الإسلام الذي ندعو إليه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى بين الدين لعباده أتم بيان، فأرسل به أبلغ البشر، واختار له أفصح الألسنة، وأنزله بأكمل الكتب وأتمها بيانا، ثم عهد إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بتبيين ما أنزل إلى الناس بياناً شافياً لأفعاله وأقواله وسننه، فأدى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحسن الوجوه، وبينه أتم بيان، وشهد الله عز وجل له بذلك، فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، فقد أدى الذي عليه، أدى الأمانة وبلغ الرسالة وأدى ما أمره الله به على أحسن الوجوه وأتمها، كيف لا؟ وقد اختاره الله لذلك من بين الخلائق جميعا، واصطفاه وانتقاه من لدن آدم إلى نهاية البشر، وعصمه من الخطأ والزلل، وغفر له ما تقدم وما تأخر، وشرفه على الثقلين كافة الإنس والجن، وجعل رسالته خاتمة لجميع الرسائل، مصدقة لما بين يديها من الحق، مهيمنة على الجميع، شاهدة على الناس كلهم، وأكمل به رسالات الرسل إلى أهل الأرض، فجعله خاتم النبيين وإمام المرسلين، فلا يحتاج الناس بعد بيانه إلى بيان، لكنه في غمرة وفوضى الأيدولوجيات والمذاهب وانتشارها بين الناس، وبالأخص عندما يتخذ الإعلام وسيلة حرب، فيقصد به غزو الناس في عقائدهم، والتأثير على مقدساتهم، وشغلهم وملءُ فراغهم بما لا علاقة لهم به.

ويقصد به كذلك تحييد قادتهم عن هموم أمتهم، وانتزاعهم عن مكانهم اللائق بهم، فقادة الأمة مكانهم أن يقودوها إلى الأمام لا أن يقودوها إلى الخلف، وأن يقدموها حتى تأخذ مكانها الذي تستحقه بين الأمم، وقد سمعتم في سورة آل عمران قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فالخيرية موجودة في الأمة، والتقهقر والتراجع الذي يحصل ليس لذات الأمة وإنما هو من أجل السياسات المتبعة في قيادتها.

في هذه الغمرة وفي مثل هذه الأوقات تسمعون كثيراً من المفاهيم المشاعة التي تؤثر على النفوس، ويتمسك بها الناس دون أن يدركوا أبعادها وما يقصد بها.

مفهوم الإرهاب

فمن المفاهيم الشائعة في الإعلام والتي شغلت فراغ الناس مفهوم الإرهاب مثلاً، وهو مفهوم لم يتفق أهله ومشيعوه على تفسير له، بل إن أكاديمية دراسات الأمنية التابعة للجامعة العربية قد عدت أكثر من مائتي تفسير للإرهاب كلها متباينة.

ومؤتمر وزراء الداخلية العرب الذي انعقد في تونس قديماً لتحديد مفهوم الإرهاب لم يتوصل إلى أي مفهوم، فهو من الأمور التي لا تعرف كالغول والبوم والعنقاء:

البوم والغول والعنقاء ثالثها أسماء وأشياء لم تخلق ولم تكن

حقوق الإنسان

وكذلك الحال في مفهوم حقوق الإنسان الذي شغل أيضاً وقتاً كبيراً من وقت الناس، وكثرت الدراسات فيه والمؤلفات والكتب، وتكلم عنه كثير من أنواع الناس في مختلف الأيدولوجيات والشرائح، هو أيضاً غير محدد، فسمع كل يوم من الانتهاكات التي يقوم بها الذين يدعون أنهم الراعون لحقوق الإنسان ما لا حصر له ونشاهدها كذلك ونعرف أن المكاييل مختلفة وأن المعايير متباينة، وأن الإنسان إذا كان مسلماً ليس له حقوق، وليس له احترام.

