شرح العقيدة الطحاوية [46]


الحلقة مفرغة

اجتمعنا في هذا المسجد المبارك لنستمع ونقرأ ما يتعلق بأصل ديننا، الأصل الأصيل الذي هو المعتقد، وما يتفرع عن ذلك المعتقد؛ وذلك أنه متى تأسست الأصول انبنت عليها الفروع، وإذا خربت الأصول سقطت الفروع، فالأصل لهذا الدين هو العقيدة، والفروع هي العبادات، فإذا كانت العقيدة راسخة في القلب نبعت عنها الأعمال، فأنتجت أعمالاً صالحة، وحصل من آثار تلك العقيدة الراسخة امتثال الأوامر، وترك الزواجر، والتصديق بالأخبار، والعمل الصالح، والعلم النافع، وكل ذلك من نتائج هذا الأصل الأصيل، ومن فروع هذه العقيدة.

وبنظرنا في سير سلفنا الصالح نرى أنه لما كانت العقيدة متمكنة في قلوبهم أكثروا من الأعمال الصالحة، وصدقوا بما أخبر الله، واندفعوا في تحقيق تلك الأوامر، وأفنوا في ذلك أموالهم وأنفسهم وبلادهم، وهانت عليهم كلها في سبيل تحقيق عقيدتهم، وترك ما كان عليه آباؤهم وأسلافهم.

لما عرفوا صحة الرسالة، وعرفوا صحة التوحيد، وعرفوا حقيقة الإيمان بالبعث، وعرفوا ثواب الله تعالى في الآخرة، وعرفوا صدق ما وعد الله تعالى به لهم؛ هانت عليهم بلادهم فتركوها، وهانت عليهم أموالهم، وسهلت عليهم عشائرهم وأزواجهم وأقاربهم، كل ذلك أصبح هيناً عليهم في سبيل تمكنهم من علمهم، وتمكنهم من العمل الذي أمروا به.

كذلك لما رسخت العقيدة في قلوبهم صدقوا بوعد الله الذي وعدهم أن ينصرهم، وأن يقويهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً، فلما صدقوا هذا ورسخ وتمكن في قلوبهم، عند ذلك قاتلوا في سبيل الله وقتلوا، وكذلك هاجروا وهجروا كل قريب وبعيد، كل ذلك لأجل تصديقهم بخبر ربهم، وتصديقهم بوعده ووعيده، وطلبهم ما وعد الله لهم من الثواب الجزيل في الآخرة.

والذي حملهم على أن يقاتلوا الأعداء مع كثرتهم، ويصبروا حتى نصرهم الله، تصديقهم بوعد الله، حيث تمكن ذلك من قلوبهم، فقابلوا أعداد الكفار وعددهم، وقابلوا جيوشهم الهائلة المتراكمة، واثقين بأن الله لا يخلف وعده.

لا شك أن ذلك لأجل تمكن العقيدة في قلوبهم، وهكذا أتباعهم من بعدهم، فمن تأمل سيرة العلماء الذين بلغتهم السنة الصحيحة فتقبلوها، وجاءتهم الشريعة فصدقوها، وعلموا صحة ما جاء في هذه الرسالة، فآمنوا به إيماناً صحيحاً، لا يعتريه شك ولا ريب، فلما خالفهم من خالفهم، ولما أنكر عليهم بعض المبتدعة الذين زاغوا وضلوا، وحاولوا أن يردوهم عما هم عليه من المعتقد؛ امتنعوا أشد الامتناع، وأصروا على ما هم عليه، وأبوا إلا أن يدينوا بما يعرفونه وبما يعتقدونه، ولو خالفتهم فئام الناس، ولو هددوهم؛ كما حصل للأئمة.

ما الذي حملهم على الصبر على السجون؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الأذى؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الضرب وعلى الجلد كما حصل للإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما؟ لا شك أنه ما رسخ في قلوبهم من تلك العقيدة التي نالوها من هذه الشريعة، فوثقوا بخبر الله سبحانه وتعالى، وصدقوا ما جاء عنه، وعلموا أن النصر لهم، وأن العاقبة الحميدة لهم، وأن مآل الانتصار والظهور لمن كان على الحق، ولو ناوأهم من ناوأهم، وخالفهم من خالفهم.

