خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8330"> شرح مقدمة الترمذي
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [8]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس الباب الثاني من أبواب الطهارة وعنوانه: باب: ما جاء في فضل الطهور، في كتاب جامع الإمام الترمذي عليه وعلى أئمتنا والمسلمين أجمعين رحمة رب العالمين، وقد أورد الإمام الترمذي في هذا الباب حديثاً يدل على فضل الطهور، ساقه من طريق شيخيه: إسحاق بن موسى الأنصاري الخطمي ، وقتيبة بن سعيد رضي الله عنهم أجمعين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب)، هذا حديث حسن صحيح.
وقلت إخوتي الكرام: إن معنى الحديث وفقهه يدور على أمرين اثنين:
الأمر الأول: تكفير الطاعات للسيئات، والسيئات كما تقدم معنا: إما أن تكون بين الإنسان وبين ربه، وإما أن تكون بينه وبين خلق الله جل وعلا، فإذا كانت السيئة بين العبد وبين الله عز وجل، فأساء في حق الله وقصر فيما أوجبه الله عليه من حقوقه التي ينبغي أن يقوم بها، فقد قلت: إن هذه الإساءة لا تخرج عن ثلاثة أنواع:
نوع منها: لا يغفر بالإجماع إلا إذا تاب الإنسان منه وأناب إلى الله جل وعلا، ألا وهو الشرك والكفر.
والنوع الثاني: يغفر بالطاعات بالاتفاق، ألا وهو صغائر السيئات والمخالفات.
والنوع الثالث: المعتمد أنه لا بد من توبة منه ليغفر لفاعله، وإذا لم يتب فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ألا وهو الكبائر، وهو: كل معصية فيها حد مقدر في الدنيا أو وعيد شديد في الآخرة.
وإذا كانت المخالفة بين الإنسان وبين عباد الله جل وعلا والتقصير بينه وبين العباد، فهذا التقصير لا يغفر أيضاً إلا إذا تاب من هذا التقصير ورد الحقوق والمظالم إلى أهلها، وإذا لم يتب فأمره أيضاً إلى الله جل وعلا إن شاء غفر الله له، وإن شاء عذبه، فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى.
والعفو في الكبائر التي تتعلق بحق الله أرجأ من حقوق العباد ومن التبعات، يعني أن حقوق العباد والتبعات التي تتعلق برقبتك نحو العباد العفو فيها ضيق قليل، ورحمة الله واسعة، لكن العفو في حقوق الله جل وعلا قريب سهل يسير، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام الحاكم في المستدرك، من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدواوين عند الله ثلاثة: فديوان لا يغفره الله وهو الشرك، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وديوان لا يعبأ الله به وهو ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه، فالعفو فيه أقرب، وديوان القصاص واقع فيه لا محالة وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً )، فالديوان الأول: لا يغفر، والديوان الثاني: الحقوق التي بينك وبين ربك من تقصير وتفريط في صلاة وصيام وحج وغير ذلك، فإذا وقعت في شيء منها أو نحوه كشرب خمر وغيرها من المعاصي المتعلقة بينك وبين الله جل وعلا فإن العفو فيها أقرب، ورحمة الله واسعة، والديوان الثالث: لا بد من وقوع القصاص فيه، ألا وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً.
والحديث -إخوتي الكرام- فيه صدقة بن موسى الدقيقي ، قال الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك: ضعفوه، وهو في الحقيقة حوله كلام، وقد حكم الحافظ في التقريب بأنه صدوق وله أوهام، وإذا كان صدوقاً فحديثه -إن شاء الله- في درجة الحسن، لكن يخشى أن يكون هذا الحديث مما وهم فيه، وقد أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، فهو من رجال البخاري في الأدب المفرد، وهو من رجال أبي داود في السنن والإمام الترمذي كذلك. وفيه أيضاً يزيد بن بابنوس ، قال الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك: أيضاً فيه جهالة، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه مقبول، وحديثه يقبل إذا توبع أو وجد له شاهد مقبول، وهو من رجال البخاري أيضاً في الأدب المفرد، وأبي داود في السنن، والإمام النسائي في السنن، وأخرج له الإمام الترمذي في الشمائل.
وهذا الحديث -إخوتي الكرام- له شواهد يرتقي بها -إن شاء الله- إلى درجة القبول، وقد أشار إلى ذلك الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الرابع صفحة ست عشرة، وعزا هذا الحديث للإمام أحمد في المسند، والإمام الحاكم في المستدرك من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، بهذا اللفظ الذي ذكرته، وانظروا الحديث في المستدرك في الجزء الرابع صفحة خمس وسبعين وخمسمائة، يقول الإمام العراقي : وله شاهد من حديث سلمان -أي: سلمان الفارسي - رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، وأزيد على كلام الإمام العراقي : ورواه الإمام الطبراني أيضاً في معجمه الصغير، فحديث سلمان بمعنى حديث أمنا عائشة رواه الطبراني في معجمه الكبير وفي معجمه الصغير كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ثمان وأربعين وثلاثمائة، هذا الذي اقتصر عليه الإمام العراقي.
وله شاهدان آخران: شاهد من حديث أبي هريرة رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، وشاهد من حديث أنس رواه البزار كما في مجمع الزوائد في المكان المشار إليه آنفاً في الجزء العاشر صفحة ثمان وأربعين وثلاثمائة.
ومعنى الحديث صحيح تشهد له أصول الشرع وقواعده، فالشرك لا يغفر، وظلم العباد بعضهم بعضاً -كما تقدم معنا في موعظة البارحة- لا بد فيه من القصاص، وقلنا: إن الأحاديث التي دلت على أن الله يتحمل التبعات ويعفو عن حقوق العباد والمخلوقات، هي فيما لو صدرت من الإنسان توبة إلى ربه عز وجل، ولم يمكنه أن يؤدي الحقوق إلى أهلها لكثرتها ولعجزه عن أدائها، فالله يتحمل عنه فهو الغني الكريم سبحانه وتعالى.
وأما الكبائر التي بينك وبين ربك فالعفو فيها أقرب؛ لأن حقوق الله مبنية على المسامحة والمساهلة، وحقوق العباد على المشاحة والمماسكة. وهذا الحديث -إخوتي الكرام- يشهد للتفصيل الذي تقدم معنا سابقاً.
إخوتي الكرام! موضوعنا هو كيفية خروج الخطايا من أعضاء المتوضئ.
