خطب ومحاضرات
مباحث النبوة - حسن العشرة بين الزوجين [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
قبل أن نبدأ في مبحثنا هذا أحب أن أذكر أمراً ينبغي المحافظة عليه في حلق الذكر، ألا وهو: عدم الاشتغال بشيء عن سماع العلم، من تسبيح، أو تحميد، أو سبحة، أو غير ذلك، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فديننا كما قلت مراراً: لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا نقول: إن السبحة بدعة، ولا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يسبح أيضاً في مجالس العلم، لكن من الحكمة أن نضع كل شيء في موضعه، وأن نعطي كل شيء حقه، فمجالس العلم هي أفضل العبادات التي يتقرب بها المخلوقون إلى رب الأرض والسماوات، فمن ليس عنده وقت لحضورها والإصغاء إليها فبإمكانه أن يخرج، أما أن يحضر وأن يشغل نفسه بالتسبيح بسبحة أو غيرها فكل هذا يتنافى مع المطلوب عمله في حلق العلم.
ولذلك لابد من المحافظة على هذه الآداب الشرعية، ولو قدر أن إنساناً استعمل السبحة عند خطبة الجمعة فقد لغا بواسطة هذا العمل الذي يصدر منه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ( ومن لغا فلا جمعة له )، فلابد من وضع الشيء في موضعه، فإذا كان عندك سبحة وتريد أن تعد بها ما تقوم به من أوراد، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنكم أجمعين، لكن كل شيء له وقته وله محله، وفي الحديث: ( ولله حق في النهار لا يقبله في الليل، وله حق في الليل لا يقبله في النهار )، وهكذا كل عبادة لها شروط وآداب ينبغي للإنسان أن يقوم بها، فعبادة العلم ينبغي أن يتفرغ الإنسان لها، ولا يجوز أن يشغل شيئاً من جوارحه بأمر من الأمور، نعم إذا ورد ذكر الله ضمن الحديث فلا مانع أن يثني عليه، وإذا ورد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فليصل عليه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن هذا من باب التفاعل والتدبر لما يسمع ولما يتلقى، أما أن يشغل نفسه بشيء خارج عن ذلك فكل هذا كما قلت مما لا ينبغي للإنسان أن يفعله، وهو إذا فعل ذلك ضيع عبادة الذكر كما ضيع عبادة العلم التي هي رأس الذكر، فلابد كما قلت من التناصح ووضع الأمر في موضعه.
كنا ذكرنا المبحث الثالث من مباحث النبوة، وقد دار هذا المبحث حول بيان الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهي أربعة أمور مر الكلام عليها مراراً، وشرعنا في ذكر الأول منها ألا وهو النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، وفي خَلقه وخُلقه.
وقد انتهينا من ذكر هذا الشق الأول، من هذين الأمرين ألا وهو: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في خلقه وكيف يدل خلق الأنبياء على أنهم رسل رب الأرض والسماء، وانتقلنا إلى الشق الثاني من هذين الأمرين ألا وهو: النظر إلى خُلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقلت إن خلقه ينقسم إلى خلق مع الخلق، وإلى خلق مع الحق، ولذلك عدة أنواع وتفاصيل كما ذكرتها مراراً ولا أريد أن أعيد شيئاً منها، وقد انتهينا من أول الأمور السبعة من بيان خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الخلق، ألا وهو: خلقه مع أهله الكرام على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام.
وبعد أن انتهينا من هذا قلت: إن من تأمل بيت النبوة وما كان يجري من نبينا عليه الصلاة والسلام من خلق نحو أمهاتنا الطيبات الطاهرات لا يرتاب في أنه رسول رب الأرض والسماوات عليه صلوات الله وسلامه، وكان علينا حسب الترتيب أن ننتقل إلى الأمر الثاني ألا وهو: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه والمؤمنين من أمته، لكن كما قلت عندنا فصل مستطرد، وهذا الفصل سيطول، كما أن مبحث النبوة سيطول ويطول، وقال لي بعض إخوتي: أتتوقع أن ينتهي في سنة؟ قلت: إن انتهى في عشر سنين فهذه نعمة من رب العالمين، مبحث النبوة الذي ذكرناه، ونحن نمشي بين مبحثنا، إن انتهينا منه في سنة، أو فيما هو أقل من ذلك، ما الذي يضيرنا، ومن الذي يتابعنا ويطالبنا بالانتهاء ويضربنا، وهل لابد من وقت محدد ننتهي منه فيه؟
مبحث النبوة بمباحثه العشرة التي سنذكرها ونحن الآن في أول المبحث الثالث، إذا انتهينا من مبحث النبوة في عشر سنين هذه منة ونعمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
كما قلت عندنا فصل مستطرد، هذا الفصل في ترجمة أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فبعد أن تدارسنا خلق النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه مع أهله لابد من معرفة أهله، وقلت هذا يدعونا إلى أن نتكلم عن الحكمة من اقتران نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر من أربع نسوة، وهذا يدعونا إلى بيان حكمة التعدد في الإسلام، وهذا يدعونا بعد ذلك إلى بيان الحكمة من مشروعية النكاح، لنعلم منزلة النكاح، ومكانة التعدد، والحكم التي من أجلها عدد نبينا عليه الصلاة والسلام زيادة على الأمة، وقلت: إن الحكم العامة من مشروعية النكاح خمس حكم، والحكم من التعدد في أفراد الأمة عشر حكم، والحكم من التعدد في حق النبي عليه الصلاة والسلام زيادة على ما شرع للأمة أيضاً عشر حكم، فهذه كما قلت خمس وعشرون حكمة لابد من مدارستها.
بدأنا في الحكم العامة من مشروعية النكاح ومن مقاصد النكاح، وقلت: في ذلك خمس حكم؛ أولها: كما تقدم معنا تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية حسية أو معنوية، وثانيها: إنجاب الذرية التي توحد رب البرية، وقلت: إن في ذلك فوائد كثيرة أجملتها في خمس فوائد وفصلت الكلام عليها، والحكمة الثالثة من مشروعية النكاح ومقاصده العامة: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه، والحكمة الرابعة: تذكر لذة الآخرة، والخامسة: ارتفاق كل من الزوجين بزوجه بصاحبه. وبأسرة زوجه وأقاربه.
وكنا ذكرنا الحكمة الثالثة بعد أن انتهينا من الحكمة الأولى والثانية، والحكمة الثالثة كما قلت هي: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل من الزوجين لصاحبه، وقلت إن الزوج يحصل أجراً كثيراً عندما يتزوج، وعندما يحسن خلقه مع زوجته، وعندما ينفق عليها، وهي تحصل أجراً كثيراً عندما تتزوج، وعندما تحسن خلقها ومعاملتها مع زوجها، وعندما تساعده إذا كان عندها مال تساعده به في النفقة، هذه أربعة أمور في كل من الزوجين أمران يحصل بهما أجر كبير عند ذي الجلال والإكرام، وهذا من مقاصد النكاح، وتقدم معنا كما أن النفقة على الولد تزيد على النفقة في الصدقة، وفي الجهاد، وفي العتق كما تقدم معنا، فالنفقة على الزوجة تزيد أجراً أيضا على تلك الأمور، بل تزيد أجراً على النفقة على الولد كما سيأتينا إن شاء الله.
