فقه العبادات - الصلاة [26]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة والأخوات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله مساءكم بكل خير ومسرة ويمن وسلام.

كنا قد توقفنا في بعض مسائل صلاة الجماعة، واليوم إن شاء الله سوف نتحدث عن أحق الناس بالإمامة، وما يتعلق بهذا الموضوع إن شاء الله، وأهيب بالإخوة أن يتأملوا معنا حتى نسرع في ذكر هذه المسائل.

تقديم الأقرأ لكتاب الله على غيره

الشيخ: أولاً: تحدث العلماء في مسألة: من أحق الناس بالإمامة؟

من المعلوم أن الفقهاء رحمهم الله أطالوا في هذا الباب، فذكروا بعض الصفات التي يكون الشخص بها أحق بالإمامة من غيره، لكن أكثر هذه الصفات إنما جاءت بالقياس، مثل قولهم: إن المتوضئ أولى من المتيمم، والحاضر يقدم على مسافر، والحضري أولى من البدوي.

والواجب أن نعلم أن العبرة بالدليل، فإذا لم يوجد دليل فإن الأصل في هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود البدري : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً )، والحديث رواه مسلم وفيه: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، وهذا يدل على أن أولى الناس بالإمامة هو الأقرأ.

واختلف العلماء من هذا الحديث في معنى الأقرأ؟

فذهب المالكية والشافعية وبعض الحنفية إلى أن الأقرأ هو العالم الفقيه، أي أن العالم الفقيه أولى بالصلاة من غيره.

وذهب الحنابلة وبعض الحنفية إلى أن الأقرأ هو الأجود والأكثر قراءة للقرآن، أي الأكثر حفظاً.

والأقرب والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن معنى (أقرؤهم لكتاب الله): أكثرهم وأجودهم قرآناً، خلافاً للقائلين بأن المقصود العالم الفقيه، وإنما قالوا: الأقرأ هو العالم؛ لأن القراء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هم الفقهاء.

والجواب على هذا أن نقول: إن هذا المصطلح لا يغير من المعنى الشرعي لكلمة (أقرؤهم)، ومما يدل على أن المقصود بالأقرأ الأكثر جودة وحفظاً أنه ثبت في صحيح البخاري أنه لما قدم المهاجرون قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً، وفيهم عمر بن الخطاب و أبو سلمة ، وهذا دليل على أن الأقرأ معناه الأكثر قرآناً؛ لأن سالماً مولى أبي حذيفة ليس بأفضل من عمر ، ولكنه لما كان أكثر حفظاً من عمر قدم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً )، كما في البخاري من حديث عمرو بن سلمة .

فإن قال قائل: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد و الترمذي بسند صحيح: ( أقرؤكم أبي )، ومع ذلك قدم صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، فهذا دليل على أن العالم أولى من القارئ.

فالجواب على ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أنكم أقررتم بأن الأقرأ معناه: الأكثر قرآناً، بدليل أنكم استشهدتم بحديث أبي بن كعب ، فجعلتم معنى الأقرأ أنه الأكثر قرآناً، فدل ذلك على أن الأصل هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم: ( أقرؤكم أبي )، ( ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، لكن ليس معنى ذلك أن هذا الحديث على عمومه، فإنه إذا كان هناك إمام راتب وكانت قراءته أقل حفظاً من غيره، فالإمام الراتب أولى بالإمامة.

فكذلك تقديم أبي بكر رضي الله عنه ليس لأجل أنه أقرأ من أبي ؛ ولكن لأجل معنى آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه ليشير أنه أولى الناس بالخلافة من بعده.

ومن المعلوم أن الشخص لو جاء إلى بيت شخص وكان هذا الضيف أكثر قرآنا فلا ينبغي له أن يؤم صاحب البيت إلا بإذنه: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، فدل ذلك على أن حديث أبي مسعود هو الأصل، إلا إذا جاء ما يستثنى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثر قرآناً ).