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا غسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء)، ما كيفية هذا الخروج؟
إخوتي الكرام! هذا الموضوع ذكرته لأنبه على محظور ينبغي أن نطرحه في مثل هذه الأمور، وسيأتينا بكثرة، عنيت به كثير من كتب التفسير والحديث، وحقيقةً شغل المسلمون بهذه المباحث وهم في غنية عنها لو أنهم رجعوا إلى عقولهم الصريحة ودينهم الصحيح، والكلام دائماً في مثل هذه الأمور: إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب، ونحن نعلم معنى الخروج ولا داعي أن يبحث بعد ذلك في كيفية هذا الخروج وحقيقته، وهل هو حقيقة أو مجاز، وعلى أي شيء يحمل، هذا جر بعد ذلك من دخلوا في هذه المباحث إلى مهالك، بل في نهاية الأمر توسعوا، فبعضهم دخل في صفات الله وأراد أن يعلم هل هي حقيقة أو مجاز حتى يؤولها، وبعضهم اختص بالأمر أكثر فجاء إلى موضوع الملائكة والجن، وأراد أن يؤول هذه المذكورات، ففي الملائكة يقول: قوى الخير في الإنسان، وفي الجن والشياطين قوى الشر في الإنسان، وبعضهم تعمق فجاء إلى نعيم الجنة وعذاب النار، وحمله كله على أنه من باب الكناية والمجاز والرمز والإشارة وراحة يجدها الإنسان في نفسه أو قلق يجده في نفسه وانتهى الأمر، ولا جنة ولا نار، هذا هو نتيجة من يعول على عقله وهوسه ويعرض عن شرع ربه، فعندما يتعمق الإنسان في هذه الجزئيات حقيقةً سيقع بعد ذلك في أشنع البليات؛ ولذلك سأذكر هذا المبحث وما قيل فيه وإن كان الكلام في هذه الجزئية يسيراً، لكن أريد أن أسد هذا الباب مباشرةً، وأما الأمور التي لا تدركها عقولنا ولا تقف عليها حواسنا فيجب السكوت عنها، ومعرفة أصل المعنى واضح لنا، فقوله: (خرجت خطاياه) معناه هذا الخروج المعروف مع الماء، وأما كيفيته فلا دخل للإنسان فيها وليس مسؤولاً عنها، فالله هو الذي سيخرج هذه الخطايا وهو أعلم بها، وليس للإنسان أن يبحث كيف خرجت؟ وهل هذا كناية أو إشارة؟ وهل هناك على اللسان أو لا؟ هذا غلط، وكل شيء له ما يناسبه من موازين واعتبارات، فليس ميزان الحرارة كميزان البدن، وليس ميزان الضغط كميزان البدن، وليس ميزان الذهب كميزان البصل، يعني إذا قلنا: الحرارة لها ميزان ينبغي ألا تأتي وتقول إذاً: إنسان يجلس وعليه بعد ذلك أنه صار كذا من الكيلو والحرارة إذا بلغ كذا صارت حرارته كذا، وإذا نقص حرارته كذا، فلها ميزان يناسبها، وله ميزان يناسبه، قوة الإبصار تكون عشرة من عشرة أو سبعة من عشرة هذا له ميزان يناسبه.
عند الله جل وعلا ميزان توزن به الحسنات والسيئات، فهو ميزان يوزن به حقيقة لكن كيفيته لا دخل لك بها، أنت أدركت أصل المعنى وهو أن الميزان شيء يوزن به، وهناك موازين متعددة، فهناك ميزان حسنات وسيئات، وميزان حرارة، وميزان ضغط، وميزان ثقل... إلخ، وكل واحد يناسب الموزون فيه، فأنت إذا قلنا لك: الحرارة توزن، ينبغي أن لا تتخيل ميزان الكيلو توضع وصنجات من الحديد من أجل أن تعلم أن هذا الوزن سيقع كذلك، لا ثم لا، وهنا كذلك إذا قلنا: الروح تدخل في البدن وتخرج منه، هل يلزم من دخولها في البدن وخروجها من البدن فتح نافذة في البدن وإغلاقها؟ لا، هذه دخولها وخروجها يناسبها، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] ، أنت ما تستطيع ببدنك أن تدخل ولا أن تخرج إلى مكان إلا إذا كان فيه باب أو نافذة تدخل منهما وتخرج منهما، وإذا أغلقنا عليك الأبواب والنوافذ لم تستطع أن تدخل ولا أن تخرج، إذا كنت في الخارج لا تستطيع الدخول، وإذا كنت في الداخل لا تستطيع الخروج، أما الروح فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87].
فمن قال في خروج روح الميت: ماذا خرج؟ ما رأينا شيئاً، قلنا: هذه روح من عالم آخر ولا يلزم من خروجها ما يلزم من خروج البدن، فلكل موصوف صفة تناسبه.
وهذا المبحث حقيقةً لو وعاه البشر لاستغنوا عن كثير من الفضول الذي شحنت به الكتب لا سيما فيما يتعلق بصفات الله جل وعلا، فمثلاً: لما نأتي لقول الله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ونقول: يدان مباركتان عظيمتان لذي الجلال والإكرام، يأتي مباشرةً يتوهم ويتخيل من يدي الله ما يتخيله من يديه، ويقول: هذا تمثيل لا يجوز، إذاً لا بد من إخراج النص عن ظاهره، والتلاعب بتحويله وصرفه إلى معنىً بعيد، فيقول: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي: بقدرتي، أو بنعمتي؛ لأن اليد تأتي بمعنى القدرة وتأتي بمعنى النعمة، فالله خلق آدم نعمةً من الله على آدم بدون أسباب ظاهرة، أي: ما جاء عن طريق ذكر وأنثى بل تم بنعمة الله أو بقوة الله وقدرته، أو بالقوة والنعمة، أما إثبات اليدين فلا يجوز. فنقول له: ألا تستحي من الله، نص ذكره الله يتمدح به ويصف نفسه بهذه الصفة الجليلة الجميلة سبحانه وتعالى، أن له يدين ثم تأتي وتقول: لا يجوز، هل اطلعت على الله؟! حتى تأتي وتقول: هذا لا يجوز! أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:78] ، كيف تتكلم في هذه الأمور التي لا تدركها بعقلك ولا تصل إليها بحواسك؟! الكلام في هذا متاهة وضلال، إذاً ماذا نقول؟ نقول: أصل الصفة معلوم -اليدان معلومتان- والكيفية مجهولة، يعني: إذا قلت: للصرصور عينان، هل يلزم من إثبات العينين للصرصور أن تكون عينا الصرصور كعيني الإنسان؟ لا، ولو قلت لإنسان: عيناك كعيني الصرصور يعتبر هذا من أشنع ألفاظ الشتم، ولا يقال هذا إلا على سبيل المشاتمة والمخاصمة والتحقير، وإذا قلت له: بطنك كبطن الدب، وأنفك كرأس العقرب أو ما شاكل هذا، هذه ألفاظ مشاتمة تقال للإنسان، إذاً: لم عندما يصف الله نفسه بصفة تأتي وتقول: هذه الصفة لو ثبتت للزم أن تكون كصفاتنا؟ لم ساء ظنك بربك؟ هل ذات الله كذواتنا حتى تكون صفاته كصفاتنا؟!
وسأقرب لك ماهية هذا العقل ووظيفته؛ وفي أي مجال يبحث ويجول ويصول، ومتى يجب عليه أن يقف حتى لا تقع في الردى والهلاك وأنت لا تدري.
إخوتي الكرام! لكيفية خروج الخطايا ذكر أئمتنا في ذلك ثلاثة أقوال:
القول بأن خروج الخطايا أثناء الوضوء مجاز عن المغفرة والرد عليه
في الحقيقة في هذا شيء من التكلف، وقد قال به بعض الأئمة الكرام كالقاضي عياض عليه رحمة الله، وأبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي حيث يقول: المعاصي التي يفعلها الإنسان وتغفر له إذا توضأ، أفعال وأعراض لا تبقى، فكيف توصف بدخول وخروج، لكن الباري جل وعلا لما أوقف المغفرة على الطهارة الكاملة في العضو ضرب لذلك مثلاً لخروج الخطايا من ذلك العضو، يعني: هذا تمثيل للمغفرة، فهو كما لو كان على عضوك شيء محسوس يزول بغسله، فهكذا الذنوب تغفر، لكن في الحقيقة ليس هناك بهذه الأعضاء شيء محسوس ولا خروج لمعصية إنما هي المغفرة.
