أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضاء نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

أحمد الله الذي هيأ لنا اللقاء في هذا المسجد المبارك، وأسأل الله سبحانه كما جمعنا فيه أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يجعلنا إخواناً على سرر متقابلين.

وهذه الدورة المباركة بين يدي رمضان نستقبله بها كي نتعلم أحكامه؛ فإنه من أحسن ما يستعد به المسلم لاستقبال هذا الشهر المبارك: أن يتعلم من الأحكام ما يلزمه، وأن يحيط بالآداب الشرعية التي ينبغي له التحلي بها في هذا الشهر الكريم؛ من أجل أن يخرج بأعظم الحسنات وبأكبر الأجر والثواب؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

وقد خطب رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه في آخر يوم من شعبان؛ كما ورد في صحيح ابن خزيمة من حديث سلمان رضي الله عنه، فكان مما قاله صلوات ربي وسلامه عليه: ( قد أظلكم شهر كريم مبارك، افترض الله عليكم صيامه وسن لكم قيامه، من وفق فيه إلى خصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، من فطر فيه صائماً كان له مثل أجره، وكان عتقاً لرقبته من النار ).

وقال صلوات ربي وسلامه عليه: ( أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلها: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل في كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ويصيروا إليكِ، وتصفد مردة الشياطين، ويغفر لهم في آخر ليلة من رمضان، قيل: يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال: لا، وإنما يعطى الأجير أجره إذا وفى عمله ).

يا أيها الإخوة الكرام! أسأل الله أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يجعلنا فيه من الفائزين، ولنا فيه غاية وهدف وهو: أن نخرج من رمضان من ذنوبنا، كيوم ولدتنا أمهاتنا، وهذا الهدف العظيم لا يتأتى إلا بشرطين:

الشرط الأول: أن نصوم ونقوم مخلصين لله عز وجل، لا رياء ولا سمعة، ولا اضطراراً، ولا خوفاً من الناس؛ وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إيماناً واحتساباً ).

الشرط الثاني: أن نحقق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن نصوم صياماً شرعياً، ونحاول فيه قدر الإمكان أن نتشبه بالنبي عليه الصلاة والسلام، فهو الذي قال: ( صلوا، كما رأيتموني أصلي )، وفي الحج قال: ( لتأخذوا عني مناسككم ).

وفي الصيام نحاول قدر الإمكان أن نتشبه به صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا هو موضوع هذه الدورة المباركة، التي عنوانها: أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.

كيف كانت عبادته وأخلاقه ومعاملاته؟ وكيف كانت علاقته بربه، وعلاقته بالناس؟ وكيف كان جهاده؟ وكيف كانت فتواه؟ وكيف كان في بيته مع أزواجه، وأولاده؟ وكيف كان اعتكافه؟ صلوات الله وسلامه عليه، فحول هذه المعاني سيدور الكلام إن شاء الله.

فمثلاً: الآن صلينا المغرب خلف إمامنا ثلاث ركعات، ركعتين منها جهرية وركعة سرية، وبعد حين -إن شاء الله- سنصلي العشاء، ركعتين منها جهريتين بعدهما جلوس، ثم ركعتين سريتين بالفاتحة، وغداً -إن شاء الله- إذا أصبحنا سنصلي الصبح ركعتين جهريتين نطيل فيهما القراءة، وهذا كله أخذناه من رسول صلى الله عليه وسلم.

فلو أن واحداً منا الآن صلى وراء الإمام، فبعدما سلم من ثلاث ركعات، قال: بما أن الجو طيب، والمسجد مكيف، والفراش وثير، فزيادة الخير خيران، فبدلاً من أن أصلي ثلاث ركعات سأصلي أربعاً أو خمساً، فكل المسلمين في المشارق والمغارب سيقولون له: صلاتك هذه باطلة، وسيضرب بها على وجهك يوم القيامة، ولن تقع من الله موقع القبول أصلاً؛ لأنك لم تعبد الله بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عبدت الله وفقاً لهواك؛ ولذلك لا بد أن نجهر في الموضع الذي جهر فيه، وأن نسر في الموضع الذي أسر فيه، وأن نجلس في الموضع الذي جلس فيه، وأن نتشبه قدر الإمكان به في صلاته صلوات ربي وسلامه عليه.

