وإن أكله لا يعقب أي آثار سيئة في الخلق أو الجسم.

إننا نقول لهؤلاء وأولئك وكل من يسير في ركابهم من المستغربين والمستشرقين والذين في قلوبهم مرض: إن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها، وقد وضع ذلك في مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل، ثم حفظ النسل، ثم حفظ المال.

ويبدو لي أن " ثم " هنا استعمالها ليس دقيقاً؛ فأقول: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وإن كانت قمتها -لا شك- حفظ الدين، بل إن بعض الأصوليين يؤكد هذا: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل ... إلخ.

وبناءً عليه فإن كل ما توهمه الناس مصلحة مما يخالف تلك الأسس العامة في جوهرها، أو الترتيب فيما بينها -أيضاً- ترتيباً مرعياً، أو يخالف دليلاً من الأدلة الشرعية، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح، ليس من المصلحة في شيء، وإن توهمه من توهم.

أما نتائج خبرات الناس وتجاربهم، فيجب عرضها على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة، فما وافقها أخذ به، والحكم بذلك للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة، وما خالف ذلك وجب طرحه وإهماله واعتباره مصلحة ملغاة.

ويجب أن يفهم أن الشارع لم يلغ مصلحة دلت عليها تجارب الناس وعلومهم، بل الواقع أن تقدير هؤلاء المجربين والخبراء للمصلحة كان خطأً، صاحبه خلل وفساد نابع من هوى في نفس المجربين، أو خطأ في وسائل التجربة، أو نقص في الاستقراء، فنحن نتهم تقدير هؤلاء، ولا نتهم نصوص الشريعة.

نخلص من ذلك إلى أن الخبرات العادية والموازين العقلية والتجريبية المحضة لا يجوز أن تستقل وحدها بفهم مصالح العباد وتنسيقها.

وهذا فيما يتعلق بالمصلحة.

أما الاستحسان فقد عرفه ابن رشد المالكي فقال: إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنىً يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.

وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال: الاستحسان هو العدول عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول.

فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة، وحقيقته كما يلاحظ وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.

ويقسم الأصوليون الاستحسان إلى أنواع ثلاثة:

أولها: الاستحسان بالنص، وذلك يجري في كل أنواع العقود التي قالوا: إنها على خلاف القياس كالسلم والإجارة والقرض ونحوها، وهي استحسان بالنص لأنها قد ثبتت بنصوص شرعية على غير وفق القاعدة العامة من عدم صحة بيع المعدوم وعقود الربا ونحو ذلك.

وأغلب إطلاقات الاستحسان في كتب الفروع تنصرف إلى هذا النوع، وعلى الخصوص في كتب الفروع عند الحنفية فيقولون: هذا جائز استحساناً، ويعنون هذا النوع من الاستحسان بالنص.

الثاني: الاستحسان بالإجماع. أي أن سند هذا الاستحسان هو الإجماع كما في مسألة الاستصناع.

الثالث: استحسان الضرورة، كما في مسألة تطهير الحياض والآبار؛ لأن الأصل أن الماء إذا خالطته نجاسة ولو كان كثيراً فإنه ينجس مادام أنه ليس جارياً، ولكن عفي عن ذلك استحساناً للضرورة، ووجه ذلك أن القياس يأبى طهارتها لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء، فلا يزال يعود وهو نجس، ولأن نزع بعض الماء لا يؤثر في طهارة الباقي، وكذا خروج بعضه عن الحوض، وكذا الماء ينجس بملاقاة الآنية النجسة، والنجس لا يفيد طهارة؛ فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة، فإن الحرج مرفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ بالقياس.

الرابع: الاستحسان بمعنى القياس الخفي، وقد سمي قياساً خفياً في مقابلة القياس الجلي، وهو القياس المصطلح عليه، والاستحسان بهذا المعنى يقصدون به ما قوي أثره.

ومن أمثلته: طهارة سؤر سباع الطير، فالقياس الجلي أن سؤره نجس لأنه من السباع، ودليل النجاسة حرمة أكل لحمه كسائر السباع، وفي الاستحسان هو طاهر، لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعاً كالصيد، وكذا الانتفاع بجلده وعظمه، ولو كان نجس العين لما جاز كالخنزير.

وإن كان بعض التمثيل فيه نظر، فإن الكلب على ما قرره أهل العلم نجس العين وإن كان حلاً صيده.

وسؤر سباع البهائم إنما كان نجساً باعتبار حرمة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها، ولعابها متولد من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها، ومنقارها عظم، وعظم الميتة طاهر، فعظم الحي أولى؛ فصار هذا الاستحسان وإن كان باطناً أقوى من القياس وإن كان ظاهراً.

وهذا النوع من الاستحسان هو الذي يغلب إطلاقه عند الأصوليين.

سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه، فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم، وإن كان في أصله حلالاً.

ومعنى هذا أن الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى ما لا يجوز، فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ولكن قاعدة سد الذرائع تقضي ببطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم، أو كان الباعث والدافع إليه غير مشروع، كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلماً، أو لأهل الحرب، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً أو ما شابه ذلك.