هذا القول -إخوتي الكرام- باطل مع جلالة من قال به، وكما قلت: إذا أردنا أن نسترسل في هذه التأويلات بالأمور التي لا تقف عليها عقول المخلوقات سنصل إلى أشنع المتاهات في نهاية الأمر.
فمعنى خرجت معروف أم لا؟ يعرفه نساء البادية، فلو قلت لها: ما معنى خرجت الخطايا؟ تقول: الخروج معروف. فهو خروج يلزم منه المغفرة قطعاً وجزماً، لكن كيفية الخروج أنت لا تبحث فيه، هذا أمر مغيب، وأنت بشر مخلوق ما أوتيت من العلم إلا قليلاً، فلا تتطاول لما هو أعلى منك، ولا ترفع نفسك فوق قدرك، فهذه روح بين جنبيك لا تعرف حقيقتها لا أنت ولا أهل الأرض بأسرهم، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، إذا وعيت ذلك، فلماذا تسترسل وتبحث في هذه الأشياء التي أخبر عنها الشارع! قل: خرجت، وانتهى الأمر.
ولذلك إخوتي الكرام أكمل الناس عقولاً الصحابة الكرام، ما بحثوا في شيء من ذلك، فقد سمعوا قوله: (خرجت خطاياه) ولم يخطر ببال أحدٍ أن يبحث في كيفية هذا الخروج، وكذلك أيضاً صفات الله ما سأل صحابي عن كيفية صفة من صفات ربنا القوي، يعني: يسمع أن الله استوى على العرش ولا يقول: كيف استوى؟ فلماذا تلوثت الأذهان بعد ذلك فجاء من يقول: كيف استوى؟ ويسمع أن الله يضحك سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، ولا يخطر في باله أن يسأل كيف يضحك؟ لأنه معلوم أن كل صفة تناسب الموصوف، فإذا كانت ذات الله ليست كذواتنا فصفاته ليست كصفاتنا، وما أحد سأل كيف ينزل ربنا جل وعلا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؟ لأن نزولك أنت يناسب جسمك، ونزول روحك وخروجها وارتفاعها يناسب الروح، ونزول الله جل وعلا يناسب ذاته، أما أن تأتي وتتوهم لهذا النزول كيفية من الكيفيات فكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك:
والعجز عن درك الإدراك إدراك والبحث في كنه ذات الإله إشراك
إذا قلت: أنا عاجز عن إدراك كيفية استواء الرب، وعن كيفية نزوله، وعن كيفية رحمته، ومعنى الرحمة على وجه التمام والكمال، وعن كيفية يديه، نقول: أنت عجزت؟ قال :نعم. نقول: هذا هو المطلوب منك، أن تسلم بالعجز، وأنت تقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، ولا يعلم كيفية الله إلا الله سبحانه وتعالى، أما أنت فتجهل كثيراً مما ركب فيك من صفات، فكيف ستحيط بصفات رب الأرض والسموات سبحانه وتعالى؟! قف عند حدك ولا تتجاوز طورك، وأما إرادتك أن تفهم من الخالق ما تفهمه من صفات نفسك، وإصرارك على ذلك بالتأويل والإبطال والتلاعب بمجازات وكنايات وإشارات ورموز فهذا ضلال.
وهنا -إخوتي الكرام- نقول في خروج الخطايا أنه خروج معلوم، ولا داعي للتكلف ولا أن نقول: هذا أمر معنوي وهو عرض، كيف يوصف بدخول وخروج، فهذا كناية ومجاز عن المغفرة، وليس هناك شيء خرج من الوجه ولا شيء خرج من اليد، هذا كلام باطل، مع جلالة من قال به، والتسليم بهذا سيقودنا في نهاية الأمر إلى متاهات في غير هذه المباحث، وإذا وصلنا إلى تلك المتاهات حقيقةً سنرتكب أشنع البليات، ولذلك كان ابن النفيس المتطبب الفاضل كما ينقل هذا عنه الإمام ابن تيمية يقول: ليس ثم غير مذهبين: مذهب أهل الحديث ومذهب الفلاسفة فقط، وأما مذاهب المتكلمين الذين تذبذبوا بين المحدثين والمتفلسفين هؤلاء لا من هؤلاء ولا من هؤلاء. أهل الحديث طريقتهم: أن ما هو معلوم لنا أحطنا به من كل وجه، وما هو معلوم من وجه دون وجه، الوجه الذي علمناه فهمناه، والوجه الذي لم نعرفه على وجه التمام والكمال فوضنا المعرفة لكيفيته إلى المتصف به وإلى قائله، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وهناك مذهب المتفلسفين الذين جاءوا وأنكروا كل شيء، أما المتكلمون فقد تذبذبوا، فأحياناً يثبتون وأحياناً يؤولون كما سيأتينا. وبتأويل المتكلمين لبعض نصوص الشريعة وإخراجها عن ظاهرها استطال علينا الفلاسفة وقالوا: كما يصح التأويل في هذا يصح التأويل في هذا، فكما قلتم: إن صفات الله تؤول وتخرج عن ظاهرها، وهي أكثر عدداً من النصوص التي تتحدث عن الجنة والنار، نقول إذا جاز تأويل الكثير وإخراجه عن ظاهره، يجوز تأويل القليل من باب أولى، فقالوا: لا يوجد جنة ولا نار، كيف هذا؟! قالوا: الجنة هذا رمز للراحة التي يجدها المطيع لله في هذه الحياة، والنار رمز للقلق والشقاء الذي يجده الإنسان، وهذا كفر واعتقاده زندقة والمتكلمون لا يقولون بهذا، لكن استطال الفلاسفة بهم وقالوا: أنتم إذا جاز أن تؤولوا نصوص الصفات والمغيبات فيجوز أيضاً أن نؤول ما يكون في الآخرة من نعيم وعذاب أليم، في الجنة أو في دار الجحيم، وحقيقةً القياس مقبول، إذا جاز أن تؤول في هذا يجوز أن تؤول في هذا، يعني: لم تأويلك يقبل وتأويل هذا يرد؟ لكن عندنا نحن معشر أهل الحق كل التأويل هذا يرد، وما لا يدركه العقل ولا يحيط به ولا يقف عليه من أمور الغيب، ينبغي أن يحجر على العقل وأن يقال له: قف عند حدك، وهذا ليس من مجالك ولا من أمور بحثك، وإذا وقف العقل عند هذا الحد اهتدى، ورجي له الفوز وحسن العاقبة.
هذا القول الأول. يقول: هذا مجاز وكناية وإشارة إلى المغفرة، ليس هناك شيء يخرج.
القول بأن خروج الخطايا أثناء الوضوء حقيقة
دخل رجل على عثمان بن عفان رضي الله عنه -والقصة يوردها أئمتنا في ترجمة عثمان ويذكرها الإمام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان- فقال عثمان : يدخل علي أحدكم وفي عينيه أثر الزنا، فأطرق الرجل وقال: يا خليفة رسول الله! أوحي إليك بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! يعني: نزل عليك وحي يخبرك بما فعلت؟ قال: لا، ولكن فراسة صادقة، فقال: أتوب إلى الله ولا أعود.