وكذلك الحال في صيامه وفي ذكره، وفي قيامه، وفي تلاوته للقرآن، وفي كل أحواله؛ وبذلك نحقق قول ربنا جل جلاله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء:125]، ونحقق قول ربنا جل جلاله: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].

وبين يدي هذه الدورة المباركة، وخير افتتاح لها: أذكر بعض المعاني المتعلقة بآيات الصيام في سورة البقرة، وبعض الأحكام المستفادة منها، ثم بعد ذلك يكون الدرس التالي -إن شاء الله- في بيان أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان.

فرضية الصيام

الآية الأولى: يقول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، افتتحت هذه الآيات بأشرف نداء، وهو النداء بوصف الإيمان في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183]، وكما قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه: إذا سمعت الله في القرآن يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، فارعها سمعك؛ فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.

والنداء بوصف الإيمان دليل على أن الالتزام بما بعده داخل في حيز الإيمان، كما أن التفريط فيه، والتهاون به؛ دليل على نقص الإيمان أو عدمه، والعياذ بالله!

ومعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183]، أي: يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؛ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ وكتب بمعنى: فرض، مثلها قال ربنا: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]؛ ومثلها قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]؛ ومثلها قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، فإن قوله: (كتب) في هذا المواضع كلها بمعنى: فرض، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183].

تعريف الصيام

الصيام: هو التعبد لله عز وجل بالإمساك عن سائر المفطرات، من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.

فقولنا: التعبد لله؛ لأن الإنسان قد يمسك عن المفطرات ليس تعبداً لله؛ وإنما قد يكون ذلك بأمر من الطبيب؛ فالطبيب أحياناً يقول لك: عندك عملية جراحية -عافانا الله وإياكم والمسلمين- أو عندك منظار، أو عندك أشعة، أو عندك كذا؛ فأمسك عن الطعام والشراب من الساعة العاشرة ليلاً إلى الساعة العاشرة صباحاً، مثلاً، فهنا أمسكت عن الطعام والشراب لكن ليس تعبداً لله. أما هنا؛ فنقول في الصيام: التعبد لله بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق؛ لأن الفجر فجران:

فجر كاذب، وهو: الضياء المستطيل في الأفق من جهة المشرق على هيئة ذنب الحيوان، فهذا فجر كاذب.

وأما الفجر الصادق فهو: الضياء المستطير -بالراء- في الأفق على هيئة جناح الطائر.

فالصيام من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، هذا هو الصيام الذي كتبه الله علينا في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183].

اشتراك الشرائع السماوية في أصول العبادات

قال سبحانه: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183].

إننا إذا نظرنا إلى أصول العبادات فإننا نجد أن الشرائع فيها مشتركة؛ فمثلاً عندما نقرأ في القرآن في شأن الصلاة والزكاة، وأن الله عز وجل قال عن إبراهيم حين دعا ربه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، وقال الله عز وجل عن إسماعيل : إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً [مريم:54-55]، وقال على لسان المسيح عليه السلام: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:31].

فإننا نجد أن أصول هذه العبادات مشتركة بين الشرائع كلها؛ ولذلك فإننا هنا نجد أن الله عز وجل يطمئننا ويقول لنا: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، والكاف هنا: للتشبيه، كتبت عليكم الصيام ككتابتي إياه على من كان قبلكم، فبعض المفسرين قالوا: إن وجه الشبه هنا هو في أصل الفرضية، فالصيام فرض عليكم وفرض على من قبلكم.

وبعض المفسرين قالوا: بل وجه الشبه هنا هو: من حيث الكمية، أي: كتب عليكم صيام شهر وعلى الذين من قبلكم صيام شهر، لكن الذين من قبلنا لعبوا بالصيام، فقد مرض أحد ملوكهم، فنذر إن عافاه الله أن يزيد في الصيام عشراً، فبعدما كان الصيام شهراً صار أربعين يوماً، ثم جاء ملك آخر فزاد عشراً فصار خمسين، فصادف الصيف فنقلوه إلى الشتاء، فصار الدين ملعبة، وليس هذا بغريب عليهم، فهم الذين قال الله فيهم: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41]، وقال الله فيهم: اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ [المائدة:57]، فهؤلاء لعبوا بالدين، وجعلوه ملعبة للملوك.

