أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

أكلة السحور والاغتسال من الجنابة لمن أدركه الصبح وتعجيل الفطر والدعاء عنده

فقد تقدم معنا الكلام عن بعض أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان، فتبين لنا أن من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يحرص على أكلة السحر، وكان يؤخرها ويعجل فطره، ويفطر على رطبات فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء.

وأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو إذا أفطر فيقول: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله ).

وعرفنا أن من هديه صلوات ربي وسلامه عليه كذلك أن الفجر كان يدركه أحياناً وهو جنب من جماع فيغتسل ويصوم؛ فعلم بذلك أنه لا حرج على الإنسان أن ينام جنباً وقد نوى الصيام.

وألحق بهذا أن المرأة إذا طهرت من الحيض قبيل الفجر، فإنها تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر؛ فإن الصيام لا يشترط له الطهارة.

التيسير على الناس بالتبرد والادهان والسواك

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أخذه بالتيسير، ومحاولته تخفيف مشقة العبادة على نفسه وعلى الناس؛ ولذلك كان يصب الماء على رأسه وهو صائم.

وقد أخذ بهذه السنة أصحابه رضوان الله عليهم؛ فكان أنس بن مالك رضي الله عنه ينغمس في حوض فيه ماء بارد وهو صائم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو من أحرص الناس على متابعة السنة، يبل ثوبه ثم يلتحف به وهو صائم.

وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا كان يوم صوم أحدكم، فليصبح دهيناً مترجلاً.

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه يتمضمض ويستنشق وهو صائم، وقد أوصى لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وقال له: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ).

وكان من هديه أن يستاك وهو صائم، كما قال عامر بن ربيعة رضي الله عنه: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي )، يعني: رأيته مرات كثيرة.

وأكثر العلماء على أنه لا فرق بين أن يكون السواك قبل الزوال أو بعده، وفي أول النهار أو آخره، وأنه لا فرق أن يكون بعود يابس أو عود رطب، وكذلك أقول: لا فرق بين أن يكون بعود الأراك أو بفرشاة ومعجون، لكن الإنسان يحتاط ألا يصل إلى جوفه من ذلك شيء.

وصاله صلى الله عليه وسلم وصومه في السفر

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يواصل الصيام أحياناً، وربما واصل أسبوعاً، ومنع الصحابة من محاكاته في ذلك، وأخبرهم أن هذه خصوصية له، فقال: ( إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني )، ورخص لمن أراد الوصال أن يواصل إلى السحر ولا يزيد.

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه في السفر أنه كان يصوم أحياناً ويفطر أحياناً، وقد خير حمزة بن عمرو لما سأله، فقال له: ( إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر )، فلا مانع من أن يصوم المسافر أو أن يفطر، ولا ينبغي أن يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

وكذلك من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه ما كان يخرج من الصيام إلا برؤية محققة أو بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً.

قيامه الليل مع تنوع ركعاته وقراءته للقرآن فيه

وقد أوصانا صلوات ربي وسلامه عليه بأن نحرص على القيام في رمضان، وأخبرنا بأن: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه لا يزيد في صلاته بالليل على إحدى عشرة ركعة في رمضان وفي غير رمضان، وكان يطيل القيام وينوع في ذلك؛ فأغلب حاله أنه كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر قبل طلوع الفجر بواحدة.

وأحياًناً كان يصلي على غير هذه الهيئة؛ ( فلربما صلى أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أوتر بثلاث )، ولربما صلى ثمان ركعات لا يجلس إلا في آخرهن، ثم يقوم فيأتي بتاسعة، ثم يصلي ركعتين، فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة.

ولربما صلى خمساً متصلات، ثم صلى ستاً يسلم بعد كل ركعتين، وهذا كله سنة.

وما كان من هديه أن يقوم الليل كله صلوات ربي وسلامه عليه، بل أخبرنا أن ( خير الصيام صيام داود ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )، وأن ( خير القيام قيام داود، كان ينام من الليل نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه ).