الإمام السيوطي يقول: يوجد ظلمة وهذه الظلمة كما لو أتينا بصباغ أسود ودهنا أعضاءك هذا يراه كل أحد، لكن ظلمة المعاصي لا يراها إلا أرباب الأحوال.
ولا أحد يخطر بباله أننا دخلنا في طور التخريف والخرافة، فنعوذ بالله من التخريف والمخرفين؛ لأنه حقيقةً بعض العقول الخفاشية في هذا البلد وفي كل بلد، عندما يسمعون شيئاً من ذلك يظنون أن الذي يقول هذا دخل في طور التخريف وذهب كما يقولون إلى هوس التصوف وخرافاتهم، ونحن نعوذ بالله من كل خرافة وتخريف وكل بدعة ومبتدع، ونحن نلتزم -إن شاء الله- بالحق والسنة، وأسأل الله جل وعلا أن يحيينا وأن يميتنا على ذلك، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
عموماً هذا حق، أرباب الأحوال الصالحين يدركون هذا.
ثبت في البزار ومعجم الطبراني الأوسط بسند كالشمس في رابعة النهار، والحديث رواه الإمام القضاعي في مسند الشهاب، وإسناده كما قلت صحيح، انظروه في المجمع في الجزء العاشر صفحة ثمان وستين ومائتين، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، أي: إذا نظر فيه وتأمله يعرفه ويعرف حقيقته، صالح أم طالح، تقي أم شقي، وجهه فيه نور الطاعة أو ظلمة المعصية.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت هذا في كتاب مجمل الاعتقاد للإمام البيهقي : لا ينظر إلى شيء ويقول: أراه -ليس أراه بالتحقيق والعلم، إنما غلبة الظن- إلا كان كما يقول. يقول هذا: أراه كذا، فيكون كما يقول.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما في كتاب الاعتقاد على مذهب السلف للإمام البيهقي : كنا نتحدث أن عمر بن الخطاب ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فـ
قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح: وقول النبي عليه الصلاة والسلام (فإن يكن في أمتي أحد) أورده مورد التحقيق لا التردد، أي: ليس إذا كان في أمتي محدثون فسيكون عمر منهم، إذا كان وقد لا يكون فـعمر إذاً ليس بمحدث إذا لم يكن في هذه الأمة محدثون، يقول: ليس المعنى كذلك، إنما المعنى: وأمتي أفضل الأمم، ومزاياها أكثر المزايا، فإذا وجدت هذه الميزة في الأمم السابقة، وكان فيها محدثون ملهمون مكاشفون متفرسون، فهذه الأمة من باب أولى أن يكون فيها ذلك وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وما قال: أراه كذا إلا كان كما يقول.
وقصة قوله وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل. ألف أئمتنا فيها أجزاءً مستقلة في طرقها واستفاضتها، منهم الحافظ الحلبي وإسنادها صحيح مستفيض، فبينما هو يخطب على منبر النبي عليه الصلاة والسلام وسارية في بلاد نهاوند في قتال مع الفرس، وهو في سفح الجبل -في أصل الجبل- والفرس يأتون من الناحية الثانية ليكونوا في الأعلى والذروة ويرشقوهم بعد ذلك بسهام كالمطر، وهو على المنبر كشف الله له عن حقيقة الأمر وأكرمه بوصول صوته إلى قائده وأمير الجيش، فقال: يا سارية ! الجبل الجبل. ارق الجبل، فسمع سارية الصوت ورقى الجبل ونصر الله المسلمين.
هذه القصة -كما قلت- لا خلاف في ثبوتها، لكن يأتي بعض من يلمزنا بالتخريف في هذا الزمن، ويقول: هذه القصة من ناحية السند ثابتة لكن مؤولة، وسأذكر لكم تأويله، وكيف أتى بهذا التأويل المشين ثم يرمينا نحن بالخرافات وهو ينزه نفسه من الخرافات. ماذا تؤول هذه القصة؟ قال: إن عمر بن الخطاب عندما كان يخطب على المنبر أخذته سنة فنام، فرأى في نومه جيشه في بلاد الفرس فصاح على المنبر وهو نائم: يا سارية! الجبل الجبل. فلو تنزلنا وقلنا: نعم، فكيف سمع سارية الصوت، وعمر ينام على المنبر، وهو يخطب! ومن يسمع خطبته عثمان .. علي .. الصحابة الكرام الذي كل واحد منهم يهز جبلاً؟! ينام على المنبر عمر ، ثم ينادي وهو نائم: يا سارية! أهذا تأويل؟! وبعد ذلك تقول: هذه القصة يثبتها المخرفون على أنه صاح وهو مستيقظ يخطب، من أولى بالتخريف؟ أنا أريد أن أعلم يعني: لو عرضنا تأويلك على البهائم لا على بني آدم لما قبلوه، ثم بعد ذلك تأتي وتقول: هذا من قول المخرفين أن عمر رضي الله عنه صاح على المنبر في حال صحوه ويقظته وسمعه سارية هذا تخريف! يقول: كيف يعلم الغيب؟ يا عبد الله! هذه كرامة، أكرمه الله بها، وهو على كل شيء قدير، (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم).
وورد في سنن الترمذي حيث قال عنه الترمذي : غريب وفيه ضعف، لكن روي في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة بإسناد حسن كما قال الهيثمي في المجمع، فهو من طريق أبي سعيد الخدري في الترمذي ، وتاريخ البخاري بإسناد ضعيف، ومن طريق أبي أمامة بإسناد حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] )، (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله).
حقيقةً لا يسر الإنسان سريرةً إلا وتظهر عليه، فالطاعة لها نور في الوجه وقوة في البدن، والمعصية لها ظلمة في الوجه وضعف في البدن، لكن هذا يحتاج إلى بصيرة لإدراك ذلك، ولذلك يقول الإمام السيوطي : هذه الذنوب تترك آثاراً ظاهرةً وباطنةً على الأعضاء عند فعل المعصية، وهذه الآثار لا تزول إلا بالوضوء، فإذا توضأت خرجت؛ لذلك ماء الوضوء لو كشف للإنسان عن بصيرته، وكان من هؤلاء العباد، لرأى نتناً وظلمةً ورائحةً كريهةً لهذا الوضوء الذي يتوضأ به الإنسان، هذا كما لو غسلت نجاسةً ودماً لرأيت كيف يخرج بالماء، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (خرجت) شيء خرج، كان على الأعضاء ونزل إذا توضأت.
قال الإمام السيوطي : ويشهد لهذا ما وردت به نصوص الشرع وصرحت به من أن الإنسان إذا أذنب تعتريه ظلمة ظاهرة وباطنة.