وأما نحن المسلمين فالصيام قبل شهر رمضان بيوم حرام عندنا، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تقدموا رمضان بصيام يوم ولا يومين )، والصيام بعده بيوم حرام، فيوم العيد لا يجوز لمسلم أن يصومه؛ فهذا كله من أجل أن يبقى شهر الصيام لا زياده فيه ولا نقصان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنا أمة أمية، لا نقرأ ولا نحسب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا)، يعني: ثلاثين يوماً، أو: (هكذا، وهكذا، وهكذا)، وقبض إبهامه، يعني: تسعة وعشرين يوماً، لا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً، ولا يزيد على ثلاثين يوماً.

إذاً: التشبيه بيننا وبين من سبق من الأمم، إما أن يكون في أصل الفرض، وإما أن يكون في كمية الأيام المطلوب صومها، وإما أن يكون التشبيه في الكيفية. ومعنى الكيفية: أن المطلوب منا هو ما طلب ممن كان قبلنا وهو أن نمتنع عن سائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

الحكمة من الصوم

يقول سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فالله جل جلاله يقول لنا: لم أفرض عليكم الصوم تعذيباً لكم، ولا تجويعاً وتعطيشاً، ولا منعاً لكم من ملذاتكم؛ وإنما فرضت عليكم الصوم ترقية لسلوككم، وتربية لأنفسكم، وتزكية لقلوبكم؛ من أجل أن تتصفوا بالتقوى التي هي سبيل إلى الجنة، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً [مريم:63].

فالصوم فرضه الله علينا؛ من أجل أن نتصف بالتقوى، ونكتسب خصالها، ونتحلى بها؛ ولذلك تأمل أيها المسلم في حالك في رمضان: تأتي إلى بيتك في اليوم الشديد الحر، وقد يبس ريقك وجف فمك، والتصق لسانك بسقف حلقك، وأنت أحوج ما تكون إلى قطرة من الماء، فتدخل إلى بيتك، فتجد الأطفال الصغار وهم يحملون الماء المثلج والعصير المحلى وكذا، ونفسك تهم بهذا الشيء، بمعنى: تقبل عليه، وتشتاق إليه، والأبواب مغلقة، والستور مرخاة، والأطفال لا يفهمون شيئاً، فمن الممكن أن تخطف من أحدهم كوباً وترتشف منه رشفات، لكن لا أحد منا يفعل ذلك؛ لقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]؛ لأن التقوى حاصلة؛ ولأنك تعتقد بأنك تتعبد لله عز وجل بهذا الجوع والعطش، ترجو أن تلج من باب الريان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجنة باباً، يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق دونهم، فلا يدخل أحد غيرهم ).

فتمتنع من الطعام والشراب؛ لأنك ترجو الجائزة في قوله: ( من صام يوماً في سبيل الله؛ باعد الله وجهه من النار سبعين خريفاً ).

تمتنع من الطعام والشراب؛ لأنك تعتقد في قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما قال له أحد الصحابة: ( يا رسول الله! دلني على أمر يقربني من الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: عليك بالصوم، فإنه لا عدل له )، أي: لا مثيل له؛ فمن أجل هذا كله تمتنع عن الطعام والشراب.

وكذلك تمتنع؛ لأنك تعتقد أن الله يراك، فتصل بذلك إلى درجة الإحسان؛ حيث ورد في حديث جبريل: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).

وهذه الجملة: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]؛ كما قال المفسرون: فيها وجهان: إما أن تكون بمعنى: اللام، كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]؛ لتتقوا.

الوجه الثاني: أن تكون على بابها من الترجي، فلعل حرف ترج، لكن الله عز وجل لا يترجى، وإنما الرجاء في حيز المخلوقين، نصوم على رجاء منا أن تحصل لنا التقوى كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

أساليب الترغيب في الصوم

ثم قال الله عز وجل: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184].

وهنا مسألتان أنبه عليهما:

المسألة الأولى: أن الله عز وجل رغبنا في الصيام بأربعة أنواع من الأساليب:

الأسلوب الأول: النداء بوصف الإيمان، وذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183].

الأسلوب الثاني: طمأنة القلوب بأننا لسنا بدعاً من الأمم، وإنما المؤمنون على امتداد الزمان والمكان كتب عليهم الصيام، وهذه هي الآصرة الإيمانية التي تجعلنا ندعو دائماً؛ فنقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]؛ ولذلك قال الله عز وجل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68]، فنشعر بهذه الأخوة الإيمانية مع أتباع الأنبياء جميعاً، صلوات الله وسلامه عليهم، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

الأسلوب الثالث: رغبنا ربنا في الصيام بذكر العلة منه، فقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، والنفس دائماً مجبولة على معرفة علل الأحكام، والإنسان إذا عرف العلة اطمأن قلبه، وارتاحت نفسه.