وكان يقسم الليل ثلاثاً، ينام في نصفه الأول ثم يقوم في ثلثه ثم ينام في سدسه الأخير؛ من أجل أن يقوم لصلاة الفجر نشيطاً.

وكان صلوات ربي وسلامه عليه يخلطه بقراءة قرآن وغيره؛ تقول عائشة رضي الله عنها: ( ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً إلا رمضان ).

صلاته منفرداً في القيام خشية أن يفرض مع طول قيامه فيه

وكان من هديه في قيام الليل أن يقوم منفرداً، فلا يقوم لصلاة جماعة إلا إذا حصل هذا اتفاقاً؛ مثلما صنع ابن عباس رضي الله عنه حين قال: ( بت عند خالتي ميمونة ، أرقب قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عليه الصلاة والسلام: هل نام الغلام؟ فقالوا: لا بعد، ثم سأل: هل نام الغلام؟ فقالوا: لا بعد، قال: فتناومت )، يعني: تظاهرت بأني قد نمت، ( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقمت إلى يساره، قال: فأخذني برأسي من وراء ظهره حتى أقامني عن يمينه )، فـابن عباس صلى تلك الليلة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثبت عن حذيفة بن اليمان رضوان الله عليهما، أنه قال: ( قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة! فأتمها، ثم افتتح النساء، فقلت: يركع عند المائة! فأتمها، ثم افتتح آل عمران حتى أتمها، ثم ركع فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، فلم يزل يقول: لربي الحمد، لربي الحمد، لربي الحمد، حتى كان قيامه قريباً من ركوعه، حتى هممت بأمر سوء، قيل له: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه ).

وكان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل منفرداً؛ مخافة أن يفرض القيام على أمته، فلما زال هذا المحظور وتوفي نبينا عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو المحدث الملهم، الموفق المسدد - لما رأى الناس يبتدرون السواري بعد صلاة العشاء، ولهم بالقرآن دوي كدوي النحل، يصلي الرجل منفرداً، وقد يصلي بصلاته جماعة من الناس، يعني: إما منفردين وإما جماعات جماعات؛ جمعهم كلهم على أقرئهم وهو: أبي بن كعب رضي الله عنه، ولربما ساعده في الصلاة تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يطيل صلاة القيام، وكذلك أصحابه.

فقد تقدم معنا الكلام عن بعض أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان، فتبين لنا أن من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يحرص على أكلة السحر، وكان يؤخرها ويعجل فطره، ويفطر على رطبات فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء.

وأنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو إذا أفطر فيقول: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله ).

وعرفنا أن من هديه صلوات ربي وسلامه عليه كذلك أن الفجر كان يدركه أحياناً وهو جنب من جماع فيغتسل ويصوم؛ فعلم بذلك أنه لا حرج على الإنسان أن ينام جنباً وقد نوى الصيام.

وألحق بهذا أن المرأة إذا طهرت من الحيض قبيل الفجر، فإنها تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر؛ فإن الصيام لا يشترط له الطهارة.

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أخذه بالتيسير، ومحاولته تخفيف مشقة العبادة على نفسه وعلى الناس؛ ولذلك كان يصب الماء على رأسه وهو صائم.

وقد أخذ بهذه السنة أصحابه رضوان الله عليهم؛ فكان أنس بن مالك رضي الله عنه ينغمس في حوض فيه ماء بارد وهو صائم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو من أحرص الناس على متابعة السنة، يبل ثوبه ثم يلتحف به وهو صائم.

وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا كان يوم صوم أحدكم، فليصبح دهيناً مترجلاً.

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه يتمضمض ويستنشق وهو صائم، وقد أوصى لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وقال له: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ).

وكان من هديه أن يستاك وهو صائم، كما قال عامر بن ربيعة رضي الله عنه: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي )، يعني: رأيته مرات كثيرة.

