فقه المواريث - موانع الإرث [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس موانع الإرث، وقلت: إن موانع الإرث التي اتفق عليها أئمتنا ثلاثة:

رق، وقتل، واختلاف في الدين، كما قال الإمام الرحبي عليه رحمة الله:

ويمنع الشخص من الميراثِ واحدة من علل ثلاث

رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين

كنا نتدارس المانع الأول من هذه الموانع ألا وهو: الرق، وغالب ظني أننا انتهينا من تعريفه ومن بيان أحكامه.

وخلاصة الكلام: أن الرقيق لا يرث ولا يورث، فهو مانع من جانبين؛ لأنه إن ورث فآل المال إلى سيده فلا يملك الرقيق شيئاً، والسيد أجنبي عن مورثي الرقيق، أي: عن أقربائه ولا يورث؛ لأنه لا يملك شيئاً حتى يرثه أقاربه لأن ما يملكه الرقيق ملك لمالكه.

ثم بعد ذلك ختمت غالب ظني أيضاً آخر الموعظة الماضية فيما يتعلق بمنزلة الرق وأحكام الرق في الإسلام، والرد على الغوغائين الذين يثيرون الشغب حول هذا الأمر في شريعة الله المطهرة، وبينت أن هذا هو منتهى الحكمة والرحمة لهؤلاء الذين بذلوا ما في وسعهم للقضاء على دين ربهم، ومع ذلك لطف الله بهم ورحمهم فجعلهم أرقاء يخدمون أولياءه ليكون سبباً لإيمانهم، ثم لتحريرهم بعد ذلك في الدنيا، ولعتقهم في الآخرة من نار جهنم.

أقوال العلماء في توريث المبعض

إخوتي الكرام! يتعلق بمبحث الرقيق أمران:

المبحث الأول: المبعض. أي: من بعضه حر وبعضه رقيق، فهل الحكم فيه كالحر يرث ويورث أو كالرقيق لا يرث ولا يورث، أو له شيء من أحكام الحرية وشيء من أحكام الرق؟ ما الحكم في ذلك؟

المبعض إخوتي الكرام! لأئمتنا فيه عدة أقوال نظراً لوجود رق ووجود حرية فيه فنصفه حر أو ربعه حر وثلاثة أرباعه بعد ذلك رقيق، فما الحكم فيه؟

عند أبي حنيفة والإمام مالك المبعض كالرقيق، فلا يرث ولا يورث تغليباً لجانب الرق على جانب الحرية فيه، المبعض كالرقيق لا يرث ولا يورث، وعليه من يملك جزءاً منه هو الذي يتصرف فيما يملكه المبعض، فيكون ما يحصله المبعض من مال بسعيه في هذه الحياة يؤول إلى من يملك جزءاً منه، وإن كان الرقيق يملك الآن بعضه، أي: هو يملك بعض نفسه، لكن بما أن جزءاً منه ملك لأحدٍ، فمن يملك هذا الجزء يئول إليه ما بيد المبعض، أما المبعض ما يرث ولا يورث، هذا قول أبي حنيفة وقول الإمام مالك تغليباً لجانب الرق على جانب الحرية.

وعكس هذا القول ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وزفر وثلاثتهم من تلاميذ أبي حنيفة عليهم جميعاً رحمة الله فقالوا: المبعض كالحر يرث ويورث، فيرث كأنه حر، ويورث إذا مات وترك شيئاً؛ لأن بعضه حر، يرث ويورث كما هو الحال في الأحرار تماماً.

القول الثالث: ذهب إليه الإمام أحمد عليه وعلى جميع أئمتنا والمسلمين رحمات رب العالمين، يقول: يرث ويورث ويحجب بمقدار ما فيه من الحرية والرق.

وعليه؛ لو مات وترك ابناً حراً وابناً مبعضاً نصفه حر ونصفه رقيق، فتجعل المسألة كاملة على أن الابن الثاني حر كاملة، فالمسألة من اثنين لكل ولد نصف المال.