فإذا كان قتل الأبرياء في العراق وإبادتهم وكان تحطيم البيوت على الأطفال الرضع والشيوخ الركع، في فلسطين، غير مخالفٍ لحقوق الإنسان، وغير انتهاك لحرمته، فمتى تكون حرمة الإنسان موفورةً وبأي شيءٍ ترعى، وما هي حقوق الإنسان حينئذ؟

الحرية

وكذلك مفهوم الحرية الذي هو من المفاهيم الشائعة، فهذا المفهوم الذي ينادي به كثير من الناس، وأصبح من المصطلحات المحبوبة لدى الناس، وكل إنسان يتغنى بالحرية وينشدها، ويرى أنها هي الحق المقدس لكل إنسان، هي أيضاً كما نرى في هذه الأيام تكال بمكيالين أو أكثر، فالدولة التي صدرت عن ثورتها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهي فرنسا، التي تزعم أنها هي مهد الحضارة الغربية وقائدة النهضة في هذا العصر، تتدخل لحريات الفتيات لمنعهن من ارتداء أي ملابس؛ لأنها ارتضاها ربهن لهن؛ ولأنها جاء بها هذا الدين الخاتم القاضي على كل الأديان.

وأنتم تعلمون جميعاً أنه لو كان للفتيات زيٌ مخالف للحشمة مخالف للحياء، مبدٍ لما حرم الله إبداءه لما اعترضت على ذلك دولة فرنسا، وبهذا تعلمون أن هذه المفاهيم تشملها الضبابية، ويشملها عدم الوضوح، وأن الخديعة الكبرى العالمية الحاصلة في هذه المفاهيم قد انخدع بها كثير من المسلمين، وأصبح أكثر أولاد المسلمين يتغنون بمفاهيم لا يدركون أبعادها ولا ما وراءها، فهم يمجدونها على أساس أن غيرهم قد مجدها، ويتغنون بها على أساس أن غيرهم قد تغنى بها، وإذا رأوا بعض الرفاهة التي تعيش فيها الشعوب الغربية ورأوا وسائلهم لتنظيم حياتهم، كالتبادل السلمي على السلطة عن طريق تحكيم صناديق الاقتراع، ورأوا عدالتهم في توزيع ثرواتهم فيما بينهم، ظنوا أن هذا المفهوم هو الذي يتغنى به، وهو الذي ينبغي أن تطالب به الشعوب جميعاً .

زيف الديمقراطية

ولكن الواقع أن تصرفاتهم مع غيرهم منافية لتلك التصرفات، فالديمقراطية التي ينادون بها ويجعلونها أكبر إنجاز أنجزته البشرية في مجال الحكم، لما أدت إلى ارتفاع شأن الإسلام في الجزائر قضوا عليه، ولما أدت إلى ارتفاع شأنه في تركيا قضوا عليه، وهكذا في كل بلدٍ من البلدان، لا يمكن أن يتركوها إذا كانت تؤدي إلى ارتفاع شأن الإسلام، ويتضح لكم جلياً أنهم هنا يكيلون بمكيالين، ويعيرون بمعيارين، فالديمقراطية التي تؤدي إلى الوصول إلى مصالح الغرب، واتباعهم وجعلهم الأسوة والقدوة الصالحة الحسنة هي التي يمجدها الغرب، والديمقراطية التي تقدم أية حضارة أخرى، وتبينها ولو كانت تلك الحضارة مسالمة مراعية للأمن ليس فيها أي اعتداء، ولا أي ضرٍ بالبشرية، كحضارة الإسلام التي لم يعرف العالم حضارةً أقوم ولا أسلم منها، وهي التي جاءت بالسلم والأمن وراعت للناس جميعاً حقوقهم، وليس فيها تطرف، وليس فيها إرهاب بمعنى الاعتداء.

ليس فيها أي اعتداء بل فيها صيانة النفس والعرض والمال، والحفاظ على مقدسات الناس وأديانهم حتى لو كنا نعتقد أنها غير معتبرة شرعاً، نترك بينهم وبين ما يعتقدونه، وبين ممارسة ما يدينون به، ونضمن لهم أمانهم في كنائسهم وبيعهم، ونحفظهم ونقاتل دونهم، حتى يقتل رجالنا في سبيل الدفاع عن أهل الذمة، وهذه ما يشهد به جميع العالم.

فمن المفاهيم الشائعة في الإعلام والتي شغلت فراغ الناس مفهوم الإرهاب مثلاً، وهو مفهوم لم يتفق أهله ومشيعوه على تفسير له، بل إن أكاديمية دراسات الأمنية التابعة للجامعة العربية قد عدت أكثر من مائتي تفسير للإرهاب كلها متباينة.

