فقه العبادات - الصلاة [31]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات، وحيا الله الإخوة الكرام الذين معنا في الأستوديو، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل طاعته، ومن الذين ينتفعون بما يسمعون، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كنا قد توقفنا عند مسائل متعلقة بالجمع بين الصلاتين، وذكرنا الجمع لأجل السفر، وقلنا: إن مذهب أبي حنيفة منع الجمع لأجل السفر إلا في عرفة ومزدلفة خاصة، وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الجمع لأجل السفر، وهو مذهب مالك و الشافعي و أحمد ، وقلنا: هذا هو الراجح.

ذكرنا أيضاً جواز الجمع لأجل المطر، وهذا قول جماهير أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة.

وكذلك قلنا: يجوز الجمع لأجل الوحل، والوحل هو: الطين الذي يحصل به أذية للناس ولو لم يكن ثمة مطر، وقلنا: إن الراجح جوازه، وهو مذهب الحنابلة وقول عند المالكية خلافاً للمذهب للشافعية وبعض فقهاء المالكية.

وقلنا أيضاً: إنه يجوز الجمع لأجل المرض، وهو مذهب الحنابلة وقول عند المالكية خلافاً للشافعية، وذكرنا أدلة كل قول.

وذكرنا أن العلماء الذين قالوا بجواز الجمع لأجل المطر في وقت الأولى اختلفوا هل يجوز الجمع بين الظهر والعصر لأجل المطر؟

وقلنا: الراجح -والله أعلم- جوازه شريطة أن يوجد العذر، أو يغلب على الظن وجود العذر في وقت الثانية، وعلى هذا فالجمع بسبب المطر في الصيف لا وجه له، لأن الوقت بين الظهر والعصر طويل، وبالتالي فإن المطر الذي يأتي في وقت الصيف -كما نسميه- سحابة صيف، فليس ثمة مشقة، ولكن إذا غلب على الظن وجوده في الشتاء، ويغلب انتشاره بحيث لا يستطيع الإنسان أن يرى الأفق لشدة المطر، وكذلك يغلب على الظن استمراره إلى الليل، فإن في هذا عذراً يبيح له ترك الصلاة في أوقاتها.

وقد نقلنا قول عمر بن الخطاب أنه جمع بين الظهر والعصر في وقت مطير، وثبت عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء مع الأمراء في ليلة مطيرة، فدل ذلك على أنه متى وجد العذر جاز.

لكن السؤال الذي نحن بصدد تفصيله هو: هل القائلون بجواز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، هل يشترطون للجمع شروطاً؟

نقول: نعم. ذكر جمهور الفقهاء أنه يشترط في الجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب أربعة شروط:

نية الجمع قبل السلام من الأولى

الشيخ: الشرط الأول: وجود النية للجمع، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، فقالوا: لا يصح للإنسان أن يجمع إذا سلم من الأولى ولم يكن قد نوى أن يجمع؛ لأن من شروط الجمع النية لهما؛ هذا مذهب الأئمة الثلاثة: مالك و الشافعي و أحمد في المشهور عنهم، إلا أن هؤلاء الأئمة اختلفوا: متى يجوز له ابتداء النية؟

فذهب مالك وأحمد إلى أنه يجب عليه أن ينوي الجمع من ابتدائه للصلاة الأولى، فإذا أراد أن يدخل ويكبر للمغرب فيجب أن ينوي المغرب والعشاء، وكذلك في السفر، فإذا أراد أن يجمع فلابد أن ينوي الجمع من ابتداء الأولى، في الظهر والعصر أو المغرب والعشاء.

وذهب الشافعي القائل بوجوب نية الجمع إلى أنه لا يلزم أن ينوي الجمع من ابتداء الأولى، لكن يشترط أن ينوي قبل انتهاء السلام من الأولى، فلو أنه نوى الجمع أثناء الصلاة الأولى فلا بأس أن يجمع، لكن اتفق الأئمة الثلاثة على أنه إن سلم ولم يكن قد نوى الجمع فإنه لا يجمع.

واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن الجمع عمل، والعمل يشترط فيه النية، فإذا لم يكن ثمة نية فلا جمع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ).

