شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الحافظ رحمه الله تعالى في كتابه الصحيح قال:

كتاب الوضوء

مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنقل العدل عن العدل، موصولاً إليه صلى الله عليه وسلم من غير قطع في أثناء الإسناد، ولا جرح في ناقلي الأخبار التي نذكرها بمشيئة الله تعالى ].

هذا هي طريقته رحمه الله؛ لأنه لم يذكر خطبة هنا، لكنه ذكر من هذا المختصر من المختصر، فهو اختصر الصحيح، فجمع أحاديث كثيرة، ثم اختصرها في أحاديث، ثم اختصر هذا المختصر، فاسمه مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسماه المسند الصحيح أي: الحديث مسنده صحيح.

وقوله: [ بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه صلى الله عليه وسلم من غير قطع في أثناء الإسناد ] أي: ليس فيه إرسال ولا انقطاع.

وقوله: [ ولا جرح في ناقلي الأخبار ] أي: لا يكون الراوي لها مجروحاً.

وقد ذكر المقدم محمد مصطفى الأعظمي مقدمة طويلة منها: أنه لم يرد في قائمة مؤلفاته التي سبقت ذكر لصحيح ابن خزيمة ، إذ لم يشر إليه ابن خزيمة في كتاب التوحيد، رغم مكانة هذا الكتاب بين مؤلفاته، فما هو السر؟!

في الواقع أن ابن خزيمة لم يسم كتابه باسم الصحيح، كما أن ابن حبان لم يسم كتابه صحيح ابن حبان ، بل إن البخاري نفسه لم يسم كتابه بصحيح البخاري ، بل سماه الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، وسمى ابن حبان كتابه بالمسند الصحيح على التقاسيم والأنواع، وكذلك سمى ابن خزيمة كتابه بمختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الكتب اشتهرت مؤخراً باسم الصحيح، ولم أجد أحداً من المتقدمين سمى كتاب ابن خزيمة باسم الصحيح، قال الخليلي في الإرشاد: وآخر من روى عنه -أي عن ابن خزيمة - بنيسابور سبطه محمد بن الفضل ، روى عنه مختصر المختصر وغيره. وقال البيهقي في السنن الكبرى: رواه محمد بن خزيمة في مختصر المختصر، وبهذا الاسم ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، فقال: وقد سمعنا مختصر المختصر له عالياً، أما الخطيب البغدادي فلم يسم لنا اسم الكتاب، ولكنه ذكر في معرض ما حقه التقديم في السماع، فقال: أحقها بالتقديم: كتاب الجامع والمسند في الصحيحين لـمحمد بن إسماعيل ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري ، وكتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الذي يشترط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده بنقل العدل عن العدل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هذا كلام الخطيب البغدادي . وذكر ابن الصلاح هذا الكتاب فيمن اشترط جمع الصحيح في كتبه، وقال: ككتاب ابن خزيمة ، ولكنه في وقت متأخر نسبياً بدأ يشتهر الكتاب باسم: صحيح ابن خزيمة ، ويستعمل المنذري المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة في كتابه الترغيب والترهيب اسم الصحيح، فيقول ورواه ابن خزيمة في صحيحه نحو هذا وكذلك في أماكن أخرى من هذا الكتاب، ويقول الدمياطي : إن كتاب صحيح ابن خزيمة لم يقع له منه إلا ربعه الأول، وقال التركماني : ولهذا أخرج أبو بكر بن خزيمة في صحيحه، ويسميه الزيلعي في نصب الراية باسم: صحيح ابن خزيمة ، وبهذا الاسم ذكره ابن حجر والسيوطي وابن فهد والآخرون، لكن الكتاب الذي اشتهر على ألسنة العلماء والمحدثين باسم: صحيح ابن خزيمة ، يبدو أن مؤلفه سماه بمختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

لا ندري بالتحقيق من الذين رووا هذا الكتاب من مؤلفه ابن خزيمة ، ولكنه يبدو أن الكتاب قد انتشر براوية حفيده أبي طاهر محمد بن الفضل ، وهو آخر من روى عن ابن خزيمة بنيسابور ، كما مر قول الخليلي من قبل، ويمكننا أن نضيف إلى كلامه بأن حفيده ربما كان أصغر من روى عنه بنيسابور، وبما أن المحدثين أصبحوا مغرمين بالأسانيد العالية في القرن الرابع وما بعده، لذلك انتشرت رواية هذا الكتاب من طريق حفيد المؤلف دون غيره من قدماء تلاميذ ابن خزيمة . ويفهم من ثبت الشيخ عبد القادر المسمى بإتحاف الأكابر بمروريات الشيخ عبد القادر أنه يروي صحيح ابن خزيمة من طريق زاهر بن طاهر ، قال: أخبرنا بقطع منه متوالية ملفقة أبو سعيد الكنجدروذي وأبو سعد المقري ومحمد بن محمد بن عيسى الوراق وأبو المظفر القشيري وأبو القاسم الغازي بسماع الجميع للمقروء عليهم على أبي طاهر محمد بن الفضل بن الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: أخبرني جدي الحافظ أبو بكر بن خزيمة .

ويروي ابن عساكر من طريق أبي القاسم الشحامي زاهر بن طاهر عن أبي سعيد عن أبي طاهر محمد بن الفضل عن جد ابن خزيمة ، أما الذهبي فقال في ترجمة ابن خزيمة في سير أعلام النبلاء: وقد سمعنا مختصر المختصر له عالياً، ثم روى من طريق زاهر المستملي قال: أنبأنا أبو سعد أحمد بن إبراهيم المقري قال: أنبأنا محمد بن الفضل بن خزيمة قال: أنبأنا جدي.

وعلى هذا يمكن القول بأنه روى صحيح ابن خزيمة عن أبي طاهر محمد بن الفضل عدة أشخاص منهم: أبو سعيد الكنجدروذي ، وثانياً: أبو سعد المقري ، وثالثاً: محمد بن محمد بن عيسى الوراق ، ورابعاً: أبو المظفر القشيري ، وخامساً: أبو القاسم الغازي ، وسادساً: إسماعيل الصابوني راوي هذه النسخة ].

تكلم المقدم محمد الأعظمي عن المسند الكبير لـابن خزيمة وقال: رأينا أن ابن خزيمة أشار إلى كتابه الكبير في كتاب التوحيد، وكذلك ذكره مراراً بهذا المختصر أيضاً. وهنا ينشأ سؤال آخر: هل ألف ابن خزيمة المسند الكبير أولاً ثم اختصر منه هذا الصحيح، أو كان المسند الكبير في شكل المسودات؟ كان يزيد فيه أشياء ويحذف منه، ثم اختصر منه هذا المختصر؟

يستعمل ابن خزيمة عادة صيغة الماضي فيقول: قد خرجت وخرجته، وما شاكل ذلك من الكلمات، وهي تشير إلى أنه كان قد أكمل المسند الكبير، لكنا نجده أحياناً قد غير أسلوبه فيقول في المختصر: قد خرجت باب المشي إلى المساجد في كتاب الإمامة، ثم يقول في صفحة مائتين واثنين وستين: وسأخرج هذه الأخبار أو بعضها في كتاب الإمامة، لكنه يعود فيقول بعد قليل في صفحة مائتين وثلاث وستين: قد خرجت طرق هذا الخبر في كتاب الإمامة، ويذكر بعد ذلك في صفحة مائتين وست وسبعين فيقول: قد بينت في كتاب الإمامة، علماً بأن كتاب الإمامة متقدم مئات الصفحات على هذه الأبواب التي وردت فيها الإشارة إلى كتاب الإمامة، بالرغم من هذا يقول مرة: قد خرجت، ويذكر مرة ثانية فيقول: سأخرج هذه الأخبار.

والآن يمكننا أن نلخص فنقول:

أولاً: إن هذا الكتاب مختصر من مسنده الكبير. أي مختصر من المختصر.

ثانياً: إن المسند الكبير لم يكن قد تم تأليفه، بل كان يضيف إليه الأشياء حسبما يتراءى له، وربما أضاف أشياء إلى المختصر لم يضفها إلى المسند الكبير ].

هذا كلام مقدم الكتاب: محمد الأعظمي ، والحقيقة أن المؤلف رحمه الله ما أضاف أشياء إلى المختصر لم يضفها إلى المسند الكبير، وإنما اختصر من المسند الكبير: المختصر، ثم اختصر المختصر، ولم يشر إلى أنه اختصر المسند الكبير من المختصر.

فالمقدم جعل هذا الكتاب هو مختصر، وظاهره أن المسند الكبير مختصر المختصر، ثم اختصره من المختصر، وهذا لم يشر إليه المؤلف رحمه الله، وهو خطأ، بل الظاهر أنه جمع المسند الكبير، ثم اختصره، ثم اختصر المختصر منه، أي: إنه مثلاً جمع المسند الكبير في ستين ألف حديث، ثم اختصر منه مثلاً ثلاثين ألف، ثم اختصر المختصر إلى عشرة آلاف، فهذا هو مختصر المختصر.

[ بسم الله الرحمن الرحيم.

أخبرنا إمام الأئمة فقيه الآفاق أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الحافظ رحمه الله قال:

كتاب الوضوء.

مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنقل العدل عن العدل، موصولاً إليه صلى الله عليه وسلم من غير قطع في أثناء الإسناد ولا جرح في ناقلي الأخبار التي نذكرها بمشيئة الله تعالى.

باب ذكر الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن إتمام الوضوء من الإسلام.

حدثنا أبو يعقوب يوسف بن واضح الهاشمي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن يحيى بن يعمر قال: قلت: -يعني لـعبد الله بن عمر - يا أبا عبد الرحمن إن أقواماً يزعمون أن ليس قدر. قال: هل عندنا منهم أحد؟ قلت: لا، قال: فأبلغهم عني إذا لقيتهم أن ابن عمر يبرأ إلى الله منكم وأنتم برآء منه.

ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس إذ جاء رجل ليس عليه سحناء سفر وليس من أهل البلد، يتخطى حتى ورد فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ].

أي أثر.

وفي رواية: (ليس عليه أثر السفر).

[ (فقال: يا محمد ! ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وأن تتم الوضوء) ].

الشاهد هنا قوله: (وأن تتم الوضوء).

وهذا فيه فائدة فهو من الأدلة على وجوب العمرة؛ لأن العمرة مختلف فيها، فقيل: إنها واجبة، وقيل: إنها ليست واجبة، وذهب شيخ الإسلام إلى أنها ليست واجبة.

ولكن هذا من الأدلة على أن العمرة واجبة، ومن الأدلة كذلك حديث عائشة : (هل على النساء جهاد؟ قال: لكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة)، فهذان دليلان على وجوب العمرة.

قال: (وتصوم رمضان، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم. قال: صدقت).

وذكر الحديث بطوله في السؤال عن الإيمان والإحسان والساعة ] وهذا الحديث أخرجه مسلم مطولاً بالترجمة.

فضل الصلاة بعد الوضوء

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر فضائل الوضوء يكون بعده صلاة مكتوبة.

حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، وحدثنا محمد بن العلاء بن كريب حدثنا أبو أسامة ، وحدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان كلهم عن هشام بن عروة حدثني أبي عن حمران بن أبان أنه أخبر قال: رأيت عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضأ على البلاط، فقال: (أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى)، هذا لفظ حديث يحيى بن سعيد ].

هذا الحديث إسناده صحيح، رواه الإمام أحمد من طريق يحيى بن سعيد القطان، وفيه فضل الصلاة بعد الوضوء، وأنها من أسباب المغفرة، وفي صحيح مسلم (من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه غفر له).

فضل الوضوء ثلاثاً ثلاثاً والصلاة بعده

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر فضل الوضوء ثلاثاً ثلاثاً يكون بعده صلاة تطوع لا يحدث المصلي فيها نفسه.

حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب وأخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن ابن وهب أخبرهم قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد الليثي أخبره أن حمران مولى عثمان أخبره (أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل رجله اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه)، قال ابن شهاب: وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة ].

أي: أن النبي توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وهذا فيه فضل الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وأن من توضأ كذلك كان مسبغاً للوضوء. وفيه أن صلاة ركعتين لا يحدث المرء فيهما نفسه بشيء من أسباب المغفرة للذنوب السابقة، وهذا لمن اجتنب الكبائر. والحديث أخرجه البخاري ومسلم .