الأسلوب الرابع: رغبنا ربنا جل جلاله في الصيام حين قال: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، أي: ليس الصيام ستة أشهر ولا عشرة ولا شهرين، وإنما تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون يوماً؛ من أجل أن تطمئن قلوب تضيق كلما اقترب رمضان، نسأل الله العافية!

فالمؤمن الطيب يهش ويفرح إذا اقترب رمضان؛ لأنه موسم لحصاد الحسنات، وأما الفاجر والمنافق -والعياذ بالله-، فإنه يضيق صدره، كلما قيل: قد اقترب رمضان، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

ويقول: رمضان صمناه قبل زمن ليس بالبعيد، كما قال بعض الفجار لصاحبه، وكانوا أصحاب مجلس شراب:

إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بكاسات صغار فإن الوقت ضاق عن الصغار

يعني: لا تشرب بأكواب صغيرة، بل اشرب من القربة مباشرة! عب من المعاصي عباً؛ لأن رمضان قد جاءك، وهكذا حال المساكين، أما المؤمنون الطيبون فيفرحون بقدوم رمضان ويهشون.

شروط وجوب الصوم

المسألة الثانية: قول ربنا جل جلاله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183]، بمعنى: فرض، ورمضان لا يفرض إلا على من توافرت فيه شروط خمسة، فالمخاطب بهذه الآية هو من توفرت فيه خمسة شروط:

الشرط الأول: البلوغ، فالصغار ليسوا مخاطبين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة ...)، ومن بينهم: ( وعن الصبي حتى يحتلم )، ولكن يستحب لك -أيها المسلم- أن تعود الصغير على الصيام، وأن تشجعه، وأن تفرض له الجوائز، وهكذا كان يفعل الصحابة رضوان الله عليهم مع صبيانهم، كما قالت الربيع بنت معوذ رضي الله عنها - وحديثها في البخاري -: ( فكنا نصومه، ونصوم صبياننا، فإذا بكوا جعلنا لهم اللعبة من العهن حتى يكون وقت الإفطار ).

ولما جيء لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه بشارب خمر في نهار رمضان، يعني: إنسان - والعياذ بالله- انتهك حرمة الشهر، ليس بشيء مباح، بل بمحرم وهو الخمر، فجلده عمر رضي الله عنه وقال له: ويلك! أهكذا تفعل وصبياننا صيام؟! يعني: الصغار صائمون وأنت ألا تستحي؟ ونفاه من المدينة.

فقول عمر رضي الله عنه: (وصبياننا صيام) دليل على أن الصحابة كانوا يصومون صغارهم، وليس كما يصنع كثير من الناس الآن: إذا أراد الصبي أن يصوم، يقولون له: لا، أنت صغير، وربما يكون بالغاً، وربما تكون البنت قد بلغت، ونزل منها دم الحيض، ولكن أمها تمنعها من الصيام بدعوى أنها صغيرة!

والآن كثير من البنات يشكين، فتقول إحداهن: أنا عندما بلغت مكثت سنتين أو ثلاثاً لا أصوم؛ لأن أمي كانت تنهاني! فهذا حرام.

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نعود صبياننا على الصلاة، فكذلك نحن مأمورون بأن نعودهم على شعائر الإسلام وآدابه كلها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

الشرط الثاني: العقل، بمعنى: أن المجنون لا يتوجه إليه الخطاب بالتكاليف الشرعية، بل القلم مرفوع عنه.

الشرط الثالث: القدرة، بمعنى: أن يكون الإنسان قادراً على الصيام، لا يحول بينه وبين الصيام مرض مفسد، ولا شيخوخة، وهو الهرم المفند، فلا يحول بينه وبين الصيام شيء يمنعه، بل هو قادر على الصيام.

الشرط الرابع: الإقامة، بمعنى: أن من كان مسافراً لا يتوجه إليه الخطاب بصيام رمضان أداء، لكن يلزمه الصيام قضاء.