وأكثر العلماء على أنه لا فرق بين أن يكون السواك قبل الزوال أو بعده، وفي أول النهار أو آخره، وأنه لا فرق أن يكون بعود يابس أو عود رطب، وكذلك أقول: لا فرق بين أن يكون بعود الأراك أو بفرشاة ومعجون، لكن الإنسان يحتاط ألا يصل إلى جوفه من ذلك شيء.

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يواصل الصيام أحياناً، وربما واصل أسبوعاً، ومنع الصحابة من محاكاته في ذلك، وأخبرهم أن هذه خصوصية له، فقال: ( إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني )، ورخص لمن أراد الوصال أن يواصل إلى السحر ولا يزيد.

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه في السفر أنه كان يصوم أحياناً ويفطر أحياناً، وقد خير حمزة بن عمرو لما سأله، فقال له: ( إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر )، فلا مانع من أن يصوم المسافر أو أن يفطر، ولا ينبغي أن يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

وكذلك من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه ما كان يخرج من الصيام إلا برؤية محققة أو بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً.

وقد أوصانا صلوات ربي وسلامه عليه بأن نحرص على القيام في رمضان، وأخبرنا بأن: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه لا يزيد في صلاته بالليل على إحدى عشرة ركعة في رمضان وفي غير رمضان، وكان يطيل القيام وينوع في ذلك؛ فأغلب حاله أنه كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر قبل طلوع الفجر بواحدة.

وأحياًناً كان يصلي على غير هذه الهيئة؛ ( فلربما صلى أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم أوتر بثلاث )، ولربما صلى ثمان ركعات لا يجلس إلا في آخرهن، ثم يقوم فيأتي بتاسعة، ثم يصلي ركعتين، فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة.

ولربما صلى خمساً متصلات، ثم صلى ستاً يسلم بعد كل ركعتين، وهذا كله سنة.

وما كان من هديه أن يقوم الليل كله صلوات ربي وسلامه عليه، بل أخبرنا أن ( خير الصيام صيام داود ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )، وأن ( خير القيام قيام داود، كان ينام من الليل نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه ).

وكان يقسم الليل ثلاثاً، ينام في نصفه الأول ثم يقوم في ثلثه ثم ينام في سدسه الأخير؛ من أجل أن يقوم لصلاة الفجر نشيطاً.

وكان صلوات ربي وسلامه عليه يخلطه بقراءة قرآن وغيره؛ تقول عائشة رضي الله عنها: ( ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً إلا رمضان ).

وكان من هديه في قيام الليل أن يقوم منفرداً، فلا يقوم لصلاة جماعة إلا إذا حصل هذا اتفاقاً؛ مثلما صنع ابن عباس رضي الله عنه حين قال: ( بت عند خالتي ميمونة ، أرقب قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عليه الصلاة والسلام: هل نام الغلام؟ فقالوا: لا بعد، ثم سأل: هل نام الغلام؟ فقالوا: لا بعد، قال: فتناومت )، يعني: تظاهرت بأني قد نمت، ( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقمت إلى يساره، قال: فأخذني برأسي من وراء ظهره حتى أقامني عن يمينه )، فـابن عباس صلى تلك الليلة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وثبت عن حذيفة بن اليمان رضوان الله عليهما، أنه قال: ( قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فافتتح سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة! فأتمها، ثم افتتح النساء، فقلت: يركع عند المائة! فأتمها، ثم افتتح آل عمران حتى أتمها، ثم ركع فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، فلم يزل يقول: لربي الحمد، لربي الحمد، لربي الحمد، حتى كان قيامه قريباً من ركوعه، حتى هممت بأمر سوء، قيل له: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه ).

وكان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل منفرداً؛ مخافة أن يفرض القيام على أمته، فلما زال هذا المحظور وتوفي نبينا عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو المحدث الملهم، الموفق المسدد - لما رأى الناس يبتدرون السواري بعد صلاة العشاء، ولهم بالقرآن دوي كدوي النحل، يصلي الرجل منفرداً، وقد يصلي بصلاته جماعة من الناس، يعني: إما منفردين وإما جماعات جماعات؛ جمعهم كلهم على أقرئهم وهو: أبي بن كعب رضي الله عنه، ولربما ساعده في الصلاة تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يطيل صلاة القيام، وكذلك أصحابه.

ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحرص على الاعتكاف في رمضان.

تعريف الاعتكاف لغة وشرعاً

والاعتكاف في اللغة: الإقامة والحبس، ومنه قول الله عز وجل: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ[الفتح:25]، فـ(معكوفاً) أي: محبوساً.

والاعتكاف في الشرع: أن يلزم المكلف مكاناً مخصوصاً لا يتعداه وهو المسجد، على عمل مخصوص دون سواه، على شروط أحكمتها السنة.

اعتكافه في كل عام في رمضان

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه يعتكف في رمضان من كل عام، فلم يكن اعتكافه سنة طارئة فعلها حيناً وتركها حيناً، بل كان يعتكف في كل عام، كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى فارق الدنيا، واعتكف أزواجه من بعده ).

وما ترك الاعتكاف إلا مرتين:

مرة بسبب أنه عليه الصلاة والسلام كان مسافراً، ومعلوم أن سفره صلوات ربي وسلامه عليه ما كان يتعدى أنواعاً أربعة:

إما أن يسافر في هجرة، كرحلته من مكة إلى المدينة، وإما أن يسافر في حج، ولم يحصل هذا بعد الهجرة إلا مرة واحدة.

وإما أن يسافر في عمرة، وقد حصل هذا أربع مرات كلهن في ذي القعدة، وأغلب سفره صلوات ربي وسلامه عليه للجهاد؛ فقد غزا بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه سبعاً وعشرين غزوة، قاتل في تسع منها صلوات الله وسلامه عليه.

فمرة ترك الاعتكاف لكونه مسافراً، ومرةً ترك الاعتكاف من أجل مشكلة عائلية؛ وذلك ( لما أمر بخبائه صلى الله عليه وسلم فضرب، فأمرت عائشة بخبائها فضرب إلى جوار خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت زينب فأمرت بخبائها فضرب إلى الجوار الآخر، ثم جاءت ثالثة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ما هذه الأخبية؟ قالوا: هذا خباء فلانة، وهذا خباء فلانة، وهذا خباء فلانة، فسأل صلى الله عليه وسلم سؤالاً فقال: آلبر أردن؟ )، يعني: هؤلاء أردن وجه الله بهذا الاعتكاف وهذه الأخبية، أم أنها غيرة النساء وتنافسهن على الأزواج؟ ( فأمر بالأخبية كلها فقوضت، وترك الاعتكاف )، كلهم مرة واحدة.

قضاء ما فاته من الاعتكاف

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا فاته عمل صالح قضاه؛ ففي هذا العام الذي ترك فيه الاعتكاف من أجل الأزواج، اعتكف العشر الأول من شوال، فبدلاً من العشر الأواخر من رمضان اعتكف العشر الأوائل من شوال، وفي السنة التي ترك الاعتكاف فيها من أجل الغزو؛ اعتكف السنة التي بعدها عشرين يوماً.

لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرنا بقوله: ( إن أحب العمل إلى الله أدومه )، ( وكان عمله ديمة )، وكان إذا شرع في عمل استدامه صلوات ربي وسلامه عليه.

تحري النبي صلى الله عليه وسلم لليلة القدر

وكان من هديه: أنه يتقلب في الاعتكاف بين العشر، ( فتارة اعتكف العشر الأوائل من رمضان، فنزل عليه جبريل فقال له: يا محمد! إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فنزل عليه جبريل فقال له: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأواخر وأثبت تلك السنة ) أي: أن الاعتكاف يكون في العشر الأواخر.

