الإيمان بالوحي والملائكة


الحلقة مفرغة

قال الشيخ حفظه الله:

[والوحي حق ليس قولاً يختلق والكتب حق والملائكة حق]

ذكر أن مما يجب الإيمان به الوحي.

تعريف الوحي

والوحي في اللغة يطلق على السرعة وعلى الإلهام وعلى الكتابة، فله ثلاث معان، يقال: وحى وأوحى بمعنى: كتب، وبمعنى: أسرع، وبمعنى: أذهب، ومثلها وخى -بالخاء- وكذلك توخى، ترد أيضاً بهذا المعنى.

ومنه قول الشاعر:

فلما رأى أن النجاة تعذرت رأى أن ذا الكربين لا يتعذر

توخى بها مجرى سهيل ودونه من الشام أجبال تطول وتقصر

وورود الوحي بمعنى الإلهام كثير في القرآن، كقول الله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ[النحل:68] فالمقصود بذلك إلهامها.

ولذلك يطلق الوحي على ما يراه الرائي في النوم، فهو إلهام لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا[الشورى:51] ، أي: إلا رؤيا نوم، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51] وهذا هو الوحي الاصطلاحي وهو المرتبة الثالثة.

والوحي في الاصطلاح: تنزيل الله سبحانه وتعالى ما شاء من كلامه على من شاء من خلقه، وقد سبق أن الكلام الذي يوحى به هو الكلام التشريعي لا الكلام الكوني، فالكلمات الكونية يخاطب بها كل خلقه، لكنها لا تسمى وحياً، فهو يكلم كل مخلوق من خلقه بكن فيكون، وهذه ليست وحياً؛ لأنه يخاطبك أنت بها، ولا تتحرك حركة ولا تسكن سكوناً إلا بخطاب الله، وهذه هي الكلمات الكونية.

أما الكلمات التشريعية فهي التي يوحي بها إلى ما شاء من خلقه، وهم الذين اختارهم لذلك: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124] .. اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75] ، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68] .

وهو وحي الله سبحانه وتعالى إلى عباده، يجب الإيمان به، ويجب الإيمان أنه اختار من عباده خلقاً للوحي وأنه أوحى إليهم.

مراتب الإيمان بالوحي وصوره

والإيمان بالوحي مراتب:

أولاً: الإيمان بوجوده؛ لأنه حق.

ثانياً: الإيمان بما حصل منه تفصيلاً من الكتب المنزلة.

ثالثاً: الإيمان بأنه من عند الله سبحانه وتعالى وحده.

رابعاً: الإيمان بأنه غير مكتسب وإنما هو اختيار رباني.

فمن أقر بوجود الوحي وأقر بأنه من عند الله، وأقر الموجود منه لكنه جوز اكتسابه فهو كافر، مثل بعض الفلاسفة الذين يجوزون اكتساب النبوة، فالنبوة ليست مكتسبة وإنما هي اختيار رباني يختار الله لها من شاء من عباده.

ولهذا الوحي صور كثيرة أوصلها العلماء إلى ثلاث عشرة صورة، وأصلها الثلاث المذكورة في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا[الشورى:51] والمقصود بذلك رؤيا النوم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (منامات الأنبياء وحي) والمقصود بذلك أحلامهم.

ولهذا فإن منامات الناس عموماً فيها نسبة من ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء النبوة) لأنها إلهام رباني يلهم الله به الإنسان أمراً.

القسم الثاني: مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الشورى:51] ، مثل كلامه لموسى عليه السلام، ومثل تكليمه للملائكة، فإنهم يسمعون كلامه من وراء حجاب، ولذلك إذا تكلم سبحانه وتعالى أخذت قلوبهم، ثم إذا كمل كلامه فزع عن قلوبهم: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سبأ:23] .

وكذلك فإنه يكلم الناس أجمعين يوم القيامة، فأهل الإيمان يكلمهم كلام الرحمة: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58] ، وفي حال الحساب كذلك: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان).

وأهل الكفر لا يكلمهم كلام رحمة، ولذلك قال: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ[آل عمران:77] لكنه يكلمهم كلام عذاب، فيخاطبهم بالتقريع، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .. قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108] .

القسم الثالث: هو قوله: أَوْ يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51] وفي القراءة الأخرى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51] وهذا الرسول من الملائكة، والوحي عن طريق الملك هو أكثرها.