الشرط الخامس: النقاء من دم الحيض والنفاس، فمن كانت حائضاً أو نفساء فلا يتوجه إليها الخطاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم ).

إذاً: شروط وجوب الصيام خمسة، وهي:

الشرط الأول: البلوغ، فلا يتوجه الخطاب إلى الصغير.

الشرط الثاني: العقل، فلا يتوجه الخطاب إلى المجنون.

الشرط الثالث: القدرة، أو الطاقة، فلا يتوجه الخطاب إلى الشيخ الكبير ولا المرأة العجوز ولا المريض الزمن، ولا المريض مرضاً طارئاً يحول بينه وبين الصوم.

الشرط الرابع: الإقامة، وأما المسافر فقد عذره الله.

الشرط الخامس: النقاء من دم الحيض والنفاس.

شروط صحة الصوم

ولا يصح الصوم إلا بشرطين:

الشرط الأول: الإسلام، فالكافر لو صام حتى يموت لا ينفعه ذلك الصوم؛ لأنك تجد بعض المسلمين يقولون لك: والله! فلان هذا الذي اسمه جون أو بطرس رجل صالح؛ لأنه يصوم معنا رمضان! فهذا صيامه لا ينفعه؛ لأن الله عز وجل قال في حق الكفار: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39]، وقال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18].

الشرط الثاني: أن يكون اليوم الذي يصام مما يصح صومه شرعاً؛ فلو أن إنساناً صام يوم الشك، أي: يوم الثلاثين من شعبان، أي عندما أعلن البيان في أجهزة الإعلام بأنه لم يثبت دخول شهر رمضان، فيكون غداً هو اليوم المكمل للثلاثين من شعبان، فقام واحد من الناس فقال: لا، أنا سأبدأ بصوم رمضان من هذا اليوم، أي: من الثلاثين من شعبان؛ لأنه احتمال أن يكون هذا اليوم هو اليوم الأول من رمضان. فنقول له: صيامك هذا لا يصح، ولا يقع من الله بموقع القبول؛ لأنك صمت في يوم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامه.

صيام المريض

الآية الثانية: قال الله عز وجل: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فمن كان منكم أيها المخاطبون، أيها المسلمون عند حلول رمضان مريضاً، أي: متصفاً بالمرض، والمرض هو: الخروج عن حد الصحة.

أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، والسفر هو: مفارقة مكان الإقامة، وسمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، قوله: (فعدة) خبر لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: فالواجب عدة من أيام أخر، أو فالحكم: عدة من أيام أخر.

والمريض لا يخلو من حالتين:

إما أن يكون مرضه مزمناً -عافانا الله وإياكم والمسلمين- بمعنى: أنه مرض ملازم لا ينفك عنه، وإما أن يكون مرضه طارئاً.

فأما المرض المزمن، فهو مثل: من كان مريضاً بداء السكري، أو بالفشل الكلوي، أو بعض الأمراض التي تعرفونها، فهذه أمراض ملازمة، وبحسب قوانين الطب، فإنهم يقولون: لا فكاك منها.

وإما أن يكون مريضاً بمرض طارئ؛ كالذي يصاب بالصداع، أو بالحمى، أو بوجع في بطنه، أو كالذي تجرى له جراحة طبية، وينوم في المشفى أياماً أو أسابيع.

إذاً: النوع الأول وهو: المريض بمرض مزمن، وسيأتي معنا بيان حكمه في قول ربنا جل جلاله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184].

النوع الثاني وهو: المريض بمرض طارئ، فلا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون المرض خفيفاً لا يؤثر معه الصيام، ومثاله: من قلع سناً، فسال منه الدم، فأخذ قطعة من القطن، ثم يقول للناس: انظروا الدم، ثم بعد ذلك يبدأ يأكل ويشرب، قائلاً: أنا مريض، أو من كان يقلم أظافره، فجرح، مثلاً، نقول له: لا تفطر؛ لأن هذا المرض لا يؤثر عليه الصيام، ولا يؤخر برؤه، ولا يزيد وجعه، وإنما هو مرض ليس له علاقة بالصيام، وليست هناك مشقة، والرخصة مرتبطة بالمشقة، فيجب عليك أن تصوم؛ لأن مرضك خفيف، ومثله من كان صداعه يسيراً ونحو ذلك، فهذا لا بد له أن يصوم.