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه في الاعتكاف: أن يأمر بخبائه فيضرب في المسجد؛ من أجل أن يخلو بنفسه، ولا يتشاغل بالناس، ويقبل على ربه جل جلاله بكليته، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية على سدتها قطعة حصير؛ قال: فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس )، لما علت أصواتهم ما بين تال وداع ومستغفر ومصل وذاكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام رفع تلك الحصيرة، وقال: ( أيها الناس! ألا كلكم مناج ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض )، يعني: لا يشوش أحدكم على الآخر؛ وإنما كل يناجي ربه؛ كما قال ربنا: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً[الأعراف:55]، وقال: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً [مريم:2-3]، فهذا هو الهدي النبوي.

مكان اعتكافه ووقت دخوله صلى الله عليه وسلم فيه

ومكان اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن محفوظ معروف في المسجد النبوي، فمن زار قبره الشريف عليه الصلاة والسلام فإنه سيجد عموداً مكتوباً في أعلاه: هذه اسطوانة السرير، فهذا المكان حيث كان يعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان من هديه دخوله معتكفه عند غروب شمس يوم العشرين من رمضان، بمعنى: أنه كان يستهل ليلة العشرين وقد دخل معتكفه صلوات ربي وسلامه عليه، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين، رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وإنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر )، أي: بدلاً من اعتكافه العشر الأواسط اعتكف العشر الأواخر، ( فمن كان اعتكف معي، فليثبت في معتكفه )، أي: من كان قد اعتكف العشر الأواسط فليثبت حتى يعتكف العشر الأواخر.

حرصه على نظافة جسده وطيب ريحه وحسن منظره

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يحرص وهو معتكف على نظافة جسده، وطيب ريحه، وحسن منظره، ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كان يرجل شعره وهو معتكف، كما ورد في الحديث الصحيح: عن عروة بن الزبير رضي الله عنه، قال: ( أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض )، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ مجاور في المسجد، يدني لها رأسه، وهي في حجرتها، فترجله وهي حائض.

قال علماؤنا -رحمهم الله- ومنهم الحافظ ابن حجر : وفي الحديث جواز التنظف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل.

والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد، فلا مانع للمعتكف أن يغتسل ويتطيب ويتزين، ويرجل شعره، ويسرح لحيته، وأن يأتي بخصال الفطرة بما لا يتناقض مع حرمة المسجد وبما لا يسبب للمسجد قذراً أو انتهاكاً لمنزلته.

عدم خروجه من معتكفه إلا للضرورة

وكان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه في معتكفه أنه لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ[البقرة:187]، ومن نواقض الاعتكاف: مباشرة النساء.

قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ( السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ).

ومثال ما لا بد منه: لو كان لا يوجد في المسجد -مثلاً- مرافق ولا حمامات؛ فالإنسان يخرج من أجل أن يقضي حاجته ويتوضأ.

أو لم يجد في المسجد طعاماً، فلا بأس أن يخرج الإنسان فيبتاع حاجته من الطعام، ثم يرجع فيأكله في المسجد، ولا يحل له أن يجلس في السوق فيأكل؛ وإنما يأتي به إلى المسجد.

زيارة أهله له في معتكفه

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه زيارة أهله له وهو في المعتكف أحياناً فقد كان بعض أزواجه يأتين إليه وهو معتكف، فيزرنه ويسمرن معه؛ ويدل على ذلك حديث صفية رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيت أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت )، وتتمة الحديث: ( فقام صلى الله عليه وسلم يشيعني )، أي: يشيع صفية رضي الله عنها، ( فجاء رجلان من الأنصار يمشيان، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سواد امرأة أسرعا )، أسرعا حياء، على عادة الإنسان الحيي، لئلا يتضايق منه صاحبه إذا كان معه زوجته، وليس كما يصنع بعض الناس.

فمثلاً: إنسان معه زوجته في السيارة، فيشير إليك لكي تكلمه، ثم تأتي من الناحية التي فيها زوجته فتدخل رأسك فتكلمه! فهذا لا يصلح!

( فأسرع الرجلان؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: على رسلكما يا عباد الله! إنها زوجتي صفية ، فقال الرجلان: سبحان الله يا رسول الله! )، يعني: لا نحتاج إلى مثل هذا الكلام؛ فأنت النبي المكرم والرسول المعظم فوق كل شبهة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً فتهلكا )، وقال: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ).