والجواب على هذا أن يقال: أما كون الجمع عملاً فهذا لا شك فيه، وأما كون العمل لابد فيه من نية فهذا أيضاً لا إشكال فيه، لكن من أين لكم في هذا الحديث أنه يشترط النية قبل انتهاء الأولى؟ فإن الأصل أنه يجوز له أن يجمع، فلا يصح أن يصلي الثانية من غير نية الفرض، أما إذا أراد أن يجمع ونوى أن يصلي الثانية في وقت الأولى لوجود هذا العذر فإنه يصلح له ذلك.

واستدلوا أيضاً بأن قالوا: ولأنه تصلى الثانية -وهي العشاء- في وقت الأولى إما سهواً وإما لأجل الجمع، فلابد من التفريق بين ذلك بوجود النية.

والجواب على هذا أن يقال: أما التفريق بين الفرض والنفل أو السهو والقصد فهذا لابد فيه من نية، لكن أنَّى لكم أنه يشترط وجود النية منذ ابتداء الصلاة الأولى، أو قبل السلام منها؟

ولهذا ذهب بعض المالكية وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية، قال: وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد: أنه لا بأس بالجمع بين الصلاتين ولو لم ينو الجمع إلا بعد الانتهاء من الأولى.

قالوا: أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة، وجمع بين الظهر والعصر في عرفة، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أصحابه أنه نوى الجمع من حين دخوله في الصلاة، ولو كان ثمة واجب فلابد من بيانه؛ لأن هذا مما يخفى، فلابد من توفر الدواعي لنقله، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى معه أصحابه، ولم يكونوا يعلمون أنهم سوف يجمعون الظهر مع العصر؛ لأنه لم يخبرهم إلا بفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد قال بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم )، فلو كان ثمة نية لابد من بيانها فلابد أن يبينها للصحابة، فلما لم يبين ذلك للصحابة دل على أن أصل الوجوب يحتاج إلى دليل، ولا دليل.

ثالثاً: أنهم قالوا: إن الجمع بين الصلاتين إنما هو جمع للوقت وليس جمعاً لأجل الصلاة الأولى، فإنما جاز أن يجمع الظهر مع العصر لوجود العذر، فصار الوقتان وقتاً واحداً، فإذا جاز له أن يصلي الثانية في وقت الأولى لوجود العذر فلا أثر حينئذٍ لوجود نية الجمع من عدمه؛ لأن القصد إنما كان لأجل العذر وقد وجد، وأنت ترى أن هذا الدليل قوي؛ ولهذا نقل أبو العباس بن تيمية عن أحمد : أنه سئل عن رجل صلى المغرب، ثم أراد أن يخرج للسفر قبل مغيب الشفق، يعني: قبل مغيب الحمرة، فقال: له أن يجمع.

فـأحمد رحمه الله جوز له في السفر أن يصلي العشاء؛ لأنه نوى السفر ولأجل وجود الحاجة، فدل ذلك على أنه لا يلزم وجود النية.

وعلى هذا فإذا صلى الإمام صلاة المغرب مثلاً، ثم ظن قبل دخوله أن المطر قد توقف، ثم لما سلم وجد المطر أشد مما كان عليه قبل الدخول، فعلى مذهب الجمهور ليس له أن يجمع، وهذه مما تخفى على بعض الناس، فإن بعض الناس إذا سلم الإمام وهو لم ينو الجمع، قال: هل أجمع؟ فعلى مذهب الجمهور ليس له أن يجمع؛ لأنه لم ينو الجمع من ابتداء الأولى على مذهب أحمد و مالك ، أو في أثنائها على مذهب الشافعي .

والراجح: أنه لا يشترط النية، وعلى هذا فلو أن إماماً سلم من الصلاة، ولم تكن السماء قد أمطرت، فلما سلم قالوا له: إن المطر قد ازداد ولا نستطيع أن نخرج من مسجدنا، فإنه يجوز له حينئذٍ أن يجمع، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الترتيب بين الصلاتين

الشيخ: الشرط الثاني الذي ذكره جمهور الفقهاء في جواز الجمع بين العصر والظهر في وقت الأولى، أو بين المغرب والعشاء في وقت الأولى: هو الترتيب بين الصلاتين فإذا أراد أن يصلي جمع تقديم فلا يصح أن يصلي العصر قبل الظهر، ولا أن يصلي العشاء قبل المغرب، وهذا باتفاق الأئمة الثلاثة حتى الشافعي الذي يقول: لا يجب الترتيب بين الصلوات في القضاء، فإنه يوجب الترتيب في جمع التقديم.