وهذا أيضاً أنواع:

فمنه ما يكون على وجه التمثيل فيتمثل الملك رجلاً فيكلمه، ويأتي هذا على صور كثيرة، منها ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه جبريل في صورة دحية الكلبي ، وقد يأتيه وهو لا يعرفه كحديث جبريل في سؤالاته، وقد يأتيه ملكان فيسأل أحدهما الآخر عن شيء مثل حديث السحر، ومثل حديث: (اضربوا له مثلاً...) ومثل حديث الصعود به إلى السماء وما رأى من المعذبين من أصحاب الذنوب، وغير ذلك من الأحاديث، فهذه كلها أنواع من أنواع الوحي.

وقد يكون أشد من ذلك مثل صلصلة الجرس، أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي عنه ما يقول، وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، قالت عائشة : ولقد رأيته يفصم عنه في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا).

ومن أنواع الوحي الكتابة: فإن الله سبحانه وتعالى يكتب صحفاً وألواحاً لبعض أنبيائه، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وكذلك أنزل الصحف على إبراهيم وموسى، وكذلك الإنجيل والزبور كلاهما نزل في صحف، فهذا نوع من أنواع الوحي.

العلم بالوحي علم قطعي

كل هذه الأنواع يجمعها جامع وهو أن العلم الحاصل بها علم قطعي لا يمكن أن يشكك فيه صاحبه، فكل من أوحي إليه لا يستطيع أن يجادل نفسه هل هذا صدق أو غير صدق، ويحصل له اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، وهو أشد من يقينك بالمرئيات والمسموعات، وأنه يصل إلى بشاشة القلوب، والمسموعات والمرئيات يمكن أن تشكك فيها؛ لأن البصر يتفاوت والسمع يتفاوت، فلذلك كان الوحي أبلغ وسائل العلم.

قوله: (والوحي حق)، يجب الإيمان بأن ما أوحاه الله لا يمكن أن يكون إلا حقاً لأنه يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[النساء:87] ويقول: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ[آل عمران:95] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[النساء:122] .

والوحي قول الله فلذلك لابد أن يكون حقاً، فلهذا قال: (والوحي حق ليس قولاً يختلق)، وهذه مبالغة في تفسير كونه حقاً، وهو مأخوذ من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ[يوسف:111] ، فلا يمكن أن يختلقه أي واحد.

ولهذا قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[الحاقة:44-47]، فلا يستطيع أحد أن يدافع عنه حينئذٍ.

قوله: (ليس قولاً يختلق)، الاختلاق بمعنى الكذب ومنه قول الله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ[ص:7] واشتقاقه مما يتكلف الإنسان خلقه، والإنسان لا يَخلُق لكنه يَختلِق، بمعنى يزعم فعل شيء غير صحيح، وهذا الذي يسمى بالاختلاق، والمختلَق هو الكلام المكذوب على صاحبه.

والوحي في اللغة يطلق على السرعة وعلى الإلهام وعلى الكتابة، فله ثلاث معان، يقال: وحى وأوحى بمعنى: كتب، وبمعنى: أسرع، وبمعنى: أذهب، ومثلها وخى -بالخاء- وكذلك توخى، ترد أيضاً بهذا المعنى.

ومنه قول الشاعر:

فلما رأى أن النجاة تعذرت رأى أن ذا الكربين لا يتعذر

توخى بها مجرى سهيل ودونه من الشام أجبال تطول وتقصر

وورود الوحي بمعنى الإلهام كثير في القرآن، كقول الله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ[النحل:68] فالمقصود بذلك إلهامها.

ولذلك يطلق الوحي على ما يراه الرائي في النوم، فهو إلهام لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا[الشورى:51] ، أي: إلا رؤيا نوم، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51] وهذا هو الوحي الاصطلاحي وهو المرتبة الثالثة.

والوحي في الاصطلاح: تنزيل الله سبحانه وتعالى ما شاء من كلامه على من شاء من خلقه، وقد سبق أن الكلام الذي يوحى به هو الكلام التشريعي لا الكلام الكوني، فالكلمات الكونية يخاطب بها كل خلقه، لكنها لا تسمى وحياً، فهو يكلم كل مخلوق من خلقه بكن فيكون، وهذه ليست وحياً؛ لأنه يخاطبك أنت بها، ولا تتحرك حركة ولا تسكن سكوناً إلا بخطاب الله، وهذه هي الكلمات الكونية.

أما الكلمات التشريعية فهي التي يوحي بها إلى ما شاء من خلقه، وهم الذين اختارهم لذلك: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124] .. اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75] ، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68] .

وهو وحي الله سبحانه وتعالى إلى عباده، يجب الإيمان به، ويجب الإيمان أنه اختار من عباده خلقاً للوحي وأنه أوحى إليهم.

والإيمان بالوحي مراتب:

أولاً: الإيمان بوجوده؛ لأنه حق.

ثانياً: الإيمان بما حصل منه تفصيلاً من الكتب المنزلة.

ثالثاً: الإيمان بأنه من عند الله سبحانه وتعالى وحده.

