الأم المربية [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وعم نواله، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الذي بعثه الله جل وعلا إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفا.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية مصدر قوة، وصمام أمان في المجتمع، حديث بدأناه نصل القول فيه حتى يستوفي هذا الأمر حقه لما له من أهمية وفائدة، ولعلنا نقرر في بداية هذا الحديث الدور العظيم للأم في تربية الأبناء، وتنشئة الأجيال، وندرك ذلك من خلال أمرين:

أن هذا الدور للأم مرتبط بالأطفال، والطفل هو الأمة كلها، هو مع غيره وبقية الأطفال يكونون جيل المستقبل القريب قبل البعيد، ومن هنا فإن الدور الإصلاحي والتربوي الذي يوجه إلى هؤلاء الأطفال منذ ولادتهم ومنذ نعومة أظفارهم إنما يقوم به يد الأم المربية، وصدرها الحاني، وفكرها وعلمها النير، وسلوكها وخلقها الفاضل، وحينئذ ندرك أننا أمام مفتاح التغيير كما أشرنا.

الجانب الثاني: أن الطفل والنفس البشرية بعمومها عظيمة في غرابتها وفي تقلباتها، والطفل عالم من المجهول، لا يكاد يعرف مسالكه ودروبه الخفية إلا تلك الأم، إنها تكاد تقرأ في نظراته حاجته، وتعرف من قسمات وجهه مشاعره، إنها التي تستطيع أن تكتشف ما لا يكتشفه الرجل بحال من الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك فإننا لا بد أن نعطي هذه المهمة لمن يعرف خفاياها، ويبصر دقائقها، وذلك من الأهمية بمكان.

وهنا وقفة لا بد منها: فإن التربية مسئولية مشتركة بين الوالدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] ، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وفيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (والرجل راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).

فلا بد من تكامل وتعاون، لكننا ندرك أن الدور الأكبر في مثل هذا للمرأة سيما في سن الطفولة الأولى، لماذا؟ لأن عند الرجل مشكلتين طبيعيتين من واقع طبيعته وخلقته ودوره وعمله في هذه الحياة، ومن حيث الكم فإن الوقت الذي يقضيه مع أبنائه أقل بكثير مما تقضيه الأم معهم، وذلك بطبيعة عمله وحاجته إلى الكسب والكدح في هذه الحياة الدنيا، وارتباطه بالمشكلات في هذه الحياة. ومن حيث الكيف فإن الأب غالباً ما يعود إلى بيته مرهقاً متعباً جسدياً بسبب العمل والبذل والجهد، ومنشغلاً فكرياً بسبب المشكلات والتخطيط والترتيب.

فهو أقل استعداداً للعطاء النفسي والعاطفي والفكري من هذه الأم، التي يدور محور رحى حياتها حول أبنائها، فقلبها لا يخفق إلا بالمحبة لهم، ونفسها لا تضيق إلا في الحزن أو الأسى على أحوالهم، وفكرها لا ينشغل إلا بتدبير أمورهم، فهي قد خلقت وجبلت لتكون كذلك، ومن هنا ندرك أهمية هذا الدور، وندرك أنه إذا اختفى أو غاب أو تقلص إلى حد كبير، فإن أحداً لا يمكن أن يعوضه، ولا يستطيع أن يتقنه، ولا يمكن أن يستمر فيه على المدى الطويل.

ومن هنا أنتقل إلى تصوير هذه المهمة: إن مهمة المرأة المربية كمهمة الدولة الحاكمة، أليست الدولة الحاكمة لها رعايا تحتاج إلى تدبير شئونهم الاقتصادية، ورعاية أمورهم السياسية، ومعرفة أحوالهم القضائية.. وغير ذلك من الأمور؟

والأم كذلك تقوم بدور مجلس الوزراء كله، فهي تقوم بمهمة تربية وتعليم، وثقافة وإعلام، وإدارة واقتصاد، ومهمة صحة جسدية ونفسية، وقس على ذلك غيره من الأحوال المختلفة، فإنك ستجد أن القول الذي يطلق وهو: أن المرأة ملكة في بيتها ليس مجرد تصوير تشريفي أو لبيان المكانة، بل هو كذلك لبيان الدور والرسالة، فهي تقوم بهذه الأدوار كلها، وتقوم بتلك المهمات جميعها، وتسوس تلك الدولة المصغرة في عش الزوجية والأسرة الآمنة، فهل ترون هذا الدور بعد هذا التصوير دوراً هامشياً تافهاً، أو دوراً يحتقر وينتقص، أو دوراً يرى أنه ليست له فائدة ولا أثر؟!