تفريعات الحنابلة على تقديم الأقرأ لكتاب الله

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن الحنابلة يقولون: إن معنى (الأقرأ) هل هو الأكثر قرآناً، أم هو الأجود من حيث التجويد والأحسن صوتاً؟

ذهب بعضهم أن الأصل هو الأكثر قرآناً؛ لأن أكثر الروايات تدل على ذلك.

وذهب بعضهم إلى أنه يقدم الأكثر قرآناً والأجود معاً؛ لأنها كلها داخلة في معنى (الأقرأ)، فمجموع هذا تسمى القراءة المطلقة، وهي ما جمعت ثلاثة أشياء: الأول: جودة في مخارج الحروف والتجويد، والثاني: حسن صوت، والثالث: كثرة حفظ.

فإذا كان الشخص أحسن قراءة وتجويداً وصوتاً ولو كان أقل حفظاً، فهل يقدم أم لا؟

بعض أهل العلم قال: يقدم؛ لأنه الأقرأ، وبعضهم يقول: لا، والراجح والله أعلم أنه يقدم الحسن الصوت؛ لأنه داخل في الأقرأ بدلالة المطابقة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثركم قرآناً)، فلأن قريشاً كانت مخارج حروفها على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فخاطبهم صلى الله عليه وسلم بما هم قادرون عليه، وإلا فإن الذي يؤثر في المصلين وتجلب قراءته الخشوع فهو أولى، وهذا هو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز ، فإنه قال: إذا كان إمام حسن الصوت وإمام أكثر قرآناً لكن ليس حسن الصوت، فيقدم حسن الصوت؛ لأن قراءته أكثر تأثيراً، وما رفع الصوت وجهر بالقراءة إلا لأجل أن يستمع المأموم قراءة إمامه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

لكن مع ذلك ليس معناه أن يكون هو الأقرأ إذا كان لا يحسن الصلاة، مثل أن يكون حديث عهد بإسلام، أو حفظه والده القرآن أو دخل في الكتاتيب لكنه لا يحسن الصلاة وأحكامها، فإن الأصل أنه يدرك أحكام الصلاة، بحيث يعرف حكم ما لو ترك واجباً أو ترك ركناً وغير ذلك، فهذا هو أولى بالإمامة ممن يقرأ وليس عنده من فقه الصلاة شيء والله أعلم.

لأن الاهتمام بأركان الصلاة وأحكامها مع المأموم أولى من الاهتمام بالقراءة مع إخلال بالأركان؛ لأن القراءة غايتها أنها مشروعة أو ركن في الفاتحة! أليس كذلك؟

تقديم الأعلم بالسنة إذا كانوا في القراءة سواء

الشيخ: إذاً: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، وهو الفقيه، فإن الفقيه أولى بذلك، وهذا يدلك على أن الفقيه الذي يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وآثار السلف هو أولى من الذي يحفظ المتون ولا يفقه الأدلة؛ لأن بعض الناس يحفظ الزاد أو يحفظ مختصر خليل أو يحفظ اللباب أو يحفظ المنهاج، أو يحفظ مختصر القدوري ، لكنه ليس عنده اهتمام بالأدلة.

وكذلك من يحفظ الأربعين النووية ولا يحفظ شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على الصلاة، فهذا لا يسمى فقهاً، فلا بد إذاً أن يحفظ المسائل المبنية على الدليل، ولو لم يحفظ الدليل، فهذا عمل بالسنة وإن لم يحفظ السنة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

تقديم الأقدم هداية والأكبر سناً

الشيخ: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة): وقد انقطعت الهجرة، لكن قال بعض أهل العلم: فالأولى بالإمامة أقربهم هداية، يعني: مثل شخص اهتدى منذ عشر سنوات، وشخص اهتدى قبل ثلاث سنوات، فيقدم من اهتدى قبل عشر سنوات.

