شرح متن الورقات [8]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

تقدم لنا بعض مباحث الأمر, وذكرنا من هذه المباحث: تعريف الأمر، وأن الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه، وذكرنا أيضاً هل له صيغة أو ليس له صيغة، وذكرنا خلاف الأصوليين في ذلك، وأن مذهب أهل السنة والجماعة أن الأمر له صيغة تخصه.

وذكرنا أن الأمر عند الإطلاق له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون هناك ما يدل على الوجوب.

والحالة الثانية: أن يكون هناك ما يدل على الاستحباب.

والحالة الثالثة: أن يرد الأمر مطلقاً.

وهل إذا ورد مطلقاً يدل على الوجوب؟ وهل الأصل فيه الوجوب أو الأصل فيه الاستحباب؟ وذكرنا أنه باتفاق الأئمة يدل على الوجوب.

وكذلك أيضاً: تقدم لنا من مباحث الأمر: هل يقتضي الأمر التكرار أو لا يقتضي التكرار؟ وذكرنا أن هذه المسألة تحتها ثلاثة أقسام.

وأيضاً هل يقتضي الفورية أو هو على التراخي؟ وذكرنا أن جمهور أهل العلم أنه يقتضي الفورية، وذكرنا الأدلة على ذلك، وذكرنا أيضاً مذهب الشافعية ودليلهم.

وقبل ذلك تقدم لنا أن الأمر المجرد عن القرائن - يعني: الأمر الذي لم يكن هناك ما يدل على كونه واجباً أو يدل على كونه مندوباً- أن الأصل فيه الوجوب, وهذا قلنا: بأنه باتفاق الأئمة، وهو مذهب الظاهرية، فالظاهرية لا يستثنون شيئاً، يعني: أن الظاهرية يقولون: بمقتضى هذه القاعدة مطلقاً في كل الأوامر، فكل الأوامر المجردة عن القرائن عندهم تقتضي الوجوب، حتى ما يتعلق بالأشياء التي تدل على الإرشاد والأدب فإنها تقتضي الوجوب عندهم.

والرأي الثاني: رأي جمهور أهل العلم، أن الأوامر التي تتعلق بالإرشاد والأدب لا تقتضي الوجوب، وإنما على الندب والاستحباب، يعني: ورد في الشرع أوامر كثيرة كلها تتعلق بالإرشاد والأدب، واقرأ مثلاً: ما يتعلق بمكروهات الصلاة، ( فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التخصر في الصلاة )، يعني: أمر بعدم التخصر، فهذا الأمر هنا على سبيل الإرشاد والأدب، والنهي على سبيل الإرشاد والأدب.

وأيضاً: نهي الإنسان أن يفترش ذراعيه في الصلاة افتراش السبع. وأيضاً: نهي عن الإقعاء، وأيضاً: نهي أن يصلي وهو بحضرة طعام أو وهو يدافعه الأخبثان, فقالوا: بأن هذه الأشياء على سبيل الإرشاد والأدب.

وأما عند الظاهرية فعندهم النهي يقتضي التحريم مطلقاً، والأمر يقتضي الوجوب مطلقاً، حتى ولو كان فيما يتعلق بالإرشاد والأدب، لكن عند جمهور أهل العلم قالوا: بأن ما يتعلق بالإرشاد والأدب فإنه على سيبل الاستحباب.

ومثل ذلك أيضاً: الأمر بأن يأكل الإنسان بيمينه, فهذا من قبيل العادات، ونهيه أن يأكل بشماله, فقالوا: بأن هذا من قبيل الإرشاد والأدب, ولو أنه أكل بشماله لم يحرم عليه عند جمهور أهل العلم.

وكذلك أيضاً: الأمر بلعق الصحفة، والأمر بلعق الأصابع، ونحو ذلك من الأوامر التي تتعلق بالإرشاد والأدب، فعند جمهور العلماء رحمهم الله أنها على الاستحباب.

والأقرب في مثل هذه الأشياء التفصيل, فنقول: بأن هذه الأوامر لا تدل على الوجوب إن كانت أمراً, ولا تدل على التحريم إن كانت نهياً؛ لأن أصلها وذاتها يتعلق بالإرشاد والأدب، وهذا الأدب والإرشاد في أصله ليس واجباً إذا كان أمراً، وإنما هو إرشاد من الشارع، إلا إذا دل الدليل أو قامت القرائن على تأكيد النهي أو تأكيد الأمر, فإذا كانت عندنا قرائن وأدلة على تأكيد الأمر وتأكيد النهي، فإن ذلك ينتقل إلى الوجوب إن كان أمراً، أو ينتقل إلى التحريم إن كان نهياً، أو داوم الإنسان على ذلك.

فمثلاً: النهي عن التخصر الأصل أن لا يقال: بأنه محرم على الإنسان أن يتخصر في صلاته, فلا نقول: بأنك فعلت محرماً, وأنك آثم, لكن نقول: بأنك فعلت مكروهاً، اللهم إلا إذا داوم الإنسان على ذلك، أو كان مكثراً منه، يعني: يكثر من هذا الشيء، فإنها في هذا الحالة نقول: بأنه يأثم؛ لأنه مخالف لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.