اجعل المسألة ثانية على أن المبعض رقيق، فالمسألة من واحد، فليس للمبعض شيء، فهنا يأخذ واحداً من اثنين، وهنا لا يأخذ شيئاً، ثم بعد ذلك تخرج جامعة للمسألة بين الاثنين والواحد انقسام، فالاثنين تنقسم على واحد، فنكتفي بالاثنين نضربها بحالتي المبعض اثنين في اثنين أربعة، نقسم الأربعة بعد ذلك على الاثنين على المسألة الأولى؛ لأن أصلها من اثنين يخرج اثنان، ونقسم الأربعة على الواحد تصبح أربعة، من له بعد ذلك شيء في هذه المسألة أعطيناه مضروباً فيما فوقه، ثم بعد ذلك نعطه النصف، فمثلاً: واحد في اثنين سيأخذ اثنان، كل منهما في مسألة الحرية؛ لأن كل واحد له واحد، واحد في اثنين اثنين، وواحد في اثنين اثنين، إذاً: كل منهما له سهمان في المسألة الأولى، وهناك لا يوجد معنا إلا واحد، واحد في أربعة أربعة، ضم إليها اثنان ستة، والرقيق في المبعض بقي له اثنان، اثنان ستقسمها بعد ذلك على حالتين؛ لأن ستة اقسمها على اثنين يصبح معك ثلاثة، والاثنين اقسمها على اثنين يصبح معك واحد، وعليه تعول المسألة، ثلاثة للحر، وواحد للمبعض، هذا إذا كان كما قلنا: نصفه حراً، وإذا كان ربعه حراً مثلاً ستجعل أربعة مسائل: مسألة حر، وثلاثة رقيق، وإذا كان ثلثه حراً تجعل ثلاث مسائل: مسألة حر، ومسألتان رقيق لا يرث فيهما، ثم بعد ذلك تخرج الجامعة.

وعليه هنا لو ترك ابنين فقط أحد الابنين يأخذ ثلاثة الأربعة الذي هو حر، والابن المبعض الذي نصفه حر يأخذ ربعاً، فورث بمقدار ما فيه من الحرية، وحجب بمقدار ما فيه من الحرية، حجب ذاك، حجبه عن الربع، لأنه لو كان هذا رقيقاً كاملاً لأخذ ذاك المال كله.

إذاً: يرث ويورث ويحجب وبمقدار ما فيه من الحرية والرق، هذا قول الإمام أحمد .

القول الرابع وهو آخر المسائل: قول الإمام الشافعي يقول: المبعض لا يرث أحداً من أقاربه، ولا يحجب أحداً من أقاربه عن الميراث، لكن هل يورث؟ الإمام الشافعي يقول: مال المبعض على قسمين:

الأول: ماله القديم قبل أن يكون مبعضاً لمالك باقيه، والذي كسبه بجزئه الحر بعد أن صار مبعضاً، هذا الذي يورث عنه، لو قدرنا أن إنساناً كان قناً، أي: عبداً رقيقاً كاملاً، فطلب أن يكاتبه على إعتاق بعضه لا كله، وقال: أسعى وأشتغل وأعمل وأعطيك ألف درهم وتعتق نصفي، فاشتغل وحصل ألفاً وأعطاه إياه، فعتق نصفه، ماله الذي كان يكتسبه قبل أن يشتري نصفه لا يورث عنه، وكله لمالكه.

الثاني: ما كسبه بعد ذلك بجزئه الحر، هو عندما سيشتغل بعد ذلك إذا حصل ألفاً خمسمائة لهم؛ لأن نصفه حر وخمسمائة لسيده، صار سعيه الآن مقسوماً على قسمين، فعندما يموت ما يكتسبه بجزئه الحر ويملكه يكون له، وما يكتسبه بجزئه الذي هو رقيق يكون لمالكه، كيف هنا جزء وجزء؟ أي: ما يحصله العبد يقسم على قسمين: قسم يأخذه مالكه، وقسم يبقى له مدخراً، فإذا مات ورثناه عنه، هذا كلام الإمام الشافعي ، تقدم معنا كلام أبي حنيفة ومالك قلنا: جميع ما يملكه المبعض لمالك باقيه، فهو لا يملك شيئاً حتى يصبح حراً كاملاً، أما عند الإمام الشافعي يقول: ما يملكه بجزئه الحر صار له، ولا يجوز لسيده أن يأخذه، وعليه سعي المبعض ينقسم على حسب ما فيه من حرية ورق، فإذا كان ثلثه حراً، وحصل مثلاً ثلاثمائة ريال، مائة له ومائتان لسيده، ثلاثة آلاف ألف وألفان لسيده وهكذا، فهذه الألف تبقى له مدخرة إذا مات يأخذها ورثته.