وهاهنا فائدة لغوية: قالوا: الأصل أن يقال: زوجي، كما في قول الله عز وجل: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35]، وقال عز وجل: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، ولكن لا مانع أن يقول الإنسان: زوجتي، وهي لغة فصيحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنها زوجتي صفية )؛ ومنه قول جرير :

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

فالمقصود من هذا الكلام: أنه لا مانع أن تأتي إلى المعتكف زوجته، فتزوره أحياناً وتحدثه؛ وهذا يدل على أن الاعتكاف ما ينبغي أن يحول بين الإنسان وبين اطلاعه على أحوال أهله وتفقده لشئونهم.

إخراج بعض الجسد من معتكفه لحاجة

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان يخرج بعض جسده الطاهر من المعتكف لحاجة؛ ويدل على ذلك حديث: ( أنه كان يدخل رأسه لـعائشة رضي الله عنها وهي في بيتها فترجله )، لأن حجرة عائشة كانت مجاورة للمسجد؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أغلب جسده في المسجد ويدني رأسه لـعائشة رضي الله عنها فترجله وهي حائض.

ومن هديه صلوات ربي وسلامه عليه تركه الاعتكاف في رمضان لمصلحة، كما سبق أنه ترك الاعتكاف مرتين: مرة بسبب السفر في جهاد، ومرة بسبب الأزواج رضوان الله عليهن، فجمع صلى الله عليه وسلم بين الحسنيين وحصل المصلحتين حين قضى تلك الأيام التي لم يعتكفها، فاعتكف مرة بعد رمضان ومرة في رمضان من السنة التي تليها، فبدلاً من أن يعتكف عشراً اعتكف عشرين صلوات ربي وسلامه عليه.

هجر الناس لسنة الاعتكاف

إن سنة الاعتكاف مهجورة في هذه الأيام عند أكثر الناس، وهذا الهجر منذ زمن قديم، حتى قال ابن شهاب الزهري رحمه الله: عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.

فـابن شهاب الزهري رحمه الله يتعجب من زهد الناس في هذا السنة، وإعراضهم عنها؛ مع أن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم واظب عليها، وحرص على التلبس بها كل عام من رمضان.

انقطاع المعتكف عن الدنيا والانشغال بأنواع الطاعات

ولا بد أن ننبه إلى أن كثيراً من الناس اعتكافهم ليس إلا محض لعب، وليس فيه انقطاع عن الدنيا؛ فأكثر الناس يستصحب معه الهاتف الجوال، ويقضي سحابة نهاره وجزءاً من ليله في مكالمات، ولربما يدير أعماله من المسجد، فيحرض على القبض على فلان ومطاردة فلان؛ لأنه ما سدد الشيك أو الصك الذي وجب عليه، ولربما يرفع صوته على فلان ويغضب من فلان، وغير ذلك، وبعض الناس وجد في المعتكف وهو يلعب بالهاتف الجوال، ويتابع الألعاب التي في الهاتف، -ما شاء الله!- الرجل معتكف ويلعب الألعاب المعروفة! وبعض الناس يجلس بالمعتكف وليس عنده هم إلا القيل والقال؛ وكأنه في رحلة! وبعضهم يقضي عامة النهار نائماً، ويقول: أنا معتكف! فهذا كله ليس اعتكافاً.

فالاعتكاف هو: حبس النفس على طاعة الله عز وجل في مكان مخصوص، أي: أن يلزم المكلف مكاناً مخصوصاً ولا يتعداه، على عمل مخصوص دون سواه، فيكون في حالة ذكر وقرآن وصلاة ودعاء واستغفار، وقراءة في كتب العلم، وإكثار من التوبة والاستغفار، وما إلى ذلك، فهذا هو الاعتكاف الحقيقي.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان [1] 2061 استماع
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان [5] 1818 استماع
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان [2] 1775 استماع
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان [3] 1504 استماع