وعلى هذا فإنه لا يصح أن يصلي العشاء قبل المغرب، ولا أن يصلي العصر قبل الظهر؛ لأن الترتيب بين الصلوات واجب، وقد ثبت في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة الأحزاب: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً، فصلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب )، فدل ذلك على وجوب الترتيب.

ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث جابر أن عمر رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله! قاتلهم الله! فوالله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالله ما صليتها )، يعني: أنت صليت يا عمر في وقتها، أما أنا فما صليتها، فصلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب، وهذا هو الثابت.

وأما ما جاء عند النسائي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب ثم صلى بعدها العصر ) فهي رواية شاذة مخالفة لرواية الصحيحين، ولا يعول عليها، ولا يمكن أن يقال: هذه فعلها مرة، وهذه فعلها مرة؛ لأن غزوة الأحزاب وقعت مرة واحدة.

يقول ابن القيم رحمه الله: واعلم أن بعض الناس إذا وجد حديثين مختلفين، قال: فُعل هذا مرة وهذا مرة، وهذه حيلة المضطر، وليس هذا على إطلاقه؛ لأنك عندما تقول: هذا مرة وهذا مرة يستلزم وقوع الحادثة مرتين، مع أنها منتفية حساً. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الموالاة بين الصلاتين

الشيخ: الشرط الثالث من شروط الجمع الموالاة بينهما، وقد اختلف العلماء في هذا على قولين:

القول الأول: ذهب المالكية والحنابلة والشافعية إلى اشتراط المولاة، فقالوا: لا يصح أن يصلي الظهر ثم يكون بينه وبين العصر فاصل، فلو سلم مثلاً وهو ناو للجمع فإنه لا يصح له أن يؤخر الصلاة الثانية إذا كان جمع تقديم، فإذا وجد فاصل بينهما لم يصح الجمع.

وعلى هذا قالوا: لو أن إماماً صلى المغرب وهو ناو للجمع، ثم قال للجماعة: ما رأيكم أن أجمع؟ فاختلفوا، فقال بعضهم: لا. وقال بعضهم: اجمع. فطال الفصل مقدار أذان، أو مقدار إقامة، أو مقدار الصلاة فإنهم قالوا: لا يصح في هذه الحال أن يجمع؛ لأنه قد طال الفصل.

والأئمة الثلاثة يقولون: إذا طال الفصل سواء وجد عذر أم لم يوجد فلا يصح له أن يجمع؛ لأنهم اشترطوا الموالاة.

واستدلوا على هذا بأن قالوا: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين جمع تقديم وفصل بينهما، فدل ذلك على وجوب الموالاة، ولأن الثانية فرع عن الأولى وتتبع لها، والأصل أن التابع يلحق المتبوع، فإذا وجد الفصل لم تكن الثانية تابعة، بل صارت أصلاً، فلم يصح الجمع إذاً. هذا هو مذهب الجمهور.

القول الثاني: هو قول لبعض فقهاء الشافعية والحنابلة، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله: أنه لا تشترط الموالاة بينهما، فيجوز أن يصلي الظهر ثم يفصل بفاصل فيصلي العصر، ويجوز أن يصلي المغرب ثم يفصل بينهما بفاصل فيصلي العشاء، قال: وهو منصوص كلام الإمام أحمد. وهذا القول أظهر.

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة، فقالوا: إن الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في وقت الأولى ليس لأن الثانية فرع عن الأولى أو تابعة لها ولكن لأن وقت الثانية هو وقت الأولى، فإذا جاز أن يصلي الأولى في أي وقت شاء فله أن يصلي الثانية متى شاء ما دامت في وقت الأولى.

وأنت ترى أن هذا الدليل قوي؛ فإذا جاز أن يصلي الظهر في أول وقتها أو وسطه أو قريباً من آخره فكذلك يجوز أن يصلي الثانية شريطة ألا يخرج وقت الأولى وبشرط الترتيب بينهما، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأما الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فإنا نقول: غاية ما في ذلك هو الفعل، والفعل لا يدل على الوجوب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

ولهذا فإن الراجح -والله أعلم- أنه لا تشترط الموالاة.

ومع القول بأنه لا تشترط الموالاة ينبغي عدم التهاون في مثل هذا الأمر؛ لأن غالب أهل العلم على هذا القول، فإن بعض الناس وهو مسافر يصلي الظهر في وقتها، أو يصلي المغرب في وقتها، ثم بعد ذلك يجلس، ثم يقول لصاحبه: ما رأيك أن نجمع؛ لأنني أريد أن أنام.