رابعاً: الإيمان بأنه غير مكتسب وإنما هو اختيار رباني.

فمن أقر بوجود الوحي وأقر بأنه من عند الله، وأقر الموجود منه لكنه جوز اكتسابه فهو كافر، مثل بعض الفلاسفة الذين يجوزون اكتساب النبوة، فالنبوة ليست مكتسبة وإنما هي اختيار رباني يختار الله لها من شاء من عباده.

ولهذا الوحي صور كثيرة أوصلها العلماء إلى ثلاث عشرة صورة، وأصلها الثلاث المذكورة في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا[الشورى:51] والمقصود بذلك رؤيا النوم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (منامات الأنبياء وحي) والمقصود بذلك أحلامهم.

ولهذا فإن منامات الناس عموماً فيها نسبة من ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء النبوة) لأنها إلهام رباني يلهم الله به الإنسان أمراً.

القسم الثاني: مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الشورى:51] ، مثل كلامه لموسى عليه السلام، ومثل تكليمه للملائكة، فإنهم يسمعون كلامه من وراء حجاب، ولذلك إذا تكلم سبحانه وتعالى أخذت قلوبهم، ثم إذا كمل كلامه فزع عن قلوبهم: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سبأ:23] .

وكذلك فإنه يكلم الناس أجمعين يوم القيامة، فأهل الإيمان يكلمهم كلام الرحمة: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58] ، وفي حال الحساب كذلك: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان).

وأهل الكفر لا يكلمهم كلام رحمة، ولذلك قال: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ[آل عمران:77] لكنه يكلمهم كلام عذاب، فيخاطبهم بالتقريع، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .. قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108] .

القسم الثالث: هو قوله: أَوْ يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51] وفي القراءة الأخرى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ[الشورى:51] وهذا الرسول من الملائكة، والوحي عن طريق الملك هو أكثرها.

وهذا أيضاً أنواع:

فمنه ما يكون على وجه التمثيل فيتمثل الملك رجلاً فيكلمه، ويأتي هذا على صور كثيرة، منها ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه جبريل في صورة دحية الكلبي ، وقد يأتيه وهو لا يعرفه كحديث جبريل في سؤالاته، وقد يأتيه ملكان فيسأل أحدهما الآخر عن شيء مثل حديث السحر، ومثل حديث: (اضربوا له مثلاً...) ومثل حديث الصعود به إلى السماء وما رأى من المعذبين من أصحاب الذنوب، وغير ذلك من الأحاديث، فهذه كلها أنواع من أنواع الوحي.

وقد يكون أشد من ذلك مثل صلصلة الجرس، أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي عنه ما يقول، وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، قالت عائشة : ولقد رأيته يفصم عنه في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا).

ومن أنواع الوحي الكتابة: فإن الله سبحانه وتعالى يكتب صحفاً وألواحاً لبعض أنبيائه، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وكذلك أنزل الصحف على إبراهيم وموسى، وكذلك الإنجيل والزبور كلاهما نزل في صحف، فهذا نوع من أنواع الوحي.

كل هذه الأنواع يجمعها جامع وهو أن العلم الحاصل بها علم قطعي لا يمكن أن يشكك فيه صاحبه، فكل من أوحي إليه لا يستطيع أن يجادل نفسه هل هذا صدق أو غير صدق، ويحصل له اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، وهو أشد من يقينك بالمرئيات والمسموعات، وأنه يصل إلى بشاشة القلوب، والمسموعات والمرئيات يمكن أن تشكك فيها؛ لأن البصر يتفاوت والسمع يتفاوت، فلذلك كان الوحي أبلغ وسائل العلم.

قوله: (والوحي حق)، يجب الإيمان بأن ما أوحاه الله لا يمكن أن يكون إلا حقاً لأنه يقول: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[النساء:87] ويقول: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ[آل عمران:95] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[النساء:122] .

والوحي قول الله فلذلك لابد أن يكون حقاً، فلهذا قال: (والوحي حق ليس قولاً يختلق)، وهذه مبالغة في تفسير كونه حقاً، وهو مأخوذ من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ[يوسف:111] ، فلا يمكن أن يختلقه أي واحد.

ولهذا قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[الحاقة:44-47]، فلا يستطيع أحد أن يدافع عنه حينئذٍ.

قوله: (ليس قولاً يختلق)، الاختلاق بمعنى الكذب ومنه قول الله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ[ص:7] واشتقاقه مما يتكلف الإنسان خلقه، والإنسان لا يَخلُق لكنه يَختلِق، بمعنى يزعم فعل شيء غير صحيح، وهذا الذي يسمى بالاختلاق، والمختلَق هو الكلام المكذوب على صاحبه.