الحالة الثانية: من المريض مرضاً طارئاً: وهو المريض مرضاً يستطيع معه الصوم، ولكن بمشقة، ويعاني ما يعاني، فنقول له: يجوز لك أن تصوم، وخير لك أن تفطر، أي: الأفضل لك أن تفطر؛ لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه جل جلاله، فنقول له: خير لك أن تفطر وأن تأخذ بالرخصة؛ لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185].

الحالة الثالثة: من كان مرضه شديداً، بحيث إنه لو صام يخشى عليه من الهلاك، أو أن يفقد حاسة من حواسه؛ فالمريض بمرض السكري مثلاً: قد يحذره الطبيب وينذره ويخوفه، وهو يصر على الصيام، حتى إنه يكاد يفقد بصره!

وكذلك يكون الشيخ طاعناً في السن، قد زاد عمره على التسعين، وهو مصر على الصيام، وبعد العصر يكاد يهلك، وهو هكذا في كل يوم.

فنقول لهما: يا أيها الشيخ! ويا أيها المريض! حرام عليكما أن تصوما؛ لأن الله قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]؛ ولأن الله قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم علينا الإضرار بأنفسنا أو بغيرنا، فقال: ( لا ضرر ولا ضرار )، وهما يتضرران بالصيام، وقد يقول بعض الناس: بأن صومهما باطل؛ لأنه وقع على غير مراد الله، ولكن أقول: بأن الشريعة وضعت للصوم شروطاً وجعلت له أركاناً، فمن استوفى هذه الشروط والأركان يحكم له ظاهراً بأن صومه صحيح، لكن السؤال: هل يقع من الله بموقع القبول؟ وهذا السؤال لا أدري له جواباً.

الصيام للمسافر

قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، والمسافر يجوز له أن يفطر ويجوز له أن يصوم؛ لأن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! إني كثير السفر، ماذا أصنع في الصوم؟ قال له عليه الصلاة والسلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر )، فالأمر على التخيير، من شاء أن يصوم فصومه صحيح، ومن شاء أن يفطر فيجوز له أن يفطر.

وبعض الظاهرية رحمهم الله، كالإمام أبي محمد بن حزم والإمام داود بن علي الظاهري ، قالوا: من صام في السفر فصيامه باطل.

وقالوا: من صام في السفر كمن أفطر في الحضر؛ واستدلوا بالآية، وقالوا: إن الله عز وجل قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس من البر الصيام في السفر )، واستدلوا بأن: ( ناساً صاموا في السفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك العصاة ).

ولكن نقول: إن هذا القول ليس بصواب، بل للإنسان أن يصوم وهو مسافر؛ لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسافر ويصوم، والحديث في الصحيح، يقول بعض الصحابة: ( كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد الحر، حتى إن أحدنا ليتقي الحر بيديه، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم و عبد الله بن رواحة )، فالجيش كله ليس فيه أحد صائم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم و عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ومعنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صائماً.

وفي غزوة الفتح -وقد كانت في رمضان-: ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وهم صيام، حتى إذا بلغوا كراع الغميم ) مكان على مقربة من مكة ( دعا النبي صلى الله عليه وسلم بعس من لبن فشرب وأمر الصحابة بأن يفطروا، وقال: إنكم مصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم ). فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر.

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس من البر الصيام في السفر )، فهذا الكلام ورد فيه سبب وهو: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً مضطجعاً والناس قد ظللوا عليه )، يعني: أن جماعة من الناس غطوا على رجل برداء، وآخرون يروحون عنه؛ ومعنى ذلك: أن الرجل بلغت به المشقة مبلغاً عظيماً، حتى كاد يهلك؛ ومن أجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس من البر الصيام في السفر ).

ومثله أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: ( ذهب المفطرون بالأجر كله )، وهذا حين كانوا في غزوة من الغزوات فبعض الصحابة كانوا مفطرين وبعضهم صائمين، فنزلوا منزلاً يستريحون، فقام المفطرون فنصبوا الخيام وجلبوا المياه، وهيئوا المكان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله )، يعني يقول لهم: المفطرون خير من الصائمين؛ لأن القاعدة عند تفاضل العبادات: أن الواجبات إذا تزاحمت يقدم أعظمها نفعاً.

