أرشيف المقالات

الله غايتنا

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الله غايتنا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الإنسان المسلم صاحبُ غاية في الدنيا، وحول هذه الغاية كلنا ندندن؛ ولذلك تدور حياتنا كلها حول هذه الغاية، ألا وإن غايتنا هي اللهُ - سبحانه وتعالى - والجنة، ورؤية الله تعالى؛ فتلك الحسنى والزيادة التي وعدنا الله بها؛ ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26].
 
والتربية الربانية في ظلال هذه الغاية هي تربية تُشعِر المسلمَ بالتقصير في جنب الله - عز وجل - فحينما يوجد التقصير يجب أن نفتِّشَ عن القصور في الجانب الإيماني والتعبُّدي خلال حركتنا في الحياة؛ فهو رمانة الميزان الذي إذا ضُبط، ضبط كلُّ شيء في حياتنا.
 
وهذه الغاية لها زاد؛ فزادها كلُّ عمل تعمله بصدقٍ تبتغي به وجه الله - عز وجل - وليكن بينك وبين الله خبيئةٌ من عمل صالح يُدَّخر لك عند الله؛ فهذا زين العابدين علي بن الحسين كان يتصدق على مائةٍ من فقراء المدينة، وكان يحمل الدقيق والمِيرة على كتفه - رحمه الله تعالى - وكان له كيس نقود يلقيه في صحون الدور، حتى إذا توفِّي وجدوا علاماتِ حمل الدقيق في ظهره، وافتقدوا فعله وصدقته، فعرفوا أنه هو صاحبُ الكيس والدقيق، هكذا يجب أن تكون لنا مع الله خبيئة، ولكن ما هي؟
 
وفي ظلال الغاية، وفي الطريق إلى الله يحدث تداخل بين الأهداف والغايات، فنقول: هل هذا العمل لله أم لغرض دنيوي؟

ولكن يحسمه أن نجعل الله - عز وجل - نصب أعيننا، وننقِّي نيّاتنا من أي دخَل، كما كان يعمل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون؛ فكان أحدهم يقف عند كل عمل في بدايته، فإذا كان لله مضى، وإن كان فيه عرض دنيوي وقف وصفَّى نيتَه، ثم انطلق للعمل، وكانت معالجةُ النية أشدَّ عليهم من العمل نفسه، وهو جهاد النفس والهوى والشيطان، وفي الأثر بعد عودة المسلمين من غزوة مؤتة: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".

والقدوة في طريق الغاية لها أثرٌ ما بعده أثر؛ فلقد ورد في تفسير الحديث القدسي: ((من عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطِش بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه))؛ أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأحمد في مسنده من حديث عائشة - رضي الله عنها - ورد في تفسير النافلة للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - أن النافلة هي كلُّ ما يميز المسلم عن غيره في تخصصه، وليست النافلة في الصلاة والزكاة وغيرها فقط؛ فالقدوة هي طريق التأثير في المدعوين من أصحاب الدعوات؛ فلقد قيل: إن عمَل رجُل في ألف رجُلٍ، خيرٌ من قول ألف رجُل في رجل، ولقد توعَّد الله من يخالف قوله فعله في سورة الصف: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 2 - 4]؛ فالقدوة هي سلاح التأثير في طريق الدعوة، وكذلك هناك سلاح آخر، ألا وهو امتلاء القلب بالعقيدة، وامتلاء القلب بالعقيدة يختصر الزمن؛ فصاحب القلب المملوء بالعقيدة ينطلق في دعوته على أساس، ويدعو على أساس، ومن كان هذا حالَه، فإن الله يفتح له قلوبًا غُلفًا، وآذانًا صمًّا، وأعينًا عُميًا؛ ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

ويعوَّل على صاحب القلب المملوء بالعقيدة تصحيحُ المفاهيم المغلوطة، ولا يأتي ذلك إلا من صاحب الغاية الذي فهِم الإسلام فهمًا وسطيًّا صحيحًا، وكان الله هو غايتَه وحده، وكان في وسط الناس كالمنارة، يهتدي به الناس من ضلالة، وكالبستان يَفِيء إليه السائرون في الصحراء من الهجير، ومعه إخوة يسيرون على هذا الطريق لا يفتُرون، وثابتون على الطريق، برغم ما فيه من التَّعبِ والنَّصب، لا يألُون جُهدًا في هداية الناس وإرشادِهم للطريق الحقِّ، يعتصمون بالله، ويُخلصون دينَهم لله، ويتخذون العمل والدعاء أسلحةً للنصر واستمطار عون الله.

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فأول ما يقضي عليه اجتهادُه

 
فهم يعملون ويأخذون بالأسباب، ثم يَبْرَؤُون مِن حَوْلِهم وقوَّتِهم، ويعتصمون بالله، ويلجؤون إلى حَوْله وطَوْله وقوَّته، وهذه كلها تحت ظلال: الله غايتنا، وكلها تصبُّ في مقوِّمات نصر الله - عز وجل - للمؤمنين.

وصلى اللهُ على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