خلاصة الكلام: المبعض الذي بعضه حر وبعضه رقيق ما الحكم فيه؟

لا يوجد أثر عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة، ولا ذكر حكمها في القرآن، فلابد إذاً من المبحث فيها حسب أصول الشرع، هل نعامله معاملة الحر، أو معاملة الرقيق، أو معاملة من فيه حر وفيه رق؟ فالإمام أبو حنيفة ومالك قالوا: هو رقيق حتى تكتمل الحرية فيه، وعليه لا يرث ولا يورث، كالرقيق رقاً كاملاً.

وقول أبي يوسف ومحمد وزفر : هو كالحر يرث ويورث كما لو كان حراً.

الإمام أحمد عليه رحمة الله قال: نورثه ونحجب به بمقدار ما فيه من حرية.

الإمام الشافعي قال: هو لا يرث، فغلب جانب الرق في إرثه من مورثيه، قال: لا يرث؛ لأن فيه جزء من الرق، لكن هل يرثه ورثته الأحرار إن مات؟ فقال: ماله القديم لمالكه، وما كسبه بجزئه الحر له، وعليه يرث ورثته ما كسبه بجزئه الحر والعلم عند الله، أما هو لا يرث أبداً.

هذا فيما يتعلق بأحد الفرعين المتعلقين بموضوع الرق المبعض ، ما حكمه؟ هذا حكم إرثه وتوريثه.

أقوال العلماء في توريث المكاتب

الفرع الثاني: المكاتب: الأقوال كلها كما ترى بنيت على تعليلات معتبرة حقيقة ما يظهر للإنسان فيما يبدو من نظر العامة ترجيح قول على قول، وإن كان فيما يظهر من ناحية الواقع المبعض قول الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا، يعني: أقوى انطباقاً على واقعه من غيره، فيقول: نورثه ونحجب به، ونرث منه بمقدار ما فيه من الحرية، انظروا إلى حاله لا نزيد ولا ينقص، ولا نجعله رقيقاً فلا يرث ولا يورث، ولا نجعله حراً، فيرث ويورث، ولا نجعله رقيقاً من جهة وحراً من جهة، فلا نورثه لأنه رقيق، ونرثه لأنه حر كما فعل الإمام الشافعي ، فالإمام أحمد فيما يظهر قوله ينطبق على واقع المبعض تمام الانطباق، يقول: بما أنه مبعض فنحن نعامله على حسب ما فيه، فجانب الحرية فيه يرث به ونرث منه بسببه، وجانب الرق فيه لا يرث به ولا نرث منه بجانب الرق.

وهكذا بعد ذلك يجمع بين النصوص، أما أن تجعله رقيقاً كاملاً فالمبعض ليس برقيق كامل، حراً كاملاً، واقع المبعض ليس بحر كامل، أما أن تجعله رقيقاً في بعض الأحوال، وحراً في بعض الأحوال كما فعل الإمام الشافعي ، واقع الأمر ليس كذلك، فأنت ما ورثته من مورثيه مطلقاً؛ لأنه مبعض، ثم قلت: ورثته يرثونه إذا مات فيرثون ما كسبه بجزئه الحر، فهذا لا ينطبق في الحقيقة كما قلت: على واقع المبعض.

أما نحن عندما نعتبر أن الرق مانعاً من موانع الإرث، فإذا وجد هذا المانع فينبغي ألا يرث المبعض؛ لأن فيه هذه الصفة، فبما أن هذه الصفة موجودة فيه منعته كما سيأتينا في القتل، القتل سواء باشر القتل أو شارك أو حصل منه مساعدة في القتل يعتبر هذا مانعاً، وهنا كذلك يعني: إذا قلنا: إن الرق مانع ينبغي أن يمنع سواء كان كاملاً أو فيه جزء من الرق، مانع من موانع الإرث، وهذا الذي قال به الإمام مالك والإمام أبو حنيفة .

الفرع الثاني: فيما يتعلق بالمكاتب:

المكاتب مأخوذ من الكتابة التي هي بمعنى الضم والجمع في اللغة.

والمراد من الكتابة الشرعية: إعتاق المملوك يداً حالاً ورقبة مآلاً مقابل مبلغ من المال يدفعه المملوك لمالكه.

إعتاق المملوك يداً حالاً ورقبة مآلاً: أي: أنت عندما تكاتب سيدك على أنك إذا دفعت له خمسة آلاف درهم، تصبح حراً بمجرد ما يتم عقد الكتابة بينك وبينه وصار ما تكتسبه تملكه أنت ولا يملك سيدك منه درهماً واحداً، فاليد أعتقت فصارت إذا اكتسبت تملك، لكن الرقبة لا زالت ملكاً له حتى تدفع أقساط الكتابة، فإذا سددت ما عليك أعتقت الرقبة مع اليد وصرت حراً، أما ما بقي عليك درهم واحد فأنت لا زلت عبداً، فليس فيك جزء من الحرية، هذا ليس كالمبعض، المبعض هناك ثابتة له الحرية، أما هنا تثبت الحرية إذا دفع المال كاملاً.

قال أئمتنا: وفي المعنى الشرعي يوجد المعنى اللغوي الذي هو بمعنى الضم والجمع، ووجه ذلك: أن عقد الكتابة الذي يحصل بين المملوك ومالكه يحصل به في نهاية الأمر ضم عتق الرقبة إلى عتق اليد، فحصل ضم وجمع، عتق اليد، ثم عندما سدد الأقساط حصل ضم وجمع، وهو ضم إعتاق الرقبة، إعتاق الإنسان إلى عتق اليد.

وحصل أيضاً معنى الضم والجمع من وجه آخر أيضاً، وهو ضم أقساط البدن إلى بعضها، فعندما يقول: أنا أكاتبك على أن أدفع لك خمسة آلاف درهم في ثلاث سنين أو في خمس سنين، يضم الأقساط إلى بعضها قسط ثم قسط ثم قسط، هذه الدفعات تضم وتجمع، فحصل فيها معنى الضم والجمع.

وحصل معنى الضم والجمع من وجه ثالث أيضاً كما قال أئمتنا وهو: أن كلاً منهم -يعني: المملوك والمالك- يكتب على نفسه كتاباً، هذا الكتاب فيه أنه التزم السيد بإعتاق مملوكه إذا أدى المملوك أقساط الكتابة، والمملوك يكتب كتاباً على نفسه بأنه ملتزم بدفع أقساط الكتابة لتحصل له الحرية، فكل منهما كتب الكتابان فيهما معنى الضم والجمع إلى بعضهما، هذا ملتزم وهذا ملتزم، يضم هذا الالتزام إلى هذا الالتزام، وكل واحد يسجل الأمرين عنده في وثيقة، والله يقول في كتابه: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، إلى آخر الآيات الكريمات.

وسبب نزول الآية أنه كان مولى لـحاطب أو لـحويطب فسأله الكتابة فامتنع فنزلت الآية: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33].

أما أثر أنس رضي الله عنه وقع في عهد عمر بن الخطاب في تفسير الطبري وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي سأله سيرين مولاه وكان عبداً عنده الكتابة، ومن ولده محمد بن سيرين شيخ الإسلام، سأله الكتابة فامتنع، فشكاه إلى عمر فقال له عمر : لتكاتبنه أو لأوجعن ظهرك.

وفي رواية: رفع عليه الدرة -بكسر الدال -وهي: التي يضرب بها قطعة من جلد أو عصا صغيرة، فكاتبه بعد ذلك، وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33].

اتفق أئمتنا على أن المكاتب لا يرث ما دام عليه شيء من أقساط الكتابة، فهو رقيق، لكن هل يورث؟ وكيف سيورث؟ لأئمتنا في ذلك عدة أقوال:

أولها: قول الإمام الشافعي وهو أحد القولين للإمام أحمد : أن المكاتب لا يورث كما لا يرث، وبمجرد موته تنفسخ المكاتبة بينه وبين مكاتبه، ويؤول كل ما بيده إلى سيده عن طريق الملك لا عن طريق الإرث، ولا يرثه أحد من أقاربه.

وتعليل هذا القول ودليله: أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وعليه إذا لم يسدد أقساط الكتابة فهو عبد، فعند موته لا يرثه أحد من أقاربه.

وقد ثبت في سنن أبي داود والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، إسناد الحديث حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهمٌ).

وقد أخرج الحديث أيضاً الإمام أحمد وابن ماجه في السنن، والبيهقي في السنن الكبرى أيضاً، والترمذي وأبو داود بنحو الحديث المتقدم، ولفظه: (من كاتب عبده على مائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات ثم عجز فهو رقيق).

إذاً: على هذا القول لا يورث كما أنه لا يرث، هذا قول الشافعي قولاً واحداً، وهو قول للإمام أحمد من قولين.

القول الثاني: أن المكاتب يورث والمكاتبة لا تنفسخ، فإذا كان عند المكاتب مال كثير تسدد أقساط الكتابة من ماله عند موته، وما يفضل ويزيد يوزع على ورثته جميعاً، من يرث يأخذ، هذا هو قول الإمام أحمد الثاني، وهو قول أبو حنيفة .

القول الثالث يقوله الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله: كالقول الثاني: المكاتب يورث، والمكاتبة لا تنفسخ، وندفع أقساط المكاتبة من مال المكاتب، لكن لا يرثه إلا من يعتق عليه لو ملكه، فهنا قيد هذا بمن يعتق عليه لو ملكه، وهذا يؤدينا إلى بحث الآن في المسألة: من يعتق عليك لو اشتريته من أقاربك؟ يعني: لو اشتريت ابن عمك وكان رقيقاً هل يعتق عليك؟ ولو اشتريت ابنك وكان رقيقاً هل يعتق عليك؟ ولو اشتريت أباك وكان رقيقاً هل يعتق عليك؟ يعني: من الأقارب الذين يعتقون عليك عندما تملكهم؟ فالإمام مالك عليه رحمة الله يقول: من يعتق عليه لو اشتراه ورثه، وما عدا هذا لا يرثه، كما قلت: هذا يدفعنا إلى أن نبين من يعتق على الإنسان من أقاربه في حال شرائه له؟ لأئمتنا أيضاً في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

فعند الحنفية كل قريب من المحارم يعتق عليك إذا ملكته، وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن الأربع إلا سنن النسائي ، والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في السنن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)، وبمجرد شرائه يحصل العتق، إنما ترتب العتق على الشراء فقط، ولا يشترط أن تقول: أعتقتك، يعني: بمجرد ما اشتريت الوالد أعتق عليك، شئت أو أبيت رغم أنفك، فمن ملك كما سيأتينا ذا رحم محرم فهو حر، إذاً لم قال: فيعتقه؟ قال: لأنه تسبب في عتقه فقط.

قال الحنفية: يقاس على هذا ويلحق به سائر الأقارب.

وقد ثبت في المسند والسنن الأربع ومستدرك الحاكم ، وسنن البيهقي ، والحديث رواه أبو داود الطيالسي ، وإسناد الحديث حسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)، فإذا ملكت أباك، أمك، أخاك، جدك، ابنتك، ابنة أخيك، كل هذا من ملك ذا رحم محرم فهو حر، يعني: لو كان أحدهما أنثى لما حل التزاوج بينهما.

القول الثاني: قول الإمام الشافعي ، قال: يعتق على الإنسان الآباء والأبناء فقط، فقصر العتق على عمودي النسب، الأصول والفروع.

القول الثالث: قول الإمام مالك كـالشافعي ، وزاد الإخوة والأخوات دون أولادهم، أي: دون أولاد الإخوة والأخوات، فعنده الوالدين مهما علوا، والأولاد مهما نزلوا يعتقون عليك إذا اشتريتهم، أما الإخوة فهذا خصوص الإخوة، أخ لأب أو لأم أو شقيق، أو أخت لأب أو لأم أو أخت شقيقة، أما ابن الأخ فلا يعتق عليك.

إذاً: عند الشافعي أخوك لا يعتق عليك، وعند أبي حنيفة كل من كان بينك وبينه قرابة محرمة النكاح أعتق عليك، وقول أبي حنيفة قال به الإمام أحمد ضم الإمام أحمد إليه فهو القول الأول: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)، وقول أبي حنيفة والإمام أحمد فيما يظهر أقوى الأقوال للحديث الذي تقدم معنا وهو حديث سمرة : (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)، فقصر الإمام الشافعي هذا على عمودي النسب، يقول: ورد في الأب إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه، نلحق به الابن لأنه أحد طرفي النسب، هذا عمود من أعلى وهذا من أسفل، فنلحق الأبناء بالآباء، نقول: ما ورد ما هو أعم من ذلك: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر).

الإمام مالك ضم الإخوة من أي جهة كانوا، والأخوات أشقاء أو لأب أو لأم لكن دون أن يسحب هذا الحكم على أولادهم، فقال: الآباء مهما علوا، والأبناء والأولاد مهما نزلوا، أما الإخوة نقتصر عليهم دون أولادهم.

فائدة في ضابط وبيان المحرم وهذا مهم في الأحكام الشرعية:

أولاً: الوالدان مهما علوا، أب وأم جد جدة، هؤلاء كلهم قريب محرم.

الصنف الثاني: الولد مهما نزل، والولد يطلق على الذكر والأنثى، ابنك ابن ابنك بنت بنتك مهما نزلوا، كل من جاء من فروعك فهؤلاء لك محارم.

الصنف الثالث: الإخوة مطلقاً أشقاء أو لأب أو لأم، وأولادهم مهما نزلوا، أختك محرم لك، بنتها محرم لك، بنت بنتك، بنت بنت أختك أيضاً محرم، وهذا يستشكله كثير من الناس يقول: أنت خال لأمها، أي: للتي هي بنت أختك، فخال الأم خال البنت مهما نزلت، يعني: بنت الأخت مهما نزلت محرمة عليك.

ابن الأخت يكون محرم لك لو كان أنثى، ابن الأخت بناته مهما نزلن، كل هذا من المحارم لك، الإخوة أولادهم مهما نزلوا.

الصنف الرابع والخامس: الأعمام والأخوال دون أولادهم.

وعليه عند الحنفية والإمام أحمد : (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)، ينبغي أن يكون من هؤلاء الأصناف الذي بينك وبينهم كما قلنا: قرابة محرمية، وهذه لو كان أحد القريبين أنثى والآخر ذكر لما حل التناكح بينهما.

هذا فيما يتعلق بموضوع المبعض وموضوع المكاتب، وهذا كله يرتبط بالمانع الأول من موانع الإرث ألا وهو الرق، فالرقيق لا يرث ولا يورث محل اتفاق، عندنا بعد ذلك تعلق فرعان بالرق فيهما شيء من الحرية والرق: المبعض، والمكاتب الذي ضمن الحرية بعقد بينه وبين سيده، هل يرثان ويورثان؟ أما المكاتب فقلنا: بالإجماع لا يرث، وهل يورث؟ على ثلاثة أقوال: وأما المبعض هل يرث ويورث؟ في كونه يرث ويورث خلاف تقدم معنا والعلم عند الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! يتعلق بمبحث الرقيق أمران:

المبحث الأول: المبعض. أي: من بعضه حر وبعضه رقيق، فهل الحكم فيه كالحر يرث ويورث أو كالرقيق لا يرث ولا يورث، أو له شيء من أحكام الحرية وشيء من أحكام الرق؟ ما الحكم في ذلك؟