وقفة مع النظرة التي تغيرت وتبدلت نحو السوء وللأسف في واقع مجتمعاتنا إلى الأم المربية.. إلى ربة المنزل.. إلى الزوجة الحانية، إلى التي تهدهد بيدها سرير رضيعها؛ وهي بذلك تهدهد أوضاع الحياة من حولها: هذه المرأة المربية عندما نفقدها في المجتمع تحصل لنا مشكلات كثيرة، اليوم تجد بعض النساء تستحيي أن تقول: إنها ربة منزل، اليوم تجد وسائل الإعلام في غالب أحوالها تقول: إن نصف المجتمع مشلول معطل إذا كانت المرأة في بيتها، فكأنها في بيتها ساهية لاهية عابثة لا تقوم بدور، ولا تؤدي مهمة ولا تقدم نفعاً، ولا تقرب فائدة بحال من الأحوال، ثم كذلك فوق هذا أصبحت المنافسات لهذه المهمة كثيرة، وهي متعددة ومتنوعة، صرفتها شواغل من الإعلام الذي صرف عقول النساء، واستلب أوقاتهن، وغير أفكارهن، وأوجد الخلل في مشاعرهن.

وجانب آخر في صور اجتماعية فارغة كثيرة، أصبحت المرأة حاملة حقيبتها، ماضية في هذه المناسبة أو تلك، وفي هذه الزيارة أو تلك، وبعد ذلك كأنما ليس وراءها مهمة، وليس عندها حصن تقوم عليه وترعاه وتحرسه، وبعد ذلك العمل الذي تشعبت نواحيه، والذي أصبحنا اليوم نسمع ضرورته وأهميته، وأنه يجب ألا تبقى امرأة إلا وقد عملت في كل ميدان، وفي أي وقت، وفي سائر الأنحاء، وكأنها ليست هناك مهمة.

وليس هذا منعاً لعمل المرأة في كل جوانب الحياة التي يشرع فيها العمل، وفي قدره وبحاجته، ولكننا ندرك أننا سنجني ثماراً مرة كلما وسعنا هذه الدائرة وأطلقناها، ورغبنا فيها على حساب معرفة المهمة الكبرى للمرأة.

واستمعوا إن شئتم إلى تجارب الأمم الأخرى والتي ينظر إليها البعض على أنها مجتمعات وحضارات يراد أن نقتدي بها، لا أريد أن أشير إشارات مطلقة، فإن الإشارات المطلقة معروفة، ومجتمع الغرب اليوم وحضارة العصر اليوم لا أقول: إنها تجني ثماراً مرة، ولكنها تعيش حياة الضنك والضيق التي وصفها الله عز وجل بقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] ليست بالآلاف ولا بعشرات الآلاف، ولا الملايين، بل بعشرات الملايين من الأطفال الذين يعتبرون لا أسر لهم من الآباء والأمهات، اللائي ينشأ عندهن أو يأتيها هذا الطفل وهي لاهية ساهية منشغلة بعملها، منطلقة في حياتها، إضافة إلى أمور أخرى.

ولكني أنقل لكم تجربة واحدة في مقالة محددة لشخص معروف، وهو الزعيم السوفيتي السابق غورباتشوف الذي يقال: إنه صاحب الإصلاح الأكبر في تلك البلاد، يخبرنا عن التجربة التي خاضها هو ومن معه، ويخبرنا عن الدور الرائد الذي قاموا به في مساواة المرأة، وفتح الأبواب أمامها، وغير ذلك من النجاحات، ثم يقف ويستدرك ويقول: ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولي والشاق عجزنا عن أن نولي اهتماماً لحقوق المرأة الخاصة، واحتياجاتنا الناشئة عن دورها كأم وربة منزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها للأطفال. إن المرأة استعملت في مجال البحث العلمي، وفي مجال الإنتاج، والخدمات، وشاركت في النشاط الإبداعي، ولم يعد لها وقت للقيام بواجباتها في المنزل وتربية الأطفال وإقامة جو أسري طيب، لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشواب، وفي معنوياتنا وثقافتنا في الإنتاج تعود جزئياً إلى تدهور العلاقات الأسرية، ولهذا السبب فإننا نجري مناقشات جادة بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة.

إنهم في ذلك الوقت منشغلون بهذا الأمر؛ لأنهم وجدوا آثاره الوخيمة، وأضرارها العظيمة في شتى مجالات الحياة.