أما الاحتياط فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه.

- مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين: في مجال تحقق الشبهة، وفي مجال حصول الشك في الحكم الشرعي.

أما مجال تحقق الشبهة فذلك في الشبهة التي تعرض للمكلف في الأحكام الشرعية.

- أقسام الشبهة: وذلك قسمان:

القسم الأول: شبهة حكمية، أي تقع في الحكم الشرعي بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذه غالباً مختصة بالمجتهدين -مختصة بالعلماء- حينما ينظرون في حديث -مثلاً- ولا يتبين لهم حكم، فتقع شبهة عند المجتهد.

فمعلوم أنه يجتنب مثل هذه التي لم يتوصل فيها إلى يقين أو ظن غالب يفيد الاطمئنان، فهذه لا تكون إلا في مجال المجتهدين والعلماء -أعني الشبهة في الحكم- وهي التي تقع في الحكم الشرعي، بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذا متوجه إلى حكم الشرع نفسه.

ومن هنا تأتي توقفات بعض العلماء والمجتهدين في بعض المسائل من حل أو حرمة أو غير ذلك من أقسام الحكم الشرعي؛ لذا سميت بالشبهة الحكمية.

القسم الثاني: الشبهة المحلية، وهي التي ترد على المحكوم فيه، الذي هو محل الحكم من حيث دخوله تحت حكم الشارع من حل أو حرمة أو غير ذلك.

إذاً: هذه أيضاً مجال ثان من تحقق الشبهة في المحل.

المجال الثاني: الشك في الحكم الشرعي الطارئ بسبب الشك في الواقع، فيطرأ الشك في الحرمة والوجوب أو الإباحة؛ فيحتاط المكلف من نفسه، وذلك بالخروج من دائرة الخلاف؛ فإذا طرأ الشك في الحرمة -أي بين الحل والحرمة- أو بين الوجوب والاستحباب ونحو ذلك، فإن المكلف يحتاط لنفسه، فإنه -مثلاً- لا يخرج من عهدة الواجب إلا بيقين أو ظن غالب إذا كانت المسألة مترددة بين الوجوب والاستحباب.

على أن الاحتياط في جملته مطلوب فيما علم أمره وتحقق فيه يقيناً اختلاط الحلال بالحرام أو ظن ذلك ظناً غالباً -إما يقين أو ظن غالب- وذلك بقرائن وعلامات توصل إلى ذلك، كما لو كان في بلاد المسلمين أو مع فساق لا يتورعون عن اقتراف المنهيات، أما إذا كان في ديار المسلمين ولم يظهر ما يدعو إلى الاشتباه، فلا ينبغي التدقيق والإلحاح في الأسئلة مع أعيان المسلمين، بل قد يصل الأمر إلى تحريم السؤال إذا كان فيه إيذاء لمسلم ظاهره الاستقامة.

- موضع عموم البلوى:

يظهر عموم البلوى في موضعين:

الموضع الأول: ما تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.

الموضع الثاني: شيوع الوقوع والتلبس بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.

إذاً: هو جانبان؛ إما أن يكون مس حاجة وضرورة يحتاجها المكلف، أو جانب بلاء واقع لا يستطيع الإنسان أن ينفك أو يحترز عنه، كأنهما وجهان -كما يقال- لعملة واحدة، ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الموضع الثاني ابتلاء بمشقة الدفع، ويضبط ذلك ميدانان أساسيان:

الأول: نزار الشيء وقلته، فمشقة الاحتراز من الشيء، وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته، ومن هنا كان العفو عن يسير النجاسات وعن أثر الاستجمار في محله، والعفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة، وونيم الذباب -فضلات الذباب- وما ارتش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات، فهذا يعفى عنه لعموم البلوى لأنه يشق الاحتراز عنه.

الثاني: كثرة الشيء وشيوعه، كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه، فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.

وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنها فيه مشقة وصعوبة، نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح، واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذارت واختلاط الأموال.

معذرةً أحياناً إذا كانت بعض العبارات فيها شيء من الجفاف كما تقتضيه أحياناً بعض العبارات العلمية على أني حرصت حقيقة أن أبسط قدر الإمكان، لكن على كل حال إن كنت أحسنت ففضل من الله، وإن كان غير ذلك فأرجو العفو والمعذرة.

وهو أيضاً مصدر من المصادر، ويراد به: ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته، سواء كان قولاً أو فعلاً، ولا ينكره أصحاب الذوق السليم.

ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة.

ويخرج من ذلك العرف الفاسد، وهو ما استقر لا من جهة العقول، كتعاطي المسكرات وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات.

كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول، كالكشف عن العورات وعدم الاحتشام، والألفاظ المستقبحة، فهذه كلها غير داخلة في العرف المصطلح أو المعتبر.




استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3698 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3089 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3073 استماع
الطلاق وآثاره 3015 استماع
لعلكم تتقون 3000 استماع
الماء سر الحياة 2957 استماع
من أسس العمل الصالح 2934 استماع
الزموا سفينة النجاة 2883 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2873 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2852 استماع