المبعض إخوتي الكرام! لأئمتنا فيه عدة أقوال نظراً لوجود رق ووجود حرية فيه فنصفه حر أو ربعه حر وثلاثة أرباعه بعد ذلك رقيق، فما الحكم فيه؟

عند أبي حنيفة والإمام مالك المبعض كالرقيق، فلا يرث ولا يورث تغليباً لجانب الرق على جانب الحرية فيه، المبعض كالرقيق لا يرث ولا يورث، وعليه من يملك جزءاً منه هو الذي يتصرف فيما يملكه المبعض، فيكون ما يحصله المبعض من مال بسعيه في هذه الحياة يؤول إلى من يملك جزءاً منه، وإن كان الرقيق يملك الآن بعضه، أي: هو يملك بعض نفسه، لكن بما أن جزءاً منه ملك لأحدٍ، فمن يملك هذا الجزء يئول إليه ما بيد المبعض، أما المبعض ما يرث ولا يورث، هذا قول أبي حنيفة وقول الإمام مالك تغليباً لجانب الرق على جانب الحرية.

وعكس هذا القول ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وزفر وثلاثتهم من تلاميذ أبي حنيفة عليهم جميعاً رحمة الله فقالوا: المبعض كالحر يرث ويورث، فيرث كأنه حر، ويورث إذا مات وترك شيئاً؛ لأن بعضه حر، يرث ويورث كما هو الحال في الأحرار تماماً.

القول الثالث: ذهب إليه الإمام أحمد عليه وعلى جميع أئمتنا والمسلمين رحمات رب العالمين، يقول: يرث ويورث ويحجب بمقدار ما فيه من الحرية والرق.

وعليه؛ لو مات وترك ابناً حراً وابناً مبعضاً نصفه حر ونصفه رقيق، فتجعل المسألة كاملة على أن الابن الثاني حر كاملة، فالمسألة من اثنين لكل ولد نصف المال.

اجعل المسألة ثانية على أن المبعض رقيق، فالمسألة من واحد، فليس للمبعض شيء، فهنا يأخذ واحداً من اثنين، وهنا لا يأخذ شيئاً، ثم بعد ذلك تخرج جامعة للمسألة بين الاثنين والواحد انقسام، فالاثنين تنقسم على واحد، فنكتفي بالاثنين نضربها بحالتي المبعض اثنين في اثنين أربعة، نقسم الأربعة بعد ذلك على الاثنين على المسألة الأولى؛ لأن أصلها من اثنين يخرج اثنان، ونقسم الأربعة على الواحد تصبح أربعة، من له بعد ذلك شيء في هذه المسألة أعطيناه مضروباً فيما فوقه، ثم بعد ذلك نعطه النصف، فمثلاً: واحد في اثنين سيأخذ اثنان، كل منهما في مسألة الحرية؛ لأن كل واحد له واحد، واحد في اثنين اثنين، وواحد في اثنين اثنين، إذاً: كل منهما له سهمان في المسألة الأولى، وهناك لا يوجد معنا إلا واحد، واحد في أربعة أربعة، ضم إليها اثنان ستة، والرقيق في المبعض بقي له اثنان، اثنان ستقسمها بعد ذلك على حالتين؛ لأن ستة اقسمها على اثنين يصبح معك ثلاثة، والاثنين اقسمها على اثنين يصبح معك واحد، وعليه تعول المسألة، ثلاثة للحر، وواحد للمبعض، هذا إذا كان كما قلنا: نصفه حراً، وإذا كان ربعه حراً مثلاً ستجعل أربعة مسائل: مسألة حر، وثلاثة رقيق، وإذا كان ثلثه حراً تجعل ثلاث مسائل: مسألة حر، ومسألتان رقيق لا يرث فيهما، ثم بعد ذلك تخرج الجامعة.

وعليه هنا لو ترك ابنين فقط أحد الابنين يأخذ ثلاثة الأربعة الذي هو حر، والابن المبعض الذي نصفه حر يأخذ ربعاً، فورث بمقدار ما فيه من الحرية، وحجب بمقدار ما فيه من الحرية، حجب ذاك، حجبه عن الربع، لأنه لو كان هذا رقيقاً كاملاً لأخذ ذاك المال كله.

إذاً: يرث ويورث ويحجب وبمقدار ما فيه من الحرية والرق، هذا قول الإمام أحمد .

القول الرابع وهو آخر المسائل: قول الإمام الشافعي يقول: المبعض لا يرث أحداً من أقاربه، ولا يحجب أحداً من أقاربه عن الميراث، لكن هل يورث؟ الإمام الشافعي يقول: مال المبعض على قسمين:

الأول: ماله القديم قبل أن يكون مبعضاً لمالك باقيه، والذي كسبه بجزئه الحر بعد أن صار مبعضاً، هذا الذي يورث عنه، لو قدرنا أن إنساناً كان قناً، أي: عبداً رقيقاً كاملاً، فطلب أن يكاتبه على إعتاق بعضه لا كله، وقال: أسعى وأشتغل وأعمل وأعطيك ألف درهم وتعتق نصفي، فاشتغل وحصل ألفاً وأعطاه إياه، فعتق نصفه، ماله الذي كان يكتسبه قبل أن يشتري نصفه لا يورث عنه، وكله لمالكه.

الثاني: ما كسبه بعد ذلك بجزئه الحر، هو عندما سيشتغل بعد ذلك إذا حصل ألفاً خمسمائة لهم؛ لأن نصفه حر وخمسمائة لسيده، صار سعيه الآن مقسوماً على قسمين، فعندما يموت ما يكتسبه بجزئه الحر ويملكه يكون له، وما يكتسبه بجزئه الذي هو رقيق يكون لمالكه، كيف هنا جزء وجزء؟ أي: ما يحصله العبد يقسم على قسمين: قسم يأخذه مالكه، وقسم يبقى له مدخراً، فإذا مات ورثناه عنه، هذا كلام الإمام الشافعي ، تقدم معنا كلام أبي حنيفة ومالك قلنا: جميع ما يملكه المبعض لمالك باقيه، فهو لا يملك شيئاً حتى يصبح حراً كاملاً، أما عند الإمام الشافعي يقول: ما يملكه بجزئه الحر صار له، ولا يجوز لسيده أن يأخذه، وعليه سعي المبعض ينقسم على حسب ما فيه من حرية ورق، فإذا كان ثلثه حراً، وحصل مثلاً ثلاثمائة ريال، مائة له ومائتان لسيده، ثلاثة آلاف ألف وألفان لسيده وهكذا، فهذه الألف تبقى له مدخرة إذا مات يأخذها ورثته.

خلاصة الكلام: المبعض الذي بعضه حر وبعضه رقيق ما الحكم فيه؟

لا يوجد أثر عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة، ولا ذكر حكمها في القرآن، فلابد إذاً من المبحث فيها حسب أصول الشرع، هل نعامله معاملة الحر، أو معاملة الرقيق، أو معاملة من فيه حر وفيه رق؟ فالإمام أبو حنيفة ومالك قالوا: هو رقيق حتى تكتمل الحرية فيه، وعليه لا يرث ولا يورث، كالرقيق رقاً كاملاً.

وقول أبي يوسف ومحمد وزفر : هو كالحر يرث ويورث كما لو كان حراً.

الإمام أحمد عليه رحمة الله قال: نورثه ونحجب به بمقدار ما فيه من حرية.

الإمام الشافعي قال: هو لا يرث، فغلب جانب الرق في إرثه من مورثيه، قال: لا يرث؛ لأن فيه جزء من الرق، لكن هل يرثه ورثته الأحرار إن مات؟ فقال: ماله القديم لمالكه، وما كسبه بجزئه الحر له، وعليه يرث ورثته ما كسبه بجزئه الحر والعلم عند الله، أما هو لا يرث أبداً.

هذا فيما يتعلق بأحد الفرعين المتعلقين بموضوع الرق المبعض ، ما حكمه؟ هذا حكم إرثه وتوريثه.