فنقول: الأولى ألا يكون ذلك إلا في وقت ضيق، يعني في حاجة ماسة لأجل الجمع، مثل كونه لا يعلم أنه يجوز له الجمع، فقال له أصحابه بعد أن جاء وخشي أن يفوت وقت الثانية لشدة إرهاقه وتعبه، أو أراد أن يسافر بعد ذلك أو غير ذلك من الأعذار، فحينئذٍ لا بأس أن يصلي.

ومما يدل على عدم وجوب الموالاة: ما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد : ( أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما نزل في الشعب بعد عرفة توضأ وضوءاً ليس بالبالغ، فقال: يا رسول الله! الصلاة. قال: الصلاة أمامك. قال: فلما نزلنا مزدلفة أسبغ الوضوء فصلى المغرب، ثم أمر براحلته فأنزلها، ثم صلى العشاء )، فدل ذلك على عدم الموالاة بينهما.

ولكن الراجح أن هذا الدليل إنما يصلح في الموالاة بين الصلاتين في وقت الثانية وليس في وقت الأولى؛ ولهذا ذهب الشافعية إلى أنه لا بأس بترك الموالاة في وقت الثانية، والخلاف القوي إنما هو في وقت الأولى.

والراجح أنه لا تشترط الموالاة لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وجود العذر قبل الانتهاء من الأولى وفي بداية الثانية

الشيخ: الشرط الرابع: وهو مذهب الحنابلة والشافعية قالوا: يشترط وجود العذر قبل الانتهاء من الأولى.

فعلى هذا: لو أنه نوى الجمع في ابتداء الصلاة الأولى، فلما سلم لم تكن السماء ممطرة، وليس ثمة وحل، فإنه لا يجوز له أن يجمع. هذا القول الأول.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يشترط وجود العذر في ابتداء الأولى، ولا عند الانتهاء من الأولى.

والراجح: أنه متى ما وجد العذر فلا بأس أن يجمع الثانية مع الأولى.

وعلى هذا فإننا نقول: هب أن المطر قد توقف، لكن هناك عذر آخر غير المطر، وهو الوحل، وقد قلنا: إن الراجح وهو مذهب الحنابلة وقول عند فقهاء المالكية: جواز الجمع لأجل الوحل، خلافاً للشافعية فلربما توقف المطر لكن الوحل باق.

ولو علم أو غلب على الظن -خاصة في وقت الشتاء- أن توقف المطر إنما هو توقف معتاد ثم يعاود فلا حرج أن يجمع بينهما على الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وقد رجحه بعض فقهاء الحنابلة وبعض فقهاء الشافعية.

إذاً: شروط الحنابلة والشافعية أربعة:

الأول: النية.

الثاني: الترتيب.

الثالث: الموالاة.

الرابع: وجود العذر قبل الانتهاء من الأولى.

وعلى الراجح فإن الشرط إنما هو اثنان:

الأول: الترتيب.

والثاني: وجود مطلق العذر الذي يبيح صلاة الثانية في وقت الأولى، فإذا لم يوجد العذر فلا يصح.

الشيخ: الشرط الأول: وجود النية للجمع، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، فقالوا: لا يصح للإنسان أن يجمع إذا سلم من الأولى ولم يكن قد نوى أن يجمع؛ لأن من شروط الجمع النية لهما؛ هذا مذهب الأئمة الثلاثة: مالك و الشافعي و أحمد في المشهور عنهم، إلا أن هؤلاء الأئمة اختلفوا: متى يجوز له ابتداء النية؟

فذهب مالك وأحمد إلى أنه يجب عليه أن ينوي الجمع من ابتدائه للصلاة الأولى، فإذا أراد أن يدخل ويكبر للمغرب فيجب أن ينوي المغرب والعشاء، وكذلك في السفر، فإذا أراد أن يجمع فلابد أن ينوي الجمع من ابتداء الأولى، في الظهر والعصر أو المغرب والعشاء.

وذهب الشافعي القائل بوجوب نية الجمع إلى أنه لا يلزم أن ينوي الجمع من ابتداء الأولى، لكن يشترط أن ينوي قبل انتهاء السلام من الأولى، فلو أنه نوى الجمع أثناء الصلاة الأولى فلا بأس أن يجمع، لكن اتفق الأئمة الثلاثة على أنه إن سلم ولم يكن قد نوى الجمع فإنه لا يجمع.

واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن الجمع عمل، والعمل يشترط فيه النية، فإذا لم يكن ثمة نية فلا جمع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( وإنما لكل امرئ ما نوى ).

والجواب على هذا أن يقال: أما كون الجمع عملاً فهذا لا شك فيه، وأما كون العمل لابد فيه من نية فهذا أيضاً لا إشكال فيه، لكن من أين لكم في هذا الحديث أنه يشترط النية قبل انتهاء الأولى؟ فإن الأصل أنه يجوز له أن يجمع، فلا يصح أن يصلي الثانية من غير نية الفرض، أما إذا أراد أن يجمع ونوى أن يصلي الثانية في وقت الأولى لوجود هذا العذر فإنه يصلح له ذلك.

واستدلوا أيضاً بأن قالوا: ولأنه تصلى الثانية -وهي العشاء- في وقت الأولى إما سهواً وإما لأجل الجمع، فلابد من التفريق بين ذلك بوجود النية.

والجواب على هذا أن يقال: أما التفريق بين الفرض والنفل أو السهو والقصد فهذا لابد فيه من نية، لكن أنَّى لكم أنه يشترط وجود النية منذ ابتداء الصلاة الأولى، أو قبل السلام منها؟

ولهذا ذهب بعض المالكية وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية، قال: وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد: أنه لا بأس بالجمع بين الصلاتين ولو لم ينو الجمع إلا بعد الانتهاء من الأولى.

قالوا: أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في مزدلفة، وجمع بين الظهر والعصر في عرفة، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أصحابه أنه نوى الجمع من حين دخوله في الصلاة، ولو كان ثمة واجب فلابد من بيانه؛ لأن هذا مما يخفى، فلابد من توفر الدواعي لنقله، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى معه أصحابه، ولم يكونوا يعلمون أنهم سوف يجمعون الظهر مع العصر؛ لأنه لم يخبرهم إلا بفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد قال بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام: ( خذوا عني مناسككم )، فلو كان ثمة نية لابد من بيانها فلابد أن يبينها للصحابة، فلما لم يبين ذلك للصحابة دل على أن أصل الوجوب يحتاج إلى دليل، ولا دليل.

ثالثاً: أنهم قالوا: إن الجمع بين الصلاتين إنما هو جمع للوقت وليس جمعاً لأجل الصلاة الأولى، فإنما جاز أن يجمع الظهر مع العصر لوجود العذر، فصار الوقتان وقتاً واحداً، فإذا جاز له أن يصلي الثانية في وقت الأولى لوجود العذر فلا أثر حينئذٍ لوجود نية الجمع من عدمه؛ لأن القصد إنما كان لأجل العذر وقد وجد، وأنت ترى أن هذا الدليل قوي؛ ولهذا نقل أبو العباس بن تيمية عن أحمد : أنه سئل عن رجل صلى المغرب، ثم أراد أن يخرج للسفر قبل مغيب الشفق، يعني: قبل مغيب الحمرة، فقال: له أن يجمع.

فـأحمد رحمه الله جوز له في السفر أن يصلي العشاء؛ لأنه نوى السفر ولأجل وجود الحاجة، فدل ذلك على أنه لا يلزم وجود النية.

وعلى هذا فإذا صلى الإمام صلاة المغرب مثلاً، ثم ظن قبل دخوله أن المطر قد توقف، ثم لما سلم وجد المطر أشد مما كان عليه قبل الدخول، فعلى مذهب الجمهور ليس له أن يجمع، وهذه مما تخفى على بعض الناس، فإن بعض الناس إذا سلم الإمام وهو لم ينو الجمع، قال: هل أجمع؟ فعلى مذهب الجمهور ليس له أن يجمع؛ لأنه لم ينو الجمع من ابتداء الأولى على مذهب أحمد و مالك ، أو في أثنائها على مذهب الشافعي .