بدأنا في الأمر الأول من هذه الأمور الأربعة، وبالأمر الأول من الأمرين في حق الزوج ألا وهو: حسن خلق الزوج مع زوجته، وتقدم معنا باختصار أن خير هذه الأمة خيره لنسائه، وخير المؤمنين خيرهم لأزواجه، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق على الإطلاق في تعامله مع أزواجه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وعند هذا المبحث تكلمت على موضوع فشا ولاسيما في هذا الوقت، ومن بعض من ظاهرهم الالتزام، ألا وهو إساءة العشرة الزوجية ومد اليد بالضرب، وأحياناً الضرب لا يكون ضمن الحدود الشرعية، فقلت: هذا مما ينبغي أن يتنزه عنه الإنسان، لأمور: أولاً: أن من ضرب خرج من عداد الخيار، مهما كان نوع الضرب، وإذا كان الضرب مبرحاً فقد عصى الله والتحق بزمرة الأشرار، وسيوقف أمام العزيز القهار للحساب في دار القرار، فلابد من وضع الأمر في موضعه، لو قدر أنك ضربت ضرباً غير مبرح ولم يظهر له أثر، فلم يخدش جلداً ولم يكسر عظماً، ولم يترك أثراً، كما كان أئمتنا يقولون: إما بالسواك، وإما بشيء من الخرقة كالمنديل يضربها به ولا يترك هذا أثراً على جلدها، وقلت: إن المقصود من الضرب أن يبين لزوجه أنه متأثر منها، وأنه غير مرتاح لتصرفها، فإن عدلت المسلك وإلا بعد ذلك إما أن يصبر وإلا يغني الله كلاً من سعته، أما أن يضرب هذه المرأة فهذا كما قلت: إن كان ضرباً مبرحاً فهو لا يجوز، وإذا ضرب ضرباً غير مبرح فقد رخص له في هذا ولا يجوز لأحد من خلق الله أن يسأله لم ضرب إذا كان الضرب بالصفة الشرعية غير مبرح؟ لكن مع ذلك بمجرد ما رفع يده على زوجه خرج من عداد الخيار، وتقدم معنا أن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه ما لوح بيده الشرفية المباركة لإحدى زوجاته مع طول العشرة معهن وكثرتهن، ومع ما يجري منهن، على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه.
حقيقة لا ينبغي للإنسان أن يسيء خلقه ولاسيما مع زوجه، وتقدم معنا أن حسن الخلق هو: بذل الندى، وكف الأذى، وتحمل الأذى، تبذل معروفك لغيرك، تكف أذاك عنه، وتتحمل الأذى منه.
ولذلك ينبغي أن نعي هذه القضية ليكون الزواج مغنماً لنا، ولئلا يكون مغرماً، وكم من إنسان يتزوج ويحصل وزراً بالزواج، وكم من إنسان يتزوج ويحصل أجراً بالزواج، فانتبه لهذا وليكن الزواج لك مغنماً لا عليك مغرماً، وحافظ على هذه الحكم الشرعية.
أمر الله أن نعاشر نساءنا بالمعروف فقال جل وعلا في سورة النساء في أوائلها في الآية التاسعة عشرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، الإرث هو: حصول الشيء ليس من غير عقد فحسب، بل ومن غير تعب، فإذا جاءك شيء من غير عقد، إيجاب وقبول، ومن غير أن تتعب فيه، فالله يقول: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، وهذا الآية تعالج قصة كان العرب في جاهليتهم يفعلونها، فنهى ربنا عنها، وما أكرم النساء إلا رب الأرض والسماء، وهذه شريعته الغراء.
والإحصائيات الآن الأخيرة في البلاد الردية الغربية سواء في بريطانيا، أو في أمريكا عندما يحصون نسبة من أسلم تكون النسبة الكبيرة التي تقارب الثلثين من نسبة المسلمين من النساء، لماذا؟ لأن المرأة لا تجد راحتها ولا كرامتها إلا في شريعة الله الغراء، عندما جعل الإسلام الحجاب للمرأة، جعلها صاحبة مكانة عظيمة مرموقة، حتى أن الزوج إن أراد أن يدخل أحد أصحابه إلى بيته يستأذن الزوجة، يقول: يا أمة الله ادخلي سيدخل فلان، فلا يوجد في الحضارة الغربية كهذه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، إذاً هذه ملكة في هذه المملكة، هذا لا يكون إلا في شريعة الإسلام، وهذا الحجاب صانها بعد ذلك عن كل ما تمتهن به المرأة: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، ثبت في صحيح البخاري ، وسنن أبي داود ، والنسائي، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، والطبري في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مردويه في تفسيره، وابن المنذر في تفسيره، وهو حديث صحيح من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا إذا مات الرجل يكون أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من نفسها وأهلها، فنزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، يعني: لو مات أخوك جاء الأخوة وورثوا هذه المرأة، من شاء منهم تزوجها بلا مهر؛ لأنها كانت على تعبيرهم ملكاً لأخيهم، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها، إن شاءوا عضلوها ومنعوها من الزواج، لو ماتت زوجة أبيه يأتي الابن إن شاء أن يتزوج زوجة أبيه، وهذا نكاح المقت، وكان أهل الجاهلية يفعلونه، يتزوج زوجة أبيه عن طريق الإرث، يقول: أنا أولى بها من غيري، هذه زوجة أبي وأبونا كان المسئول عنها، متاع ورثته كما أرث ماله، وإن شاء أن يزوج امرأة أبيه ويأخذ مهرها، وإن شاء أن يمنعها من النكاح، فقال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، وقوله كرها: ليس معنى هذا أنه عن طريق الرضا يجوز، بل لا تورث أبداً إنما هي كما قلت معالجة لمشكلة واقعة، وأنها كانت تورث من غير اختيارها وحتى مع وجود اختيارها لا ترضى أن يرثها أحد، ولا أن يتصرف فيها كأنها متاع، لا رأي لها ولا حول ولا طول.
