فقه المواريث - الحساب


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين. اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فقد انتهينا من باب الجد والإخوة، ووصلنا إلى باب الحساب، وهذا ما سنتدارسه في هذه الموعظة إن شاء الله.

أهمية هذا المبحث وفائدته أن بالحساب يتحقق العدل عند أولي الألباب، وبه يصل صاحب الحق إلى حقه بلا ارتياب، وبه تُضبط الأمور على وجه الصواب، ولذلك نوَّه أئمتنا بفضل الحساب عند هذا الباب في كتب المواريث، ففي العذب الفائض في الجزء الأول صفحة ثلاث وعشرين ومائة، قال المؤلف رحمه الله: إن فضل الحساب مشهور، ونفعه في غاية الظهور، وقد دل القرآن المجيد على شرف منزلته وشهد العقل بتمام فضيلته، ثم سرد أبياتاً من الشعر لطيفة ظريفة فقال:

إن الحساب من العلوم جليل وعلى دقيقات الأمور دليل

فهذا علم جليل، وعلى دقيقات الأمور دليل، يوصلك إلى الأمور الدقيقة الخفية، على النقير والقطمير، ويضع كل شيء في موضعه، فهذا له سدس وهذه لها ربع وتلك لها ثلث، ولا يمكن أن نقسم الترك إلا بواسطة علم الحساب.

فاحرص على علم الحساب فإنه برياضة المستصعبين كفيل

يعني: من يصعب عليه حفظ الأشياء وفهمها إذا مُرِّن بواسطة علم الحساب ذكى عقله -من الذكاء- وتفتح، وصار عنده وعي، فهو الذي يشحذ الذهن ويقويه، وعلم الرياضيات -حقيقة- يقوي العقل.

قوله: برياضة المستصعبين كفيل، يعني: من يستصعب الأشياء فهو لا يهضمها ولا يفهما لو مُرِّن بواسطة علم الرياضيات سيفهم، وهذا مثل الإنسان إذا عنده خمول في بدنه لو مُرِّن بالرياضة صار عنده نشاط، ورياضة العقل بعلم الحساب فهو عندما يحفظ جدول الضرب ويعرف عمليات الجمع والطرح والتقسيم يتفتح الذهن، وإلا إذا قلت له: خمسة بخمسة كم؟ يقول: ما أعلم، وكيف صارت خمسة وعشرين؟ يقول: لا أدري، وثلاثين تقسيم ستة تقول: ما أعلم، إذا ما تعلم أنت بليد من البلادة، فأين ذهنك؟

وهكذا إنسان تقول له: تعال نمشي خطوات يقول: لا، نحتاج إلى سيارة، كما يقع كثيراً هذه الأيام، فالجسم لابد له من رياضة ولابد للعقل من رياضة، ورياضة العقول علم الحساب.

فاحرص على علم الحساب فإنه برياضة المستصعبين كفيل

هذا يروضهم ويذكيهم ويشحذ أذهانهم.

لولا الحساب لعلم كل فريضة لم يعلم التحريم والتحليل

يعني: لا تستطيع أن توصل إلى كل ذي حق حقه إلا بعلم الحساب.

إذاً: هذا منزلة علم الحساب، ويكفي دليلاً على منزلته وفضله ورفعة قدره أن الله سيجمعنا إلى يوم الحساب، وهو الذي سيحاسب الأولين والآخرين سبحانه وتعالى في ذلك اليوم العظيم، إذاً: سنجتمع في يوم الحساب ويحاسبنا الكريم الوهاب، فكما أن الحساب يوصل إلى كل ذي حق حقه في هذه الحياة هكذا عند بعثتنا بعد موتنا، عندما نقوم بين يدي ربنا، قال الله جل وعلا في سورة الأنبياء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] .

وقال جل وعلا في سورة غافر: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:15-17].

وهكذا قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61-62].

إذا عندك سرعة أيضاً في الحساب وجواب على البديهة كما يقال فهذا كمال، وهذا الذي وصف به ربنا جل وعلا بأنه سريع الحساب، وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، لكن أي محاسب سبحانه وتعالى؟ إنه أكمل الحاسبين، وهو سريع الحساب، وأسرع الحاسبين، قال أئمتنا: إن الحساب كمال وسرعة الحساب مدح بلا إشكال، كيف لا وقد وصف به ذو العزة والجلال سبحانه وتعالى.

تيسير الله لحساب الزمان

وقد امتن الله على عباده بأن يسر لهم الأمور التي يعرف بها حساب الأيام والسنين والشهور، فقال جل وعلا في سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5].

