الأم المربية [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، له الحمد كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية مصدر قوة مؤثرة، ومكمن تغيير عظيم، ومصنع تربية للأجيال.

الأم المربية في واقع أمتنا الإسلامية اليوم قضية مهمة، وجودها على الصورة المنشودة والمنهج المطلوب يعد مفتاح التغيير الإيجابي المنشود، إن أهمية الأم المربية لا تقل بل ربما تزيد عن أهمية الجيوش العسكرية المدججة بالسلاح، وأهمية إصلاح مناهج التعليم، وتهذيب وسائل الإعلام؛ لأن قوتها التأثيرية تستطيع أن تواجه كل ذلك، وتستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى أن تنتصر على كل ذلك إن كان مناوئاً لدينها وإسلامها.

وديننا العظيم، ومنهجنا الإسلامي القويم أعطى لهذه المهمة أولوية عظمى، ووفر لها جميع الأسباب التي تعين على حسن أدائها واستمرار رسالتها، ودوام عطائها، لتكون المجتمعات مجتمعات إيمان وإسلام من قعر البيوت.. من ثدي الأمهات.. من رحم المنجبات، ليخرج حينئذ الجيل المؤمن في قلبه ويقينه، ولتخرج الأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، تواجه كل فساد وانحراف يمكن أن تعج به المجتمعات.

تقديم حق الأم على حق الأب

ووقفتنا الأولى: ومضة سريعة في المكانة والأهمية التي جعلها إسلامنا للأم، ولدورها الرائد في التربية.

قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] قال ابن عطية في تفسيره: ذكر الله الأم في هذه الآية في أربع مراتب، والأب في مرتبة واحدة، وجمعهما الذكر في قوله تعالى: (بوالديه) ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، وهذا يناسب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، وللأب الربع، وذلك حين جاءه الرجل فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك).

وهذا أمر بين واضح ودور فطري خلقي أراده الله عز وجل لكمال البشرية، ولحسن انتظام الحياة في هذه الدنيا، وروى الترمذي : (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم قال: فبرها) أي: ذلك طريق توبة وتكفير ذنب.

بر الأم من الجهاد

ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه -أي: ربما كان من أهل الأعذار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج، ومعتمر، ومجاهد، فإن رضيت عنك فاتق وبرها) ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: إسنادهما جيد.

ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه، قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه: ارجع إلى أمك فالزمها، قال: فجئته من قبل وجه آخر، فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال: الزم أمك، فقلت له ثالثة، فقال: ويحك الزم رجلها فثم الجنة) رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسند صحيح، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فقال في سياق حديث طويل: (ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: قراءة من هذه؟ فقيل لي: قراءة الحارث بن النعمان فقال: كذلكم البر! كذلكم البر! وكان الحارث من أبر الناس بأمه) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل، والمكانة الرفيعة، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ورسالتها السامية، واعتراف بأثرها البليغ في قوة الأمة، ومكانة أجيالها، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة، ومن الشرور والأضرار الوخيمة.

الأم المربية أنشأت العلماء

ولذلك أي شيء يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح، إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه وينسون أن الأصل الأول، وأن البصمة الأولى، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أم مربية!

خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ، نقبوا في صفحات حياتهم، ارجعوا إلى أيام طفولتهم، سترون وراءهم أماً عظيمة مربية، فهذا سفيان الثوري إمام التابعين، وعلم المحدثين، ورمز الزاهدين، ربته أمه وقالت له: يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي، كان أبوه ميتاً فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه، وتدرج به في خطواته الأولى عليه، وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره، فكانت تقول له: يا بني! إذا كتبت عشر طرق -أي من الحديث- فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك.

تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس، وأنه ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى، بل ربما يكون ضرراً وإثماً لا قدر الله، أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل، والعالم العظيم؟

انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات وكيف كان الأثر التربوي يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمان في سويداء القلوب، وسمات أخلاق في أعماق النفوس، فهذه الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: من كان صائماً فليتم صومه، ومن لم يصم فليمسك -أي: عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه- قالت: فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم أبناءنا -أي: الصغار- قالت: فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن، فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب) تلك هي التنشئة، وتلك هي ملامح ومعالم التربية، أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء، جيل الأعزاء المجاهدين، أخرجت جيل العلم والعلماء، ويوم افتقدنا هذه الأم المربية، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهية عابثة، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبنات ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم أخرجت لنا أجيالاً لم يعد لها حظ من سمت الإيمان، وصفة الإسلام، واستغربت في فكرها، وامتهنت في شكلها وهيئتها، وذلت في عزتها، وضعفت في إيمانها.