فإن صيام رمضان واجب وقتال العدو واجب فأيهما أعظم نفعاً؟ الجواب: قتال العدو؛ لأن صيام رمضان يمكن أن يقضى، أما هذا العدو المتكبر المبغض الشانئ فقتاله يفوت، ولو تمكن منا لم يترك لنا رمضان ولا شوال! فالواجبات إذا تزاحمت يقدم أعظمها نفعاً؛ ولذلك: من كان مسافراً ولا يشق عليه الصوم فخير له أن يصوم؛ لأن الله قال: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ [البقرة:184].

أما من كان يشق عليه الصوم فخير له أن يفطر، وكلاهما قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه في سفره صام وأفطر.

شروط السفر المبيح للفطر

ليس كل سفر مبيحاً للفطر، وإنما السفر الذي يبيح الفطر لا بد فيه من شروط، وهي:

الشرط الأول: أن يكون سفراً مشروعاً، ومعناه: أن يكون سفر طاعة، أو سفراً مباحاً، وسفر الطاعة مثاله: إنسان ذاهب إلى العمرة، فهذا سفر طاعة، وإنسان خرج من الخرطوم يقصد كسلا وإلا مروي من أجل أن يزور خالته المريضة؛ فهذا سفر طاعة؛ لأنه صلة رحم وعيادة مريض، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من عاد مريضاً صار في خرفة الجنة حتى يرجع، ومن عاد مريضاً صلى عليه سبعون ألف ملك، إن كان ممسياً حتى يصبح أو كان مصبحاً حتى يمسي ). فهذا سفر طاعة، ومثله من سافر في طلب علم، ومن سافر في تشييع جنازة مثلاً أو في تعزية ميت، فهذه كلها أسفار طاعة، أو كان سفراً مباحاً؛ كمن سافر في تجارة.

أما من سافر في معصية، ومثاله: إنسان سافر ليقتل نفساً معصومة، فخرج من الخرطوم مثلاً يقصد بور سودان؛ من أجل أن يقتل فلاناً من المسلمين، فهذا سفر معصية بغير خلاف.

وكذلك لو أن إنساناً سافر من أجل أن يسرق، وقد سمع بأن في البلد الفلاني بنكاً وخزائنه ملأى، فذهب هناك، وقال: باسم الله! توكلت على الله! ونيته أن يسرق تلك الخزينة! فلا شك أن هذا سفر معصية.

ومن سافر من أجل أن يبرم عقداً ربوياً، فهذا كذلك سفر معصية، ولا يجوز له أن يفطر؛ لأن الرخصة لا يستعان بها على معصية الله عز وجل.

فأول شرط من شروط السفر المبيح للفطر: أن يكون سفراً مشروعاً، وليس بالضرورة أن يكون سفر طاعة، حتى لو كان سفراً مباحاً، كرجل مسافر في تجارة فلا مانع.

الشرط الثاني: أن تكون المسافة مسافة قصر، ومسافة القصر عند جماهير العلماء هي: أربعة برد، وهي تعادل ستة عشر فرسخاً، أي: ثمانية وأربعين ميلاً، يعني: ثمانين كيلو متر وزيادة، أما من كان دون ذلك، فلا يحل له أن يفطر.

الشرط الثالث: ألا يفطر إلا بعد أن ينفصل عن البلد التي هو فيها. يعني: أنت نويت أن تسافر -مثلاً- غداً في نهار رمضان؛ فلا تأكل من البيت ثم تخرج، وإنما تأكل أو تفطر بعدما تشرع في السفر، أي: بعدما تغيب عن بيوت القرية وبساتينها، هذا هو القدر المتفق عليه، إلا أن المالكية رحمهم الله يزيدون، فيقولون: لا بد أن يبيت الفطر من الليل، ولا بد أن يشرع في سفره قبل طلوع الفجر، أما إذا أنشأ السفر في النهار فإنه لا يفطر، لكن ثبتت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يفطر حتى وإن سافر نهاراً عليه الصلاة والسلام.

التعليق بالمشقة في السفر لإباحة الفطر في رمضان

قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]. وهنا أنبه إلى: أن بعض الناس يظنون أن السفر الذي يباح فيه الفطر لا بد أن يكون مقروناً بمشقة، أما من كان مسافراً بالطائرة مثلاً، والطائرة مريحة، ويمكن أن ينام على مقاعدها وهي مكيفة، يقول: بأن هذا لا يجوز له أن يفطر، فنقول: لا، فالمشقة ليست علة للرخصة، وإنما المشقة حكمة، أما العلة فهي السفر، سواء في ذلك من كان مسافراً على دابة من الدواب كالبعير، أو كان مسافراً على طائرة مجهزة بأحسن المواصفات، كلاهما الرخصة ثابتة في حقه.