إن غياب دور الأم المربية يعني أطفالاً مشوهين نفسياً؛ لأنهم فقدوا عطف وحنان الأمومة؛ أثبتت الدراسات العلمية أنه تبقى آثاره غائرة في قلوب ونفوس هؤلاء الأطفال، وينشئون وعندهم من الاضطراب النفسي، والحرمان العاطفي، ما يكونون به غير أسوياء، وغياب دور المرأة ومعها كذلك غياب دور الأب هو الذي أوجد في مجتمعاتنا اليوم انحرافات فكرية وسلوكية، حتى رأينا ما لم نكن نرى من قبل، وسمعنا ما لم نكن نسمع من قبل، ورأينا كيف أثرت هذه الأوضاع في حياة شبابنا على واقع مجتمعاتنا.

وإذا مضينا حتى إلى الجانب الاقتصادي الذي يكثر الحديث فيه والجدل حوله ويقال: إن المرأة معطلة فنصف المجتمع مشلول، الاقتصاد يحتاج إلى تحريك، التنمية الاقتصادية في أمس الحاجة إلى المشاركة الكاملة للمرأة.

ونحن نقول: إن عمل المرأة مطلوب في المجالات التي يحتاج إليها، أو إذا هي احتاجت إليها بالضوابط الشرعية، ولكننا نقول قبل ذلك ومعه وبعده: ينبغي أن نوفر الأسباب الكاملة لأداء المهمة الأولى بأحسن صورة ممكنة.

ومرة أخرى نقول: إنه من تضليل الرأي العام، ومن خداع الناس أن نردد مثل هذه المقالات، وإذا خرجت المرأة للعمل فهل ذلك يعود بالضرورة على الأسرة أو على المجتمع بنفع اقتصادي كما يصور في ضخامته وفي عظمته؟! إن وراء ذلك خادمة يؤتى بها، وحاضنة أو مربية يؤتى بها، وحضانة أو مكان يدفع إليه بالأبناء لتعويض غياب المرأة، وكل ذلك إنفاق لم يكن له وجود بحضور المرأة في بيتها.

ثم انظر كذلك ما قد يضاف من السائق والخدمات الأخرى الملازمة والمصاحبة لذلك، فإن الأمة المنشغلة بالأعمال بذلك الرحابة الواسعة كثيراً ما يحتاج مع وجودها وانشغالها في عملها إلى شراء الأطعمة من الخارج، وأنتم اليوم ترون كم هي المطاعم منتشرة؟! وكم هي النيران في البيوت مطفئة؟! لأنه لا أحد عنده وقت ليقوم بهذه المهمة، ولأن المرأة إذا أدخل في ذهنها أنها أعلى وأسمى من أن تطبخ أو أن تؤدي دوراً تغذي فيه أبناءها أو ترعى زوجها؛ فإن وراء ذلك من الإنفاق الاقتصادي ما وراءه، بل قد أثبتت الدراسات الاقتصادية أن المرأة إذا عملت أنفقت على نفسها أكثر، فهي تحتاج إلى نوع من الملابس أكثر، وإلى نوع من الزينة أكثر، وتحتاج أيضاً من المتطلبات للعمل أكثر، وإلى مناسبات أخرى ترتبط بالعمل اجتماعياً أكثر، وهذا كله إنفاق، ويكون حينئذ الأثر الاقتصادي مربوطاً بالمصلحة المتعينة في الحاجة التي تحتاجها المرأة، أو فيما يكون في جملته حاجة المجتمع دون حاجة إلى مثل هذا التهويل والتعظيم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في إشارة مهمة إلى الدور الاقتصادي للمرأة في داخل منزلها: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد، وأرعاه على زوج في ذات يده)، إن المرأة المسلمة العاقلة هي مدبرة اقتصادية في منزلها تحسن الإنفاق، وتزيد التوفير، وتجعل نوعاً من الاقتصاد الذي يقي الأسرة أو يؤمنها أو يعينها في أوقات المحن.

ثم إن المرأة في بيتها عندما تستشعر ذلك الجهد الذي يبذله زوجها، والمال الذي يحصله، تعرف أنها معنية بمثل هذه السياسة الاقتصادية، أما إذا كانت لا تأخذ إلا المال وتصرفه، وتخرج وليس وراءها مسئولية إنفاق وتدبير، فإنها حينئذ لا تكون على ذلك النحو.

ووقفتنا الأخيرة: الحديث عن الدور الحقيقي لهذه الأم في تلك المملكة التي تحدثنا عنها، وهنا أقسم الحديث إلى قسمين:

الأول دورها العام بشكل مجمل في البيت والأسرة.

