الهوى وخطر اتباعه
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الهوى وخطر اتباعهيُعاني الناس ألوانًا من المشاكل، وصُنُوفًا من المتاعب؛ وذلك لأنهم تركوا الدينَ وراءهم ظِهريًّا، ونحَّوه عن حياتهم الاجتماعية والسياسية، ولو أنهم التزموا جانبَ الدين الحق، واحتكموا إلى ما يقتضيه المنطق السليم، لاستقامت لهم شؤونهم على وضْع سويٍّ يتلاءم مع الفطرة السويَّة التي فطَر الله الناس عليها، ولتخلَّصوا من كلِّ هذه المشاكل، وجميع هاتيك المتاعب التي تُثقِل كاهلهم اليوم.
لقد انحرف أكثرُ الناس في عصرنا وعالمنا عن الصراط المستقيم بعامل الهوى، فجانبوا الحقَّ، وأعرضوا عن دين الله، دين الإسلام، فاصطلحت عليهم من جرَّاء ذلك المشاكل والمتاعب.
ومن هنا كان الخطرُ الماحق لحياتنا وعزَّتنا، وما دخل علينا الوَهَن في هذه الفترة العصيبة من تاريخنا إلا من قِبَل الهوى، ولا آل حالنا إلى الانحطاط في زمن من الأزمان إلا بسبب الأهواء التي كانت حاكمة ومهيمنة.
من أجل ذلك كَثُرت الزواجر الرادعة في الكتاب والسُّنة عن اتباع الهوى، وكلها تَلفِت نظرَ المسلم إلى خطورة الاحتكام إلى الهوى؛ فإن ذلك سلوك مُنحرِف شائن.
كانت هذه الزواجر مُفعَمة بالتهديد والوعيد لمن يرضى لنفسه أن يكون من عبيد الهوى، ذلك أنه لا تقوم حياة كريمة نظيفة تكون فيها العدالة والكرامة إن قامت على دِعامة الهوى، ولا تستقيم حياة فرد ولا مجتمع على طريق الحقِّ ما لم تتخلَّص من كلِّ أنواع الهوى.
وها نحن أولاء نقرأ هذا التحذير المخيف يُوجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، إن الضلال عن سبيل الله يكون بسبب الهوى، ولقد قرَّر القرآن هذا المعنى في أكثر من موضِع، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]، هكذا بكل وضوح يُقرِّر القرآن أنه ليس هناك أضل ممن سار وراء هواه واتَّبعه مُخالفًا هدى الله.
وقرَّر كتاب الله أن مصير عبيد الهوى إلى انهيار لا محالة؛ فقال سبحانه: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
ولقد أنبأتنا الأيام وحوادثُ التاريخ أن مصير اتّباع الهوى إلى اندثار ودمار.
فأين تلك الفِرق التي قامت لتأييد هوى سيطر على نَفْس شريرة؟
وأين تلك الدول التي قامت على أساس من هوى طاغية مُستَبِد؟
إنها كلها قد بادت وانتهت إلى العدم.
وكم من رجل من الناس كان مستعبَدًا لهواه سايرته الأيام حينًا من الدهر ثم كان أمره فُرُطًا!
إن للشيطان مداخل على النَّفْس خطيرة وبارعة، يريد بذلك أن يُهلِك المسلم، فيَعمِد إلى الهوى فيلبسه لباسًا مُزرَكشًا خدَّاعًا لا يُصادِم المعاني الدينية ولا يُعارِضها في الظاهر، وقد تنطلي تلك الحيل على المسلم الضعيف، فينساق وراء دافِع الهوى، فينساق إلى حتْفه.
فإياك يا أخي من اتباع الهوى؛ فإنه قتَّال، واحذر الشيطان ووسائله ووساوسه، احذره أن يَفتِنك عن الحق وعما أنت فيه من الخير؛ وذلك بأن يُزيِّن لك هواكَ بطرق ماكرة فتَّاكة[1].
واعلم يا أخي أن اتباع الهوى يقود إلى الردى؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 15، 16].
إن الاستجابة للهوى سبب الهلاك، وهي مَدْعاة للخِصام والشجار؛ لأنَّ كلاًّ من عبيد الهوى يريد أن يُحقِّق هواه والأهواء مختلفة، وهنا تقوم الجرائم وتقع الحروب والمعارك، إن الاستجابة لداعي الهوى سبب الهلاك كما ذكرنا، فلا يَصرفنَّك عن الإيمان بالساعة، ولا عن العمل الصالح الذي تلقى جزاءه في ذلك اليوم، لا يَصدنَّك عن ذلك من لا يؤمن بالساعة ويتَّبِع هواه، فتَهلِك الهلاك الأبدي، ومن هنا كانت جنَّة الخُلْد مأوى لمن نهى نفسَه عن الهوى.