ومؤتمر وزراء الداخلية العرب الذي انعقد في تونس قديماً لتحديد مفهوم الإرهاب لم يتوصل إلى أي مفهوم، فهو من الأمور التي لا تعرف كالغول والبوم والعنقاء:

البوم والغول والعنقاء ثالثها أسماء وأشياء لم تخلق ولم تكن

وكذلك الحال في مفهوم حقوق الإنسان الذي شغل أيضاً وقتاً كبيراً من وقت الناس، وكثرت الدراسات فيه والمؤلفات والكتب، وتكلم عنه كثير من أنواع الناس في مختلف الأيدولوجيات والشرائح، هو أيضاً غير محدد، فسمع كل يوم من الانتهاكات التي يقوم بها الذين يدعون أنهم الراعون لحقوق الإنسان ما لا حصر له ونشاهدها كذلك ونعرف أن المكاييل مختلفة وأن المعايير متباينة، وأن الإنسان إذا كان مسلماً ليس له حقوق، وليس له احترام.

فإذا كان قتل الأبرياء في العراق وإبادتهم وكان تحطيم البيوت على الأطفال الرضع والشيوخ الركع، في فلسطين، غير مخالفٍ لحقوق الإنسان، وغير انتهاك لحرمته، فمتى تكون حرمة الإنسان موفورةً وبأي شيءٍ ترعى، وما هي حقوق الإنسان حينئذ؟

وكذلك مفهوم الحرية الذي هو من المفاهيم الشائعة، فهذا المفهوم الذي ينادي به كثير من الناس، وأصبح من المصطلحات المحبوبة لدى الناس، وكل إنسان يتغنى بالحرية وينشدها، ويرى أنها هي الحق المقدس لكل إنسان، هي أيضاً كما نرى في هذه الأيام تكال بمكيالين أو أكثر، فالدولة التي صدرت عن ثورتها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهي فرنسا، التي تزعم أنها هي مهد الحضارة الغربية وقائدة النهضة في هذا العصر، تتدخل لحريات الفتيات لمنعهن من ارتداء أي ملابس؛ لأنها ارتضاها ربهن لهن؛ ولأنها جاء بها هذا الدين الخاتم القاضي على كل الأديان.

وأنتم تعلمون جميعاً أنه لو كان للفتيات زيٌ مخالف للحشمة مخالف للحياء، مبدٍ لما حرم الله إبداءه لما اعترضت على ذلك دولة فرنسا، وبهذا تعلمون أن هذه المفاهيم تشملها الضبابية، ويشملها عدم الوضوح، وأن الخديعة الكبرى العالمية الحاصلة في هذه المفاهيم قد انخدع بها كثير من المسلمين، وأصبح أكثر أولاد المسلمين يتغنون بمفاهيم لا يدركون أبعادها ولا ما وراءها، فهم يمجدونها على أساس أن غيرهم قد مجدها، ويتغنون بها على أساس أن غيرهم قد تغنى بها، وإذا رأوا بعض الرفاهة التي تعيش فيها الشعوب الغربية ورأوا وسائلهم لتنظيم حياتهم، كالتبادل السلمي على السلطة عن طريق تحكيم صناديق الاقتراع، ورأوا عدالتهم في توزيع ثرواتهم فيما بينهم، ظنوا أن هذا المفهوم هو الذي يتغنى به، وهو الذي ينبغي أن تطالب به الشعوب جميعاً .

ولكن الواقع أن تصرفاتهم مع غيرهم منافية لتلك التصرفات، فالديمقراطية التي ينادون بها ويجعلونها أكبر إنجاز أنجزته البشرية في مجال الحكم، لما أدت إلى ارتفاع شأن الإسلام في الجزائر قضوا عليه، ولما أدت إلى ارتفاع شأنه في تركيا قضوا عليه، وهكذا في كل بلدٍ من البلدان، لا يمكن أن يتركوها إذا كانت تؤدي إلى ارتفاع شأن الإسلام، ويتضح لكم جلياً أنهم هنا يكيلون بمكيالين، ويعيرون بمعيارين، فالديمقراطية التي تؤدي إلى الوصول إلى مصالح الغرب، واتباعهم وجعلهم الأسوة والقدوة الصالحة الحسنة هي التي يمجدها الغرب، والديمقراطية التي تقدم أية حضارة أخرى، وتبينها ولو كانت تلك الحضارة مسالمة مراعية للأمن ليس فيها أي اعتداء، ولا أي ضرٍ بالبشرية، كحضارة الإسلام التي لم يعرف العالم حضارةً أقوم ولا أسلم منها، وهي التي جاءت بالسلم والأمن وراعت للناس جميعاً حقوقهم، وليس فيها تطرف، وليس فيها إرهاب بمعنى الاعتداء.

ليس فيها أي اعتداء بل فيها صيانة النفس والعرض والمال، والحفاظ على مقدسات الناس وأديانهم حتى لو كنا نعتقد أنها غير معتبرة شرعاً، نترك بينهم وبين ما يعتقدونه، وبين ممارسة ما يدينون به، ونضمن لهم أمانهم في كنائسهم وبيعهم، ونحفظهم ونقاتل دونهم، حتى يقتل رجالنا في سبيل الدفاع عن أهل الذمة، وهذه ما يشهد به جميع العالم.

فعندما احتل الصليبيون بيت المقدس سارت الخيل في بحار الدم، من كثرة من قتلوا من المسلمين، وبعد مضي خمس وتسعين سنة، لما انتزع منهم بيت المقدس وحرر على يدي صلاح الدين الأيوبي لم تقطر قطرة دم صبراً من غير مقاتل في القدس، ولما جاء الرهبان يبكون وقد أغلقوا كنائسهم، قال لهم القائد المظفر: ارجعوا إلى كنائسكم ومارسوا عباداتكم، فنحن لا نتعرض للرهبان نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الرهبان والنساء والأطفال والشيوخ الكبار، أربعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم في الحرب: الرهبان رجال الدين لا يتعرض لهم، والنساء لا يتعرض لهن ولا تقتل المرأة إلا إذا قاتلت، والشيوخ الكبار لا يقتلون إلا إذا أعانوا برأي، والذراري والأطفال لا يقتلون أبداً.

فهذا ديننا الذي يتضح جداً من خلال هذه المقارنة القليلة البسيطة في واقعة واحدة البون الشاسع بينه وبين ما لدى الآخرين، ويعلم به أنه هو دين الأمن والأمان والسلام، ودين العدل والإنصاف، وقد قال الله فيه: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46]، فعلمنا كيف نجادلهم؟ فذكر الضوابط التي منها أن يكون ذلك بالتي هي أحسن، ليس فيه فظاظة ولا غلظة ولا مصادرة للرأي، وليس فيه احتكار للحق، وفيه بداءة بالمتفق عليه قبل المختلف فيه، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ [العنكبوت:46]، ثم بعد ذلك فيه تميزنا نحن، فإن كانوا لا يعرفوننا فنحن نعرف أنفسنا، فلنا قيمنا وأخلاقنا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46]، هذا تميزنا عنهم.

فإلهنا وإلههم واحد، لكنهم غير مسلمين به ونحن مسلمون به، وكذلك في التعامل مع الكفار من المشركين يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ويقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فنهانا عن الاعتداء حتى على الأعداء المانعين لنا من البيت الحرام، وإن كانوا ليسوا أهله، فأهله هم المؤمنون، وليسوا أولياءه، فأولياؤه بينهم الله تعالى الذي جعله أول بيت بني على الأرض للعبادة، وأول بيت وضع للناس، فقد جعل الله تعالى أولياءه أهل الإيمان: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]، ومع ذلك أمرنا بالعدل مع الذين حالوا بيننا وبينه، الذين ردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه محرمين، وهم يرون الهدي عليه العفاء، ويعلمون أنهم ما جاءوا للحرب، ويعلمون أنهم أهل الصدق والأمانة والإخلاص جاءوا معظمين لحرمات الله، يريدون العمرة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والتحلل، فمنعوهم من ذلك وحالوا بينهم وبين الوصول إلى الكعبة، ومع هذا خاطبهم الله هذا الخطاب، فقال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]. وفي مجادلتهم يقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، وهذا غاية الإنصاف، فنحن لا نشك أننا على هدىً، وأنما عندنا هو الحق الذي يرضي الله، لكن مع ذلك في خطابنا للخصوم لا بد أن نتنزل فنقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].

فلذلك نحتاج إلى بيان هذا الإسلام الذي ندعو إليه في غمرة هذه الرؤى المتباينة، وهذه المفاهيم المضطربة، وهذه الأيدولوجيات المتعارضة، لا بد أن نبين هذا الإسلام الذي ندعو إليه ولا يقصد ببيانه الحد والرسم والتعاريف المنطقية، ولا يقصد ببيانه كذلك إحصاء ما فيه من الشعب، وبيان ما فيه من الواجبات والسنن والمندوبات والمحرمات والمكروهات والمباحات، إنما يقصد به المفهوم الأيدولوجي للإسلام الذي ندعو إليه، وهذا الإسلام الأيدولوجي إنما يتحدد ويتبين ببيان أساليب هذا الإسلام، وأساليب الدعوة إليه وطرق معاملته للآخرين، فهذا الإسلام الذي ندعو إليه دين من عند الله وليس من عند الناس، فهذه أول خاصية تميزه أنه من عند الله لا من عند الناس، فالناس يمكن أن يشرعوا من القوانين ما شاءوا، ويمكن أن يكون ذلك بشفافية وصدق، وأن تأتي أكثرية البرلمانات على تشريع معين، لكنهم لا يعلمون النتائج المستقبلية، فهم يجهلون مآلات الأمور:

وأعلم علم اليوم والأمس ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي

فيمكن أن يشرعوا شيئاً يوافق المصلحة اليوم، لكنه سيكون كارثة غداً، والإسلام ليس كذلك فهو من عند الملك الديان العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، وعلمه بالغد كعلمه بالأمس ولا فرق، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

ومن هنا فلا يمكن أن يقارن بأي تشريع ولا بأي قانون ينتجه أهل الأرض، فقوانين أهل الأرض مبناها على مقتضى علمهم وعلى ما وصلوا إليه من العلم، وهذا العلم قاصر ناقص: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، ودليل ذلك أن الإنسان يتوقع أن شيئاً ما مصلحة له فيرغب فيه غاية الرغب، ويتعلق فيه غاية التعلق، فإذا وصل إليه ندم غاية الندم ورأى أن الجهود المبذولة فيه لم يكن يستحقها، وإذا لم يصل إليه ووجد بديلاً عنه حمد الله أنه لم يصل إليه، وحمد ذلك البديل ورأى أنه هو الأجدى به والأولى له.

ومن هنا نعلم أن الله تعالى حجب مآلات الأمور ومستقبلاتها عن الناس، فالله تعالى خاطبنا في الإسلام بنوعين من أنواع الخطاب:

أحدهما: قدري كوني، وهو قدر الله، تعبدنا بجهله، وسيرنا على مراده.

والخطاب الثاني: تشريعي تعبدي، وهو الخطاب التشريعي تعبدنا الله بعلمه وأمرنا به.

فالخطاب الكوني القدري لا يتعداه بر ولا فاجر، والخطاب التشريعي يقف عنده البر ويتعداه الفاجر، فلذلك نحن نعلم ارتباط الخطابين؛ لأنهما من عند الله وكل من عند ربنا.

فالذي شرع لنا الأحكام لم يخلها عن الحكم، ولم يعطلها عن المصالح، وربطها بها ربطاً عجيبا، ومن هنا فلا يمكن تجزئتها ولا فصل بعضها عن بعض، فالقيم الخلقية هي التي تبنى عليها القيم الاقتصادية، ولو أراد إنسان أن يقيم اقتصاداً مفصولاً عن الخلق والقيم لما استطاع ذلك ولما أمكنه، فالذي حرم الربا وحرم الغش، هو الذي حرم الكذب وأوجب الأمانة، فهي قيم خلقية بها تربط القيم الاقتصادية.

ولذلك لو قدر أن أي ملك من الملوك أو رئيس من الرؤساء أراد تحريم الربا، أو أراد فرض الناس على نوع من المعاملات، دون أن يمهد لذلك بالقيم الخلقية، فإن الناس لن يطيعوه، وسيحتالوا على مخالفة ذلك القانون والخروج من عهدته وعدم التعرض لعقوبته، إما بالرشوة وإما بالوساطة أو غير ذلك من الوسائل.