أما الباطنة فيقول: ثبت في المسند وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان وإسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء) هذه النكتة حقيقة، لكن هذا -كما قلت- أمر باطني مخفي عنا في القلب، (فإن تاب واستغفر صقل قلبه) أي: أزيل وجلي وذهب عنه هذا الدنس الذي حل به، كإناء صار فيه قطرة من السواد صقلته وغسلته بالجلاية، (فإن زاد -أي لم يتب- زادت حتى تعلو -أي هذه النقطة السوداء- قلبه، وذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ) ران عليه وغطى عليه وحجبه وصارت بأكنة، أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] صارت في هذه الحالة من كثرة الذنوب والسواد، (فيصبح القلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
إذاً هناك ظلمة حقيقة، وهي الآن باطن غير مرئي بالأعين.
وأما الظلمة الظاهرة فيقول: ورد في الشرع ما يدل على هذا، أين ما يدل؟ قال: الحجر الأسود نزل من الجنة كما سأذكر الحديث، وكان قطعةً من فضة يتلألأ أشد تلألؤاً وصفاءً وبياضاً وإشراقاً من اللبن، من الذي سوده؟ خطايانا، إذاً هذه الذنوب كسته ظلمة، هل ظلمة حسية أو معنوية؟ حسية مرئية، فقد كان أبيض يتلألأ واسود بذنوبنا كما صرح بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن خزيمة ، والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، ورواه الإمام أحمد في المسند، وإسناد الحديث صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن، وإنما سودته خطايا بني آدم)، أما يأتي العباد يستلمونه ويقبلونه وهم أهل ذنوب وعيوب؟ هذه الذنوب أثرت في ذلك الحجر واسود حتى صار بهذا السواد الذي ترونه في هذه الأيام.
إذاً: أثرت الذنوب فيه تأثيراً حسياً ظاهراً، كما أنها أثرت في القلب تأثيراً باطنياً، فالذنوب تؤثر على الظاهر وعلى الباطن، وأنت ترى بالبصر وبالبصيرة، فرؤيا أثر الذنوب بالبصر ظاهر لكل أحد في الحجر الأسود، وهذا الحجر الأسود كل من استلمه أو من قبله بحق يشهد له يوم القيامة، والله جل وعلا يبعث الحجر الأسود يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق لمن استلمه بحق كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام، كما في سنن الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وصححه وأقره عليه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، والحديث نص على تصحيحه الإمام المنذري عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولساناً ينطق يشهد لمن استلمه بحق).
إذاً: يقول السيوطي : هذا الخروج خروجاً حقيقياً، ليس بمجاز ولا كناية ولا إشارة إلى المغفرة، إنما هناك شيء خرج حقيقةً من هذه الأعضاء، كان فيها ظلمة حسية ظاهرة وباطنة فخرجت عندما توضأ الإنسان وصار نقياً من الذنوب.
وحقيقةً هذا هو المعنى الحق، والذي ينبغي أن يعظ عليه المسلم بالنواجذ، وأن يقول: هذا الخروج خروج حقيقي بالكيفية التي يعلمها الله، ولا داعي أن نقول: هذا مجاز لكذا وكناية عن كذا.
القول بأن الخطايا تخرج أثناء الوضوء كعرض في عالم المثال والرد على القائلين به
الإمام السيوطي أراد أن يقرر الأمر الثالث عالم المثال بحديث كأنه يرى أنه يدل على عالم المثال، أنا أذكره وأقول: إنه يدل على الأمر الثاني لا على عالم المثال.
والحديث -إخوتي الكرام- صحيح، رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه أبو نعيم في الحلية في الجزء السادس صفحة مائة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الثالث صفحة عشرة، وانظروا الحديث في المجمع في الجزء الأول صفحة ثلاثمائة، ورواه الإمام ابن نصر في كتاب الصلاة -محمد بن نصر - وفي كتاب فضل قيام الليل، وإسناد الحديث حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه، فكلما ركع أو سجد تساقطت ....)، إذا قام العبد يصلي يؤتى بذنوبه فتكون فوق رأسه، فعندما يركع ويسجد تتساقط هذه الذنوب حتى ينتهي من الصلاة وقد سقطت، فيقول الإمام السيوطي: هذا دليل على عالم المثال، أي: أن هذه الخطايا وضعت فوق رأسه إشارة إلى عالم المثال الذي توجد فيه هذه الخطايا، إذاً لها جسم محسوس في عالم المثال.
والحديث في الحقيقة لا دليل فيه على إثبات عالم المثال ولا تعرض له، لكن ما المانع أن الملائكة الكرام إذا قام الإنسان يصلي وقفت -وهي الموكلة بصحف الأعمال والتقييد- فوق رأسه ومعها هذه الخطايا، فكلما يركع تؤمر من قبل الله بأن تمحو بعض الذنوب بمقدار ركوعه، وإذا سجد تمحو بعض الذنوب بمقدار سجوده، فتمحى هذه الذنوب من السجلات التي سطرت عليه من قبل الكرام الكاتبين؟ واضح هذا؟ وليس في ذلك إشارة إلى عالم المثال، بل ملائكة موكلة بكتابة أعمالك وتقييدها، فأنت عندما تصلي تقف فوق رأسك، وهذه الملائكة كلما تأتي بركن من أركان الصلاة تمحو بعض الخطايا حتى إذا انتهت الصلاة ما بقي عليك خطيئة، ورحمة الله واسعة.
إذاً: ليس في ذلك إشارة إلى عالم المثال وأن هذه الخطايا هي مستقلة بنفسها ولها وجود وظهور وبروز، ولا أقول: عندنا ما ينفي هذا ولا ما يثبته، لكن عدم اختراع الاصطلاحات أولى؛ لأنه ما ورد في الشرع الإشارة إلى عالم المثال، فلم نخترعه؟ إنما نقول هنا: خطاياه صارت فوق رأسه من قبل الملائكة المكلفين، وهذا حق على حقيقته وليس في الحديث تأويل، ولا شطط بالانحراف عن المعنى، بل نقول: أتت الملائكة بهذه الخطايا في الصحف التي كتبتها فوق رأسه، فكلما سجد وركع غفر منها حتى إذا انتهت الصلاة ذهبت هذه الخطايا، ورحمة الله واسعة.
والحديث من رواية ابن عمر -كما قلت إخوتي الكرام- وإسناده حسن، وروي أيضاً الحديث عن سلمان الفارسي في معجم الطبراني الكبير ومعجم الطبراني الصغير، رواه البزار في مسنده من رواية أشعث بن أبي أشعث السعداني ، قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الأول صفحة سبع وثلاثين ومائتين: لم أقف على ترجمته. يقول: رجاله ثقات، لكن فيه أشعث بن أبي أشعث السعداني لم أقف على ترجمته، وهو مترجم في الميزان ولسان الميزان في الجزء الأول صفحة أربع وخمسين وأربعمائة، قال الحافظ ابن حجر : أورده ابن حبان في الثقات، وقال: ثقة يغرب، يعني: يأتي بغرائب، وقال البزار : ليس به بأس. ولفظ حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المسلم يصلي وخطاياه مرفوعة على رأسه، كلما سجد تحاتت عنه فيفرغ من صلاته وقد تحاتت عنه خطاياه) يعني: ذهبت ومحيت وغفرت وأزيلت من هذه الصحف التي سطرت عليه في هذه الصلاة.