لا شك أن هذا كله من آثار صدق تلك العقيدة، ومن آثار قوة إيمانهم وتصديقهم.

نقول: إن الواجب علينا أن نكون مثلهم، نحن تلقينا العقيدة مثلما تلقوها، هم تلقوها عن مشايخهم، وهكذا عن آبائهم وأسلافهم، ولما تلقوها عرفوا أنها صحيحة ثابتة، فتركزت تلك العقيدة على الإيمان بالله، والإيمان بخبر الله، والإيمان بوعده ووعيده، والإيمان بكتبه ورسله، والإيمان بأمره ونهيه، والإيمان بقدره وشرعه، آمنوا بذلك، يعني: صدقوا به غاية التصديق، وقوي في أنفسهم، وقامت عليه الدلالات والبراهين، ولم يخطر ببالهم شك ولا ريب ولا توقف ولا شبهة تعتريهم، بل متى ألقيت عليهم شبهة أو شك في البعث، أو في النشور، أو في الجزاء، أو في الحساب، أو في الأمر والنهي؛ احترقت تلك الشبهة قبل أن تتمكن في قلوبهم؛ وذلك لقوة البراهين التي تضعف عندها تلك الشبه.

فنحن بحاجة إلى أن نعرف تلك البراهين والأدلة التي قامت عليها هذه العقيدة، بحاجة إلى أن ندرسها، ونعرف كيفية دلالتها، ودلالتها وإن كانت واضحة، ولكن تحتاج إلى قلوب فارغة من أضدادها.

إذاً: نحن بحاجة إلى أن نفرغ قلوبنا لها، تأتي إلينا وقلوبنا فارغة من الشبهات، فارغة من الشواغل، فارغة من الأضداد، فارغة من الضلالات والبدع، فإذا كان كذلك فإن العقيدة الراسية ترسخ فيها، ولا تتزعزع مهما اعتراها.

أما إذا تلقت تلك القلوب الفارغة بدعاً وضلالات وشركيات وخرافات في حالة فراغها، ولم تصغ إلا لها، ثم عرضت عليها بعد ذلك الأدلة الصحيحة، أو البراهين الساطعة، فإن تلك القلوب لا تجد لها مكاناً، فتبقى تلك القلوب مقفلة لا يدخلها الحق؛ لأنها امتلأت بالضلال فلم يجد الحق إليها سبيلاً، امتلأت القلوب الفاسدة بالبدع، فلم تجد السنة فيها مكاناً، امتلأت بالخرافات، وامتلأت بالمحدثات، وامتلأت بالشبهات، فلم يجد الدليل إليها وصولاً، فلا حيلة فيها إلا أن يشاء الله.

نحن نعجب من أهل البدع، وتمكن البدع في نفوسهم، وتمسكهم بها مع أنها تمجها النفوس، تمجها العقول، تنكرها الطباع والفطر، ومع ذلك يتمسكون بها غاية التمسك، ويعضون عليها بالنواجذ، ولو أتيتهم بكل آية ما أقلعوا عنها إلا أن يشاء الله، تأملوا -مثلاً- في الشيعة والرافضة الذين نشئوا على عقيدة زائغة، تأملوا كيف أنهم يبقون على هذه العقيدة، ويلقنون عليها أولادهم منذ الطفولة، ثم يحاول المحاولون في أن يقلعوا عنها، ويبينوا لهم السنة، ويبينوا لهم الدليل، ولكن يدخل الكلام من أذن ويخرج من الأخرى دون أن يصل إلى القلوب، بل قلوبهم ليس فيها مكان للتقبل.

كذلك الكثير من المبتدعة من أشعرية، من معتزلة، من جبرية، من مكارمة.. وغيرهم، لما امتلأت قلوبهم في الطفولة وفي الصغر بهذه الشبهات لم يجد الحق إليها سبيلاً.