والأحاديث التي أخرجها ابن خزيمة في هذا الكتاب الغالب عليها الصحة، والحسن عنده صحيح على طريقة الأقدمين؛ لأن الصحيح يشمل الحسن، وقد يخرج فيه ما هو ضعيف وهو قليل، لكنه اشترط أن ينقل عن العدل الثقة من غير قطع ولا إرسال، ولا جرح في ناقلي الأخبار، وهذا هو الغالب على كتابه رحمه الله، ومع هذا فإنه لم يصل إلى ما وصل إليه البخاري .

الوضوء سبب من أسباب حط الذنوب والخطايا

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر حط الخطايا بالوضوء من غير ذكر صلاة تكون بعده.

حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي أخبرنا ابن وهب أن مالكاً حدثه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب) ].

هذا الحديث فيه أن الوضوء من أسباب المغفرة حتى ولو لم يصل.

الحديث أخرجه مسلم ، وأظنه في البخاري بلفظ آخر.

فضل إسباغ الوضوء على المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر حط الخطايا ورفع الدرجات في الجنة بإسباغ الوضوء على المكاره، وإعطاء منتظر الصلاة بعد الصلاة أجر المرابط في سبيل الله.

حدثنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر - حدثنا العلاء -وهو ابن عبد الرحمن-، وحدثنا بشر بن معاذ العقدي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم حدثنا العلاء ، وحدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أن مالكاً حدثه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط فذلكم الرباط)، لفظاً واحداً، غير أن علي بن حجر قال: فذلكم الرباط مرة، وقال يونس في حديثه: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا)، ولم يقل: قالوا: بلى ]. أخرجه مسلم .

وفي هذا الحديث فضل عظيم، وأفضل هذه الأمور الثلاثة: إسباغ الوضوء على المكاره، أي: إبلاغ الوضوء على مشقة، حينما يكون الجو بارداً، ويكون الماء بارداً أو حاراً، بحيث يصعب على الإنسان تناوله فكل من أسبغ الوضوء على المكاره فله من هذا الفضل.

وقوله: (وكثرة الخطا إلى المساجد) أي: إن المصلي يذهب إلى المسجد البعيد وبكل خطوة يخطوها يرفعه الله بها درجة واحدة، ويحط بها عنه خطيئة.

وقوله: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة) أي: أن المصلي إذا انتظرها بقلبه، واهتم بها، جلس مثلاً بين العشاءين ينتظر الصلاة، فله هذا الفضل من تلك المرابطة، فهذا ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، وهذا عند أهل العلم لمن لم يرتكب الكبائر؛لأن الكبائر التي توعد الله عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، أو نفي الإيمان، لا بد لها من توبة. قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31]، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر).

وأما إبلاغ الوضوء فإنه قد يبلغ في مرة، وإذا توضأ ثلاثاً فهو أكمل.

مسألة: حلق اللحية معصية، أما كونه من الكبائر ففيه نظر.

آثار الوضوء علامة لأمة محمد يوم القيامة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر علامة أمة النبي صلى الله عليه وسلم الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس بآثار الوضوء يوم القيامة علامة يعرفون بها في ذلك اليوم.

حدثنا علي بن حجر السعدي حدثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر - حدثنا العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ، وحدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ، وحدثنا بندار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن العلاء ، وحدثنا أبو موسى قال: حدثني محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي أخبرنا ابن علية عن روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقبرة فسلم على أهلها، وقال: سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أو لسنا بإخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم لم يأتوا بعد. وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: وكيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل بهم دهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض. ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم فيقال: إنهم قد أحدثوا بعدك، وأقول: سحقاً سحقاً)، هذا لفظ حديث ابن علية ].

والحديث أخرجه مسلم من طريق علي بن حجر ، وفيه: دهم بهم، بالتقديم والتأخير.

والفرط: هو السابق الذي يتقدم القوم، والغرة: بياض في الوجه، والتحجيل في الأيدي والأرجل. وفيه دليل على أنه يذاد رجال عن هذا الحوض عندما ترد عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في صفات هذا الحوض: أنه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأن طوله شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الواردين عليه.

وحديث الحوض من الأحاديث المتواترة، وفيه أنه يذاد عنه قوم غيروا وبدلوا، كالأعراب الذين ارتدوا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليذادن قوم أعرفهم ويعرفوني، فأقول: ربي أصحابي) وفي اللفظ الآخر: (أصحابي.. أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم).