والناس في هذه الدنيا فائز وهالك، فأما الفائز فهو مَن يَكبَح جِماحَ نفسه، وينهاها عن اتباع الهوى، وأما الهالك فهو مَن ينقاد لدواعي الهوى؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41].
والعالم اليوم يُعاني ما يُعانيه؛ لأن أكثره اتخذ إلهًا غير الله، يُمجِّده ويَخُصه بالألوهيَّة، ويُعرِض عن الله - جل جلاله - إنه لا يُهِمه إلا الرفاهية والعمل على توفير كلِّ ما يُحقِّق اللذة والشهوة والطرب والسرور؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].
إن الذي يَنحدِر إلى هذا المستوى لا سبيل له إلا الخلاص، ولن يَجِد مَن يهديه إلى الصراط المستقيم.
وإذا كان الواقع كذلك فما أسوأ حظَّ هذا العالم! إن الذي يأبى أن يرتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله للمسلم، ويُصِرُّ على أن يَنسلِخ من دينه ليتَّبِع هواه جدير أن يُشبَّه بالحيوان، وذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ﴾ [الأعراف: 175، 176].
والمُعرِض عن الحق بعد أن جاءه، والمتَّبِع للأهواء ليس له من حلول النقمة مُجير، ولا له من الله نصير؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].
ولحكمة بالغة كان هذا التهديد والتحذير من اتباع أهواء الكَفَرة موجَّهًا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتهديد بالعقوبة وهي تخلِّي الله عنه، وقد تكرَّر هذا التحذير في مناسبات متعدِّدة وسيق لأغراض مختلفة، وكلها تَدُل على أمر واحد: هو أن اتباع الهوى قائد إلى الردى؛ قال تعالى: ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15].
إنها وصية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يسير في طريق الدعوة مستقيمًا لا يَزيغ به هوى ولا يَثنيه ترهيبٌ ولا ترغيبٌ.
ولقد كان سلفنا الصالح جيلاً تحرَّر من الهوى، وانتصر على نفسه، وإنها لمنزلة سامية، إن النَّفس الأمَّارة بالسوء تُنازِع المؤمن وتُغالِبه، فإن لم يتيقَّظ لها غلبتْه وصرعته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل))؛ رواه الترمذي وصحَّحه وابن ماجه[2].
وسئل بعض الصالحين: متى يصير داء النفس دواءها؟ فقال: إذا خالفت النَّفسُ هواها.
• كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: مَن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا، ورُوي عن السري السقطي قوله: أنا منذ أربعين سنة تُطالبني نفسي أن أغمس خبزةً في دِبْس، فما أطعتُها، وهذا مَثَل في المبالغة في ترويض النفس ومخالفتها، وربما كان الاعتدال أفضل.
وروى أبو نعيم في الحلية (6: 118) عن أبي أُمامة يرفعه: ما تحت أديم السماء إله يُعبَد من دون الله أعظم من هوى مُتَّبَع.
كانوا رحمهم الله ينهون نفوسهم عن أهوائها، ويُخالِفون شهواتهم التي لا تخلو من شُبْهة.
أما المباحات مما فيه حظُّ النفس، فقد كانوا يَقتصِرون منه على الضروري؛ حتى لا تَطمَع النَّفْس إذا استوفت حظَّها منه أن تتطلَّع إلى الحرام، فكم من مُجاهد ألقى طعامه من يده، وأقبل على الله مُسرِعًا نحو الوغى يُقاتِل لتكون كلمة الله هي العليا!
ونحن اليوم في أشدِّ الحاجة إلى أن يعي المؤمنون هذه الحقيقةَ، وأن يأخذوا أنفسهم بالرياضة المشروعة، وأن يتَّهِموها حتى يُحرِزوا النجاحَ في الدنيا والفلاح في الآخرة؛ قال ابن تيميَّة - رحمه الله - في [رسالة العبودية: 26 - 27]: "أصل كلِّ ضلال إنما هو بتقديم قياسه على النصِّ المنزَّل من عند الله، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحب ما يُحِبه العبد ويهواه، فكلُّ مُحِب له ذوق ووجْد بحسب محبته وهواه.
فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مِثْل ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: ((ثلاث مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكُفْر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار))[3] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ذاق طعمَ الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا))[4].
وأما أهل الكُفْر والبِدَع والشهوات فكل بحسبه، قيل لسفيان بن عُيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيتَ قوله تعالى: ﴿ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ﴾ [البقرة: 93]، فعباد الأصنام يُحِبون آلهتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165].
فلنَحْذر سلطانَ الهوى ولنؤثِر ما عند الله.
[1]انظر بعضها في كتاب "تلبيس إبليس"؛ لابن الجوزي.
[2] انظر: الإحياء (3 : 66).
[3] رواه البخاري برقم 21، ومسلم برقم 43، وابن ماجه 4033، والنَّسائي وغيرهم.
[4] رواه مسلم برقم 34.