معنى الإيمان بالكتب

قوله: (والكتب حق والملائكة حق):

الكتب: جمع كتاب، والكتاب في الأصل فعال اسم آلة من كتب الشعر بمعنى خاطه، ولما كانت الأوراق التي يكتب بها العلم تصير هكذا سمي الذي يجتمع فيه عدد من الأوراق وتخاط كتاباً، ثم انتقل هذا إلى الحرفة نفسها، فكان رسم الحروف يسمى كتابة، ويسمى خطاً، ولذلك يطلق على الصحفة الواحدة (كتاب)، ولذلك قال الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام حكاية عن ملكة سبأ: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[النمل:29-30]، (كتاب كريم) ليس معناه أنه كثير من الأوراق المخيطة بل هو هذا اللفظ فقط: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ[النمل:30-31] ، فهذا كتاب.

ولهذا فإن ما يكتبه الإنسان إلى غيره من الرسائل يسمى كتباً يقال: أرسل فلاناً كتاباً، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل وكتاباً إلى كسرى، وكتاباً إلى النجاشي ، وكتاباً إلى صاحب دومة الجندل وهو أكيدر دومة وكتاباً إلى ابني جلندا وكتاباً إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين؛ هذه كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الله، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم .

فالمقصود بذلك ورقة واحدة فيها الخطاب الذي يوجهه إليهم، وقد عرفنا أن هذا قد انتقل عدة انتقالات، فالأصل الخياط وهي كناية عن الأوراق التي تخاط، ثم انتقل ذلك إلى الورقة الواحدة التي كتب فيها فسميت كتاباً، ولهذا يقول العرب: (كتب الأحباب أحباب الكتب) أي: الكتب التي تأتيك من أحبتك هي أحب الكتب إليك.

يقول الشاعر:

إذا الإخوان فاتهم التلاقي فما صلة بأنفع من كتاب

أي: أن يكتب بعضهم إلى بعض.

والكتب اصطلاحاً: المقصود بها كتب الله، أي وحيه الذي أنزل على عباده سواء جاءت من عند الله مكتوبة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها، أو جاءت منزلة على قلب الرسول الذي يوحى إليه كالقرآن، فالقرآن لم يأت من عند الله مكتوباً، بل لم يكتب كتابة جامعة له في مكان واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان جمعه في أيام أبي بكر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد كان يكتب في حياته لكن في صحف متفرقة وفي ألواح وفي جلود وغير ذلك.

فلهذا قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[العنكبوت:48-49]، فهو الذي في الصدور.

وجاء في الحديث: (إن أناجيل أمتي في صدورها)، وكذلك في حديث عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مسلم : (إن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وإني أنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان) فقوله: (لا يغسله الماء)، أي: ليس مثل الكتب التي تكتب على الألواح فتغسل، إنما هو مكتوب في الصدور، ولهذا قال: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[العنكبوت:48-49].

الإيمان بالكتب المنزلة جملة وتفصيلاً

والكتب المنزلة يجب الإيمان إجمالاً أنها من كلام الله ووحيه، ويجب الإيمان تفصيلاً بما سمي منها، والكتب الأربعة المسماة هي: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، ومعها صحف إبراهيم التي ذكرت دون أن تسمى، قال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى[النجم:36-37] ، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:18-19].

فهذه الصحف هي الكتب.

ونحن لا نعلم عدد الكتب، وما كان ينبغي لنا ذلك، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن ما لا يصلح منها وإنما يكون التشريع الذي فيه صالحاً لمدة زمنية محددة، قد جعله الله تعالى ينسى واستودعه خلقه واستحفظهم إياه، كما قال تعالى: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ[المائدة:44] .

أما هذا القرآن الذي يصلح لكل ما بعده من الأزمنة فإنه بقي محفوظاً في الصدور، وقد حفظه الله وتولى حفظه بنفسه، ولم يكل حفظه إلى عباده، فقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9] ، وقال: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42] .

مراتب الإيمان بالكتب

لهذا قال: (والكتب حق)، الإيمان بكتب الله ركن من أركان الإيمان، وهذا الإيمان كما ذكرناه ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: هي الإيمان بكتب الله إجمالاً.

المرتبة الثانية: هي الإيمان بالكتب التي جاء ذكرها.

المرتبة الثالثة: هي التصديق بكل ما جاء فيها من الأخبار، وبأن هذا القرآن مهيمن عليها وناسخ لجميعها، وبأن كل ما فيه فهو حق، وبأن كل ما أخبر به فهو صدق، وكل ما شُرع فيه فهو شرع الله، ويجب أن يعتقد الإنسان أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع، فيؤمن بذلك.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع