خطب ومحاضرات
فقه العبادات - الصلاة [21]
الحلقة مفرغة
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, اللهم انفعنا بما عملتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخوتي المشاهدين والمشاهدات. حياكم اله جميعاً وأسعد الله مساءكم أيها الإخوة! الذين معنا في الأستديو، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً نافعاً، وأن يجعلنا ممن يحافظون على الوتر؛ لأننا في باب صلاة التطوع.
أيها الإخوة! ذكرنا في فيما مضى حكم صلاة الوتر, وكذلك ذكرنا كم مقدار الوتر من حيث الكمال, ووقفنا على حكم ما لو صلى الوتر ثلاث ركعات مثل صلاة المغرب, وقلنا: استحب ذلك الحنفية وكره ذلك الحنابلة؛ بناء على حديث أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أوتروا بثلاث, أوتروا بخمس، أو سبع, ولا تشبهوا بالمغرب ), وهذا الحديث بينا أنه ضعيف, والصحيح وقفه على أبي هريرة .
وقد جاء عن ابن مسعود ما يبين أنه كان يصلي الوتر على هيئة صلاة المغرب, وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أن الأفضل أن يفصلها بسلامين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عمر , واللفظ لفظ مسلم : ( إذا صلى أحدكم من الليل فليصل ركعتين ركعتين, فإذا خشي الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى ), وفي اللفظ الآخر المتفق عليه: ( صلاة الليل مثنى مثنى ).
ما يستحب أن يقرأ في صلاة الوتر
ذكر جماهير أهل العلم أنه يستحب للإنسان أن يقرأ في الشفع والوتر -والتي هي ثلاث ركعات- بـ(سبح اسم ربك الأعلى) في الأولى, ثم الركعة الثانية بـ(قل يا أيها الكافرون), ثم الركعة الثالثة بـ(قل هو الله أحد), واستدلوا بما رواه الإمام أحمد و أبو داود و البيهقي و الدارقطني وغيرهم, من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يوتر بـ(سبح اسم ربك الأعلى), و(قل يا أيها الكافرون), و(قل هو الله أحد) ), الحديث وفيه: ( وكان يقنت قبل الركوع ), قال الإمام أحمد : زيادة: (قبل الركوع) ضعيفة, وقال ذلك أيضاً الإمام أبو داود ، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: الأحاديث المرفوعة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت قبل الركوع كلها معلولة, وعلى هذا فإن هذه الزيادة منكرة.
وقد روى الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يقرأ في ركعة الوتر بـ(قل هو الله أحد), و(قل أعوذ برب الفلق), و(قل أعوذ برب الناس) ), وهذا الحديث لا يصح, وقد ضعف الحديث الإمام أحمد و يحيى بن معين كما روى ذلك الترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث خصيف بن عبد الرحمن , وخصيف بن عبد الرحمن روايته ضعيفة, وكذلك والد ابن جريج فإنه أيضاً فيه نكارة.
وعلى هذا فالصحيح أنه لا يقرأ في أخيرة الوتر الإخلاص والمعوذتين، بل الإخلاص فقط.
القنوت في الوتر
اختلف العلماء في هذه المسألة, فذهب عبد الله بن مسعود إلى أنه يستحب للإنسان أن يقنت في كل السنة, وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة, فقالوا: يستحب للإنسان أن يقنت كل ليلة.
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب مالك و الشافعي اللذين قالا: إن الأفضل أن يقنت بعد النصف من رمضان، كما روي ذلك عن عمر , والحديث الوارد عن عمر تكلم فيه, وإنما هو فعل فعله الصحابة, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أننا نقول: إنه لم يصح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر, فكل حديث جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للوتر فإنه حديث ضعيف.
وأما ما جاء عند الخمسة -وهم أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و أحمد- من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وبك منك لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك ), فهذا الحديث إسناده جيد, غير أنه لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في قنوت الوتر, وثمة فرق بين القنوت في الوتر وبين الوتر نفسه, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر, لكنه يقوله في آخر وتره, فلعله كان يقوله في سجوده، وهذا ثابت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها فإنها قالت: ( افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، قالت: فوضعت يدي فوقعت على باطن قدميه وهما منصوبتان في المسجد يدعو، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وبك منك لا نحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك ), فدل ذلك على أن رواية مسلم فيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الدعاء وهو ساجد, ولهذا قال: (في آخر وتره) ولم يقل: في قنوته, وفرق بين الوتر وبين القنوت, فربما قنت الإنسان من غير وتر, كما في قنوته صلى الله عليه وسلم في النازلة, ولربما أوتر من غير قنوت وعلى هذا فحديث علي ليس فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في قنوت الوتر.
الثاني: أن الراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً من أصحابه أن يقنت في الوتر.
وأما ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود و الترمذي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات يقولهن في قنوت الوتر: ( اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت, وتولني فيمن توليت, وبارك لي فيما أعطيت, وقني برحمتك واصرف عني شر ما قضيت, فإنك تقضي ولا يقضى عليك, إنه لا يذل من واليت ).
وزاد النسائي و البيهقي : ( ولا يعز من عاديت, اللهم صل على محمد ), وهذه الرواية منكرة؛ لأنها ليست من طريق بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن , وإنما هي من طريق آخر, وهي طريق علي بن عبد الله بن الحسين عن الحسن ، ولم يسمع من جده الحسن بن علي بن أبي طالب .
إذا ثبت هذا فإن هذا الحديث استدل به بعض أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي الدعاء في قنوت الوتر، وهذا الحديث قال عنه غير واحد من أهل العلم: إنه مما انتقد على البخاري و مسلم لماذا لم يذكراه في صحيحهما, فإن الإسناد فيه صحيح, كذا قال الدارقطني وغيره, قال ابن دقيق العيد : إن هذا الحديث مما ألزم البخاري و مسلم أن يذكراه في الصحيح, بيد أن الأئمة الحفاظ كـابن خزيمة و ابن حبان ذكرا أن في الحديث زيادة، وهي قوله: (علمه دعاء يقول به في قنوت الوتر), وهذه زيادة منكرة, وذلك أن أبا إسحاق السبيعي وهو عمرو بن عبد الله روايته في هذا الحديث منكرة, فقد تابعه على ذلك شعبة , يقول ابن حبان وشعبة أفضل من مائتي أبي إسحاق ، يعني بذلك أن شعبة كان حافظاً لا يخطئ في متون الحديث، وإن كان يخطئ في أسماء الرجال, فـشعبة أفضل من مائتي أبي إسحاق ؛ لأن أبا إسحاق السبيعي بدأ في آخر عمره يهم؛ ولهذا يقولون: يهم بآخره, يعني: بآخر عمره, فإن شعبة روى الحديث عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء أنه قال: قلت لـالحسن : ماذا عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ( عقلت عنه تمرة أخرجها من فيِّ بلعابها فجعلها من تمر الصدقة, وعلمني كلمات أقولهن: اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت ).
وهذا يدل على أنه علمه كلمات يقولها، وليس فيه ما يدل على أنها في القنوت.
قال ابن حبان : وكيف يعلمه دعاء يقوله في القنوت وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره؟ فإن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي والحسن بن علي عمره ثمان سنين, فكيف يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء؟
ولهذا فالذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن زيادة: ( في قنوت الوتر ) منكرة.
وعلى هذا فنقول: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً من أصحابه أن يقنت.
وقت قنوت الوتر من العام
وإن قنت بعض الأحيان فقد أحسن, فقد روى ابن أبي شيبة : (أن ابن عباس رضي الله عنه كان يقنت في الوتر ويقول: اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض, وملء ما بينهما, وملء ما شئت من شيء بعد).
وإن قنت في رمضان فقد أحسن, فقد فعل ذلك الصحابة.
وإن قنت وسط رمضان فقد أحسن فقد فعل ذلك الصحابة.
وإن لم يقنت ألبتة فقد أحسن, فإن هذا هو الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا لا ينبغي أن يعنف أحد على أحد، فكلاهما على خير, قال الله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90], فنحن نقتدي بالصحابة, فمن قنت كل السنة فقد أحسن, ومن لم يقنت كل السنة فقد أحسن, ومن قنت بعض السنة فقد أحسن, ومن قنت في رمضان فقد أحسن, ومن قنت في وسط رمضان فقد أحسن, هذا هو الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولهذا نقول: لم يثبت في ذلك سنة أنه يقنت أو لا يقنت, ويفعل أو لا يفعل, فكل ذلك حسن، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
قنوت الوتر بعد الركوع وحكم القنوت قبله
نقول: اختلف في ذلك أهل العلم؛ فذهب أحمد رحمه الله وهو مذهب الشافعي إلى أنه يستحب للإنسان أن يقنت بعد الركوع, قال الإمام أحمد : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع في الفجر- يعني في النازلة- والقياس عليه, يعني أن كل من أراد أن يقنت فإنه يقنت بعد الركوع.
وأقول: لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه قنت قبل الركوع, فقد ضعف الإمام أحمد حديث أبي بن كعب في ذلك، وكذلك الإمام أبو داود ، قال الخطيب البغدادي رحمه الله: الأحاديث المرفوعة في أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع كلها معلولة.
فالذي يظهر أن الأفضل أن يقنت الإنسان بعد الركوع, قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين: ( قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر شهراً، يقنت بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله ), وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قنت بعد الركوع.
لكن إن قنت قبل الركوع فما حكمه؟
الجواب: إن قنت قبل الركوع فإنه جائز, فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قنت قبل الركوع كما روى أبو داود من حديث ابن عباس ، وكما رواه ابن أبي شيبة وغيره.
وكذلك صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقنت قبل الركوع.
فإن قنت قبل الركوع فقد فعل ذلك الصحابة, وإن قنت بعد الركوع فهو أفضل, وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله؛ وذلك لأن القيام قبل الركوع الأفضل فيه أن يذكر الله تعالى بأفضل الذكر، وهو القرآن، وأما بعد الركوع فإنما يناسب ذلك ثناء العبد على ربه ودعائه له, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعد الرفع من الركوع وإن لم يقنت, قال عبد الله بن أبي أوفى كما عند مسلم : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض, وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد, أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد, وكلنا لك عبد, لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ), وهذا ثابت في الصحيح.
والراجح أنه يقولها بعد الركوع كما هو الظاهر من الروايات, فإن بعض الروايات فيها بعد الركوع, وبعض الروايات ليس فيها بعد الركوع, وقد ذكرها كلها ابن تيمية رحمه الله كلها في كتابه (الكلم الطيب)، وأنها كلها تقال بعد الركوع.
إذا ثبت هذا -أيها الإخوة- فإن السنة أن يقنت بعد الركوع, وكما قلت لكم: إن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت قبل الركوع كلها معلولة.
الشيخ: والآن سوف نتحدث عن بعض المسائل التي تتعلق بصلاة الليل, وأول هذه المسائل هي مسألة: ما يستحب للإنسان أن يقرأ في صلاة الوتر؟
ذكر جماهير أهل العلم أنه يستحب للإنسان أن يقرأ في الشفع والوتر -والتي هي ثلاث ركعات- بـ(سبح اسم ربك الأعلى) في الأولى, ثم الركعة الثانية بـ(قل يا أيها الكافرون), ثم الركعة الثالثة بـ(قل هو الله أحد), واستدلوا بما رواه الإمام أحمد و أبو داود و البيهقي و الدارقطني وغيرهم, من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يوتر بـ(سبح اسم ربك الأعلى), و(قل يا أيها الكافرون), و(قل هو الله أحد) ), الحديث وفيه: ( وكان يقنت قبل الركوع ), قال الإمام أحمد : زيادة: (قبل الركوع) ضعيفة, وقال ذلك أيضاً الإمام أبو داود ، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: الأحاديث المرفوعة الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت قبل الركوع كلها معلولة, وعلى هذا فإن هذه الزيادة منكرة.
وقد روى الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يقرأ في ركعة الوتر بـ(قل هو الله أحد), و(قل أعوذ برب الفلق), و(قل أعوذ برب الناس) ), وهذا الحديث لا يصح, وقد ضعف الحديث الإمام أحمد و يحيى بن معين كما روى ذلك الترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث خصيف بن عبد الرحمن , وخصيف بن عبد الرحمن روايته ضعيفة, وكذلك والد ابن جريج فإنه أيضاً فيه نكارة.
وعلى هذا فالصحيح أنه لا يقرأ في أخيرة الوتر الإخلاص والمعوذتين، بل الإخلاص فقط.
الشيخ: المسالة الثانية: هل يستحب القنوت في الوتر أم لا؟ وهل يستحب في كل يوم من السنة أم هو مخصوص بالنصف الأوسط من رمضان؟
اختلف العلماء في هذه المسألة, فذهب عبد الله بن مسعود إلى أنه يستحب للإنسان أن يقنت في كل السنة, وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة, فقالوا: يستحب للإنسان أن يقنت كل ليلة.
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب مالك و الشافعي اللذين قالا: إن الأفضل أن يقنت بعد النصف من رمضان، كما روي ذلك عن عمر , والحديث الوارد عن عمر تكلم فيه, وإنما هو فعل فعله الصحابة, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أننا نقول: إنه لم يصح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر, فكل حديث جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للوتر فإنه حديث ضعيف.
وأما ما جاء عند الخمسة -وهم أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و أحمد- من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وبك منك لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك ), فهذا الحديث إسناده جيد, غير أنه لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في قنوت الوتر, وثمة فرق بين القنوت في الوتر وبين الوتر نفسه, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر, لكنه يقوله في آخر وتره, فلعله كان يقوله في سجوده، وهذا ثابت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها فإنها قالت: ( افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، قالت: فوضعت يدي فوقعت على باطن قدميه وهما منصوبتان في المسجد يدعو، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وبك منك لا نحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك ), فدل ذلك على أن رواية مسلم فيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الدعاء وهو ساجد, ولهذا قال: (في آخر وتره) ولم يقل: في قنوته, وفرق بين الوتر وبين القنوت, فربما قنت الإنسان من غير وتر, كما في قنوته صلى الله عليه وسلم في النازلة, ولربما أوتر من غير قنوت وعلى هذا فحديث علي ليس فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله في قنوت الوتر.
الثاني: أن الراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً من أصحابه أن يقنت في الوتر.
وأما ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود و الترمذي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات يقولهن في قنوت الوتر: ( اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت, وتولني فيمن توليت, وبارك لي فيما أعطيت, وقني برحمتك واصرف عني شر ما قضيت, فإنك تقضي ولا يقضى عليك, إنه لا يذل من واليت ).
وزاد النسائي و البيهقي : ( ولا يعز من عاديت, اللهم صل على محمد ), وهذه الرواية منكرة؛ لأنها ليست من طريق بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن , وإنما هي من طريق آخر, وهي طريق علي بن عبد الله بن الحسين عن الحسن ، ولم يسمع من جده الحسن بن علي بن أبي طالب .
إذا ثبت هذا فإن هذا الحديث استدل به بعض أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي الدعاء في قنوت الوتر، وهذا الحديث قال عنه غير واحد من أهل العلم: إنه مما انتقد على البخاري و مسلم لماذا لم يذكراه في صحيحهما, فإن الإسناد فيه صحيح, كذا قال الدارقطني وغيره, قال ابن دقيق العيد : إن هذا الحديث مما ألزم البخاري و مسلم أن يذكراه في الصحيح, بيد أن الأئمة الحفاظ كـابن خزيمة و ابن حبان ذكرا أن في الحديث زيادة، وهي قوله: (علمه دعاء يقول به في قنوت الوتر), وهذه زيادة منكرة, وذلك أن أبا إسحاق السبيعي وهو عمرو بن عبد الله روايته في هذا الحديث منكرة, فقد تابعه على ذلك شعبة , يقول ابن حبان وشعبة أفضل من مائتي أبي إسحاق ، يعني بذلك أن شعبة كان حافظاً لا يخطئ في متون الحديث، وإن كان يخطئ في أسماء الرجال, فـشعبة أفضل من مائتي أبي إسحاق ؛ لأن أبا إسحاق السبيعي بدأ في آخر عمره يهم؛ ولهذا يقولون: يهم بآخره, يعني: بآخر عمره, فإن شعبة روى الحديث عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء أنه قال: قلت لـالحسن : ماذا عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ( عقلت عنه تمرة أخرجها من فيِّ بلعابها فجعلها من تمر الصدقة, وعلمني كلمات أقولهن: اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت ).
وهذا يدل على أنه علمه كلمات يقولها، وليس فيه ما يدل على أنها في القنوت.
قال ابن حبان : وكيف يعلمه دعاء يقوله في القنوت وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره؟ فإن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي والحسن بن علي عمره ثمان سنين, فكيف يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء؟
ولهذا فالذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن زيادة: ( في قنوت الوتر ) منكرة.
وعلى هذا فنقول: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً من أصحابه أن يقنت.
الشيخ: إذا ثبت هذا فإننا نقول: إن قنت كل السنة فقد أحسن, فقد فعل الصحابة ذلك, كـابن مسعود وغيره.
وإن قنت بعض الأحيان فقد أحسن, فقد روى ابن أبي شيبة : (أن ابن عباس رضي الله عنه كان يقنت في الوتر ويقول: اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض, وملء ما بينهما, وملء ما شئت من شيء بعد).
وإن قنت في رمضان فقد أحسن, فقد فعل ذلك الصحابة.
وإن قنت وسط رمضان فقد أحسن فقد فعل ذلك الصحابة.
وإن لم يقنت ألبتة فقد أحسن, فإن هذا هو الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا لا ينبغي أن يعنف أحد على أحد، فكلاهما على خير, قال الله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90], فنحن نقتدي بالصحابة, فمن قنت كل السنة فقد أحسن, ومن لم يقنت كل السنة فقد أحسن, ومن قنت بعض السنة فقد أحسن, ومن قنت في رمضان فقد أحسن, ومن قنت في وسط رمضان فقد أحسن, هذا هو الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولهذا نقول: لم يثبت في ذلك سنة أنه يقنت أو لا يقنت, ويفعل أو لا يفعل, فكل ذلك حسن، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الشيخ: المسألة الثالثة: هل السنة أن يقنت قبل الركوع أو يقنت بعد الركوع؟
نقول: اختلف في ذلك أهل العلم؛ فذهب أحمد رحمه الله وهو مذهب الشافعي إلى أنه يستحب للإنسان أن يقنت بعد الركوع, قال الإمام أحمد : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع في الفجر- يعني في النازلة- والقياس عليه, يعني أن كل من أراد أن يقنت فإنه يقنت بعد الركوع.
وأقول: لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه قنت قبل الركوع, فقد ضعف الإمام أحمد حديث أبي بن كعب في ذلك، وكذلك الإمام أبو داود ، قال الخطيب البغدادي رحمه الله: الأحاديث المرفوعة في أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع كلها معلولة.
فالذي يظهر أن الأفضل أن يقنت الإنسان بعد الركوع, قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين: ( قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر شهراً، يقنت بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله ), وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قنت بعد الركوع.
لكن إن قنت قبل الركوع فما حكمه؟
الجواب: إن قنت قبل الركوع فإنه جائز, فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قنت قبل الركوع كما روى أبو داود من حديث ابن عباس ، وكما رواه ابن أبي شيبة وغيره.
وكذلك صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقنت قبل الركوع.
فإن قنت قبل الركوع فقد فعل ذلك الصحابة, وإن قنت بعد الركوع فهو أفضل, وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله؛ وذلك لأن القيام قبل الركوع الأفضل فيه أن يذكر الله تعالى بأفضل الذكر، وهو القرآن، وأما بعد الركوع فإنما يناسب ذلك ثناء العبد على ربه ودعائه له, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعد الرفع من الركوع وإن لم يقنت, قال عبد الله بن أبي أوفى كما عند مسلم : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض, وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد, أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد, وكلنا لك عبد, لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ), وهذا ثابت في الصحيح.
والراجح أنه يقولها بعد الركوع كما هو الظاهر من الروايات, فإن بعض الروايات فيها بعد الركوع, وبعض الروايات ليس فيها بعد الركوع, وقد ذكرها كلها ابن تيمية رحمه الله كلها في كتابه (الكلم الطيب)، وأنها كلها تقال بعد الركوع.
إذا ثبت هذا -أيها الإخوة- فإن السنة أن يقنت بعد الركوع, وكما قلت لكم: إن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت قبل الركوع كلها معلولة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
فقه العبادات - الطهارة [4] | 2579 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [17] | 2560 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [5] | 2437 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [15] | 2388 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [9] | 2347 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [11] | 2237 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [16] | 2234 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [7] | 2184 استماع |
فقه العبادات - الصلاة [14] | 2111 استماع |
فقه العبادات - الطهارة [14] | 2089 استماع |