فهذا الحديث -كما قلت- يشير إلى أن المغفرة تقع للإنسان، وهناك خروج يخرج من الأعضاء، والخطيئة التي كتبت في الصحف تزال وتمحى، فهناك خروج لظلمة من اليد، وهناك محو ومغفرة لخطايا كتبت في الصحف، وهذا المعنى هو الحق، ولا داعي أن نقول: إشارة إلى المغفرة ومجاز عنها وكناية، ولا داعي أن نقول: عالم مثال، بل المتوضئ المصلي يحصل له أمران: أعضاؤه تتنور فيزول ما حل بها من ظلمة، ثم بعد ذلك الخطايا التي كتبت في الصحف تمحى بفضل الله ورحمته، كما دل على ذلك هذه الأحاديث.
هذه الأقوال الثلاثة إخوتي الكرام! أوردها أئمتنا في بيان كيفية خروج الخطايا من الذنوب أرجحها أوسطها، وكما قلت: هذا البحث سنقف عنده وقفة يسيرة لتكون هذه الوقفة بعد ذلك هي القاعدة عندنا في مثل هذه الأبحاث، فنقول: ارجعوا إلى ما تقدم ولا داعي لإعادة ذكر ما يأتينا من نظائر لهذا المعنى.
القول الأول: قالوا: هذا الخروج مجاز عن المغفرة. (خرجت خطاياه من وجهه) يعني: غفرت، ( خرجت خطاياه من يديه ) غفرت، ( خرجت خطاياه من رجليه ) غفرت، ... إلخ، لم تقولون هذا؟ قالوا: لأن أفعال الوضوء التي تقوم بها يترتب عليها خروج السيئات والخطايا، والسيئات في حقيقتها معاص عملتها قولية أو فعلها، فهي في حقيقتها عرض لا يقوم بنفسه، وهو معصية الله، هذا العرض الذي لا يقوم بنفسه ليس له جرم، وليس له شكل، وليس له حيز، أي ليس بمشاهد، ولا يوجد، فمثلاً: عندما نظرت إلى امرأة نظر الحرام، هذه خطيئة فهل هذا النظر له جرم مشاهد أو وزن؟! يعني: هل يظهر ظهوراً تراه بعينيك كالإصبع أو كاليد أو كالحجرة أو كالساعة؟! لا، هذا عرض، كذلك الكلام عرض لا يوجد عندما تكلمت، والوضوء أيضاً، فعندما توضأت وخرجت الخطايا من فمك كل هذه الخطايا أعراض ليست أجسام قائمة بنفسها، والعرض: شيء معنوي لا يوصف بدخول ولا خروج، فهذا كناية ومجاز عن المغفرة، (خرجت خطاياه من وجهه) أي: غفرت خطاياه، لكن لم قال إذاً: خرجت وأطال الكلام وما قال من البداية: غفرت وانتهى الأمر؟
في الحقيقة في هذا شيء من التكلف، وقد قال به بعض الأئمة الكرام كالقاضي عياض عليه رحمة الله، وأبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي حيث يقول: المعاصي التي يفعلها الإنسان وتغفر له إذا توضأ، أفعال وأعراض لا تبقى، فكيف توصف بدخول وخروج، لكن الباري جل وعلا لما أوقف المغفرة على الطهارة الكاملة في العضو ضرب لذلك مثلاً لخروج الخطايا من ذلك العضو، يعني: هذا تمثيل للمغفرة، فهو كما لو كان على عضوك شيء محسوس يزول بغسله، فهكذا الذنوب تغفر، لكن في الحقيقة ليس هناك بهذه الأعضاء شيء محسوس ولا خروج لمعصية إنما هي المغفرة.
هذا القول -إخوتي الكرام- باطل مع جلالة من قال به، وكما قلت: إذا أردنا أن نسترسل في هذه التأويلات بالأمور التي لا تقف عليها عقول المخلوقات سنصل إلى أشنع المتاهات في نهاية الأمر.
فمعنى خرجت معروف أم لا؟ يعرفه نساء البادية، فلو قلت لها: ما معنى خرجت الخطايا؟ تقول: الخروج معروف. فهو خروج يلزم منه المغفرة قطعاً وجزماً، لكن كيفية الخروج أنت لا تبحث فيه، هذا أمر مغيب، وأنت بشر مخلوق ما أوتيت من العلم إلا قليلاً، فلا تتطاول لما هو أعلى منك، ولا ترفع نفسك فوق قدرك، فهذه روح بين جنبيك لا تعرف حقيقتها لا أنت ولا أهل الأرض بأسرهم، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، إذا وعيت ذلك، فلماذا تسترسل وتبحث في هذه الأشياء التي أخبر عنها الشارع! قل: خرجت، وانتهى الأمر.
ولذلك إخوتي الكرام أكمل الناس عقولاً الصحابة الكرام، ما بحثوا في شيء من ذلك، فقد سمعوا قوله: (خرجت خطاياه) ولم يخطر ببال أحدٍ أن يبحث في كيفية هذا الخروج، وكذلك أيضاً صفات الله ما سأل صحابي عن كيفية صفة من صفات ربنا القوي، يعني: يسمع أن الله استوى على العرش ولا يقول: كيف استوى؟ فلماذا تلوثت الأذهان بعد ذلك فجاء من يقول: كيف استوى؟ ويسمع أن الله يضحك سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، ولا يخطر في باله أن يسأل كيف يضحك؟ لأنه معلوم أن كل صفة تناسب الموصوف، فإذا كانت ذات الله ليست كذواتنا فصفاته ليست كصفاتنا، وما أحد سأل كيف ينزل ربنا جل وعلا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؟ لأن نزولك أنت يناسب جسمك، ونزول روحك وخروجها وارتفاعها يناسب الروح، ونزول الله جل وعلا يناسب ذاته، أما أن تأتي وتتوهم لهذا النزول كيفية من الكيفيات فكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك:
والعجز عن درك الإدراك إدراك والبحث في كنه ذات الإله إشراك
إذا قلت: أنا عاجز عن إدراك كيفية استواء الرب، وعن كيفية نزوله، وعن كيفية رحمته، ومعنى الرحمة على وجه التمام والكمال، وعن كيفية يديه، نقول: أنت عجزت؟ قال :نعم. نقول: هذا هو المطلوب منك، أن تسلم بالعجز، وأنت تقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، ولا يعلم كيفية الله إلا الله سبحانه وتعالى، أما أنت فتجهل كثيراً مما ركب فيك من صفات، فكيف ستحيط بصفات رب الأرض والسموات سبحانه وتعالى؟! قف عند حدك ولا تتجاوز طورك، وأما إرادتك أن تفهم من الخالق ما تفهمه من صفات نفسك، وإصرارك على ذلك بالتأويل والإبطال والتلاعب بمجازات وكنايات وإشارات ورموز فهذا ضلال.