والراجح: أنه لا يشترط النية، وعلى هذا فلو أن إماماً سلم من الصلاة، ولم تكن السماء قد أمطرت، فلما سلم قالوا له: إن المطر قد ازداد ولا نستطيع أن نخرج من مسجدنا، فإنه يجوز له حينئذٍ أن يجمع، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: الشرط الثاني الذي ذكره جمهور الفقهاء في جواز الجمع بين العصر والظهر في وقت الأولى، أو بين المغرب والعشاء في وقت الأولى: هو الترتيب بين الصلاتين فإذا أراد أن يصلي جمع تقديم فلا يصح أن يصلي العصر قبل الظهر، ولا أن يصلي العشاء قبل المغرب، وهذا باتفاق الأئمة الثلاثة حتى الشافعي الذي يقول: لا يجب الترتيب بين الصلوات في القضاء، فإنه يوجب الترتيب في جمع التقديم.

وعلى هذا فإنه لا يصح أن يصلي العشاء قبل المغرب، ولا أن يصلي العصر قبل الظهر؛ لأن الترتيب بين الصلوات واجب، وقد ثبت في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة الأحزاب: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً، فصلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب )، فدل ذلك على وجوب الترتيب.

ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث جابر أن عمر رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله! قاتلهم الله! فوالله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالله ما صليتها )، يعني: أنت صليت يا عمر في وقتها، أما أنا فما صليتها، فصلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب، وهذا هو الثابت.

وأما ما جاء عند النسائي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب ثم صلى بعدها العصر ) فهي رواية شاذة مخالفة لرواية الصحيحين، ولا يعول عليها، ولا يمكن أن يقال: هذه فعلها مرة، وهذه فعلها مرة؛ لأن غزوة الأحزاب وقعت مرة واحدة.

يقول ابن القيم رحمه الله: واعلم أن بعض الناس إذا وجد حديثين مختلفين، قال: فُعل هذا مرة وهذا مرة، وهذه حيلة المضطر، وليس هذا على إطلاقه؛ لأنك عندما تقول: هذا مرة وهذا مرة يستلزم وقوع الحادثة مرتين، مع أنها منتفية حساً. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: الشرط الثالث من شروط الجمع الموالاة بينهما، وقد اختلف العلماء في هذا على قولين:

القول الأول: ذهب المالكية والحنابلة والشافعية إلى اشتراط المولاة، فقالوا: لا يصح أن يصلي الظهر ثم يكون بينه وبين العصر فاصل، فلو سلم مثلاً وهو ناو للجمع فإنه لا يصح له أن يؤخر الصلاة الثانية إذا كان جمع تقديم، فإذا وجد فاصل بينهما لم يصح الجمع.

وعلى هذا قالوا: لو أن إماماً صلى المغرب وهو ناو للجمع، ثم قال للجماعة: ما رأيكم أن أجمع؟ فاختلفوا، فقال بعضهم: لا. وقال بعضهم: اجمع. فطال الفصل مقدار أذان، أو مقدار إقامة، أو مقدار الصلاة فإنهم قالوا: لا يصح في هذه الحال أن يجمع؛ لأنه قد طال الفصل.

والأئمة الثلاثة يقولون: إذا طال الفصل سواء وجد عذر أم لم يوجد فلا يصح له أن يجمع؛ لأنهم اشترطوا الموالاة.

واستدلوا على هذا بأن قالوا: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين جمع تقديم وفصل بينهما، فدل ذلك على وجوب الموالاة، ولأن الثانية فرع عن الأولى وتتبع لها، والأصل أن التابع يلحق المتبوع، فإذا وجد الفصل لم تكن الثانية تابعة، بل صارت أصلاً، فلم يصح الجمع إذاً. هذا هو مذهب الجمهور.

القول الثاني: هو قول لبعض فقهاء الشافعية والحنابلة، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله: أنه لا تشترط الموالاة بينهما، فيجوز أن يصلي الظهر ثم يفصل بفاصل فيصلي العصر، ويجوز أن يصلي المغرب ثم يفصل بينهما بفاصل فيصلي العشاء، قال: وهو منصوص كلام الإمام أحمد. وهذا القول أظهر.

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة، فقالوا: إن الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في وقت الأولى ليس لأن الثانية فرع عن الأولى أو تابعة لها ولكن لأن وقت الثانية هو وقت الأولى، فإذا جاز أن يصلي الأولى في أي وقت شاء فله أن يصلي الثانية متى شاء ما دامت في وقت الأولى.