قال تعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، والعضل هنا: من الأزواج لا من الأولياء، فالولي يعضل، والمعنى: أنه يمنعها من النكاح، من أجل أن ينتفع بمالها إذا كان عندها مال، ويمنعها أخوها من الزواج من أجل أنها ورثت من أبيه فيأخذ مالها، أو أحياناً كان لها زوج ومات عنها زوجها وورثت منه، يمنعها من النكاح من أجل أن يأخذ مالها، هذا عضل من الولي، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، هنا عضل مِن مَن؟ من الأزواج، والعضل هو: المنع والتضييق والحبس، وهذه دعوة لأن لا تضيق على زوجتك، ولا تمنعها حقوقها الشرعية من أجل أن تذهب ببعض ما آتيتها، وببعض ما أعطيتها، أنت دفعت لها المهر، ثم لما صارت عندك مللتها أو كرهتها، صحبتها ثم لكبر صار فيها، او الدمامة عندها، أو لعدم ارتياح منك لها، اتقي الله، فالله يقول: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21]، تأخذ المهر قد حصل منك نحوها ما حصل، فإذا كنت لا تريدها فمهرها لها، وأكرمها بعد ذلك بإكرام آخر وسرحها، عسى الله أن يعوضها من هو خير منك، أما يأتي ويمنعها حقوقها، ويشتد عليها، ويحبسها ويضيق عليها من أجل أن تقول: يا عبد الله ما أعطيتني خذه وفارقني، ثم يقول: هي افتدت نفسها ليس علي إثم في أخذ المهر الذي دفعته لها، لا هذا حرام، ما افتدت نفسها إلا بعد أن جننتها وآذيتها: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19].
ربنا جل وعلا حكم عدل، كما يستوصي للزوجات يستوصي للأزواج، فأنت دفعت مهراً للزوجة على أن تتقي الله في عشرتك فجاءت وآذتك لا تنقاد لك وتتمنع منك، وبذيئة معك، فهذه في هذه الحالة تضيق عليها، وتشتد معها وتمنعها بعض حقوقها حتى تنقاد للعشرة الشرعية أو تفتدي نفسها؛ لأنها الآن هي المتسببة في الضرر، فكما أنه يرفع الضرر عنها يرفع الضرر عنك، وليس من الحكمة أن تبذل مهراً وتأتي الزوجة تسيء العشرة من أجل أن تأخذ مهرك ضمن أيام معدودة، لا، هي تسيء العشرة معك من أجل أن تطلقها لتأخذ المهر الذي أعطيته لها، ففي هذه الحالة يجوز أن تعضلها، وأن تضارها وأن تمنعها بعض حقوقها من أجل أن تفتدي نفسها والجزء من جنس العمل، كما يستوصي بالزوجة يستوصي للزوج وهؤلاء عباده وهذا شرعه ليصلح الصنفين، وقوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]، هو النشوز على الزوج والترفع عليه، وقد ذكر عن عدد من السلف أن الفاحشة المبينة -نسأل الله العافية- هي: الخيانة الزوجية وهي تعاطي الزنا، ففي هذه الحالة تمتنع من عشرتها وتؤذيها وتضارها وتمنعها حقوقها وتضيق عليها من أجل أن تدفع لك المال؛ لأنها لما تسببت هي في عمل مشين، وتفارقها بعد ذلك ويغني الله كلاً من سعته، قال الطبري والآية شاملة للأمرين، فكل نشوز منها وكل خيانة بعد ذلك تدخل في هذه الآية: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النساء:19]، والفاحشة هي: الخطوة المفرطة في القبح، وهي المخالفة الشنيعة، ولا أشنع من مخالفة الزوجة لزوجها وهو أعظم الناس حقاً عليها كما سيأتينا: ( أعظم الخلق حقاً على المرأة زوجها )، كما أن أعظم الخلق حقاً على الرجل أمه، فكيف تقابل هذا الزوج الذي لو كان ينبجس قيحاً وصديداً وهو قرحة من رأسه إلى قدميه فلحسته ما أدت حقه، ثم نشزت ورفعت صوتها وآذته إلى غير ذلك، ومن باب أولى لو فعلت بعد ذلك أمراً يندى له الجبين ألا وهو الخيانة الزوجية فهنا له كما قلت أن يجحف بها، وأن يمنعها بعض حقوقها من أجل أن تفتدي: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19].
وهذه الآية خطاب -كما قال أئمتنا- للعموم للأولياء وللأزواج، فيا معشر الأولياء عاشروا النساء بالمعروف فإذا كنت ولياً لا يحل لك أن تعاشر المرأة عشرة زوجية فحسب، إنما تحسن إليها في النفقة عليها فهذا حق أوجبه الله في رقبتك نحو بناتك، ونحو أخواتك: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، أنفق عليها بدون أيضاً فظاظة وغلظة وعبوس وجه، أنفق عليها وأنت منشرح الصدر، طيب النفس، بشوش الوجه مع كلمة طيبة: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وهكذا معشر الأزواج: عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، عن طريقين اثنين؛ عن طريق النفقة الشرعية التي للمرأة، مهما كان حالها في الغنى والثراء: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19].
وعن طريق حسن المعاملة، فلا عبوسة، ولا فظاظة، ولا غلظة، ولا ضرباً ما أذن الله به، بل قال أئمتنا من العشرة بالمعروف أن تتزين لها كما تتزين لك، وهي تشتهي منك ما تشتهي منها، وعلام أنت تأتيها بهذه الصورة المزرية بلا تهيؤ ولا تطيب ولا تسوك ولا ولا ولا؟ وهي ينبغي أن تكون على أجمل حال لماذا؟ هي أيضاً صاحبة نفس، كما أنت تتأفف من تشويه الخلق إذا كان فيها ومن ترتيبها لخلقتها وتجملها هي أيضاً تتأفف منك، وإذا ما أظهرت بلسانها فهذا موجود في قلبها فاتق الله في عشرتها، ولذلك ثبت عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: والله إني لأحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، لا أن تتزين هي وأنت رائحتك منتنة، لماذا هذا؟ والله يقول: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، كما تحب أن تعاشرك عاشرها واتقي الله في صحبتها: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ [النساء:19]، وهنا الكراهة ليست في أمر شرعي، ولا لنشوز منها ولا لفاحشة منها إنما كرهها لأمر طبيعي في نفسه، كبرت في السن فأعرض عنها، في خلقتها دمامة بعد أن تزوجها ما ارتاح إليها: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فالله جل وعلا يقول: إذا وجد فيها ولا يكره فيها ولا يحب؟ فيكفي أنها مؤمنة وزوجة موحدة فيها خصال كثيرة صالحة، وأمر ثان: كأن الله يقول هذه الحياة لا يمكن أن يحصل فيها الصفاء على وجه التمام، فتحمل، وهي حياة منقضية وإذا أردت الفراق فلا بأس: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20]، إلى آخرة الآيات، إنما في أول الأمر وطن نفسك: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، يأتي من هذه الزوجة ولد يوحد الله، ولعله يكون كصلاح ابن تيمية ، أو كالإمام أحمد ، أو كالإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، وهذا خير كثير، فلا يوجد محبوب ولا مكروه فيه، ولا نقص فيه، ولا تنغيص فيه، وهذه الدنيا منقضية فتحمل، لكن إن أردت الفراق يغني الله كلا من سعته.
