شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً].

خلاف العلماء في قتل شبه العمد وأدلة القائلين به

شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطاً بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل).

وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصاً، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يُقتص منه، فلا يوجب قوداً، ويوجب الدية إجماعاً، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعاً عند من يقول بهذا النوع.

وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد. وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.

والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا)، وكذلك أيضاً يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصاً، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد.

وقد سمي شرعاً بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطاً بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصاً، وصار وسيطاً بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات.

فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالباً، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدراً فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة.

ضابط قتل شبه العمد

قال المصنف رحمه الله: [وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً]

فهو بحمله للعصا واللكز -الضرب في مجمع اليد- ونحو ذلك، يقصد جناية لا تقتل غالباً، لكن لو لكزه في مقتل-أي: في مكان يقتل غالباً- أو ضربه بشيء له مور-كما تقدم معنا- فهذا عمد.

إذاً: اتفق العمد وشبه العمد في وجود الحالة التي تتوفر فيها بواعث الجناية؛ بمعنى أن الإنسان يختصم مع شخص، ولا يريد قتله، وإنما يريد عقره، أو إضراره، أو أذيته، ولم يكن مستعملاً لآلة تقتل غالباً.

وقوله: [ولم يجرحه بها].

لأنه إذا جرح فقد ذكرنا أنه يكون من قتل العمد، وقد بينا أن العمد في المذهب: أن يجرحه بما له مور في البدن -أي: ينفذ إلى البدن- ويقتله، مثل السكين، والسهام، والسيوف، ونحو ذلك.

صور قتل شبه العمد

قال رحمه الله: [كمن ضربه في غير مقتل].

فلو تخاصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر في غير مقتل، كأن يضربه على كتفه، أو يضربه على فخذه، أسفل الفخذ بعيداً عن الخصية، فضربه ضربة لا يقتل مثلها، وليست في مكان مقتل، والسبب: أنها إذا كانت في مكان لا يقتل غالباً، فترجح أن موته قدراً، وليس بفعل الجناية.

وقوله: [بسوط].

أي: كأن يضربه بسوط، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا)، فاعتبار القتل بالسوط من شبه العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه من قتل عمد الخطأ، أو خطأ العمد، كما يسميه بعض العلماء، أو شبه العمد كما ذكر المصنف رحمه الله.

فالقتل بالسوط: كأن جاء وضربه بالسوط ضربة؛ فسقط الرجل ميتاً، والضرب بالسوط فيه تفصيل: فمن حيث الأصل: السوط لا يقتل غالباً، فليس بآلة يحكم بأنها موجبة للعمدية والقصاص والقود، ولكن تقدم معنا أن الآلة إن ضعفت، وكان حال الشخص معيناً على الإزهاق بها؛ كانت من العمد لا من شبه العمد، فلو أنه ضربه بالسوط وهو مريض، أو ضربه بالسوط وهو شيخ هرم ضعيف، لا يحتمل ضرب السوط؛ فإنه قتل عمد، وقد ذكرنا ضوابطه في العمد، وقلنا: إن هناك أحوالاً تستثنى عند العلماء، فهناك الأصل وما يستثنى من الأصل، فالأصل أن القتل بالسوط ليس بقتل، كما لو اختصم اثنان؛ فضرب أحدهما الآخر بسوط -الكرباج في أعرافنا- فمات المضروب، فنقول: هذا شبه عمد، ولكنه إذا كان في مقتل، أو كما قال العلماء: كرر الضرب عليه بالسوط، وكان مثله لا يحتمل التكرار، وأخذ الشاب الجلد القوي ووضعه تحت السياط، وضربه ضرباً مكرراً مفضياً إلى الإزهاق والعمد؛ فإنه قتل عمد، فالتكرار للضرب، والمداومة عليه، والاستمرار تزهق الأرواح، وكم من أنفس أزهقت تحت الجلد والسياط!

وبناءً على ذلك: ليس كل ضرب بالسوط يعتبر من قتل شبه العمد، وإنما ذكر العلماء الصفة الغالبة للسوط اتباعاً للسنة، لكن لو كان الشخص لا يحتمل ضرب السوط؛ كالمريض، أو الشيخ الهرم، أو ضربه بالسوط في مقتل، فالغالب أنه يقتل، أو ضربه بالسوط وكرر الضرب عليه على وجه تزهق به الروح غالباً؛ فإنه يعتبر قتل عمد، وموجب للقصاص.

وقوله: [أو عصا صغيرة].

إذا ضربه بالعصا الصغيرة فليس بقتل عمد إذا مات منها، ولكن إذا ضربه بعصا صغيرة، وكرر الضرب عليه، وكان لا يحتمل هذا التكرار؛ كمن أخذ صبياً أو صغيراً وضربه بعصا صغيرة، وكرر عليه الضرب على وجه في الغالب أنه يزهق؛ فإنه قتل عمد، ويوجب القصاص، لكن الغالب في العصا الصغيرة أنها لا تقتل، وقوله: (صغيرة) المفاهيم معتبرة في المتون، ومن هنا لو ضربه بعصا كبيرة يقتل مثلها غالباً؛ فإنه قتل عمد.

