شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [8]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر خبر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إجازة الوضوء بالمد من الماء، أوهم بعض العلماء أن توقيت المد من الماء للوضوء توقيت لا يجوز الوضوء بأقل منه.

أخبرنا محمد بن بشار أخبرنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي أخبرنا شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك قال: سمعت أنساً بن مالك رضي الله عنه يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمكوك ويغتسل بخمسة مكاكي) قال أبو بكر : المكوك في هذا الخبر: المد نفسه ].

المكوك هو المد، وخمسة مكاكي، يعني: خمسة أمداد، يعني: ربما اغتسل بأكثر من خمسة أمداد، كما في حديث عائشة: (اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة بإناء يسمى: الفرق، وهو ثلاثة آصع) وليس هذا حداً كما قال ابن خزيمة بل يجوز الوضوء بأقل أو أكثر؛ لأنه ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر الدليل على أن توقيت المد من الماء للوضوء، أن الوضوء بالمد يجزئ، لا إنه لا يسع المتوضئ أن يزيد على المد أو ينقص منه؛ إذ لو لم يجزئ الزيادة على ذلك ولا النقصان منه، كان على المرء إذا أراد الوضوء أن يكيل مداً من الماء، فيتوضأ به لا يبقي منه شيئاً، وقد يرفق المتوضئ بالقليل من الماء، فيكفي بغسل أعضاء الوضوء ويخرق بالكثير فلا يكفي لغسل أعضاء الوضوء.

حدثنا هارون بن إسحاق الهمذاني من كتابه حدثنا ابن فضيل عن حصين ويزيد بن أبي زياد عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجزئ من الوضوء المد، ومن الجنابة الصاع. فقال له رجل: لا يكفينا ذلك يا جابر ؟ فقال: قد كفى من هو خير منك، وأكثر شعراً).

قال أبو بكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (يجزئ من الوضوء المد) دلالة على أن توقيت المد من الماء للوضوء أن ذلك يجزئ، لا أنه يجوز النقصان منه، ولا الزيادة فيه ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الرخصة في الوضوء بأقل من قدر المد من الماء.

أخبرنا محمد بن العلاء بن كريب الهمداني أخبرنا يحيى بن أبي زائدة عن شعبة عن ابن زيد - وهو حبيب بن زيد - عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعه) ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ذكر الدليل على أن لا توقيت في قدر الماء الذي يتوضأ به المرء، فيضيق على المتوضئ أن يزيد عليه أو ينقص منه، إذ لو كان لقدر الماء الذي يتوضأ به المرء مقداراً لا يجوز أن يزيد عليه ولا ينقص منه شيئاً، لما جاز أن يجتمع اثنان ولا جماعة على إناء واحد، فيتوضئوا منه جميعاً، والعلم محيط أنهم إذا اجتمعوا على إناء واحد يتوضئون منه، فإن بعضهم أكثر حملاً للماء من بعض.

أخبرنا محمد بن الوليد أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتوضأ من إناء واحد).

حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني أخبرنا أبو خالد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: (كنا نتوضأ رجالاً ونساءً، ونغسل أيدينا في إناء واحد، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ].

يعني: أن هذا قبل الحجاب، أو أن النساء مع محارمهن من الرجال، واستدل بهذا المؤلف رحمه الله على أنه لا توقيت للماء، فكون الرجال يتوضئون مع النساء جميعاً فإن أحدهم سيصرف أكثر من الآخر، كذلك اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة يدل على أنه ليس هناك توقيت، ومن قال: إنه لا يجوز بأكثر من المد، ولا ينقص من المد، فهذا غير صحيح.

قال: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني أخبرنا المعتمر قال: سمعت عبيد الله عن نافع عن عبد الله : (أنه أبصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون، والنساء معهم)، الرجال والنساء من إناء واحد كلهم يتطهر منه ].

هذا يدل على أنه لا توقيت، ولو كان هناك توقيت لكان بعضهم يقترف إثماً إن زاد أو نقص.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب استحباب القصد في صب الماء، وكراهية التعدي فيه، والأمر باتقاء وسوسة الماء.

أخبرنا محمد بن بشار أخبرنا أبو داود أخبرنا خارجة بن مصعب عن يونس عن الحسن عن عتي بن ضمرة السعدي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للوضوء شيطاناً يقال له: ولهان، فاتقوا وسواس الماء) ].

قال المحقق: إسناده ضعيف ينفرد به خارجة بن مصعب وهو متروك، وكان يدلس عن الكذابين.