وقد ثبت في المسند، وصحيح مسلم ، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يفرك )، فرك يفرك: ( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )، يعني هذه امرأة ليس فيها مجمع القبائح والمساوئ، فكما أن فيها نقصاً ففيك نقص، فإذا وجدت فيها خلقاً لا ترتاح له، ففيها أخلاق كثيرة ترتاح لها، يكفي أنها تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، يكفي أنها تصلي الصلوات الخمس، يكفي أنها تصون فرجها، وأنها تصوم شهر رمضان، وأنها تطيعه، هذه خيرات كثيرة عظيمة.
فإذا كرهتها لأمر من الأمور التي طبيعتك لا تميل إليها فأطلق وجهك ولا داعي أن تظهر هذا لا بلسانك ولا على قسمات وجهك، فاترك هذا بينك وبين ربك، والإنسان كما يثاب إذا شكر يثاب إذا صبر، فإن وجدت زوجة مال قلبك إليها شكرت الله لك وهو أكرم الشاكرين، وإذا رزقت زوجة وانقبضت نفسك منها وصبرت لك ثواب الصابرين، فلماذا تتضايق؟ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر).
وهذه المعاني إذا استحضرها المسلمون سعدت بيوتهم وعاشت في صفاء وفي هناء، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
صفة الضرب تقدم الكلام عليها في مبحث كامل، وهو المبحث السابق، وينبغي أن ننتبه وأن نفطم أنفسنا عنها، والله لا يضرب الخيار، وإذا كان الضرب مبرحا فالزوج لا شك في أنه من الأشرار، كيف تطيب نفسك أيها الإنسان أن تضرب هذه الزوجة في أول النهار ثم تضاجعها في آخر النهار! أليس عندك مروءة أنت في حق نفسك، ضربت هذه الأمة وجلدتها -أعني: الزوجة- ثم جئت ضاجعتها وضاحكتها وعانقتها، هذا ليس من أخلاق الكرام.
لقد أشار إلى هذا نبينا عليه الصلاة والسلام ففي المسند، والصحيحين، وسنن الترمذي ، وابن ماجه ، والحديث رواه الدارمي في سننه، والبغوي في شرح السنة، والبيهقي في السنن الكبرى، من رواية عبد الله بن زمعة وهو ابن أخت أمنا أم سلمة زوج نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وأمنا أم سلمة تكون خالة لـعبد الله بن زمعة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، ثم لعله يجامعها ).
وفي رواية: ( يضاجعها من آخر النهار )، هل هذا يصلح؟ جاء جلدها وضربها ثم في آخر النهار جامعها وضاجعها، ما عنده مروءة، وفي بعض روايات الحديث كما في صحيح البخاري وغيره: ( لم يضرب زوجته ضرب العبد ثم لعله يعانقها؟ )، فهذا الفعل وهو: المعانقة، المضاجعة، المجامعة، لا تكون إلا بين حبيبين، إذا كانت هذه حبيبة وهي كذلك كيف تجلدها بعد ذلك؟ كيف تضربها؟ اتق الله فيك وفيها.
من تأمل أحوال سلفنا يرى عجباً، وقصة كنت ذكرتها سابقاً ولا مانع من ذكرها الآن ولاحقا لما فيها من معان ينبغي أن يستحضرها المسلمون.
يذكر أئمتنا في ترجمة شيخ الإسلام كما نعته بذلك الذهبي أبو عثمان النيسابوري واسمه سعيد بن إسماعيل توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين للهجرة، وكان شيخ الصوفية في بلاد خراسان وهو من أئمة المسلمين في خراسان كالإمام الجنيد للبغداديين، وبعد أن أذكر قصته أريد أن أعلق على سفاهة بعض السفهاء في هذه الأيام الذين يتطاولون على الصوفية الكرام، لنعلم الحق على التمام.
فهذا شيخ الإسلام كل من ترجمه نعته بأنه كان شيخ الصوفية في زمانه، وهو ممن جمع بين العلم والعمل الصالح والدعوة إلى الله عز وجل، وإذا كان في بعض الصوفية منحرفون مخرفون مبتدعة، هل معنى هذا أن كل من كان صوفياً كذلك؟ إذا كان الآن في الأمة الإسلامية من ترونهم من عصاة وعتاة وبغاة، هل يعني ذلك أن كل مسلم صار ضالاً، وأن كل مسلم صار خبيثاً؟ لا ثم لا، لكننا كما قلت بعد ذكر قصته أذكر لمحة موجزة عما يتعلق بهذه الطائفة.
القصة ذكرها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الجزء التاسع، صفحة مائة، ورواها ابن الجوزي في المنتظم في الجزء السادس، صفحة سبع ومائة، ورواها ابن الجوزي في صفة الصفوة، وقد جمع هذا الكتاب في تراجم زهاد الأمة وعبادها في أربع مجلدات في الجزء الرابع، صفحة خمس ومائة, ورواها ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الحادي عشر، صفحة خمسة عشرة مائة في حوادث سنة ثمان وتسعين ومائتين.
وخلاصتها أن أبا عثمان النيسابوري كان شيخ المسلمين في بلاد خراسان وكان أهله يريدون منه أن يتزوج فقال: إني مشغول في أمر الآخرة ونشر العلم والدعوة إلى الله عز وجل، ولا أريد أن أشغل نفسي في هذا الوقت وفي هذه المرحلة بزواج، فبينما هو في مجلسه في مسجده جاءت بعض النساء إليه ولما لم تر في المسجد أحداً قالت: أبا عثمان الله الله في قلبي، قال: وما عندك يا أمة الله وماذا تريدين؟ قالت: إن قلبي متعلق بك تعلقاً أذهب قراري ونومي، ولا أستطيع أن أستقر ولا أن أنام من أجل تعلق قلبي بك، فأسألك وأتوسل إليك بمقلب القلوب أن تتزوجني، قال: ابنة من أنت؟ من أبوك؟ قالت: فلان البقال، وفي بعض الروايات الخياط، وهذا لا يضر في تحديد مهنته، هو في مكان كذا، فوعدها بخير وانصرفت، فذهب إلى أبيها وطلب منه أن يزوجه ابنته فطار فرحاً، وعقد له في المجلس، وهو شيخ بلاد خراسان، وابنته فيها كل بلية وآفة ردية، لا يقبلها أحد من خلق الله إلا هذا العبد الصالح، يقول: فلما دخلت عليها فإذا هي: عرجاء، عوراء، شوهاء، قرعاء، قلت: اللهم لك الحمد على ما قدرت لي، ففيها عور وهذا تشويه في الخلق، وعرج، وليس في رأسها شعر ومع ذلك تسأله بمقلب القلوب أن يتزوجها، قال: فتزوجتها، لكن حتماً الطبيعة البشرية هذه بيد رب البرية، يقول وهو يخبر عن نفسه، وهذا ما أخبر به إلا عند احتضاره رحمه الله لما قيل له: حسن ضنك بربك، قال: أرجو أن يغفر لي بصبري على زوجتي وتطييب خاطرها.