ونحث المسلم أن يلقن أولاده في طفولتهم معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة الحساب والجزاء، ومعرفة الأسماء والصفات، ومعرفة ما أمر به، وما نهي عنه؛ حتى يرسخ ذلك في قلبه ويحبه ويألفه، فإذا لقن غيره من الخرافات ودعي إليها لم يتقبل ذلك، بل نفر منها غاية النفرة، بخلاف ما إذا بقي جاهلاً لا يعرف شيئاً، أو لقن في صغره عقيدة زائغة، فإنه لا يقبل العقيدة الصحيحة، فهكذا فلنكن، وهكذا فلنتمكن من عقيدتنا، وهكذا فلتظهر آثارها.

قال المصنف رحمه الله: [ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول -أي: الرجل-: أنا مؤمن إن شاء الله.

والناس فيه على ثلاثة أقوال؛ طرفان ووسط: منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال.

أما من يوجبه فلهم مأخذان:

أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به.

قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم.

وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد، وليس هذا قول السلف، ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد، فإن الله تعالى قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] ، فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة.

ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني: القبول.

ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه؟ يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!!

المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن -بهذا الاعتبار- فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخره كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ويحتجون بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه بقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27].

وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله) .. ونظائر هذا].

القول بوجوب الاستثناء في الإيمان

هذه مسألة يتكلمون عليها في هذا الموضع، وهي مسألة الاستثناء في الإيمان، بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، أنا مسلم إن شاء الله، فمن العلماء من يوجبه، ومنهم من يحرم الاستثناء، ومنهم من يجوزه ولا يوجبه، أو يوجبه في حال دون حال.

سمعنا أن أتباع ابن كرام ومن يقرب من الأشاعرة يوجبون الاستثناء، فيوجبون أن يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله. ثم تجاوزوا ذلك فصاروا يستثنون في الأشياء الظاهرة، فإذا صلى أحدهم قال: صليت إن شاء الله. وإذا دخل أو خرج قال: دخلت أو خرجت إن شاء الله. حتى يقول: هذا ثوب إن شاء الله، هذا قلم أو كتاب إن شاء الله؛ مع أنه لا يشك فيه!

هؤلاء لهم مأخذ، يقولون: السبب أنا لا ندري ما الخاتمة وما هي العاقبة، فإن الإنسان إنما يكون مؤمناً إذا مات على الإيمان، ونحن لا ندري، ربما يحصل من أحدنا غير ما كان عليه، فلذلك يستثنون. يقولون: لأن الله أعلم بالخواتيم، وهو أعلم بما نحن نموت عليه.

صحيح أن الله تعالى أعلم بالخاتمة، وأعلم بالعاقبة، وأعلم بما يموت عليه الإنسان، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الإنسان يكون مكتوباً عند الله من أهل النار، وهو أكثر وقته يعمل بعمل أهل الجنة، في قوله: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، ويعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فهو طوال حياته يعمل بأعمال أهل الجنة، ومع أهل الجنة، ثم يرتد في آخر حياته، ويختم له بعمل أهل النار، فيدخل النار. ومن الحكايات المشهورة التي ذكرها كثير من المؤرخين: أن رجلاً كان مؤذناً من صالحي عباد الله، محافظاً على الصلاة، ومحافظاً على الأذان، ومحافظاً على الأعمال الصالحة، فصعد مرة إلى المئذنة ليؤذن، فلفت نظره ابنة أحد جيران المسجد، وقد أسفرت، فتعلق قلبه بها، فترك الأذان ونزل وطرق باب أهلها وقال: أريدك. فقالت: لماذا؟ فقال: أتزوجك. قالت: أنا نصرانية، وأنت مسلم! فعند ذلك قال: سوف أترك ديني وأدخل في دينك، وأتنصر. فتنصر، ولما تنصر وعقد له عليها مات قبل أن يدخل بها، فختم له بعمل أهل النار!! هذا مثال، والأمثلة كثيرة.