يعني: ضعيف جداً، فكيف يأتي به المصنف في صحيحه؟! أما عتي بن ضمرة فثقة من الثالثة كما في التقريب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ جماع أبواب الأواني اللواتي يتوضأ فيهن أو يغتسل.

باب إباحة الوضوء والغسل في أواني النحاس.

أخبرنا محمد بن يحيى ومحمد بن رافع ، قال محمد بن يحيى : سمعت عبد الرزاق ، وقال ابن رافع : أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: صبوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن؛ لعلي أستريح فأعهد إلى الناس، قالت عائشة : فأجلسناه في مخضب لـحفصة من نحاس، وسكبنا عليه الماء منهن، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، ثم خرج) ].

هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه.

وفيه: بيان ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من المرض والشدة؛ لأنه قال: (صبوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن) والوكاء: هو الرباط يكون على فم القربة.

وفيه: دليل على أن الحمى تبرد بالماء كما في الحديث الآخر: (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء).

وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يصيبه ما يصيب الناس من الأمراض، وأنه يأكل ويشرب ويمرض.

وفيه: دليل على أنه ليس إلهاً، وإنما هو عبد لله سبحانه، وأن الرب والإله هو الله سبحانه وتعالى، وهو منزه لا يلحقه مرض ولا يلحقه نقص ولا عيب سبحانه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عبد ضعيف يمرض ويموت، ويأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، ولكنه عبد ورسول عليه الصلاة والسلام يطاع ويتبع، ولا يكذب عليه الصلاة والسلام.

وفيه: دليل على أن أواني النحاس والمعادن والخشب من أي نوع كان فهي طاهرة مباحة، وإذا توضأ من النحاس أو من معدن، أو من خشب، أو من الزجاج، أو من الحصى فهو جائز، إلا الذهب والفضة فلا يجوز للمسلم أن يتوضأ بأواني الذهب والفضة.

وفيه: أن السبع القرب لها مزية ولها شأن، فعدد آيات الفاتحة سبع، والسموات سبع، والأراضين سبع.

قال: [ حدثنا به محمد بن يحيى مرة قال: أخبرنا عبد الرزاق ، مرة قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة بمثله غير أنه لم يقل: (من نحاس) ولم يقل: (ثم خرج) ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب إباحة الوضوء من أواني الزجاج، ضد قول بعض المتصوفة الذي يتوهم أن اتخاذ أواني الزجاج من الإسراف؛ إذ الخزف أصلب وأبقى من الزجاج.

أخبرنا أحمد بن عبدة الضبي أخبرنا حماد -يعني ابن زيد - عن ثابت عن أنس : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بوضوء، فجيء بقدح فيه ماء أحسبه قال: قدح زجاج، فوضع أصابعه فيه، فجعل القوم يتوضئون الأول فالأول، فحزرتهم ما بين السبعين إلى الثمانين، فجعلت أنظر إلى الماء كأنه ينبع من بين أصابعه) قال أبو بكر : روى هذا الخبر غير واحد عن حماد بن زيد فقالوا: (رحراح) مكان الزجاج بلا شك ].

هذا من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما.

وفيه: علم من أعلام النبوة، حيث نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وتوضئوا وشربوا، وكانوا يقاربون السبعين والثمانين رجلاً، وملئوا كل إناء معهم.

وفيه: دليل على قدرة الله العظيمة، وأن الله لا يعجزه شيء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

وفيه: دليل على أنه لا بأس بالوضوء من إناء الزجاج، وأنه لا إسراف فيه كما توهمت الصوفية.

قال: [ أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا أبو النعمان أخبرنا حماد بهذا الحديث.

وقال في حديث سليمان بن الحارث : (أتي بقدح زجاج)، وقال في حديث أبي النعمان : (بإناء زجاج).

قال أبو بكر : والرحراح: إنما يكون الواسع من أواني الزجاج لا العميق منه ].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب إباحة الوضوء من الركوة والقعب.

أخبرنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي أخبرنا هشيم أخبرنا حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال: (عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها، إذ جهش الناس نحوه، قال: فقال: ما لكم؟ قالوا: ما لنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، قال: فوضع يديه في الركوة ودعا بما شاء الله أن يدعو، قال: فجعل الماء يفور من بين أصابعه أمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، قال: قلت لـجابر : كم كنتم؟ قال : كنا خمس عشرة مائة، ولو كنا مائة ألف لكفانا) ].