صيام صاحب السفر الدائم

ومن كان سفره دائماً فيجوز له أن يفطر؛ كمن كان سفره طارئاً، فمثلاً: من يعملون في الباصات السفرية، يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة فيفطروا، وعليهم القضاء في أيام أخر.

وقت قضاء صيام رمضان

قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وهذه الأيام الأخر هي خلال العام كله إلى أن يدخل رمضان، أي أن يجوز للإنسان أن يؤخر القضاء إلى شعبان، فهو واجب موسع، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ( كان يكون علي القضاء من رمضان، فلا أقضيه إلا في شعبان، الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم ).

وتقدير الكلام: يمنعني الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من حسن تبعلها رضي الله عنها؛ لأنها كانت دائماً تتزين وتتجمل من أجل أن تسر رسول الله صلى الله عليه وسلم متى ما نظر إليها، وهذه هي عادة المرأة الصالحة؛ كما قيل:

وخير النساء من سرت الزوج منظراً ومن حفظته في مغيب ومشهد

قصيرة ألفاظ قعيدة بيتها قصيرة ذات الطرف عن كل أبعد

الصيام للشيخ الكبير

قال الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، فدية طعام مساكين، أو فدية طعام مسكين.

قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)؛ قال أهل التفسير: من الإطاقة، وهي: تحمل الأمر بمزيد مشقة. وقالوا: هذه الآية تتناول الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الزمن، قال الله في حق هؤلاء بأنه ليس عليهم صيام، لا أداء ولا قضاء، وإنما يلزمهم إطعام مسكين عن كل يوم، ولكل مسكين مدان من الطعام، وهو ما يوازي سبعمائة وخمسين جراماً من الطعام، من قمح أو تمر، يعني: مما تعارف الناس عليه أنه طعام.

فقد يكون في بعض الولايات ذرة، وقد يكون في بعض الولايات دخن، وقد يكون في بعض البلدان أرزاً.

بمعنى: لو كان عندي والدي أو جدي وهو شيخ كبير طاعن في السن، ولا يقدر على الصيام؛ فأخرج عنه عن كل يوم كيلو إلا ربع، سبعمائة وخمسين جراماً، ومعنى هذا أني أخرج عن الشهر كله اثنين وعشرين كيلو ونصف، من تمر أو قمح أو الطعام الذي يأكله الناس.

وهناك طريقة أخرى وهي: أن أصنع طعاماً، وأطعمه المساكين، كما كان يصنع أنس بن مالك رضي الله عنه، الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطيل الله عمره، وأن يكثر ماله وولده، فعاش أنس رضي الله عنه تسعاً وتسعين سنة، وفي بعض كتب التراجم: عاش مائة سنة وسنة، أي: مائة وواحد. فلما ضعفت قوته ولم يستطع الصيام، كان يصنع جفنة من ثريد فيدعو ثلاثين مسكيناً فيطعمهم مرة واحدة.

نسخ الفدية في الصوم للعاجز

قال الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]. وبعض أهل التفسير يقول: بأن هذه الآية منسوخة. قالوا: إن الصيام في أول الأمر كان على التخيير، فمن شاء صام ومن شاء أطعم، فنسخ هذا بقول ربنا: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]؛ ويؤيد هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ). أي: إن الصلاة مرت بثلاثة أطوار في التشريع، والصيام مر بثلاثة أطوار، فأما الصلاة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس، حتى نزل قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]؛ فهذا حول.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حق رؤيا الأذان: ( إنها رؤيا حق )، ثم قال: ( لقنها بلالاً فإنه أندى منك صوتاً )، يعني: لم يختر للأذان عمر ولا عبد الله بن زيد وإنما اختار بلالاً رضي الله عنه، فهذا حول.

وأما الحول الثالث: فكان الرجل إذا أتى إلى الصلاة مسبوقاً سأل من بجواره: كم صليتم؟ أي إذا جاء وقد فاتته ركعتان مثلاً فيسأل من بجواره: كم صليتم؟ فيشير إليه، فيأتي بالركعتين، ثم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث هو، حتى جاء معاذ يوماً فقال: ( والل