وقوله: [أو لكزه].

أي: أن يجمع يده ويضربه بها، والوكز واللكز بمعنى واحد؛ والغالب أنه لا يقتل، لكن لو لكزه في مقتل، أو كان الملكوز صغيراً؛ كما لو أخذ طفلاً في مهده فلكزه لكزة واحدة قضت عليه، فهذا قتل عمد.

إذاً: لا بد من الانتباه إلى أن الأصل العام والغالب في اللكزة أنه لا يقتل مثلها، والناس تقع بينهم الخصومات، ويلكز بعضهم بعضاً، ويضرب بعضهم بعضاً، ولكن لا تزهق الأرواح، ولا تموت، فقد يحصل تأثر وضرر، ولكنه لا يحصل زهوق غالباً، ومن هنا قال رحمه الله: إنه شبه عمد، ولكن الوكز قد يقتل، ولذلك قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، فالوكز قد يقتل، ومن هنا صار وسيطاً بين ما لا يقتل غالباً وما يقتل غالباً، وارتقى إلى درجة شبه العمد، وبعضهم يقول: بقصد الجناية، وإن كان الأشبه أن الوكز فيه أذية، وإضرار وإيلام.

وعلى كل حال: هذا نوع من أنواع شبه العمد الذي لا يوجب القصاص، إلا إذا كان الذي لكزه ضعيفاً، أو مريضاً، أو شيخاً هرماً، أو طفلاً صغيراً؛ تقتله اللكزة غالباً، أو كان شاباً قوياً جلداً، فلكزه لكزة قوية في مقتل، مثل: الخصيتين، أو الضرب على أسفل البطن إلى جهة الكبد، أو جهة القلب، ونحو ذلك، فهذه غالباً مقاتل، فإذا ضربه ولكزه فيها، فهو قتل عمد، ويجب القصاص.

وقوله: [ونحوه]. أي: شبهه.

شرع الإمام المصنف رحمه الله في بيان القسم الثاني من أقسام القتل؛ وهو شبه العمد، وشبه الشيء: مثيله والقريب منه في الصفات، وسمي هذا النوع من القتل بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله وسطاً بين العمد والخطأ؛ ولذلك سماه بعض العلماء: خطأ العمد، وسموه: شبه العمد، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي تقدم معنا: (ألا إن في قتيل شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل).

وجمهور العلماء رحمهم الله على أن هذا القسم موجود في القتل، وأنه وسط بين العمد وبين الخطأ، وأنه لايوجب قصاصاً، أي: أن من قتل بهذا النوع وتوفرت فيه الصفات التي لا يرتقي فيها القتل إلى العمد، ويرتفع بها عن محض الخطأ، فإنه لا يُقتص منه، فلا يوجب قوداً، ويوجب الدية إجماعاً، إلا أن هذه الدية تكون مغلظة في قول جمهور العلماء رحمهم الله إجماعاً عند من يقول بهذا النوع.

وخالف بعض العلماء فقالوا: القتل نوعان: قتل عمد، وقتل خطأ؛ لأن الله عز وجل بين هذين النوعين، ولم يذكر النوع الثالث في كتابه وهو شبه العمد. وهذا القول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.

والدليل على ثبوت هذا القسم: ما جاء في صريح السنة في قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إن في قتيل شبه العمد؛ قتيل السوط والعصا)، وكذلك أيضاً يدل على هذا القسم حديث الصحيحين في قصة المرأتين من هذيل حينما اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وألقت ما في بطنها -وهو جنينها- فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عاقلتها، ولم يوجب قصاصاً، ولو كان شبه العمد من العمد -كما يقول المالكية في رواية، وكذلك الظاهرية- لكان اقتص رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرأة، ولكنه جعله من شبه العمد.

وقد سمي شرعاً بشبه العمد وخطأ العمد، والسبب في هذه التسمية: أن القصد للجناية موجود؛ فشابه العمد، وهو لم يقصد القتل، ولم يرد إزهاق الروح؛ فشابه المخطئ، ومن هنا كان وسيطاً بينهما؛ أي أنه ليس بعمد محض ولا خطأ محض، فارتقى عن الخطأ -أي: زاد في الخطأ- في العقوبة؛ لأن فيه مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، وهذا ما يسمى بالدية المغلظة -وسيأتينا إن شاء الله تفصيله وبيانه في باب الديات- فارتفع عن الخطأ من جهة تغليظ الدية، ونزل عن العمد من جهة كونه لا يوجب قصاصاً، وصار وسيطاً بين العمد والخطأ، والغالب أن هذا القسم يقع في حال الخصومات والنزاعات.

فالقصد موجود؛ وهو الإضرار وقصد الأذية، أما قصد الإزهاق والقتل فغير موجود، كأن يقتتل اثنان، ويضرب أحدهما الآخر بشيء لا يقتل غالباً، مثل الضرب بالعصي، -ومثلها لا تقتل- كالعصا الصغيرة، فوافقت قدراً فقتلت؛ فهذا قتيل شبه عمد، لا يقتص من قاتله، وعلى من قتل الدية مغلظة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3706 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3621 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3444 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3376 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3343 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3321 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3274 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3230 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3171 استماع