وهل يكون الحوض قبل الصراط أو بعد الصراط؟

فيه قولان: قيل: أنه قبل الصراط وقيل: بعد الصراط، والأرجح أنه قبل الصراط؛ لأنه من تجاوز الصراط وصل إلى الجنة.

وفي إسناد هذا الحديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي ، بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف، أبو شبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة المدني صدوق ربما وهم من الخامسة، مات سنة بضع وثلاثين، لكن الحديث حسن، فله طرق أخرى، ورواية مسلم من غير طريق العلاء بن عبد الرحمن .

ومما يدل على أن الحوض قبل الصراط أن الذين ارتدوا يذادون عنه، وذكر القرطبي أنه يمنع منه بعض أهل البدع، وبعض المشركين، وبعض الظلمة، لكن ذلك يحتاج إلى دليل.

والرسول صلى الله عليه وسلم ينادي هؤلاء؛ لأنه قبل ذلك كان يعرفهم في الدنيا: (ليردن علي قوم أعرفهم ويعرفونني فيحال بينهم وبين الحوض، فأقول: ربي أصحابي)، وتارة (صحابي)، يقولها: ثلاثاً، فيقال: (إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) وهؤلاء هم المرتدون

اجتهاد أبي هريرة في تطويل التحجيل

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب استحباب تطويل التحجيل بغسل العضدين في الوضوء إذ الحلية تبلغ مواضع الوضوء يوم القيامة بحكم النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ].

والحلية بالذهب في الدنيا ممنوعة على الرجل، أما في الآخرة فإن المؤمن يتحلى بالذهب في يديه، وتبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، أي: تصل إلى ما وصل إليه الوضوء.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا إبراهيم بن يوسف الصيرفي الكوفي حدثنا ابن إدريس عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم قال: (رأيت أبا هريرة رضي الله عنه عنه يتوضأ، فجعل يبلغ بالوضوء قريباً من إبطه، فقلت له، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلية تبلغ مواضع الطهور). ].

الصواب أن هذا اجتهاد من أبي هريرة ، وأنه لا يشرع أن يصل الوضوء إلى العضد، وإنما يتجاوز المرفق كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتوضأ حتى يشرع في العضد، وكذلك إذا غسل رجليه جاوز الكعبين وشرع في الساق، وأما أبو هريرة فقد كان هذا اجتهاداً منه، فكان يبالغ إذا غسل مرفقيه حتى يكاد يبلغ الإبط، وذلك حتى يحلى إلى حيث يبلغ الوضوء، وكان أيضاً إذا غسل رجليه شرع في الساق حتى يكاد يبلغ الركبة، وهذا اجتهاد منه، والصواب ألا يزيد على ما ورد في النص، وإنما يقتصر على أن يشرع في الساق ويشرع في العضد، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

وابن خزيمة رحمه الله يميل إلى ما ذهب إليه أبو هريرة من استحباب تطويل التحجيل ولهذا قال في الترجمة: باب استحباب تطويل التحجيل بغسل العضدين في الوضوء.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في النونية وضوء أبي هريرة ، ورجح أنه غير مشروع ولا مشهور، وأن هذا اجتهاد منه رضي الله عنه. فالسنة مقدمة على اجتهاد أبي هريرة رضي الله عنه، إذ إن الرسول لم يغسل العضدين ولا الساقين، وإنما جاء في الأحاديث الصحيحة أنه إذا غسل يديه أدار الماء على مرفقيه حتى يشرع في العضد، لا أنه غسل العضدين، وإذا غسل رجليه شرع في الساق ولم يصل إلى الركبة.

وأما قول أبي هريرة : (من استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل)، ليس فيه إطالة الغرة؛ لأن الغرة بياض في الجبهة محدود، والوجه محدود بالشعر فلا يستطيع أن يطيل الغرة، إنما يطيل التحجيل في اليدين والرجلين، لكن الغرة إطالتها محدودة.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [9] 2885 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [10] 2360 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [8] 2169 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [11] 1990 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [5] 1960 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [3] 1848 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [7] 1769 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [12] 1585 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [6] 1393 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [4] 1292 استماع