الله أكبر من أعلام النبوة، وأنه رسول الله حقاً، حيث نبع الماء من بين أصابعه، والركوة: هي شيء يصنع من الجلد.

وفيه: أنهم في غزوة الحديبية كانوا ألفاً وخمسمائة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ فجهش الناس إليه، يعني: جاءوا كأنهم يشكون من الحالة التي هم عليها، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما لكم؟ قالوا: ما عندنا ماء إلا ما بين يديك، فوضع يديه في الماء فجعل يفور الماء بين أصابعه أمثال العيون حتى توضئوا وشربوا) هذا من دلائل النبوة، ومن دلائل قدرة الله العظيمة.

وفيه: دليل على جواز الوضوء من الركوة المصنوعة من الجلد، وأن الأصل فيها الطهارة، كذلك المصنوعة من الخشب أو من الحجر أو من الزجاج أو من الخزف، إلا الذهب والفضة فلا يجوز.

قال: [ أخبرنا محمد بن رافع أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا شعبة عن عمرو بن عامر عن أنس بن مالك قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقعب صغير، فتوضأ منه، فقلت لـأنس : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم، قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بالوضوء) ].

القعب: كأنه إناء من خشب، ففيه: أنه لا بأس بالوضوء من إناء سواء كان من خشب أو من زجاج أو حجر أو حديد أو نحاس أو رصاص، إلا الذهب والفضة فلا يجوز.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عند كل صلاة، لكن ثبت (عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أنه صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فسأله عمر فقال: يا رسول الله! فعلت شيئاً لم تفعله، قال: عمداً فعلته يا عمر) وهذا لبيان الجواز، ولا بأس للإنسان أن يصلي صلاتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستاً بوضوء واحد، وجاء في بعضها: (أنه صلى ست صلوات بوضوء واحد)، وإن توضأ المرء لكل لصلاة فهو أفضل.

هذا الحديث أخرجه البخاري .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب إباحة الوضوء من الجفان والقصاع.

أخبرنا يحيى بن حكيم أخبرنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة ، فبقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي من الليل، فبال، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام وأطلق شناق القربة، فصب في القصعة أو الجفنة، فتوضأ وضوءاً بين الوضوءين، وقام يصلي، فقمت فتوضأت، فجئت عن يساره، فأخذني فجعلني عن يمينه) ].

قوله: (فبقيت رسول الله) يعني: راقبت.

هذا فيه جواز الوضوء من الجفان أو القصاع، والجفنة: هي القصعة، وقد تكون من الخشب أو من غيره، وهناك الجفان الكبار، مثل الجفان التي كانت الشياطين تصنعها لسليمان عليه الصلاة والسلام، والجفنة قد تكون صغيرة وقد تكون واسعة، وكذلك القصعة، فلا بأس بالوضوء بالجفان.

وفيه: أنه عليه الصلاة والسلام كان ينام على وضوء، وكان إذا استيقظ في أثناء الليل وبال كان يغسل وجهه ويديه ولا يتوضأ.

فقوله: (فتوضأ وضوءاً بين الوضوءين) يعني: هذا يدل على أنه قد توضأ من قبل، والوضوء بين الوضوءين هو الخفيف بينهما.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الأمر بتغطية الأواني التي يكون فيها الماء للوضوء بلفظ مجمل غير مفسر، ولفظ عام مراده خاص.

حدثنا أبو يونس الواسطي حدثنا خالد - يعني ابن عبد الله - عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الوضوء، وإيكاء السقاء، وإكفاء الإناء)].

قوله: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الوضوء) يعني: تغطية الإناء الذي فيه ماء الوضوء، وفي الحديث: (أمر صلى الله عليه وسلم بتخمير الإناء، وإيكاء السقاء، وإطفاء النار) .

[ قال أبو بكر : قد أوقع النبي صلى الله عليه وسلم اسم الوضوء على الماء الذي يتوضأ به. (وهذا من الجنس الذي أعلمت في غير موضع من كتبنا أن العرب يوقع الاسم على الشيء في الابتداء على ما يئول إليه الأمر في المتعقب؛ إذ الماء قبل أن يتوضأ به إنما وقع عليه اسم الوضوء؛ لأنه يئول إلى أن يتوضأ به ].




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [9] 2883 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [10] 2357 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [11] 1983 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [5] 1956 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [3] 1844 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [7] 1765 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [12] 1582 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [6] 1388 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [4] 1288 استماع
شرح صحيح ابن خزيمة كتاب الوضوء [1] 1041 استماع