أو كانت هناك قرائن تدل على تأكد الأمر, مثلاً: الأمر بأن يأكل الإنسان بيمينه ويشرب بيمينه، فالشارع أكد على ذلك، ونهى عن الأكل بالشمال، وأخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، وأن الشيطان يشارك الإنسان في مأكله ومشربه, فالمهم إذا دلت عندنا القرائن وقامت الأدلة على تأكد الأمر أو داوم الإنسان على ذلك، فإنه ينتقل عن الأصل، أما إذا لم يكن كذلك فالأصل في ذلك أن هذه الأوامر المتعلقة بالإرشاد للندب، والنواهي المتعلقة بالإرشاد للكراهة التنزيهية؛ لأن أصل هذه الأشياء وذاتها إنما هي للإرشاد، والإرشاد لا يقتضي الوجوب، ولا يقتضي التحريم.

قال رحمه الله: [والأمر بإيجاد الفعل أمر به، وبما لا يتم الفعل إلا به، كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة المؤدية إليها].

هذه قاعدة هل الأمر بالشيء أمر به وبلوازمه.

وأيضاً: الأصوليون يذكرونها على وجه آخر، فيقولون: بأن الأمر بالشيء أمر به وبجميع شروطه الشرعية والعادية والمعنوية والحسية.

وأيضاً يعبر عنها الأصوليون بقولهم: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالأمر بالصلاة أمر بها وبما لا يتم الأمر إلا بها، فهو أمر به وأمر بكل ما كان وسيلة إليه، فالوسائل لها أحكام المقاصد، كما قال المؤلف رحمه الله: (كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة) والأمر بشراء الماء للطهارة, وبشراء الثوب لستر العورة، وهكذا، فالوسائل لها أحكام المقاصد، فوسائل الواجبات واجبات، ووسائل المندوبات مندوبات.

ومن وسائل الواجبات كما قلنا: شراء الثوب لستر العورة، فستر العورة للصلاة واجب، وشراء الثوب لكي يستر الإنسان عورته هذا واجب، وشراء الماء لكي يتوضأ الإنسان هذا واجب, وهكذا.

ووسائل المندوبات مندوبة، فشراء السواك ليتسوك به الإنسان مندوب. ووسائل المكروهات مكروهة، فشراء البصل لكي يأكله الإنسان مكروه، وشراء الثوم لكي يأكله الإنسان مكروها.

ووسائل المحرمات نقول: بأنها محرمة، يعني: الطرق التي يتوصل بها إلى هذا الشيء المحرم نقول: بأنها محرمة, فشراء العنب لكي يعصره خمراً، هذا محرم ولا يجوز.

ووسائل المباحات نقول: بأنها مباحة، فكون الإنسان يشتري الأكل أو الشراب نقول: بأن هذا مباح.

إذاً: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

قاعدة: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً

ما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً، فمثلاً: وجوب الزكاة، فلا يجب على الإنسان أن يجمع المال لتجب عليه الزكاة، فهذا ليس واجباً, فما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً.

كذلك إذا كان الإنسان فقيراً لا يستطيع الحج فلا نقول: إنه يجب عليك أن تجمع المال حتى تستطيع الحج، بل نقول: لا يجب عليك، ففرق بين هذا وبين ما لا يتم الواجب إلا به -الواجب الذي تحقق- فهو واجب. فالإنسان الذي وجبت عليه صلاة الظهر، فنقول: يجب عليك أن تشتري الماء إذا كنت قادراً على ذلك، ويجب عليك أن تشتري الثوب؛ لكي تستر العورة، لكن إذا كان حتى الآن ما ترتب عليك الوجوب فهذا ليس واجباً. فمثلاً: إنسان لا تجب عليه الزكاة لكونه فقيراً، فلا نقول: اجمع المال؛ لكي تجب عليك الزكاة, أو إنسان حتى الآن ما وجب عليه الحج؛ لكونه فقيراً، فلا نقول: اجمع المال؛ حتى يجب عليك الحج, وكذلك إنسان فقير لا يستطيع أن يشتري ماء للطهارة، فلا نقول: اجمع المال؛ لكي تشتري الماء للطهارة, بل نقول: هذا لا يجب عليك, يعني: الشيء - الوجوب- الذي لم يترتب الآن في الذمة فلا نقول: اعمله؛ لكي يجب عليك, لكن الواجب الذي ترتب في الذمة فهذا نقول: يجب عليك أن تفعله، وتجب عليك وسائله، ففرق بين ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً. فلو أن إنسان وجبت عليه كفارة الظهار - وكفارة الظهار إعتاق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً- وهذا الإنسان لا يجد رقبة فلا نقول: يجب عليك أن تعمل لكي تشتري رقبة؛ لأن هذا الوجوب حتى الآن لم يترتب في الذمة, فهذا مما لا يتم الوجوب إلا به, وما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً، لكن الأمر الذي انتهى وترتب على الذمة فهذا نقول: الوسائل لها أحكام المقاصد, ووسائل الواجبات واجبات، ونقول هنا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالزكاة ترتبت في الذمة, فكون الإنسان يقوم بإخراج المال وعدِّه؛ لكي يخرج الزكاة فهذا واجب، وهكذا.