فيقولون: إن العاقبة خفية علينا، فالاستثناء إنما هو بالنظر إلى العاقبة.

والجواب: أننا نقول لكم: لا نسألكم عن العاقبة، إنما نسألكم عن الحال الذي أنتم فيه، وما قام الآن بقلوبكم، أما العواقب فأمرها إلى الله تعالى.

فعلى هذا إذا سألك إنسان: ما دينك؟ فلا تقل: ديني الإسلام إن شاء الله؛ إلا على وجه التبرك، بل تجزم وتقول: نعم، أنا مسلم من أهل الإسلام، وفي بلاد الإسلام، وديني الإسلام، وأعتقد ما يعتقده المسلمون، دون أن أستثني ودون أن أتردد ودون أن أتوقف، والعاقبة للمتقين، وأمر الخاتمة إلى الله تعالى.

وصحيح -أيضاً- أن الإنسان إنما يجازى بما مات عليه، فإن كانت حياته حياة كفر، ثم ختم له بالإسلام والإيمان فهو محبوب عند الله، وإن كانت حياته حياة إيمان، ولكن ختم له بكفر، فهو مبغوض عند الله طوال حياته، فإذا علم الله أن هذا الإنسان يموت كافراً فإن الله يبغضه حتى ولو كان يجاهد، ولو كان يصلي، ولو كان يتهجد، ولو كان يقرأ طوال حياته، ولو كانت يتدبر آيات الله، ولو كان يعظ وينصح، فهو مبغوض ممقوت عند الله منذ خلق، وإذا علم الله أن إنساناً يموت على الخير، ويموت على الدين، ويموت على الإسلام، ولكن أكثر حياته يشرك بالله ويكفر به، ويعصي، ويزني، ويرابي، ويقتل المسلمين ويقاتلهم، ويشن عليهم الغارات، ويشجع من يقاتلهم، ويحث على رد الإسلام والرد عليه، ومع ذلك يؤمل أنه يهتدي، والله يعلم أنه يختم له بخاتمة حسنة، يقولون: هو ما زال محبوباً عند الله، وإن كانت أعماله كفرية أو بدعية أو نحو ذلك.

وبكل حال: هذا قول الذين يوجبون الاستثناء.

القول بجواز الاستثناء في الإيمان وعدم وجوبه

الذين يجوزون الاستثناء ولا يوجبونه، أو يجوزونه في بعض الحالات، يعرفون بأنهم الذين يستثنون من غير شك ومن غير توقف، هؤلاء يقولون: إن الله تعالى قد ذكر الاستثناء للتبرك، وذكر الاستثناء في الأمور التي لا يشك فيها، فروى صلى الله عليه وسلم عن سليمان نبي الله أنه لم يستثنِ، فحرم ما طلبه أو ما أمله، وذلك لما قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل امرأة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل: إن شاء الله. فلم يقل. فقال صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)، وما ولدت منهن إلا واحدة نصف إنسان؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله.

وكذلك ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم جاءته قريش وقالوا له: أخبرنا عن أمور نسألك عنها: أخبرنا عن فتية في سالف الزمان، وكان لهم حديث عجيب -يعنون أصحاب الكهف- وأخبرنا عن رجل طواف، طاف مشارق الأرض ومغاربها -يعنون ذا القرنين- وأخبرنا عن الروح. فقال: سأخبركم عنها غداً. ولم يقل: إن شاء الله. فعاتبه الله، وقال له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] فتأخر عنه الوحي خمسة عشر يوماً لأنه لم يقل: إن شاء الله، فدل على أن الاستثناء يحصل به تحقيق المطلب.

وكذلك عاتب الله أصحاب الجنة الذين ذكروا في سورة القلم، فقال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18] جزموا بقولهم: والله! لنصرمنها في الصباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، لم يستثنوا؛ فكانت العاقبة أن حرموا منها: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم:19] حريق أو رياح، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:20] جزاء لهم لأنهم لم يقولوا: إن شاء الله، وجزاء لهم لما توعدوا ألا يدخلها عليهم مسكين.