يقول: كانت أثقل على نفسي من الجبل، ما أظهرت لها إلا ما يظهره الزوج المحب لزوجته، كنت أكرمها وأحسن عشرتها، وأحملها على كتفي، وأدور بها وكأنها ملكة جمال العالم، والزوج مغرم بها، يقول أبو عثمان : وأحياناً إذا حملت كتابي وخرجت إلى الدرس تقف على الباب، وتقول: أبا عثمان أسألك بمقلب القلوب أن تجلس معي وأن تترك موعظتك هذا اليوم، فيترك موعظته ويجلس من أجل أن يحسن عشرته، وخيركم خيركم لأهله، فمكثت معه خمس عشرة سنة ثم توفيت، فقال: أرجوا أن يغفر الله لي بهذا الذي صدر مني، وهذا ما أخبر به إلا عند موته، يقول: وكان أهلي يلومونني على الزواج منها، فلقد كان ريحانة الدنيا في وقته، وكل امرأة تتمنى أن تجتمع به، وبعد ذلك أخذ قرعاء، عوراء، عرجاء، شوهاء، ابنة فلان البقال أو الخياط، وكانوا يقولون له: نزوجك غيرها، ومع هذا يقول لا، لا يشاركها أحد، هذه رغبت في لله.
وهذا الخلق كما يقول الصوفية: التصوف والدخول في كل خلق سمي والخروج من كل خلق دني، فالخلق السمي أن هذه امرأة مسكينة تعلقت بك اجبر خاطرها، ألا تحب أن يجبر الله خاطرك يوم القيامة، وأن يقيل عثرتك، وأن يغفر لك زلتك، والله كلنا نحب ذلك، هذه المرأة طيب خاطرها، وقدر الله عليك ما قدر، وكما أنه يوجد الشكر يوجد صبر فاصبر عليها، مادام في حظ نفسك وحق نفسك تحمل، وإذا كان في حق الشرع فلا يجوز للإنسان عندئذ أن يتحمل طرفة عين؛ لأن طاعة الله تقدم على كل شيء في هذه الحياة.
هذا العبد الصالح كان يقول كما نقل عنه أئمتنا: من أمر السنة على نفسه نطق بالحكمة؛ لأن الله يقول: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة، وما ذكر شاهداً على ذلك، قال الذهبي : والله يقول: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26]، وكان يقول: الخوف يوصلك إلى الله والعجب يقطعك عن الله، واحتقارك لغيرك آفة في نفسك لا يرجى برأها وعلاجها، والمعنى: إذا كنت تحتقر الناس وتتطاول وتتكبر عليهم، فهذه آفة في نفسك وخبث لا يرجى علاجه، علام تفتخر عليهم، وكلكم من ماء وتراب، وكلكم من طين، وأكرمكم عند الله أتقاكم، علام تفتخر، وتحتقر غيرك؟ احتقارك لغيرك آفة في نفسك لا يرجى علاجها ولا برؤها، ما دمت تتطاول وتتكبر فهذه آفة الآفات وبلية البليات.
هذا العبد الصالح تقدم معنا شيء من أخباره عند صلاة التسابيح، وكان يقول: ما رأيت للهموم والشدائد مثل صلاة التسابيح، وذكرت كرامة عظيمة له في ذلك المبحث عندما دعا على الظالم المتسلط أحمد الخبستاني، وخلاصتها كما تقدم معنا: أنه عندما تسلط هذا على أهل خراسان وقتل الأمير في ذلك الوقت ونصب نفسه مكانه، وفرض المكوس والضرائب بحيث وضع حربة وركزها على مربعة عالية وقال: ينبغي أن تغمر هذه بالدراهم خلال ثلاثة أيام وإلا فإن الرقاب تطير، أغنياء البلد ينبغي أن يصبوا الدراهم حول هذه الحربة بحيث تغمر لا يظهر منها شيء وهي مرتفعة على مربع، فاجتمع التجار وفرضوا على أنفسهم ما فرضوه، ففرضوا على بعض التجار ثلاثين ألفاً كما تقدم معنا، ورفعه جهده فما حصل إلا ثلاثة آلاف فجاء لـأبي عثمان، قال: يعني ثلاثة أيام تقطع الرقبة، ووالله ما أملك غيرها يريدون ثلاثين ألفاً وما معي إلا ثلاثة آلاف، قال: تطيعني قال: سمعاً وطاعة، قال: هاتها، ثم أخذها وتصدق بها أبو عثمان أمامه، قال: اجلس في هذا المسجد ولا تخرج، فلما انتهوا من صلاة العشاء قال: اذهب، فذهب أبو عثمان إلى بيته وبدأ يتنقل بين السكة وبيته وبين المسجد، وما نام تلك الليلة طرفة عين حتى أذن الفجر، والناس ينتظرون أبا عثمان ليصلي بهم فهو إمام المسلمين، فتأخر فلما جاء إلى المسجد قال لهذا الرجل: اذهب فاستمع الخبر هل يوجد خبر في خراسان، فذهب ثم رجع وقال: لا يوجد شيء، قال المؤذن: نقيم؟ قال: لا تقم، ثم قال: وعزتك لا نقيم الصلاة حتى تفرج عن المكروبين، فسمعوا سوقاً وجاء المبشرون، قالوا: أبا عثمان أبشر فقد قتل الغلمان أحمد الخبستاني وبقروا بطنه فقال: أقم الصلاة، فصلوا ثم قال: اذهب، ثلاثة آلاف صدقة عند الله الذي نجى المكروبين من هذا الظلم المبين.
الإمام الذهبي بعد هذه الحادثة قال: بمثل هذا يعظم مشايخ الوقت، وترجمته في السير في الجزء الرابع عشر، صفحة اثنتين وستين: أبو عثمان الحيري النيسابوري الشيخ الإمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإسلام، الأستاذ أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور النيسابوري الحيري الصوفي.