أقوال الغربيين تشهد لمنهج الإسلام في وظيفة المرأة

ولعلي أمضي بكم إلى ساحة أخرى أريد منها أن أؤكد أن هذا المعنى مهم ومعترف به حتى عند غير المسلمين من العقلاء والحكماء؛ لأن بعضاً من أبناء جلدتنا قد التوت أعناقهم فلا يرون إلا جهة الغرب، ولا يرون إلا المجتمعات المتحضرة كما يقولون، وربما لا تكاد آذانهم تصغي أو تسمع إلا لقول أولئك ولا ترى النموذج والقدوة إلا في أفعالهم وأحوالهم.

أما وقد أصبح ذلك حال بعضهم فلا حرج أن ننقل لهم أقوال القوم وأحوالهم، لنريهم بعض ما يعيدهم إلى رشدهم وصوابهم، هذه كلمات ومواقف ينبغي أن نلتفت إليها، وسأذكر من بعد منهجاً عظيماً نحتاج إليه وإلى التذكير به.

أول ذلك ما ذكرته زوجة لأحد رواد الفضاء الأمريكيين السابقين وقد كانت ربة منزل، ليست موظفة ولا عاملة، وإنما مهنتها كما نكتب في مهن بعض أزواجنا ربة بيت، وبعض نسائنا اليوم تطأطئ رأسها خجلاً إن سئلت ما هو عملك؟ وكأن هذه المهمة أصبحت شيئاً يستحيا منه، أو مرتبة لا تريد المرأة أن تكون فيها، مع أنها أسمى المراتب وأعلاها، وأعظم الوظائف وأكثرها أهمية وجدوى، حتى من الناحية الاقتصادية تقول هذه المرأة الغربية: أنا مسرورة جداً ببقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي، حتى في الأيام العصيبة التي كنا فيها في حاجة إلى المال لم يطلب مني زوجي أن أعمل، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر حاجاتنا الضرورية إن قل المال، لا تأكل هذا النوع وكل هذا، ولا تركب هذه السيارة واركب هذه، يمكن تدبير الأمور قالت: ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من يدنا.

إن لم يكن في بيتك أم مربية فما هو البديل؟ خادمة! هي لم تحمل هذا الطفل في رحمها، ولم تعانِ في ولادته، ولم تكن يوماً مرضعته، ولا يهمها شأنه، ولا يعنيها مستقبله، ولا تنتمي إلى مجتمعه، بل ربما لا تنتمي إلى دينه ومعتقده.

أو ما هو الحل الآخر؟ أن يسرح الأبناء إلى مؤسسات هنا أو هناك كما هي في مجتمعات الغرب، تكون كما يقول الرافعي رحمه الله للعشرين منهم أم واحدة، هذه موظفة ليست أماً، فلا تعطيهم شيئاً من معاني الأمومة فضلاً عن أن تمنحهم شيئاً من معالم التربية.

البدائل قضية مهمة، فقد نستطيع أن نسد ثغرات هنا أو هناك، الأعمال والوظائف فيها رجال ونساء، إن تخلينا أو اضطررنا إلى التخلي عن امرأة في مكان ما فلسنا عاجزين عن أن نأتي بغيرها من الرجال أو النساء بحسب الحال، لكنك إن لم تجد في بيتك أماً مربية هل يمكن أن تكون أنت أيها الرجل أماً مربية، خاصة في سن الصغر؟ هل يستطيع رجل واحد أن يحتمل البقاء مع طفل في الثانية أو الثالثة من عمره أكثر من ساعة أو ساعتين دون أن يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور ويصيح ويضيق، فإنه لم يخلق لذلك، ولم يكن في نفسه وفكره وطبيعته لذلك، بينما هو يستطيع أن يحتمل الصعاب، وأن يرابط الأوقات الطويلة في عمله دون كلل أو ملل؛ لأن الله جل وعلا قد ركبه وخلقه على هيئة تصلح لذلك.