خروج المأمور من عهدة الطلب عند الفعل

قال رحمه الله: [ وإذا فعل يخرج المأمور به عن العهدة ].

يعني: عن عهدة الطلب، فإذا فعل الإنسان المأمور بشروطه مع انتفاء موانعه - يعني: وجدت الشروط وانتفت الموانع ووجدت الأركان والواجبات- فإنه يخرج عن العهدة، يعني: يسقط عنه الطلب وتبرأ ذمته، لكن براءة الذمة من العهدة لا يلزم من ذلك أن يثاب على ذلك, وقد يثاب الإنسان ولا تبرأ ذمته من عهدة الطلب.

فالأقسام في ذلك ثلاثة:

القسم الأول: ما كان صحيحاً مثاباً، يعني: أن يكون العمل صحيحاً مثاباً عليه, هذا كحكم وضعي، فإذا وجدت الشروط والأركان والواجبات وانتفت الموانع، فهذا صحيح ويثاب على ذلك، يعني: لم يأت بشيء ينقص هذا الثواب، فنقول: هذا صحيح يثاب عليه.

القسم الثاني: صحيح لا يثاب عليه، صحيح كحكم وضعي, ولا يثاب عليه كحكم تكليفي, فهو صحيح؛ لأنه وجدت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، لكن لا يثاب على ذلك؛ لأن هذا العمل اقترنت به معصية أخلت بالمقصود, ومثال ذلك: صام الإنسان صياماً صحيحاً - يعني: وجدت الشروط وانتفت الموانع- لكنه قال الزور وعمل الزور, فانتفى عنه الثواب، يعني: جهل في صيامه وعمل المعاصي فيه، فنقول: هنا الصيام مبرئ للذمة ومسقط للطلب بحيث إنه لا يطالب, لكنه لا يثاب على هذا الصيام.

القسم الثالث: عكس هذا، يثاب عليه ولا يصح, مثال ذلك: أدى العمل وقد اختل شرط من شروطه أو اقترن به مانع من الموانع، فنقول: يثاب عليه، ولكنه غير مبرئ ولا يسقط الطلب, فيجب عليه أن يعيده، مثال ذلك: من صلى وهو محدث، فنقول: تثاب على هذه الصلاة التي عملتها، لكن يجب عليك أن تعيدها؛ لأنه اختل شرط من الشروط.

ما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً، فمثلاً: وجوب الزكاة، فلا يجب على الإنسان أن يجمع المال لتجب عليه الزكاة، فهذا ليس واجباً, فما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً.

كذلك إذا كان الإنسان فقيراً لا يستطيع الحج فلا نقول: إنه يجب عليك أن تجمع المال حتى تستطيع الحج، بل نقول: لا يجب عليك، ففرق بين هذا وبين ما لا يتم الواجب إلا به -الواجب الذي تحقق- فهو واجب. فالإنسان الذي وجبت عليه صلاة الظهر، فنقول: يجب عليك أن تشتري الماء إذا كنت قادراً على ذلك، ويجب عليك أن تشتري الثوب؛ لكي تستر العورة، لكن إذا كان حتى الآن ما ترتب عليك الوجوب فهذا ليس واجباً. فمثلاً: إنسان لا تجب عليه الزكاة لكونه فقيراً، فلا نقول: اجمع المال؛ لكي تجب عليك الزكاة, أو إنسان حتى الآن ما وجب عليه الحج؛ لكونه فقيراً، فلا نقول: اجمع المال؛ حتى يجب عليك الحج, وكذلك إنسان فقير لا يستطيع أن يشتري ماء للطهارة، فلا نقول: اجمع المال؛ لكي تشتري الماء للطهارة, بل نقول: هذا لا يجب عليك, يعني: الشيء - الوجوب- الذي لم يترتب الآن في الذمة فلا نقول: اعمله؛ لكي يجب عليك, لكن الواجب الذي ترتب في الذمة فهذا نقول: يجب عليك أن تفعله، وتجب عليك وسائله، ففرق بين ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً. فلو أن إنسان وجبت عليه كفارة الظهار - وكفارة الظهار إعتاق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً- وهذا الإنسان لا يجد رقبة فلا نقول: يجب عليك أن تعمل لكي تشتري رقبة؛ لأن هذا الوجوب حتى الآن لم يترتب في الذمة, فهذا مما لا يتم الوجوب إلا به, وما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجباً، لكن الأمر الذي انتهى وترتب على الذمة فهذا نقول: الوسائل لها أحكام المقاصد, ووسائل الواجبات واجبات، ونقول هنا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالزكاة ترتبت في الذمة, فكون الإنسان يقوم بإخراج المال وعدِّه؛ لكي يخرج الزكاة فهذا واجب، وهكذا.