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة الإسراء: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12]، انتبه لآية يونس: جعل الشمس ضياء، وهنا جعلنا الليل والنهار آيتين، الليل فيه آية عظيمة وهي القمر، والنهار فيه آية عظيمة وهي الشمس، وهناك جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وترتب على هذين الأمرين على الشمس والقمر ترتب على هذا معرفة الأيام والسنين والشهور من الأيام القمرية والأيام الشمسية، ولولا أن الله جعل هذين النيرين -الشمس والقمر- لما أمكنك أن تضبط المدة، وصعب هذا على الناس غاية الصعوبة، فإذا استقرض إنسان شيئاً من إنسان وقال: الوفاء في وقت كذا، ولا يوجد ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر يضبطان المواقيت وبسببهما نحدد المواعيد كيف سيكون الأمر؟ سيكون في غاية الصعوبة، يعني متى سنعلم أن الوقت قد انتهى وحان موعد السداد؟ لا نعرف، لكن بواسطة الشمس وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12].

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بتعلم الحساب

وقد روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه دعا لـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين بأن يعلمه الله الكتاب والحساب، وروي الحديث كما سأذكره لكن في إسناده لين، الحديث رواه البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة ست وخمسين وثلاثمائة، وهو في مسند الإمام أحمد في الجزء الرابع صفحة سبع وأربعين ومائة، وفي المسند والبزار ومعجم الطبراني الكبير من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب)، ومعاوية كان من كتاب الوحي وهو خال المؤمنين، فهو أخ لأمنا أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين وعلى نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والحديث جميع رجاله ثقات أثبات إلا الحارث بن زياد الشامي وهو من رجال أبي داود والنسائي ، قال الحافظ في التقريب: ليّن الحديث. وقال الإمام الهيثمي في المكان المشار إليه آنفاً: لم أجد من وثقه، ولم يرو عنه غير يونس بن سيف، ويونس بن سيف الحمصي من رجال أبي داود والنسائي أيضاً، حكم عليه الحافظ الذهبي في الكاشف بأنه ثقة، وقال الإمام ابن حجر في التقريب: مقبول. والإشكال ليس فيه، إنما يشير الهيثمي بقوله: لم يرو عنه غير يونس بن سيف إلى أن الحارث بن زياد مجهول، لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، وبذلك حكم الذهبي على الحارث لا على يونس ، حكم عليه بالجهالة في المغني في الجزء الأول صفحة واحد وأربعين ومائة، قال: الحارث بن زياد مجهول، لم يرو عنه إلا يونس بن سيف ، وهكذا حكم عليه أيضاً في الميزان في الجزء الأول صفحة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فحكم عليه بأنه مجهول.

وقد بحثت في الأحاديث لأرى فها تنويها بأمر الحساب والدعوة به لبعض الصحابة فما وقفت إلا على هذا الحديث.

الحسيب من أسماء الله تعالى

ومن أسماء ربنا جل وعلا: الحسيب، وقد فُسر هذا الاسم المبارك لربنا جل وعلا بثلاثة أمور كلها ثابتة في العزيز الغفور سبحانه وتعالى:

أولها: قيل: الحسيب هو الكافي، وحسبك هذا أي يكفيك، ومنه قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ [آل عمران:173] يكفينا الله.

ويطلق لفظ الحسيب على المحاسب الذي هو ماهر حاذق في الحساب، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الإسراء: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14] أي: محاسباً.

ويطلق الحسيب أيضاً على الشريف وهو مأخوذ من الحسب، ومنه ما ثبت في الحديث الصحيح في المسند والكتب الستة إلا سنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، المراد من الحسب: الشرف ورفعة القدر والمكانة وعلو النسب، وإنما سمي الشرف حسباً؛ لأن العرب كانوا إذا افتخروا يعدون خصال الشرف والمروءة والكرم والأريحية فيهم، فمن زادت خصاله في العد ارتفع على غيره في الحسب، فقيل للشرف حسب لأنه يحسب: الكرم، النجدة، المروءة، النخوة، الحياء، العفة، يقول: فينا وفينا وفينا ويعدد، فإذا زادت خصال الخير فيهم قيل لهذه القبيلة أو لهذا العرق أو لهذا الفخذ لهذا الحي: إنهم أهل حسب، يعني: مفاخر تحسب وتعد كثيرة فليس مفخرة أو مفخرتين، وعليه الحسيب من أسماء ربنا جل وعلا: هو الكافي، وهو المحاسب، وهو الشريف الكامل الذي يتصف بكل كمال، ويتنزه عن كل نقصان سبحانه وتعالى.

المحصي من أسماء الله تعالى

ومن أسماء الله جل وعلا أيضاً: المحصي، وكل هذا مرتبط بالحساب، حسيب محاسب محصي سبحانه وتعالى، قال جل وعلا في سورة الجن: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28]، وهذا الإحصاء لا يكون إلا إذا أحاط بعلم الحساب والله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.

وقال جل وعلا في سورة المجادلة: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:6-7].

فهو المحصي سبحانه وتعالى، قال أئمتنا: المحصي هو الذي يحفظ أعداد طاعاتك، وعالم بجميع أحوالك، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وكفى علم الحساب شرفاً -كما قلت- أن الله تمدح بأنه يتصف بالحساب وأنه سريع الحساب، وأنه الحسيب، وأنه المحصي سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال بعض أئمتنا أبياتاً لطيفة رقيقة فيها الإشارة إلى هذا فقال:

علم الحساب شريف ليس يحقره إلا غبي جهول فاقد البصر

أهل العلوم بأسرها تجلله

أي: تجله وتحترمه وتوقره وهم بحاجة إليه.

لا يمتري فيه أهل صحة النظر

وكل علم فللحساب مفتقر وما الحساب لغيره بمفتقر

أي: علم الحساب لا يحتاج إلى علم آخر، إنما العلوم الأخرى هي التي تحتاج إليه.

وحسبه مدحة وصف الإله به لنفسه في مواضع من السور

أي: يكفي علم الحساب مدحاً وفضلاً ورفعة قدر أن الله مدح به نفسه في مواضع من سور القرآن.

وقد امتن الله على عباده بأن يسر لهم الأمور التي يعرف بها حساب الأيام والسنين والشهور، فقال جل وعلا في سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5].

ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في سورة الإسراء: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12]، انتبه لآية يونس: جعل الشمس ضياء، وهنا جعلنا الليل والنهار آيتين، الليل فيه آية عظيمة وهي القمر، والنهار فيه آية عظيمة وهي الشمس، وهناك جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وترتب على هذين الأمرين على الشمس والقمر ترتب على هذا معرفة الأيام والسنين والشهور من الأيام القمرية والأيام الشمسية، ولولا أن الله جعل هذين النيرين -الشمس والقمر- لما أمكنك أن تضبط المدة، وصعب هذا على الناس غاية الصعوبة، فإذا استقرض إنسان شيئاً من إنسان وقال: الوفاء في وقت كذا، ولا يوجد ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر يضبطان المواقيت وبسببهما نحدد المواعيد كيف سيكون الأمر؟ سيكون في غاية الصعوبة، يعني متى سنعلم أن الوقت قد انتهى وحان موعد السداد؟ لا نعرف، لكن بواسطة الشمس وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12].

وقد روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه دعا لـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين بأن يعلمه الله الكتاب والحساب، وروي الحديث كما سأذكره لكن في إسناده لين، الحديث رواه البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة ست وخمسين وثلاثمائة، وهو في مسند الإمام أحمد في الجزء الرابع صفحة سبع وأربعين ومائة، وفي المسند والبزار ومعجم الطبراني الكبير من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب)، ومعاوية كان من كتاب الوحي وهو خال المؤمنين، فهو أخ لأمنا أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين وعلى نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والحديث جميع رجاله ثقات أثبات إلا الحارث بن زياد الشامي وهو من رجال أبي داود والنسائي ، قال الحافظ في التقريب: ليّن الحديث. وقال الإمام الهيثمي في المكان المشار إليه آنفاً: لم أجد من وثقه، ولم يرو عنه غير يونس بن سيف، ويونس بن سيف الحمصي من رجال أبي داود والنسائي أيضاً، حكم عليه الحافظ الذهبي في الكاشف بأنه ثقة، وقال الإمام ابن حجر في التقريب: مقبول. والإشكال ليس فيه، إنما يشير الهيثمي بقوله: لم يرو عنه غير يونس بن سيف إلى أن الحارث بن زياد مجهول، لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، وبذلك حكم الذهبي على الحارث لا على يونس ، حكم عليه بالجهالة في المغني في الجزء الأول صفحة واحد وأربعين ومائة، قال: الحارث بن زياد مجهول، لم يرو عنه إلا يونس بن سيف ، وهكذا حكم عليه أيضاً في الميزان في الجزء الأول صفحة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فحكم عليه بأنه مجهول.

وقد بحثت في الأحاديث لأرى فها تنويها بأمر الحساب والدعوة به لبعض الصحابة فما وقفت إلا على هذا الحديث.

ومن أسماء ربنا جل وعلا: الحسيب، وقد فُسر هذا الاسم المبارك لربنا جل وعلا بثلاثة أمور كلها ثابتة في العزيز الغفور سبحانه وتعالى:

أولها: قيل: الحسيب هو الكافي، وحسبك هذا أي يكفيك، ومنه قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ [آل عمران:173] يكفينا الله.

ويطلق لفظ الحسيب على المحاسب الذي هو ماهر حاذق في الحساب، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الإسراء: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14] أي: محاسباً.

ويطلق الحسيب أيضاً على الشريف وهو مأخوذ من الحسب، ومنه ما ثبت في الحديث الصحيح في المسند والكتب الستة إلا سنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، المراد من الحسب: الشرف ورفعة القدر والمكانة وعلو النسب، وإنما سمي الشرف حسباً؛ لأن العرب كانوا إذا افتخروا يعدون خصال الشرف والمروءة والكرم والأريحية فيهم، فمن زادت خصاله في العد ارتفع على غيره في الحسب، فقيل للشرف حسب لأنه يحسب: الكرم، النجدة، المروءة، النخوة، الحياء، العفة، يقول: فينا وفينا وفينا ويعدد، فإذا زادت خصال الخير فيهم قيل لهذه القبيلة أو لهذا العرق أو لهذا الفخذ لهذا الحي: إنهم أهل حسب، يعني: مفاخر تحسب وتعد كثيرة فليس مفخرة أو مفخرتين، وعليه الحسيب من أسماء ربنا جل وعلا: هو الكافي، وهو المحاسب، وهو الشريف الكامل الذي يتصف بكل كمال، ويتنزه عن كل نقصان سبحانه وتعالى.

ومن أسماء الله جل وعلا أيضاً: المحصي، وكل هذا مرتبط بالحساب، حسيب محاسب محصي سبحانه وتعالى، قال جل وعلا في سورة الجن: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28]، وهذا الإحصاء لا يكون إلا إذا أحاط بعلم الحساب والله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.

وقال جل وعلا في سورة المجادلة: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:6-7].

فهو المحصي سبحانه وتعالى، قال أئمتنا: المحصي هو الذي يحفظ أعداد طاعاتك، وعالم بجميع أحوالك، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وكفى علم الحساب شرفاً -كما قلت- أن الله تمدح بأنه يتصف بالحساب وأنه سريع الحساب، وأنه الحسيب، وأنه المحصي سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال بعض أئمتنا أبياتاً لطيفة رقيقة فيها الإشارة إلى هذا فقال:

علم الحساب شريف ليس يحقره إلا غبي جهول فاقد البصر

أهل العلوم بأسرها تجلله

أي: تجله وتحترمه وتوقره وهم بحاجة إليه.

لا يمتري فيه أهل صحة النظر

وكل علم فللحساب مفتقر وما الحساب لغيره بمفتقر

أي: علم الحساب لا يحتاج إلى علم آخر، إنما العلوم الأخرى هي التي تحتاج إليه.

وحسبه مدحة وصف الإله به لنفسه في مواضع من السور

أي: يكفي علم الحساب مدحاً وفضلاً ورفعة قدر أن الله مدح به نفسه في مواضع من سور القرآن.

بعد أن علمنا فائدته ومنزلته وأن العلوم بأسرها تحتاجه وهو لا يحتاجها إنما هي تحتاج علم الحساب نتكلم على تعريف علم الحساب.

أما كلمة علم فتقدمت معنا عند علم الفرائض.

الحساب: هو علم بأصول يتوصل بها إلى استخراج المجهولات العددية.

يعني: يخرج لك المجهول من الأعداد، فمثلاً إذا أردنا أن نقول: اثنين في خمسة؟ الناتج مجهول أنت الذي ستحدده، فهذه العملية التي هي عملية الضرب تخرج المجهول الذي نبحث عنه بخمسة عشر، كذلك تسعة تقسيم ثلاثة؟ الناتج مجهول وبالحساب نعلم أنه ثلاثة عندنا علم الفرائض كله مجهولات، فلما نقول نصف وربع وثلث وثمن وبعد التركة كيف ستخرج هذا؟ هذا كله مجهولات، حدد لنا الآن الأرقام الدقيقة من هذه التركة.