بعض السفهاء في هذه الأيام ممن لا يتقي الله في أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، وتراه يجعل ديدنه تضليل المسلمين، ويقول: إن الصوفية فرقة ضالة، وفرقة خبيثة، ونحن نقول له: هلاّ بحثت عن الخبث الذي في نفسك، والضلال الذي بين جنبيك، أليس فينا إلا أننا نرمي غيرنا فقط بالضلال ولا أحد منا يحاسب نفسه في يوم من الأيام، ماذا عند الصوفية يا من لا تتقي رب البرية؟
لابد كما قلت من مقارعة هؤلاء، ووالله الذي لا إله إلا هو لو كانوا يكفون ألسنتهم عن أعراض المسلمين لما كان هناك داع لمثل هذا الكلام على وجه التكرار، لكن كأنه لا يوجد عندهم إلا هذه المباحث ليل نهار، صوفية صوفية، ولما كنت في أبها زارني بعض الإخوة وهو خريج من جامعة أم القرى، وبدأ يقول الصوفية مخرفون وضالون، فقلت: على رسلك يا عبد الله، تضلل عباد الله لماذا؟ قال: الصوفية ليسوا بضالين؟ قلت: يا عبد الله فيهم من هو ضال وفيهم من هو مهتدي، قال: من قال هذا؟ قلت: أنت تقبل بمن؟ قال: من تقبل به أنت أنا أقبل به، قلت: تقبل ابن تيمية أن يحكم بيننا في هذه القضية؟ قال: على العين والرأس، متى قال ابن تيمية أن الصوفية على هدى؟ قلت: ارجع يا عبد الله للمجلد الحادي عشر في مجموع الفتاوى وهو مجلد يزيد على سبعمائة وخمسين صفحة كله في التصوف، يقول في بدايته: الصوفية على أربعة أقسام، بعد أن بين أن نسبة الصوفية إلى الصوف وليس في ذلك مدح ولا ذم، يقول: فيهم سابق مقرب، وفيهم مقتصد من أصحاب اليمين، وفيهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وانتسب إليهم بعض أهل البدع والزندقة والإلحاد، وهم عند المحققين ليسوا من الصوفية، كالحسين الحلاج وكـابن عربي وهؤلاء الحثالة، يقول: هؤلاء انتسبوا إلى الصوفية وأئمة التصوف رفضوهما نفوهما، لكنه هم أربعة أقسام، قال: هذا على كل حال الكلام حق ظاهر لكن دعني أعرض هذا على المشايخ، قلت: اعرضه على مشايخ الإنس والجن أيضاً.
فقفوا عند حدكم واتقوا ربكم، إذا كان الآن في المسلمين من هو ضال هل يجوز أن نقول: ملة الإسلام على ضلال؟ وإذا انتسب من انتسب إليهم من أهل البدع والزندقة والإلحاد لا يجوز أن نحكم على الجميع، فالآن هذا إمام صدق ومن أئمة الهدى، وكما قلت ينعته الذهبي بأنه شيخ الإسلام، وهذا أعظم لقب يطلقه الذهبي على المترجم في سير أعلام النبلاء، فاتقوا الله في أنفسكم، الجنيد كذلك، بعض السفهاء ممن كتب عن الصوفية قال: الجنيد كـالحلاج، الحلاج أظهر، والجنيد أسر، هل أنت علمت ما في قلبه؟! أو أطلعك الله على غيبه؟ الحلاج أظهر والجنيد كتم وأسر، طيب إذا كان الجنيد كتم الإلحاد الذي في قلبه من أين علمته؟ أما تتقون الله في أنفسكم وفي أمة نبيكم عليه الصلاة والسلام؟!
هذا كما قلت من أئمة الصوفية، وهذا الخلق الذي فيه أنا أريد الذين الآن ملئوا الدنيا جعجعة بالأثر والسنة وحسن الخلق، أن يأخذوا زوجة مثل هذه المرأة ويعاشروها هذه العشرة حتى نقبل نعالكم لا أرجلكم، وهذه المرأة عوراء، عرجاء، قرعاء، مشوهة الخلق، ثم يعاشرها هذه العشرة كأحسن عشرة يفعلها رجل مع زوجته ويحبها، حتى أنه حمل الكتاب يريد أن يدرس وتقول: قلبي متعلق بك يا أبا عثمان ، فيقول: نعم، طاعةً وإحساناً إلى القريب يقدم الإحسان من بعيد، الدرس نؤجله لوقت آخر، اجلسي ثم يلاعبها ليطيب خاطرها، ويعاشرها وهي ترتاح، كم له من الأجر عندما جبر خاطر المسكينة؟ هذا هو الصوفي الصالح، وبعد ذلك أريد أن أعلم أحوال من يقولون بعد ذلك سنة، ونسأل الله أن يرزقنا أتباع سنة نبينا عليه الصلاة والسلام في جميع أحوالنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
خلاصة الكلام كما قلت: لابد أن نحسن العشرة مع الزوجة، وضرب الزوجة يتنافى مع حسن العشرة، فبضربها إما أن تخرج من الأخيار، وإما أن تخرج من الأخيار وتلتحق بالأشرار.
أوصانا نبينا عليه الصلاة والسلام وشدد علينا في الضعيفين المسكينين؛ في اليتيم وفي المرأة، وكان يوصي بذلك عليه الصلاة والسلام دائماً.
ثبت في المسند، وسنن ابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه والبيهقي في السنن الكبرى، وفي شعب الإيمان، وإسناد صحيح كالشمس صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي، ولفظ الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني أحرج عليكم حق الضعيفين؛ المرأة واليتيم )، أحرج: يعني أضيق وأحرم وأجعل من يؤذي ويعتدي على حق هذين في حرج وفي ضيق وفي شدة، ( إني أحرج عليكم الضعيفين؛ المرأة واليتيم )، فاتق الله في هذه المرأة الضعيفة التي ملكت أمرها وأنت سيدها، وهي عانية عندك، أخذتها بأمانة الله، واستحللت فرجها بكلمة الله، أسأل الله أن يرزقنا حسن الخلق إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ننتقل إلى الأمر الثاني الذي نحصل به مغنماً عند زواجنا ألا وهو: نفقة الزوج على زوجه، عندما ينفق عليها يحصل أجراً عظيماً، هذه النفقة على الزوجة يثاب عليها أعظم من ثواب الصدقة والعتق والجهاد، وكل ما يدخل جوف امرأتك من طعام وشراب يكتب في ميزانك عند الكريم الوهاب، هذه حسنات متتابعة، كما سيأتينا تقرير هذا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثبت في المسند، والصحيحين، والسنن الأربعة، فالحديث في الكتب الستة، ورواه مالك في موطئه والدارمي في مسنده، ورواه أبو داود الطيالسي ، والطحاوي ، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن الجارود في المنتقى، وهو من أعلى الأحاديث درجة من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: ( جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني ) وكان ذلك في فتح مكة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقال سعد وكان ذلك في حجة الوداع، ولما حج سعد مع النبي عليه الصلاة والسلام أصيب بالحمى واشتكى فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يعوده في مكة، وهي البلدة التي هاجر منها سعد رضي الله عنه مكة المكرمة، قال: ( يعودني من وجع قد اشتد بي فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وجع شديد، والذي يظهر أمارات الموت، وإني ذو مال كثير ولا يرثني إلا ابنة -ما عندي في ذاك الوقت إلا بنية واحدة مع أمها- أفأوصي بثلثي مالي؟ -ويعني: أن ماله كثير، وأنه لو ترك الثلث يكفي للزوجة والبنت- قال: لا، قلت: فالشطر؟ -أوصي بالنصف؟- قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث كثير، أو قال: كبير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس -أي: يسألون الناس بأكفهم يعطونهم أو يمنعونهم- فقال
وهذا من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام، فخلف سعد وطالت مدته، ونفع الله به أقواماً وأضر به آخرين، فهو قائد المسلمين في موقعة القادسية، وهو الذي كسر الفرس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، ثم قال: ( يا
إطعام الزوج زوجته بيده
وهذا ما كان يفعله سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، يطعمها وبعد ذلك يضمها وفي هذه الحالة له أجر، فكيف فيما عداها، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنّ علينا بنبينا عليه الصلاة والسلام.
( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك )، ولذلك ما تنفق على أهلك طب نفساً يا عبد الله ليست هذه جزية ليست ضريبة، هذه صدقة أعظم أنواع الصدقة تؤجر عليها مما تجلبه إلى أهلك من طعام، من شراب، من لباس، من سكن .. إلخ، كل هذا تثاب عليه فاحمد الله، حمدً كثيرا.
الأدلة على أن ما ينفق الزوج على زوجته صدقة
ومنها: ما في معجم الطبراني الكبير، والأوسط، والحديث رواه أبو الشيخ وقد نص على تحسينه المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة اثنتين وستين، والهيثمي في المجمع في الجزء الثالث، صفحة عشرين ومائة وإسناده حسن، ورواه أبو الشيخ ولفظ الحديث من رواية أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة، ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة )، إذا أنفق نفقة على نفسه يستعف بها صدقة، أنفق على أهله، أو ولده، أو أهل بيته، فله صدقة في ذلك، من يسكن معه من محارمه ينفق عليهم له أجر الصدقة، والأحاديث في ذلك كثيرة.
قصة عمرو بن أمية الضمري وتصدقه على زوجته ببعض ما أنفق عليها
وهي في مسند الإمام أحمد ، ومسند أبي يعلى ، ومسند البزار ، ومسند أبي داود الطيالسي، ورواها البيهقي في السنن الكبرى، والبخاري في التاريخ، والنسائي في السنن الكبرى، لا في السنن المطبوعة التي بين أيدينا، وإسناد الأثر رجاله ثقات، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء الرابع، صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة، والمنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة أربع وستين.
ولفظ الحديث عن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري وهو صحابي رضي الله عنه يقول: ( مرّ أحد هذين الصحابيين
والقصة تكررت بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام لكن مع عمر ، وعبد الله بن عمرو بن أمية الضمري ، ومن الذي حكم بينهما؟ حكمت أمنا عائشة بعد موت النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
والحديث من رواية عبد الله بن عمرو بن أمية ، عن أبيه، يعني الصحابي وهو: عمرو بن أمية الضمري، وعبد الله يروي هذا عن أبيه عمرو بن أمية يقول: أتى عمر على عمرو بن أمية الضمري وهو يسوم بمرط، يساوم على مرط يريد أن يشتريه، فقال له عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: مرط أشتريه فأتصدق به، أريد أن أشتري هذا المرط لأتصدق به، فتركه عمر حتى اشترى هذا المرط ثم سأله في اليوم الثاني: ما فعلت في المرط الذي اشتريته؟ فقال: تصدقت به، قال: على من؟ قال: على الرفيقة امرأتي، على شريكتي، على زوجتي، تصدقت به على الرفيقة امرأتي، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، أليس قد زعمت أنك اشتريته لتتصدق به؟ أنت قلت: سأشتريه لأتصدق به، ثم ذهبت وأعطيته لزوجتك، أليس قد زعمت أنك اشتريته لتتصدق به؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما أعطيتموهن من شيء فهو لكم صدقة )، فقال عمر رضي الله عنه: يا عمرو لا تكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحاشاه وحاشا الصحابة الكرام من ذلك رضي الله عنهم أجمعين، وما قال هذا: لا تكذب انتبه، إلا وقصده أخشى أنك واهم انتبه، والكذب يأتي بمعنى الخطأ والوهم، يعني: لا تحدث ما لم تتحقق صحته، لا تكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له عمرو: لا أفارقك حتى نأتي عائشة، وقال عمر أيضاً لـعمرو: لا نفترق حتى نأتي لـعائشة، تحكم بيننا وأنت تقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ما أعطيتموهن من شيء فهو لكم صدقة )، فلما وصلا إلى بيت أمنا عائشة رضي الله عنها رفع عمرو بن أمية الضمري صوته وقال: يا أماه هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حدثته عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( ما أعطيتموهن من شيء فهو لكم صدقة )، فقال: لي لا تكذب على رسول الله، نشدتك الله يا أم المؤمنين هل سمعت ذلك من رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قالت: نعم، سمعته يقول: ( ما أعطيتموهن من شيء فهو لكم صدقة )، انظر لهذه القصة الطريفة، يشتري مرطاً، ولما يقال له: ماذا ستفعل به؟ يقول: أتصدق به، ثم يقال له: على من تصدقت؟ قال: على الرفيقة امرأتي، سبحان الله! تشتري مرطاً لأهلك وتقول: تصدقت، نعم، هذا له ثواب الصدقة، بل أعظم أجراً من الصدقة.
فانظر لهذا الفهم عند سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فقال عمر رضي الله عنه بعد أن قالت أمنا عائشة ما قالت: ألهاني عن ذلك الصفق بالأسواق، يعني التبايع البيع والشراء ألهاني عن ذلك عن ضبط هذا الحديث وغيره، الصفق بالأسواق، عمرو بن أمية حقق وضبط وأمنا عائشة حفظت ووعت، وأنا ما ضبط هذا الأثر ألهاني عنه الصفق بالأسواق.
فانظر لهذه المعاني نفقته عليها صدقة، كساء مرط ثوب يشتريه لزوجه له عليه صدقة.
والأحاديث في ذلك كثيرة سأختمها بهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والطبراني في معجمه الكبير، والأوسط، والحديث في مجمع الزوائد في الجزء الثالث، صفحة تسعة عشرة ومائة وفي الجزء الرابع، صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة، وهو في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة أربع وستين، وقد قال الهيثمي في المجمع بعد أن ذكره: في إسناده سفيان بن حسين، في حديثه عن الزهري ضعف وهذا منها، وسفيان بن حسين قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة في غير الزهري باتفاق، يعني هو ثقة وما على رواياته غبار، لكن فيما رواه عن الزهري روايته ضعيفة ما ضبط ما رواه عن الزهري ، وقد أخرج حديثه البخاري تعليقاً في الصحيح، كما أخرج حديثه في التاريخ، وروى له مسلم ، وأطلق ابن حجر التخريج بـمسلم عنه مع أنه ورد في الميزان للذهبي أن مسلماً أخرج لـسفيان بن حسين في مقدمة صحيح مسلم، فليتحقق من ذلك، والذهبي في الكاشف أطلق وقال روى له مسلم، أما في الميزان قال: روى له مسلم في المقدمة، وعليه لا يكون على شرط الصحيح؛ لأن المقدمة ليس لها هذا الشرط، ثقة باتفاقهم، البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأهل السنن الأربعة لكن في غير روايته عن الزهري، وقال الذهبي في الميزان في الجزء الثالث، صفحة ستٍ وستين ومائة في ترجمة سفيان بن حسين الواسطي أستشهد به البخاري وروى له في الأدب المفرد، وروى له مسلم في مقدمة كتابه، وروى له أرباب السنن الأربعة، ترجمته في السير في الجزء السابع، صفحة اثنتين وثلاثمائة، فالإسناد كلهم ثقات أثبات ما فيهم إلا سفيان بن حسين في روايته عن الزهري ضعف وهذا منها.