الثاني: الدور التربوي المفصل الذي يتناول تربية الأطفال في المجالات المختلفة.

أما دورها الأول فهو دور السكن للجميع، هذه المرأة ليس دورها لأطفالها فحسب، بل دورها أوسع لزوجها ولأطفالها، ولجو الأسرة كله، اليوم نرى التشنج والتوتر، نرى الصراخ والنزاع والشقاق، نرى الأبناء وهم يعيشون في أجواء من الخصومات الزوجية لأن المرأة لم تع دورها، ولم تقم برسالتها، يقول الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] ويقول الحق سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189] تهيئة الأجواء العامة، أجواء الهدوء والسكينة، أجواء المحبة والمودة، أجواء التعاون والتكامل، أجواء الروح التي تسري من قلب هذه الأم إلى زوجها، فتشيع فيه المحبة والعطف والقرب والتلاحم، وإلى أبنائها فتشيع فيهم الحنان والعطف والرعاية الكبيرة العظيمة، وإذا بهذه الأسرة جنة من جنان الله عز وجل في الأرض لا تكاد ترى فيها نزاعاً ولا شقاقاً، تلك البيئة تصلح حينئذ أن تكون بيئة تربية، وتصلح حينئذ أن تكون بيئة من اللبنات القوية في بنيان المجتمع مهما وجهت لها من سهام الأعداء غزواً فكرياً أو انحلالاً خلقياً، أو ضغطاً أو نحو ذلك، فإنها تكون بإذن الله عز وجل كالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها السهام والنصال.

الجانب الثاني: الإدارة الناجحة، المرأة هي الحاكمة في بيتها بحسن تدبيرها ورعايتها، وذلك في وجوه كثيرة من أهمها: تنظيم الأوقات والأغراض، بعض النساء وخاصة من تخرج من بيتها كثيراً لغير فائدة فإنك تجد أن الوقت عندها مضيع، والأغراض مبعثرة، وأنه ليس هناك دقة في أوقات الطعام، ولا في أوقات المنام للأطفال وغير الأطفال، فتجد حينئذ جواً من الفوضى والاضطراب يسود ذلك المنزل.

ومن جهة أخرى: استغلال الفرص والأحداث، هذه الأم الحكيمة المربية، وتلك الزوجة العاقلة الراعية تحسن عند كل حدث من الأحداث -اجتماعية كانت أو اقتصادية خاصة أو عامة- أن تدبر، وأن ترتب، فإذا ضاقت ذات يد الزوج أحسنت استغلال الفرص، وأحسنت تربية الأبناء وتذكيرهم بالنعم، وتذكيرهم بحال غيرهم ونحو ذلك، وإذا جاءت حالة أخرى لبست لها لبوسها، وإذا جاء حادث وفاة ذكرت، وإذا جاء حادث فرح بينت ونحو ذلك، فيكون لها الدور الكامل في مثل هذا.

وأخيراً تؤدي دور التكامل والتعاون مع الرجل في نوع من الوفاق والملاءمة الكاملة، ونحن إنما نشير بذلك إشارات، والأمثلة في تاريخ أمتنا كثيرة.

ثم إذا نحن نظرنا إلى التفصيل فذلك موضوع يحتاج إلى بيان أكثر، وهو تفصيل تربية الأبناء إيمانياً وعبادياً وخلقياً وفكرياً ونفسياً، وذلك ما نجعل له حديثاً مستقلاً، نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا كتاب ربنا، وأن يربطنا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل أزواجنا أمهات مربيات، وزوجات صالحات، وبنات بارات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمر قلوبنا بالتقوى.

وإن مما ينبغي لفت النظر إليه ونحن اليوم نستقبل أول أيام الإجازة الصيفية أن ننبه الآباء والأمهات على مسئوليتهم التربوية تجاه أبنائهم في هذه الإجازة الممتدة أشهراً متعاقبة، وأوقاتاً متطاولة، أن يعنوا بإعطائهم من الوقت والجهد والتوجيه ما هم في أمس الحاجة إليه، وهنا أشير إشارات متنوعة:

هناك برامج كثيرة في بلادنا تشغل الأوقات، وتعمر القلوب بالتقوى، وترطب الألسنة بالذكر، وتوجه العقول إلى الخير، وتقوم السلوك والأخلاق على النهج القويم، حلقات ودورات صيفية للقرآن الكريم، حفظاً وتلاوةً وتجويداً وتفسيراً وتعليماً، تمتلئ بها مساجد هذه البلاد الطيبة، يتلقى فيها الأبناء في هذا الوقت جرعة عظيمة مكثفة، من كتاب الله عز وجل بحسب فراغ الوقت، وامتداد الصيف، فإذا بهذه القلوب تتشرب آيات الله عز وجل، والصدور تحفظ عن ظهر قلب كلام الله سبحانه وتعالى، وإذا بها تشيع فيها أحكام وآداب وأخلاق القرآن الكريم التي تهدي إلى ما هو أقوم كما أخبر الله عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].