إذاً معنى الحساب: علم بأصول يتوصل بها إلى استخراج المجهولات العددية، ويراد بعلم الحساب عندنا في مبحث الفرائض ثلاثة أمور، فنحن لا نريد الآن الحساب بمعناه الواسع، فليس لنا علاقة بعمليات الحساب المتشعبة والدقيقة، نحن عندنا علم الحساب شامل لثلاثة أمور لتأصيل المسائل ولتصحيحها ولقسمة التركات على مستحقيها. فينبغي أن تحيط بهذه الأمور الثلاثة في الفرائض وإلا لا ينفعك لو حفظت نصوص الفرائض من أولها إلى آخرها: كيف ستخرج أصل المسألة، وكيف ستصححها، وكيف ستقسم التركة على مستحقيها، هذا هو علم الحساب الذي نريده في المواريث.

فنحن إذا أصلنا وصححنا نأتي بعد ذلك بالتركة ونعطي كل ذي حق حقه، فمالنا ولعمليات الحساب الدقيقة؟ قد تلزم المهندسين، وقد تلزم الأطباء، وقد تلزم طلاب المدارس، أما نحن فعندنا هذه الأمور الثلاثة لابد من إدراكها، على أنه كما قال الفرضيون، وهذا أيضاً لا خلاف فيه: لا يمكن أن نتوصل إلى هذه الأمور الثلاثة إلا بمعرفة الحساب الذي يدرسه المهندسون وغيرهم وه العمليات الحسابية من جمع وطرح وتقسيم وضرب وبعد ذلك إخراج القاسم الأعظم المشترك، هذا كله إذا لم تعرفه ما يمكن أن تسير في عمليات حساب الفرائض على الإطلاق، فهل يمكن لهذه الأمور الثلاثة أن يعرفها الإنسان دون أن يعلم الضرب والتقسيم والناقص والزائد؟ لا يمكن على الإطلاق، وعليه لابد من أن يحيط بعلم الحساب، نعم لا يلزمه أن يكون متخصصاً فيه في جزئيات لا حاجة لنا بها في هذا العلم، لكن لابد من أن يحيط بقواعده الإجمالية.

كذلك عمليات الجبر لابد أننا نعرف ما يحتاج إليه علم الفرائض وقد أشار صاحب كتاب عمدة الفرائض إلى هذه الثلاثة: تأصيل المسائل، تصحيحها، قسمة التركات على مستحقيها فقال:

حسابها التأصيل والتصحيح لا علمه المشهور والصحيح

أي: حسابها ـ حساب الفرائض ـ عندنا التأصيل والتصحيح وترك الأمر الثالث، لأنك إذا أصلت وصححت سهل عليك قسمة التركة كما سيأتينا.

قوله: لا علمه، أي: لا علم الحساب الدقيق بجميع جزئياته وحيثياته، فتأتي وتحفظ النظريات الدقيقة.

حسابها التأصيل والتصحيح لا علمه المشهور والصحيح

قوله: (والصحيح) متعلق بالبيت الثاني وهو:

أن الأصول تسعة فاثنان منها بباب الجد يوجدان

يعني: سبعة أصول متفق عليها وعندنا أصلان اختلف فيهما، فالمؤلف هنا مال إلى اعتبارهما أصلين ولا يوجدان إلا في باب الجد والإخوة، وسيأتينا هذا ضمن تفصيل المسائل إن شاء الله.

إذاً: الحساب باختصار: علم بأصول يتوصل بها إلى استخراج المجهولات العددية، وهو عندنا في علم الفرائض يستند على ثلاثة أمور: تأصيل المسائل، وسيأتي معنا التأصيل وكيف نخرج أصل المسألة، والتصحيح يعني كيف نخرج أصل المسألة، وقسمة التركات، ولا نفارق هذا المبحث إلى غيره حتى ننتهي من هذه الأمور الثلاثة، وسنبدأ أولاً بتأصيل المسائل.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه المواريث - الحجب [1] 3822 استماع
فقه المواريث - الرد على الزوجين [1] 3589 استماع
فقه المواريث - حقوق تتعلق بالميت 3573 استماع
فقه المواريث - ميراث الخنثى [1] 3539 استماع
فقه المواريث - توريث ذوي الأرحام 3484 استماع
فقه المواريث - المسألة المشتركة 3438 استماع
فقه المواريث - أدلة عدم توريث ذوي الأرحام 3346 استماع
فقه المواريث - متى يسقط الجدات ومن يحجبهن 3308 استماع
فقه المواريث - أصحاب الفروض 3258 استماع
فقه المواريث - الجد والإخوة [7] 3226 استماع