وفي ترتيب مسند الإمام أحمد في الجزء السادس عشر صفحة ثلاث وثلاثين ومائتين للشيخ البنا قال: إسناد الحديث جيد، ولعله والعلم عند الله، أنه فعل ذلك لوجود شواهد لهذا الحديث، وإلا كما قلت فيه هذا الإنسان وفي روايته عن الزهري ضعف، كما قرر ذلك أئمتنا، لكن أطلق الحكم بأن الحديث: إسناده جيد، والحديث بشواهده لا ينزل عن درجة الحسن كما ستسمعون معناه، والروايات السابقة تشهد له، ولفظ الحديث من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الرجل إذا سقى امرأته من الماء أجر )، إذا سقاها كأساً من ماء، كأساً من عصير يثاب كما يثاب على الصدقة ( إن الرجل إذا سقى امرأته من الماء أجر )، طيب ما موقف العرباض بن سارية لما سمع هذا الحديث؟ طار فرحاً، يقول: فذهبت إلى البيت فسقيت امرأتي وأخبرتها بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا هو حسن الخلق، أخذ كأساً من ماء وقال: اشربي يا أمة الله، فبعد أن شربت قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( إن الرجل إذا سقى امرأته من الماء أجر )، أنت تحصل أجراً كثيراً بالنفقة على عيالك، وقد قال أئمتنا الأبرار: عمل الأبدان كسب الحلال، والنفقة على العيال هذا من عمل الأبدان الصالحين.
ويذكر أئمتنا كما في إحياء علوم الدين وشرحه للزبيدي في الجزء الخامس، صفحة تسع عشرة وثلاثمائة، والقصة موجودة في كتاب قوت القلوب لـأبي طالب المكي وهي منام بعض الصالحين خلاصته: أنه كان عنده زوجة فماتت، فآثر العزوبة على الزواج وقال: أتفرغ لأمر الآخرة، يقول: فرأيت رؤيا والملائكة بأيديها الصحف، فكلما مروا بي قالوا: هذا البطال، كنا نكتبه في سجل المجاهدين والمتصدقين، والآن لا نكتب له في صحفنا لا جهاد ولا صدقة، كلما مرّ عليه ملك يقول: هذا البطال كنا نكتبه في سجل المجاهدين والمتصدقين، والآن محي من هذه الدواوين، قال: فقبضت على واحد منهم وأمسكته من الملائكة، وقلت: أسألك بالله لما أنا بطال ما معناه؟ قال: كان عندك زوجة وتنفق عليها فتؤجر على نفقتك، وتكتب في عداد المجاهدين، والآن ذهبت زوجتك فأنت الآن في سجل البطالين، قال: فلما استيقظ تزوج، وما أخر الأمر إلى اليوم الثاني.
وحقيقة عمل الأبدان كسب الحلال والنفقة على العيال، فهذا أمر تستفيده من الزواج، كما تستفيد صفة الخيرية عندما تحسن خلقك مع أهلك وتستفيد هذا من الحياة الزوجية، تستفيد أجراً عظيماً عندما تنفق على زوجتك، وقد تقدم معنا أحاديث كثيرة فيها هذا المعنى عند النفقة على الولد، فيها تقرير هذا المعنى فلا داعي لإعادتها.
من حسن خلق الرجل أن يطعم زوجته أحياناً بيده، يعني هذا من باب أيضاً حسن الخلق، ومن باب المباسطة، يأخذ لقمة ويطعمها، هذه لها معان كبيرة عند الزوجة لا تظن أنها يسيرة، وكثير من الناس يبخل بما لا ينقصه، يعني أنت تأكل وهي تأكل، هل ينقص الطعام إذا أطعمتها لقمة؟ هي ستأخذها بيدها مد يدك وناولها هذه اللقمة، هذه لها من الأثر في تقوية الصلة الزوجية ما لا يعلمه إلا الله، فهذا حقيقة ينتبه إليه الكيس ويفرط فيه الأحمق.
وهذا ما كان يفعله سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، يطعمها وبعد ذلك يضمها وفي هذه الحالة له أجر، فكيف فيما عداها، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنّ علينا بنبينا عليه الصلاة والسلام.
( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك )، ولذلك ما تنفق على أهلك طب نفساً يا عبد الله ليست هذه جزية ليست ضريبة، هذه صدقة أعظم أنواع الصدقة تؤجر عليها مما تجلبه إلى أهلك من طعام، من شراب، من لباس، من سكن .. إلخ، كل هذا تثاب عليه فاحمد الله، حمدً كثيرا.
والأحاديث في ذلك كثيرة منها: ما في المسند، والصحيحين، وسنن الترمذي ، والنسائي ، والحديث رواه أبو داود الطيالسي، ورواه البيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة )، هناك: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها )، وهنا صرح بأنها صدقة، بل هذه أفضل أنواع الصدقات كما سيأتينا: ( إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة )، إذاً: عندما تنفق على أهلك لكن لابد من أمور: أن تحتسب، أي: تطلب الأجر من الله جل وعلا، وأنك تقوم بما أوجبه الله عليك وبما فرضه الله عليك، وتنفق على هذه التي تحت رعايتك: ( إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة ).
ومنها: ما في معجم الطبراني الكبير، والأوسط، والحديث رواه أبو الشيخ وقد نص على تحسينه المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة اثنتين وستين، والهيثمي في المجمع في الجزء الثالث، صفحة عشرين ومائة وإسناده حسن، ورواه أبو الشيخ ولفظ الحديث من رواية أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة، ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة )، إذا أنفق نفقة على نفسه يستعف بها صدقة، أنفق على أهله، أو ولده، أو أهل بيته، فله صدقة في ذلك، من يسكن معه من محارمه ينفق عليهم له أجر الصدقة، والأحاديث في ذلك كثيرة.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل | 3297 استماع |
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم | 3252 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] | 3230 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] | 3207 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] | 3166 استماع |
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً | 3152 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] | 3121 استماع |
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده | 3095 استماع |
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] | 3005 استماع |
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة | 2951 استماع |