وأنت ترى أن هذا الدليل قوي؛ فإذا جاز أن يصلي الظهر في أول وقتها أو وسطه أو قريباً من آخره فكذلك يجوز أن يصلي الثانية شريطة ألا يخرج وقت الأولى وبشرط الترتيب بينهما، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأما الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فإنا نقول: غاية ما في ذلك هو الفعل، والفعل لا يدل على الوجوب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

ولهذا فإن الراجح -والله أعلم- أنه لا تشترط الموالاة.

ومع القول بأنه لا تشترط الموالاة ينبغي عدم التهاون في مثل هذا الأمر؛ لأن غالب أهل العلم على هذا القول، فإن بعض الناس وهو مسافر يصلي الظهر في وقتها، أو يصلي المغرب في وقتها، ثم بعد ذلك يجلس، ثم يقول لصاحبه: ما رأيك أن نجمع؛ لأنني أريد أن أنام.

فنقول: الأولى ألا يكون ذلك إلا في وقت ضيق، يعني في حاجة ماسة لأجل الجمع، مثل كونه لا يعلم أنه يجوز له الجمع، فقال له أصحابه بعد أن جاء وخشي أن يفوت وقت الثانية لشدة إرهاقه وتعبه، أو أراد أن يسافر بعد ذلك أو غير ذلك من الأعذار، فحينئذٍ لا بأس أن يصلي.

ومما يدل على عدم وجوب الموالاة: ما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد : ( أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما نزل في الشعب بعد عرفة توضأ وضوءاً ليس بالبالغ، فقال: يا رسول الله! الصلاة. قال: الصلاة أمامك. قال: فلما نزلنا مزدلفة أسبغ الوضوء فصلى المغرب، ثم أمر براحلته فأنزلها، ثم صلى العشاء )، فدل ذلك على عدم الموالاة بينهما.

ولكن الراجح أن هذا الدليل إنما يصلح في الموالاة بين الصلاتين في وقت الثانية وليس في وقت الأولى؛ ولهذا ذهب الشافعية إلى أنه لا بأس بترك الموالاة في وقت الثانية، والخلاف القوي إنما هو في وقت الأولى.

والراجح أنه لا تشترط الموالاة لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: الشرط الرابع: وهو مذهب الحنابلة والشافعية قالوا: يشترط وجود العذر قبل الانتهاء من الأولى.

فعلى هذا: لو أنه نوى الجمع في ابتداء الصلاة الأولى، فلما سلم لم تكن السماء ممطرة، وليس ثمة وحل، فإنه لا يجوز له أن يجمع. هذا القول الأول.

والقول الثاني في المسألة: أنه لا يشترط وجود العذر في ابتداء الأولى، ولا عند الانتهاء من الأولى.

والراجح: أنه متى ما وجد العذر فلا بأس أن يجمع الثانية مع الأولى.

وعلى هذا فإننا نقول: هب أن المطر قد توقف، لكن هناك عذر آخر غير المطر، وهو الوحل، وقد قلنا: إن الراجح وهو مذهب الحنابلة وقول عند فقهاء المالكية: جواز الجمع لأجل الوحل، خلافاً للشافعية فلربما توقف المطر لكن الوحل باق.

ولو علم أو غلب على الظن -خاصة في وقت الشتاء- أن توقف المطر إنما هو توقف معتاد ثم يعاود فلا حرج أن يجمع بينهما على الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وقد رجحه بعض فقهاء الحنابلة وبعض فقهاء الشافعية.

إذاً: شروط الحنابلة والشافعية أربعة:

الأول: النية.

الثاني: الترتيب.

الثالث: الموالاة.

الرابع: وجود العذر قبل الانتهاء من الأولى.

وعلى الراجح فإن الشرط إنما هو اثنان:

الأول: الترتيب.

والثاني: وجود مطلق العذر الذي يبيح صلاة الثانية في وقت الأولى، فإذا لم يوجد العذر فلا يصح.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات - الطهارة [4] 2581 استماع
فقه العبادات - الطهارة [17] 2561 استماع
فقه العبادات - الطهارة [5] 2438 استماع
فقه العبادات - الطهارة [15] 2389 استماع
فقه العبادات - الصلاة [9] 2348 استماع
فقه العبادات - الصلاة [11] 2238 استماع
فقه العبادات - الصلاة [16] 2235 استماع
فقه العبادات - الطهارة [7] 2185 استماع
فقه العبادات - الصلاة [14] 2112 استماع
فقه العبادات - الطهارة [14] 2091 استماع