ومن هنا أيضاً نقول من مقالات بعض القوم: المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عامل بسيط، ولكنها لا تؤدي عمل امرأة، فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد جعلها في هذه المرأة مناسبة لهذه المهمة، أولاً في الأصل الخلقي الطبعي هل رأيتم في حياتكم رجلاً يحمل ويلد؟ وإن كنا نقرأ أحياناً من الطرائف والعجائب والغرائب ما يكتب في بعض الصحف مثل هذا، ولست واقفاً عنده، لكنني أقول: كل الناس حتى الذين يرتقون إلى أعلى الدرجات في المطالبة بالمساواة لم نسمع عن أحد منهم أنه طالب أن يساوى الرجل بالمرأة في الحمل والوضع والولادة، لماذا؟ لو كان من الناحية النظرية لدعوا إلى ذلك وطالبوا به، لكن هذا محال لطبيعة الخلقة، فإذا سلموا في هذا فلماذا لا يسلمون في طبيعة الفطرة والخلقة فيما وراء ذلك؟!

يقول أحد الغربيين أيضاً: إن الرجل يبحث عن المرأة تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها، وليست المرأة التي تملأ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع، وتخلف وراءها بيتاً يفترسه الضياع والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة.

ووقفتنا الأولى: ومضة سريعة في المكانة والأهمية التي جعلها إسلامنا للأم، ولدورها الرائد في التربية.

قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] قال ابن عطية في تفسيره: ذكر الله الأم في هذه الآية في أربع مراتب، والأب في مرتبة واحدة، وجمعهما الذكر في قوله تعالى: (بوالديه) ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، وهذا يناسب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، وللأب الربع، وذلك حين جاءه الرجل فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك).

وهذا أمر بين واضح ودور فطري خلقي أراده الله عز وجل لكمال البشرية، ولحسن انتظام الحياة في هذه الدنيا، وروى الترمذي : (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم قال: فبرها) أي: ذلك طريق توبة وتكفير ذنب.

ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه -أي: ربما كان من أهل الأعذار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج، ومعتمر، ومجاهد، فإن رضيت عنك فاتق وبرها) ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: إسنادهما جيد.

ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه، قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه: ارجع إلى أمك فالزمها، قال: فجئته من قبل وجه آخر، فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال: الزم أمك، فقلت له ثالثة، فقال: ويحك الزم رجلها فثم الجنة) رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسند صحيح، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فقال في سياق حديث طويل: (ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: قراءة من هذه؟ فقيل لي: قراءة الحارث بن النعمان فقال: كذلكم البر! كذلكم البر! وكان الحارث من أبر الناس بأمه) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل، والمكانة الرفيعة، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ورسالتها السامية، واعتراف بأثرها البليغ في قوة الأمة، ومكانة أجيالها، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة، ومن الشرور والأضرار الوخيمة.

ولذلك أي شيء يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح، إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه وينسون أن الأصل الأول، وأن البصمة الأولى، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أم مربية!

خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ، نقبوا في صفحات حياتهم، ارجعوا إلى أيام طفولتهم، سترون وراءهم أماً عظيمة مربية، فهذا سفيان الثوري إمام التابعين، وعلم المحدثين، ورمز الزاهدين، ربته أمه وقالت له: يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي، كان أبوه ميتاً فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه، وتدرج به في خطواته الأولى عليه، وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره، فكانت تقول له: يا بني! إذا كتبت عشر طرق -أي من الحديث- فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك.

تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس، وأنه ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى، بل ربما يكون ضرراً وإثماً لا قدر الله، أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل، والعالم العظيم؟

انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات وكيف كان الأثر التربوي يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمان في سويداء القلوب، وسمات أخلاق في أعماق النفوس، فهذه الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: من كان صائماً فليتم صومه، ومن لم يصم فليمسك -أي: عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه- قالت: فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم أبناءنا -أي: الصغار- قالت: فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن، فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب) تلك هي التنشئة، وتلك هي ملامح ومعالم التربية، أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء، جيل الأعزاء المجاهدين، أخرجت جيل العلم والعلماء، ويوم افتقدنا هذه الأم المربية، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهية عابثة، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبنات ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم أخرجت لنا أجيالاً لم يعد لها حظ من سمت الإيمان، وصفة الإسلام، واستغربت في فكرها، وامتهنت في شكلها وهيئتها، وذلت في عزتها، وضعفت في إيمانها.