شعور الإنسان بالرقابة عليه في التشريع الرباني

لكن إذا كان الإنسان يعلم أنه على نفسه بصيرة، وكان مراقباً على نفسه، ويعلم أن معه من لا يفارقه، وأنه في حال خلوته كحال جلوته، وأنه بيدي الخالق الملك الديان، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، لا تخفى عليه خافية، ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، ويعلم أنه أيضاً تحت رقابة الملائكة الكرام الكاتبين: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويعلم أنه تحت رقابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، تعرض عليه أعماله فيـأتي يشهد بها يوم القيامة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، ويعلم أنه تحت رقابة الناس أهل الإيمان الذين هم عدول الله سبحانه وتعالى وشهداؤه، فلا يخفى عنهم ما يخفيه من أحوله وأموره:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفى على الناس تعلم

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، فإنه حينئذٍ لن يتصرف إلا تصرفاً يرضيه أن يراه.

فلا تكتب بكفك غير شيءٍ يسرك في القيامة أن تراه

لن يتصرف إلا تصرفاً يعلم أنه سائر إلى أحد الكفتين، إما إلى كفة الحسنات أو إلى كفة السيئات، وإذا استزله الشيطان فوقع في مخالفة ذلك ندم غاية الندم، وتاب غاية التوبة وأناب غاية الإنابة، وسعى للتكفير، وقد يكون إقباله على الله بعد وقوعه في الذنب أعظم من إقباله فيما لو لم يقع فيه؛ لأن الانكسار الذي يقع بالتوبة سيكون أعظم وأهم مما كان قبل التوبة.

فالتائبون قد أثنى الله عليهم وبدأ بذكرهم قبل ذكر غيرهم من العابدين بأنواع القرب الأخرى، فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )، وإذا كان المسلم بهذا الحال وتحت هذه الرقابات، وهو يعلم أن مصيره قطعاً مرتبط بما يقدم عنه في هذه الرقابات، ويعلم أنه لا يظلم شيئا، حتى لو لم يكن عمله الصالح إلا قصاصةً قدر الظفر كتب فيها: لا إله إلا الله، فهو يعلم أنها ستوضع في الكفة وتوزن ببقية أعماله، ولذلك إذا رآها قال: ( يا رب! ما تغني هذه عن هذه السجلات! فيقول: إنك لا تظلم شيئاً، فتوضع لا إله إلا الله في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات ورجحت: لا إله إلا الله ).

نماذج من المراقبة التشريعية في الإسلام

إذا كان المسلم يوقن بهذا ويعرفه، فتصرفه ليس ناشئاً عن خوف العقاب الدنيوي، ولا هو ناشئ عن الرقابة الدنيوية التي يمكن أن يحتال عليها أو يتخلص منها، فلا هو يسعى للتخلص من العقوبة بالرشوة أو بالخيانة أو بالكذب أو بالإخفاء بأي وجه من الوجوه، بل يأتي طائعاً إذا وقع في ذنب فيقول: يا رسول الله طهرني، كما فعل ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله! أصبت حداً من حدود الله فطهرني )، وفي رواية ( فأقم علي الحد، فأعرض عنه فجاءه مرة أخرى فأعرض عنه، فجاءه ثالثة فأعرض عنه، حتى أتاه رابعة، فقال: لعلك غمزت، لعلك لمست، لعلك قبلت، كل ذلك يقول: لا، فأقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد )، وهو مستسلم لهذا الحد طائع به.

وكذلك حال الغامدية التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها اقترفت حداً من حدود الله وتريد أن يطهرها منه، فلما رجمت لعنها بعض أصحابه فنهاهم، فقال: ( لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكسٍ لغفر له )، فتوبتها توبة عظيمة، وفي الحديث الآخر: ( لو قسمت على خمسين من أهل المدينة لكفتهم، وما تجد أعظم من أن تجود بنفسها لله )، أي: توبتها هي أقصى درجات التوبة أن تجود بنفسها لله، فتطهر من ذنبها بالرجم حتى تموت.