كذلك الدورات العلمية الشرعية التي تمتلئ بها كثير من المساجد الكبيرة، وأقربها إلينا ما نذكر به دائماً مسجد الملك سعود الذي فيه الدورة الصيفية الشرعية المستمرة لسنوات طويلة، دروس في الفقه، وأخرى في السيرة، وثالثة في علوم القرآن، ورابعة في غيره، وفي هذا يوجد في وقت يسير ومتاح ومتعاقب في الأيام والأسابيع المتوالية معنا في هذه الدورات من مسابقات علمية تحث على معرفة كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاطلاع على كتب الأئمة والعلماء، ومعالجة أوضاع واقعنا المعاصر لشبابنا وشاباتنا على وجه الخصوص.

فأي خير أعظم وأنفع لأبنائنا وبناتنا من مثل هذه الدورات! وهي متاحة للذكور والإناث بحمد الله عز وجل، ومن وراء ذلك المخيمات الدعوية بما فيها من البرامج الترفيهية المباحة، وفرص للأطفال في اللهو واللعب والتوجيه والإرشاد، معنا في ذلك أيضاً من البرامج المختلفة المتنوعة من الأمسيات والندوات الشعرية، وفوق ذلك وقبله المحاضرات التوعوية الإرشادية النافعة، وحسبنا أن نشير إلى أن المخيم القريب منا في أرض المطار القديم، قد زاره ووفد إليه في العام الماضي نحو نصف مليون من الرجال والنساء، وبعد ذلك ومعه كذلك المراكز الصيفية المتنوعة المختلفة، بما فيها من برامج الرياضة والفكاهة والترفيه، ومع ما فيها من الدورات التأهيلية والتدريبية، ومع ما فيها أيضاً من الدروس والمحاضرات والبرامج المتنوعة.

فأي خير أعظم من هذا! ونحن نرى ذلك ونرى أن استمراره وزيادته إنما يشكل بؤرة لاحتواء الشباب، واستغلال أوقاتهم فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة، وكذلك للأبناء الكبار فرص من العمل في بعض الوظائف يتعودون فيها على الجد، ويحرصون فيها على الكسب، ويكتسبون خبرات الحياة، والآفاق في ذلك واسعة، فما على الآباء والأمهات إلا أن يولوا العناية والاهتمام، لا أن يصيحوا ويقولوا: ماذا نفعل؟! وليس عندنا وقت، إن لم يكن عندك وقت فليكن لك وقت أن تجلس معهم، وأن تتجاذب معهم أطراف الحديث، وأن تتشاور معهم في الالتحاق ببعض هذه البرامج، فإذا دخلوا فيها شغلوا أوقاتهم بالنافع المفيد، وأصبح دورك في المشاركة معهم في بعض البرامج متمماً ومكملاً وكافياً بإذن الله عز وجل.

فهذه فرص عظيمة، وهذه مزايا قل أن يوجد مثلها في غير هذه البلاد، فلا ينبغي لنا إلا أن نحرص على الانتفاع منها، والتشجيع عليها، والطلب من الاستزادة منها، والتنويه والذكر لدورها وفائدتها وأثرها، وذلك ما أحببت أن أشير إليه كرابط لدور التربية للآباء والأمهات.

نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح شبابنا وشاباتنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغ فيما يرضيك آمالنا.

اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء!

اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، رد اللهم كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنهم طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فاكفناهم بما شئت يا رب العالمين، واشف اللهم فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين!

اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين، والمعذبين والمشردين المبعدين، والأسرى والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين!

اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.

اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه وشر وضر يا رب العالمين! اللهم يسر لنا أمنها وأمانها وسلمها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، وردها وجميع المسلمين إلى دينك رداً جميلاً يا رب العالمين.

اللهم اجعلنا بالحق مستمسكين، ولكتابك متبعين، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم مقتفين، ولآثار السلف الصالح متابعين، اللهم يا رب العالمين لا تضلنا بعد الهدى، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين.

اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.

عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأم المربية [3] 1806 استماع
الأم المربية [1] 958 استماع