فإن كانوا في الهداية سواء فأقدمهم سناً، أي: أكبرهم عمراً، وهذا يدل على أن الكبير لا يقدم مطلقاً، على خلاف السائد عندنا حيث إن الكبير يقدم في كل شيء، يقدم في الحديث، وفي العلم وغيره وهذا خطأ، والصواب: أن يقدم الأعلم ولو كان هناك من هو أكبر منه سناً.

ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقدم ابن عباس بين شيوخ بدر وكبرائهم حتى ضاق ذلك على بعض الناس فقال عمر : إني أعلم ما لا تعلمون، ثم أدركهم عمر وهم مجتمعون فسألهم عن مسألة فلم يجيبوا وقالوا: الله أعلم، فقال: ومن يعلم إذا لم يعلم ربي! ما تقول فيها يا ابن عباس ؟ وكان فتى! فقال: لا أتقدم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قل، قال: يا أمير المؤمنين! .. ثم ذكر سورة النصر، فضحك عمر وقال: والله ما أعلم إلا كما قلت، ثم التفت إليهم وقال: أتلومونني في تقديم ابن عباس أو كما قال رضي الله عنه.

ولهذا حينما جاء وفد إلى عمر بن عبد العزيز وكان فيهم فتى، فلما أراد أن يتحدث فكأن عمر بن عبد العزيز استكثر ذلك منه فقال: ليتقدم من هو أكبر منك سناً يا فتى! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الشأن بالسن لكان أولى بالخلافة من هو أكبر منك سناً، فضحك عمر وقال: تكلم، قال: فتكلم فأعجب عمر بمنطقه، وهذا يدل على أنه لا يقدم بالسن على إطلاقه، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث ابن عمر: ( فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، كبر )، فإذا كان ذلك ليس من باب العبادة والتعبد لله، ولكن من باب أمور الناس في الدنيا فيقدم الكبير، وأما إذا كان ذلك للعلم والدين فإنما يقدم المرء على حسب علمه ودينه وفقهه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

ولهذا لما أراد حويصة أن يتكلم في أمر القسامة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( كبر، كبر، فتكلم أخوه محيصة )، كما في صحيح مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

تقديم ساكن البيت على الزائر والإمام الراتب على غيره

الشيخ: ويقدم أيضاً ساكن البيت على من جاء زائراً إلا أن يستأذنه، قال صلى الله عليه وسلم: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه ).

وكذلك يقدم الإمام الراتب على من ليس براتب، وقد روى ابن أبي شيبة أن ابن عمر أتى أرضاً له وفيها مسجد يصلي فيه مولى، فلما حضرت الصلاة قالوا لـابن عمر: تقدم، قال: بل يصلي فيه إمام مسجدكم، فتقدم المولى فصلى بـابن عمر ، وهذا دليل على أن إمام المسجد أولى من غيره، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

صفات أناط بها الفقهاء أولوية الإمامة ولا دليل عليها

الشيخ: وأما ما يذكره الفقهاء رحمهم الله من صفات مثل: الأشرف، وصاحب الثياب، ومن به سلس بول، أو المتوضئ والمتيمم وغير ذلك، فلا يصح منها شيئاً، والراجح أنه يقدم في الإمامة على حسب ما جاء في حديث أبي مسعود البدري ، والله أعلم.

وأما ما يذكره بعض الفقهاء من صفات أخرى فإنما هي أقيسة ليس عليها دليل، ومن ذلك أنهم قالوا: يؤم المتوضئ المتيمم؛ قالوا: لأن المتيمم صلاته عن طهارة إباحة، وأما المتوضئ فطهارته ترفع الحدث.

قلنا: ما الدليل على هذا؟ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم)، ومن المعلوم أن صلاة المتيمم صحيحة، والقاعدة أن كل من صحت صلاته صحت إمامته، حتى من به سلس بول إذا صحت صلاته، فالراجح أن له أن يصلي بالناس ولو كان يخرج منه شيء من الدم إذا كان لا يؤثر ذلك على ثيابه، بحيث لا يتقزز المأموم من حالته، فالأصل أنه تصح صلاته وتصح إمامته إذا كان هو أقرأ لكتاب الله، ومما يدل على ذلك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: سقط عن فرسه فجحش شقه الأيمن، قال أنس : فذهبنا نعوده فحضرت الصلاة، فأمنا وهو جالس )، ومن المعلوم أن الصلاة لمن يؤدي الأركان فيها أولى لو نظرنا إلى هذا، ولكنهم قالوا: لأنه الرسول صلى الله عليه وسلم! نقول: نعم؛ لأنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مشرع، ولو كان ثمة فرق بينه وبين غيره لبينه للصحابة رضي الله عنهم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

والصحيح أنه لو حضر مقيم ومسافر أو حاضر وباد فإنه يتقدم أقرؤهم، سواء كان هو المسافر أو المقيم أو الحاضر أو البادي، فيقدم أقرؤهم ولو كان الحاضر أقرأ، وإذا اجتمع متوضئ ومتيمم فيقدم الأقرأ، حسب ترتيب حديث أبي مسعود البدري ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

بعض الأحاديث الضعيفة في صفات الأحق بالإمامة

الشيخ: ومن المسائل أيها الإخوة: أن بعض أهل العلم قال: إن من أم قوماً وفيهم من هو أقرأ منه لم يزالوا في سفال، وهذا الحديث ضعيف؛ فإن في سنده ضعفاً، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأما قول من قال: بأن المهاجري يؤم غير المهاجري، والأعرابي يؤمه غير الأعرابي، فهذا الكلام جاء من حديث جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أعرابي مهاجرياً، ولا تؤمن امرأة رجلاً، ولا يؤمن فاجر مؤمناً، إلا أن يقهره بسلطان يخاف سوطه وسيفه )، وهذا الحديث ضعيف يرويه عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن جدعان ، و عبد الله بن محمد العدوي متهم بالوضع، وعلي بن زيد بن جدعان كادوا أن يتفقوا على ضعفه، فالحديث لا يصح، والله أعلم.

الشيخ: أولاً: تحدث العلماء في مسألة: من أحق الناس بالإمامة؟

من المعلوم أن الفقهاء رحمهم الله أطالوا في هذا الباب، فذكروا بعض الصفات التي يكون الشخص بها أحق بالإمامة من غيره، لكن أكثر هذه الصفات إنما جاءت بالقياس، مثل قولهم: إن المتوضئ أولى من المتيمم، والحاضر يقدم على مسافر، والحضري أولى من البدوي.

والواجب أن نعلم أن العبرة بالدليل، فإذا لم يوجد دليل فإن الأصل في هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود البدري : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً )، والحديث رواه مسلم وفيه: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، وهذا يدل على أن أولى الناس بالإمامة هو الأقرأ.

واختلف العلماء من هذا الحديث في معنى الأقرأ؟

فذهب المالكية والشافعية وبعض الحنفية إلى أن الأقرأ هو العالم الفقيه، أي أن العالم الفقيه أولى بالصلاة من غيره.

وذهب الحنابلة وبعض الحنفية إلى أن الأقرأ هو الأجود والأكثر قراءة للقرآن، أي الأكثر حفظاً.

والأقرب والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن معنى (أقرؤهم لكتاب الله): أكثرهم وأجودهم قرآناً، خلافاً للقائلين بأن المقصود العالم الفقيه، وإنما قالوا: الأقرأ هو العالم؛ لأن القراء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هم الفقهاء.

والجواب على هذا أن نقول: إن هذا المصطلح لا يغير من المعنى الشرعي لكلمة (أقرؤهم)، ومما يدل على أن المقصود بالأقرأ الأكثر جودة وحفظاً أنه ثبت في صحيح البخاري أنه لما قدم المهاجرون قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً، وفيهم عمر بن الخطاب و أبو سلمة ، وهذا دليل على أن الأقرأ معناه الأكثر قرآناً؛ لأن سالماً مولى أبي حذيفة ليس بأفضل من عمر ، ولكنه لما كان أكثر حفظاً من عمر قدم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً )، كما في البخاري من حديث عمرو بن سلمة .

فإن قال قائل: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد و الترمذي بسند صحيح: ( أقرؤكم أبي )، ومع ذلك قدم صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، فهذا دليل على أن العالم أولى من القارئ.

فالجواب على ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أنكم أقررتم بأن الأقرأ معناه: الأكثر قرآناً، بدليل أنكم استشهدتم بحديث أبي بن كعب ، فجعلتم معنى الأقرأ أنه الأكثر قرآناً، فدل ذلك على أن الأصل هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم: ( أقرؤكم أبي )، ( ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، لكن ليس معنى ذلك أن هذا الحديث على عمومه، فإنه إذا كان هناك إمام راتب وكانت قراءته أقل حفظاً من غيره، فالإمام الراتب أولى بالإمامة.

فكذلك تقديم أبي بكر رضي الله عنه ليس لأجل أنه أقرأ من أبي ؛ ولكن لأجل معنى آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه ليشير أنه أولى الناس بالخلافة من بعده.

ومن المعلوم أن الشخص لو جاء إلى بيت شخص وكان هذا الضيف أكثر قرآنا فلا ينبغي له أن يؤم صاحب البيت إلا بإذنه: ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه )، فدل ذلك على أن حديث أبي مسعود هو الأصل، إلا إذا جاء ما يستثنى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثر قرآناً ).

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن الحنابلة يقولون: إن معنى (الأقرأ) هل هو الأكثر قرآناً، أم هو الأجود من حيث التجويد والأحسن صوتاً؟

ذهب بعضهم أن الأصل هو الأكثر قرآناً؛ لأن أكثر الروايات تدل على ذلك.

وذهب بعضهم إلى أنه يقدم الأكثر قرآناً والأجود معاً؛ لأنها كلها داخلة في معنى (الأقرأ)، فمجموع هذا تسمى القراءة المطلقة، وهي ما جمعت ثلاثة أشياء: الأول: جودة في مخارج الحروف والتجويد، والثاني: حسن صوت، والثالث: كثرة حفظ.

فإذا كان الشخص أحسن قراءة وتجويداً وصوتاً ولو كان أقل حفظاً، فهل يقدم أم لا؟

بعض أهل العلم قال: يقدم؛ لأنه الأقرأ، وبعضهم يقول: لا، والراجح والله أعلم أنه يقدم الحسن الصوت؛ لأنه داخل في الأقرأ بدلالة المطابقة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثركم قرآناً)، فلأن قريشاً كانت مخارج حروفها على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فخاطبهم صلى الله عليه وسلم بما هم قادرون عليه، وإلا فإن الذي يؤثر في المصلين وتجلب قراءته الخشوع فهو أولى، وهذا هو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز ، فإنه قال: إذا كان إمام حسن الصوت وإمام أكثر قرآناً لكن ليس حسن الصوت، فيقدم حسن الصوت؛ لأن قراءته أكثر تأثيراً، وما رفع الصوت وجهر بالقراءة إلا لأجل أن يستمع المأموم قراءة إمامه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

لكن مع ذلك ليس معناه أن يكون هو الأقرأ إذا كان لا يحسن الصلاة، مثل أن يكون حديث عهد بإسلام، أو حفظه والده القرآن أو دخل في الكتاتيب لكنه لا يحسن الصلاة وأحكامها، فإن الأصل أنه يدرك أحكام الصلاة، بحيث يعرف حكم ما لو ترك واجباً أو ترك ركناً وغير ذلك، فهذا هو أولى بالإمامة ممن يقرأ وليس عنده من فقه الصلاة شيء والله أعلم.

لأن الاهتمام بأركان الصلاة وأحكامها مع المأموم أولى من الاهتمام بالقراءة مع إخلال بالأركان؛ لأن القراءة غايتها أنها مشروعة أو ركن في الفاتحة! أليس كذلك؟

الشيخ: إذاً: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، وهو الفقيه، فإن الفقيه أولى بذلك، وهذا يدلك على أن الفقيه الذي يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وآثار السلف هو أولى من الذي يحفظ المتون ولا يفقه الأدلة؛ لأن بعض الناس يحفظ الزاد أو يحفظ مختصر خليل أو يحفظ اللباب أو يحفظ المنهاج، أو يحفظ مختصر القدوري ، لكنه ليس عنده اهتمام بالأدلة.

وكذلك من يحفظ الأربعين النووية ولا يحفظ شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على الصلاة، فهذا لا يسمى فقهاً، فلا بد إذاً أن يحفظ المسائل المبنية على الدليل، ولو لم يحفظ الدليل، فهذا عمل بالسنة وإن لم يحفظ السنة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة): وقد انقطعت الهجرة، لكن قال بعض أهل العلم: فالأولى بالإمامة أقربهم هداية، يعني: مثل شخص اهتدى منذ عشر سنوات، وشخص اهتدى قبل ثلاث سنوات، فيقدم من اهتدى قبل عشر سنوات.

فإن كانوا في الهداية سواء فأقدمهم سناً، أي: أكبرهم عمراً، وهذا يدل على أن الكبير لا يقدم مطلقاً، على خلاف السائد عندنا حيث إن الكبير يقدم في كل شيء، يقدم في الحديث، وفي العلم وغيره وهذا خطأ، والصواب: أن يقدم الأعلم ولو كان هناك من هو أكبر منه سناً.

ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقدم ابن عباس بين شيوخ بدر وكبرائهم حتى ضاق ذلك على بعض الناس فقال عمر : إني أعلم ما لا تعلمون، ثم أدركهم عمر وهم مجتمعون فسألهم عن مسألة فلم يجيبوا وقالوا: الله أعلم، فقال: ومن يعلم إذا لم يعلم ربي! ما تقول فيها يا ابن عباس ؟ وكان فتى! فقال: لا أتقدم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قل، قال: يا أمير المؤمنين! .. ثم ذكر سورة النصر، فضحك عمر وقال: والله ما أعلم إلا كما قلت، ثم التفت إليهم وقال: أتلومونني في تقديم ابن عباس أو كما قال رضي الله عنه.

ولهذا حينما جاء وفد إلى عمر بن عبد العزيز وكان فيهم فتى، فلما أراد أن يتحدث فكأن عمر بن عبد العزيز استكثر ذلك منه فقال: ليتقدم من هو أكبر منك سناً يا فتى! فقال: يا أمير المؤمنين! لو كان الشأن بالسن لكان أولى بالخلافة من هو أكبر منك سناً، فضحك عمر وقال: تكلم، قال: فتكلم فأعجب عمر بمنطقه، وهذا يدل على أنه لا يقدم بالسن على إطلاقه، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث ابن عمر: ( فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، كبر )، فإذا كان ذلك ليس من باب العبادة والتعبد لله، ولكن من باب أمور الناس في الدنيا فيقدم الكبير، وأما إذا كان ذلك للعلم والدين فإنما يقدم المرء على حسب علمه ودينه وفقهه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

ولهذا لما أراد حويصة أن يتكلم في أمر القسامة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( كبر، كبر، فتكلم أخوه محيصة )، كما في صحيح مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات - الطهارة [4] 2585 استماع
فقه العبادات - الطهارة [17] 2562 استماع
فقه العبادات - الطهارة [5] 2440 استماع
فقه العبادات - الطهارة [15] 2390 استماع
فقه العبادات - الصلاة [9] 2349 استماع
فقه العبادات - الصلاة [11] 2240 استماع
فقه العبادات - الصلاة [16] 2238 استماع
فقه العبادات - الطهارة [7] 2186 استماع
فقه العبادات - الصلاة [14] 2113 استماع
فقه العبادات - الطهارة [14] 2094 استماع