ونجد هذا الحال أيضاً لدى الحارث بن سويد بن الصامت ، الذي قتل المجذر بن زياد والده سويد بن الصامت في حرب بعاث، فلما أسلم هو والمجذر حال الإسلام بينهما، فلما كان يوم أحد ووقع الناس فيما وقعوا فيه، رأى المجذر خالياً فضربه فقتله، ولم يشعر به أحد، فنزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن الحارث قتل المجذر ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف وليس معه أحد من المهاجرين؛ لئلا يظن أنه يتعزز عليهم بقريش أو بالمهاجرين أو بغيرهم، جاء بعزة الله ورسوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، فلما استقبلوه في مجلسهم دعا عباد بن بشر فقال: ( اضرب عنق الحارث بن سويد بن الصامت )، وهو ابن عمه، فجرد عباد سيفه وأراد قتل ابن عمه دون أن يراجع ودون أن يسأل، وهو أحب الناس إليه، فقال الحارث : ( يا رسول الله! على ما تقتلني، فو الله ما نافقت منذ أسلمت، وإني لأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟! فقال: ما قتلتك على النفاق إنما أقتلك بالمجذر بن رياد فقد قتلته غيلة، فقال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ومد عنقه، فضرب ابن عمه عنقه، ففصل رقبته عن رأسه ).

هذا الدين الذي يكون مع الإنسان في كل أحيانه، ويحول بينه وبين المعصية في كل الأوقات ويمنعه من الاعتداء في أي أمرٍ من الأمور، دون أن يحس برقابة، فلا هو يفكر في شرطة ولا يفكر في أجهزة، ولا يفكر في قانون وعقوبة، إنما يفكر في رقابة الملك الديان، لا يمكن أن يقارن بقوانين أهل الأرض التي يضعونها ويرتبون عليها العقوبات التي إذا ردعت شخصاً واحداً فسيحتال عليها عشرة.

لكن إذا كان الإنسان يعلم أنه على نفسه بصيرة، وكان مراقباً على نفسه، ويعلم أن معه من لا يفارقه، وأنه في حال خلوته كحال جلوته، وأنه بيدي الخالق الملك الديان، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، لا تخفى عليه خافية، ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، ويعلم أنه أيضاً تحت رقابة الملائكة الكرام الكاتبين: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويعلم أنه تحت رقابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، تعرض عليه أعماله فيـأتي يشهد بها يوم القيامة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، ويعلم أنه تحت رقابة الناس أهل الإيمان الذين هم عدول الله سبحانه وتعالى وشهداؤه، فلا يخفى عنهم ما يخفيه من أحوله وأموره:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفى على الناس تعلم

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، فإنه حينئذٍ لن يتصرف إلا تصرفاً يرضيه أن يراه.

فلا تكتب بكفك غير شيءٍ يسرك في القيامة أن تراه

لن يتصرف إلا تصرفاً يعلم أنه سائر إلى أحد الكفتين، إما إلى كفة الحسنات أو إلى كفة السيئات، وإذا استزله الشيطان فوقع في مخالفة ذلك ندم غاية الندم، وتاب غاية التوبة وأناب غاية الإنابة، وسعى للتكفير، وقد يكون إقباله على الله بعد وقوعه في الذنب أعظم من إقباله فيما لو لم يقع فيه؛ لأن الانكسار الذي يقع بالتوبة سيكون أعظم وأهم مما كان قبل التوبة.

فالتائبون قد أثنى الله عليهم وبدأ بذكرهم قبل ذكر غيرهم من العابدين بأنواع القرب الأخرى، فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )، وإذا كان المسلم بهذا الحال وتحت هذه الرقابات، وهو يعلم أن مصيره قطعاً مرتبط بما يقدم عنه في هذه الرقابات، ويعلم أنه لا يظلم شيئا، حتى لو لم يكن عمله الصالح إلا قصاصةً قدر الظفر كتب فيها: لا إله إلا الله، فهو يعلم أنها ستوضع في الكفة وتوزن ببقية أعماله، ولذلك إذا رآها قال: ( يا رب! ما تغني هذه عن هذه السجلات! فيقول: إنك لا تظلم شيئاً، فتوضع لا إله إلا الله في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات ورجحت: لا إله إلا الله ).