وهنا -إخوتي الكرام- نقول في خروج الخطايا أنه خروج معلوم، ولا داعي للتكلف ولا أن نقول: هذا أمر معنوي وهو عرض، كيف يوصف بدخول وخروج، فهذا كناية ومجاز عن المغفرة، وليس هناك شيء خرج من الوجه ولا شيء خرج من اليد، هذا كلام باطل، مع جلالة من قال به، والتسليم بهذا سيقودنا في نهاية الأمر إلى متاهات في غير هذه المباحث، وإذا وصلنا إلى تلك المتاهات حقيقةً سنرتكب أشنع البليات، ولذلك كان ابن النفيس المتطبب الفاضل كما ينقل هذا عنه الإمام ابن تيمية يقول: ليس ثم غير مذهبين: مذهب أهل الحديث ومذهب الفلاسفة فقط، وأما مذاهب المتكلمين الذين تذبذبوا بين المحدثين والمتفلسفين هؤلاء لا من هؤلاء ولا من هؤلاء. أهل الحديث طريقتهم: أن ما هو معلوم لنا أحطنا به من كل وجه، وما هو معلوم من وجه دون وجه، الوجه الذي علمناه فهمناه، والوجه الذي لم نعرفه على وجه التمام والكمال فوضنا المعرفة لكيفيته إلى المتصف به وإلى قائله، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وهناك مذهب المتفلسفين الذين جاءوا وأنكروا كل شيء، أما المتكلمون فقد تذبذبوا، فأحياناً يثبتون وأحياناً يؤولون كما سيأتينا. وبتأويل المتكلمين لبعض نصوص الشريعة وإخراجها عن ظاهرها استطال علينا الفلاسفة وقالوا: كما يصح التأويل في هذا يصح التأويل في هذا، فكما قلتم: إن صفات الله تؤول وتخرج عن ظاهرها، وهي أكثر عدداً من النصوص التي تتحدث عن الجنة والنار، نقول إذا جاز تأويل الكثير وإخراجه عن ظاهره، يجوز تأويل القليل من باب أولى، فقالوا: لا يوجد جنة ولا نار، كيف هذا؟! قالوا: الجنة هذا رمز للراحة التي يجدها المطيع لله في هذه الحياة، والنار رمز للقلق والشقاء الذي يجده الإنسان، وهذا كفر واعتقاده زندقة والمتكلمون لا يقولون بهذا، لكن استطال الفلاسفة بهم وقالوا: أنتم إذا جاز أن تؤولوا نصوص الصفات والمغيبات فيجوز أيضاً أن نؤول ما يكون في الآخرة من نعيم وعذاب أليم، في الجنة أو في دار الجحيم، وحقيقةً القياس مقبول، إذا جاز أن تؤول في هذا يجوز أن تؤول في هذا، يعني: لم تأويلك يقبل وتأويل هذا يرد؟ لكن عندنا نحن معشر أهل الحق كل التأويل هذا يرد، وما لا يدركه العقل ولا يحيط به ولا يقف عليه من أمور الغيب، ينبغي أن يحجر على العقل وأن يقال له: قف عند حدك، وهذا ليس من مجالك ولا من أمور بحثك، وإذا وقف العقل عند هذا الحد اهتدى، ورجي له الفوز وحسن العاقبة.
هذا القول الأول. يقول: هذا مجاز وكناية وإشارة إلى المغفرة، ليس هناك شيء يخرج.
جاء الإمام السيوطي عليه رحمة الله وقال: هذا القول باطل، بل الظاهر حمل الخروج على الحقيقة، لم؟ قال: لأن الذنوب والمعاصي تورث الأعضاء سواداً وقترةً يطلع على ذلك أرباب الأحوال، وهذا السواد وهذه القترة وهذه الظلمة التي تكسى بها الأعضاء عند فعل المعاصي ظاهرةً وباطنةً، يعني: هناك معصية تورث سواداً ظاهراً فإذا عملتها اليد مثلاً صار عليها سواد، لكن هذا السواد إذا ما رأيته بعينيك ليس معنى هذا أنه لا يوجد، أما يوجد الآن في هذا الهواء الذي نشمه بيني وبينكم في هذا العالم مخلوقات تطير من جراثيم وطفيليات لا يعلمها إلا رب الأرض والسموات ولا نراها بأعيننا؟ فهل يعني هذا أنها ليست موجودة؟ وهنا كذلك اليد يصبح فيها ظلمة، وكون أكثر الناس ما رأوها ليس معنى هذا أنه لا يوجد ظلمة، يوجد ظلمة حسية كسيت بها الأعضاء عندما عصيت الله، هذه الظلمة إذا توضأت تخرج، وتتنور هذه الأعضاء وتعود إلى نظارتها وبهجتها ولمعانها وتلألئها وإشراقها، وقوله: يطلع على ذلك أرباب الأحوال، يعني: عباد الله الصالحون يدركون هذا.
دخل رجل على عثمان بن عفان رضي الله عنه -والقصة يوردها أئمتنا في ترجمة عثمان ويذكرها الإمام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان- فقال عثمان : يدخل علي أحدكم وفي عينيه أثر الزنا، فأطرق الرجل وقال: يا خليفة رسول الله! أوحي إليك بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! يعني: نزل عليك وحي يخبرك بما فعلت؟ قال: لا، ولكن فراسة صادقة، فقال: أتوب إلى الله ولا أعود.
الإمام السيوطي يقول: يوجد ظلمة وهذه الظلمة كما لو أتينا بصباغ أسود ودهنا أعضاءك هذا يراه كل أحد، لكن ظلمة المعاصي لا يراها إلا أرباب الأحوال.
ولا أحد يخطر بباله أننا دخلنا في طور التخريف والخرافة، فنعوذ بالله من التخريف والمخرفين؛ لأنه حقيقةً بعض العقول الخفاشية في هذا البلد وفي كل بلد، عندما يسمعون شيئاً من ذلك يظنون أن الذي يقول هذا دخل في طور التخريف وذهب كما يقولون إلى هوس التصوف وخرافاتهم، ونحن نعوذ بالله من كل خرافة وتخريف وكل بدعة ومبتدع، ونحن نلتزم -إن شاء الله- بالحق والسنة، وأسأل الله جل وعلا أن يحيينا وأن يميتنا على ذلك، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
عموماً هذا حق، أرباب الأحوال الصالحين يدركون هذا.
ثبت في البزار ومعجم الطبراني الأوسط بسند كالشمس في رابعة النهار، والحديث رواه الإمام القضاعي في مسند الشهاب، وإسناده كما قلت صحيح، انظروه في المجمع في الجزء العاشر صفحة ثمان وستين ومائتين، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، أي: إذا نظر فيه وتأمله يعرفه ويعرف حقيقته، صالح أم طالح، تقي أم شقي، وجهه فيه نور الطاعة أو ظلمة المعصية.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت هذا في كتاب مجمل الاعتقاد للإمام البيهقي : لا ينظر إلى شيء ويقول: أراه -ليس أراه بالتحقيق والعلم، إنما غلبة الظن- إلا كان كما يقول. يقول هذا: أراه كذا، فيكون كما يقول.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما في كتاب الاعتقاد على مذهب السلف للإمام البيهقي : كنا نتحدث أن عمر بن الخطاب ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فـ
قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح: وقول النبي عليه الصلاة والسلام (فإن يكن في أمتي أحد) أورده مورد التحقيق لا التردد، أي: ليس إذا كان في أمتي محدثون فسيكون عمر منهم، إذا كان وقد لا يكون فـعمر إذاً ليس بمحدث إذا لم يكن في هذه الأمة محدثون، يقول: ليس المعنى كذلك، إنما المعنى: وأمتي أفضل الأمم، ومزاياها أكثر المزايا، فإذا وجدت هذه الميزة في الأمم السابقة، وكان فيها محدثون ملهمون مكاشفون متفرسون، فهذه الأمة من باب أولى أن يكون فيها ذلك وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وما قال: أراه كذا إلا كان كما يقول.