وبكل حال: فالاستثناء جائز إذا لم يكن عن شك، يقول إنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. ولا يقصد بذلك الشك والتوقف، ويقول: أنا سوف أصلي إن شاء الله -ولو كان جازماً- وسوف أصوم إن شاء الله -ولو كان جازماً- ولو لم يكن بذلك متردداً، ولا شاكاً فيما هو جازم عليه.

القول بتحريم الاستثناء في الإيمان

قال المصنف رحمه الله: [وأما من يحرمه: فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه. وسموا الذين يستثنون في إيمانهم: الشكاكة.

وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت.

وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول ولا في الأمن، ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول: إن شاء الله. هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله. لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده.

وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل. وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر، فإنه ما سيق الكلام له، إلا أن يكون مراداً من إشارة النص.

وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله فأثبت قرآناً أو أن الرسول قاله! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد من قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] نسأل الله العافية!].

هؤلاء هم الذين يمنعون الاستثناء أصلاً، ويسمون من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. شاكاً، ويسمون المستثنين شكاكاً، يقولون: أنت تشك في نفسك، وتشك في إيمانك، كيف تشك وأنت جازم بأنك من أهل الإسلام، وبأنك من أهل الإيمان؟! أنت تعرف أنك تتشهد الشهادتين، قد نطقت بالشهادتين، ومعلوم أن من نطق بالشهادتين دخل في الإسلام، فإذا دخل في الإسلام فليس شاكاً فيه.

فكذلك -أيضاً- إذا دخل في الإيمان لم يكن شاكاً فيه، فيمنعون الاستثناء، ويحرمون أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. بل يقول أحدهم: أنا مؤمن حقاً. كما يقول: أنا مسلم حقاً.

لا شك أن الاستثناء في الإيمان يرجع إلى الخاتمة كما تقدم، ويرجع إلى الكمال، والقول الوسط هو المختار: وهو أن الإنسان إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. كان قصده بذلك العاقبة، وكان قصده الكمال، يعني: أن الله يوفقني لأن أكمل أعمال الإيمان، وآتي بكل ما أمرت به، وبكل ما هو من الإيمان، وهذا علمه عند الله، فإذا شاء الله وفقني لذلك، هذا هو القول الوسط.

أما الذين حرموا الاستثناء فإنهم يجزمون أو يقولون: إن الإنسان قد آمن يقيناً، فلم يكن في شك ولم يكن عنده تردد، هؤلاء يدعون أن الإيمان هو الكلمة، ويقولون: إن من قال: آمنت بالله. فقد كمل إيمانه، فلا حاجة إلى أن يستثني.

وسمعنا جوابهم عن الآية، وهي قوله تعالى في سورة الفتح: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] ، فيقولون: الاستثناء إنما هو للأمن. يعني: أن الدخول محقق، ولكن الأمن فيه تردد. وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى أخبر بالأمن كما أخبر بالدخول، وخبر الله محقق، فليس فيه تردد!

إذاً: وقعوا فيما فروا فيه، فأجاب بعضهم بأن قوله: إن شاء الله راجع إلى دخولهم كلهم، حيث علم الله أن بعضهم يموت قبل الدخول.

والجواب أيضاً: أن المراد أن الله تعالى أخبر بالدخول، وليس المراد دخول الذين خوطبوا بهذه الآية كلهم، بل المراد جنس الدخول، فإنه قد انضم إليهم غيرهم، وإن كان قد مات بعضهم.

وأما جواب الزمخشري أن كلمة (إن شاء الله) ليست من كلام الله، وإنما هي من كلام جبريل أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قول بعيد، يلزم منه أن في القرآن ما ليس من كلام الله تعالى، والزمخشري ولو كان لغوياً لكنه معتزلي، دخل في الاعتزال وتمكن منه، فبنى ذلك على مذهبه الباطل.