وقصة قوله وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل. ألف أئمتنا فيها أجزاءً مستقلة في طرقها واستفاضتها، منهم الحافظ الحلبي وإسنادها صحيح مستفيض، فبينما هو يخطب على منبر النبي عليه الصلاة والسلام وسارية في بلاد نهاوند في قتال مع الفرس، وهو في سفح الجبل -في أصل الجبل- والفرس يأتون من الناحية الثانية ليكونوا في الأعلى والذروة ويرشقوهم بعد ذلك بسهام كالمطر، وهو على المنبر كشف الله له عن حقيقة الأمر وأكرمه بوصول صوته إلى قائده وأمير الجيش، فقال: يا سارية ! الجبل الجبل. ارق الجبل، فسمع سارية الصوت ورقى الجبل ونصر الله المسلمين.
هذه القصة -كما قلت- لا خلاف في ثبوتها، لكن يأتي بعض من يلمزنا بالتخريف في هذا الزمن، ويقول: هذه القصة من ناحية السند ثابتة لكن مؤولة، وسأذكر لكم تأويله، وكيف أتى بهذا التأويل المشين ثم يرمينا نحن بالخرافات وهو ينزه نفسه من الخرافات. ماذا تؤول هذه القصة؟ قال: إن عمر بن الخطاب عندما كان يخطب على المنبر أخذته سنة فنام، فرأى في نومه جيشه في بلاد الفرس فصاح على المنبر وهو نائم: يا سارية! الجبل الجبل. فلو تنزلنا وقلنا: نعم، فكيف سمع سارية الصوت، وعمر ينام على المنبر، وهو يخطب! ومن يسمع خطبته عثمان .. علي .. الصحابة الكرام الذي كل واحد منهم يهز جبلاً؟! ينام على المنبر عمر ، ثم ينادي وهو نائم: يا سارية! أهذا تأويل؟! وبعد ذلك تقول: هذه القصة يثبتها المخرفون على أنه صاح وهو مستيقظ يخطب، من أولى بالتخريف؟ أنا أريد أن أعلم يعني: لو عرضنا تأويلك على البهائم لا على بني آدم لما قبلوه، ثم بعد ذلك تأتي وتقول: هذا من قول المخرفين أن عمر رضي الله عنه صاح على المنبر في حال صحوه ويقظته وسمعه سارية هذا تخريف! يقول: كيف يعلم الغيب؟ يا عبد الله! هذه كرامة، أكرمه الله بها، وهو على كل شيء قدير، (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم).
وورد في سنن الترمذي حيث قال عنه الترمذي : غريب وفيه ضعف، لكن روي في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة بإسناد حسن كما قال الهيثمي في المجمع، فهو من طريق أبي سعيد الخدري في الترمذي ، وتاريخ البخاري بإسناد ضعيف، ومن طريق أبي أمامة بإسناد حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] )، (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله).
حقيقةً لا يسر الإنسان سريرةً إلا وتظهر عليه، فالطاعة لها نور في الوجه وقوة في البدن، والمعصية لها ظلمة في الوجه وضعف في البدن، لكن هذا يحتاج إلى بصيرة لإدراك ذلك، ولذلك يقول الإمام السيوطي : هذه الذنوب تترك آثاراً ظاهرةً وباطنةً على الأعضاء عند فعل المعصية، وهذه الآثار لا تزول إلا بالوضوء، فإذا توضأت خرجت؛ لذلك ماء الوضوء لو كشف للإنسان عن بصيرته، وكان من هؤلاء العباد، لرأى نتناً وظلمةً ورائحةً كريهةً لهذا الوضوء الذي يتوضأ به الإنسان، هذا كما لو غسلت نجاسةً ودماً لرأيت كيف يخرج بالماء، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (خرجت) شيء خرج، كان على الأعضاء ونزل إذا توضأت.
قال الإمام السيوطي : ويشهد لهذا ما وردت به نصوص الشرع وصرحت به من أن الإنسان إذا أذنب تعتريه ظلمة ظاهرة وباطنة.
أما الباطنة فيقول: ثبت في المسند وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان وإسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء) هذه النكتة حقيقة، لكن هذا -كما قلت- أمر باطني مخفي عنا في القلب، (فإن تاب واستغفر صقل قلبه) أي: أزيل وجلي وذهب عنه هذا الدنس الذي حل به، كإناء صار فيه قطرة من السواد صقلته وغسلته بالجلاية، (فإن زاد -أي لم يتب- زادت حتى تعلو -أي هذه النقطة السوداء- قلبه، وذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ) ران عليه وغطى عليه وحجبه وصارت بأكنة، أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] صارت في هذه الحالة من كثرة الذنوب والسواد، (فيصبح القلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).
إذاً هناك ظلمة حقيقة، وهي الآن باطن غير مرئي بالأعين.
وأما الظلمة الظاهرة فيقول: ورد في الشرع ما يدل على هذا، أين ما يدل؟ قال: الحجر الأسود نزل من الجنة كما سأذكر الحديث، وكان قطعةً من فضة يتلألأ أشد تلألؤاً وصفاءً وبياضاً وإشراقاً من اللبن، من الذي سوده؟ خطايانا، إذاً هذه الذنوب كسته ظلمة، هل ظلمة حسية أو معنوية؟ حسية مرئية، فقد كان أبيض يتلألأ واسود بذنوبنا كما صرح بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن خزيمة ، والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، ورواه الإمام أحمد في المسند، وإسناد الحديث صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن، وإنما سودته خطايا بني آدم)، أما يأتي العباد يستلمونه ويقبلونه وهم أهل ذنوب وعيوب؟ هذه الذنوب أثرت في ذلك الحجر واسود حتى صار بهذا السواد الذي ترونه في هذه الأيام.
إذاً: أثرت الذنوب فيه تأثيراً حسياً ظاهراً، كما أنها أثرت في القلب تأثيراً باطنياً، فالذنوب تؤثر على الظاهر وعلى الباطن، وأنت ترى بالبصر وبالبصيرة، فرؤيا أثر الذنوب بالبصر ظاهر لكل أحد في الحجر الأسود، وهذا الحجر الأسود كل من استلمه أو من قبله بحق يشهد له يوم القيامة، والله جل وعلا يبعث الحجر الأسود يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق لمن استلمه بحق كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام، كما في سنن الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وصححه وأقره عليه الذهبي ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، والحديث نص على تصحيحه الإمام المنذري عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود: (والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولساناً ينطق يشهد لمن استلمه بحق).
إذاً: يقول السيوطي : هذا الخروج خروجاً حقيقياً، ليس بمجاز ولا كناية ولا إشارة إلى المغفرة، إنما هناك شيء خرج حقيقةً من هذه الأعضاء، كان فيها ظلمة حسية ظاهرة وباطنة فخرجت عندما توضأ الإنسان وصار نقياً من الذنوب.
وحقيقةً هذا هو المعنى الحق، والذي ينبغي أن يعظ عليه المسلم بالنواجذ، وأن يقول: هذا الخروج خروج حقيقي بالكيفية التي يعلمها الله، ولا داعي أن نقول: هذا مجاز لكذا وكناية عن كذا.