شرح زاد المستقنع باب فروض الوضوء وصفته [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله: [وصفة الوضوء]

بعد أن بين لنا رحمه الله فرائض الوضوء شروط صحته شرع في بيان صفة الوضوء.

وللفقهاء في هذا مسلكان:

- بعضهم يبدأ بصفة الوضوء الكاملة، ثم يبين فرائض الوضوء وشرائط صحته ومسنوناته، فيقول لك: والواجب من ذلك: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. وهذا مسلك الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في كتابه: العمدة، حيث قدم الصفة الكاملة ثم أتبعها ببيان الواجبات.

وهذا المنهج الذي سلكه ابن قدامة في العمدة أفضل؛ لأن افتتاح باب الوضوء بصفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة أفضل وأبلغ في التأسي، وأدعى لتطبيق الناس وعملهم به، ولذلك فالأفضل أن يُذكر الوضوء بكماله، ثم يُبَيَّن الواجب، فيقول: الواجب: غسل الوجه، واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، ثم يُسَنُّ له أن يغسل كفيه إذا لم يكن مستيقظاً من النوم، وأن يتمضمض، وأن يستنشق... إلخ.

هذه الطريقة أفضل؛ لما فيها من الاستفتاح بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فعلها ابن قدامة رحمه الله في كتابه: العمدة.

أما في كتابه المقنع فقد ذكر الواجبات والفرائض أولاً، ثم أتبعها بالصفة الكاملة.

الفرق بين الكمال والإجزاء

قوله: (وصفة الوضوء)

صفة الشيء: حِليته وما يتميز به، ولما كان الوضوء قد أمر الشرع فيه، بغسل ومسح أعضاء مخصوصة، فإن له صفتين:

الصفة الأولى: يسميها العلماء: صفة الكمال.

والثانية: يسميها العلماء: صفة الإجزاء.

أما صفة الكمال: فهي الصفة التي توضأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكمل ما يكون عليه إيقاع هذه العبادة، مثل البداءة بالمسنونات، سواء كانت قولية أو فعلية، والمحافظة على وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الوضوء كاملاً، فهذا يعتبر صفة كمال؛ لأن المكلف حصَّل فيه أعلى درجات هذه العبادة.

وأما صفة الإجزاء: فهي الصفة التي إذا فعلها أجزأه وضوءه، كأن يكون ماؤه قليلاً، ويخشى أنه لو فعل المسنونات أنه لا يستطيع غسل المفروضات، فيقتصر على صفة الإجزاء.

هذا وجه تقسيم الوضوء إلى صفة إجزاء وكمال.

والسبب في هذا التقسيم: أنه يستفاد منه في الحكم بصحة الوضوء، وعدم صحته في حال ترك شيء من الوضوء.

فإذا قلنا: إن غسل اليدين يعتبر من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يغسل يديه لم يصح وضوءه.

وإذا قلنا: إن المضمضة والاستنشاق ليس كل منهما من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يتمضمض ولم يستنشق، لحكمنا بصحة وضوئه.

هذا الفرق بين كونه مجزئاً وكونه كاملاً.

قال رحمه الله: [أن ينوي ثم يسمي]

تقدم الكلام على النية، وعلى التسمية.

حالات غسل الكفين وحدهما

قال رحمه الله: [ويغسل كفيه ثلاثاً].

ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عثمان وعبد الله بن زيد ، وكذلك في السنن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أنه عليه الصلاة والسلام افتتح جميع وضوئه بغسل كفيه ثلاثاً).

ولذلك فإن هذه هي أول المسنونات إذا لم يكن الإنسان مستيقظاً من النوم.

وغسل الكفين له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يكون الإنسان مستيقظاً من نومه، سواءً كان نوم ليل أو نوم نهار، فإذا استيقظ الإنسان من نوم الليل أو نوم النهار وجب عليه غسل كفيه ثلاثاً، وذلك لحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده!).

الحالة الثانية: أن يكون في حال يقظته وأراد أن يتوضأ؛ ولكنه على يقين وعلم بأن كفيه طاهرتان، ففي هذه الحالة يُسَنُّ له غسل الكفين ولا يجب عليه ذلك، ودليل هذه السنية مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

الحالة الثالثة: أن يشك في كونها طاهرة أو نجسة، فيقال: يستحب غسلها، يعني: يتأكد الغسل؛ ولكن لا يصل إلى درجة الوجوب؛ لأن اليقين لا يُزال بالشك.

فهذه ثلاث حالات لغسل الكفين.

والكفان: حدهما من أطراف الأصابع إلى الزندين.

وبناءً على ذلك: سمي الكف كفاً؛ لأنه تُكَفُّ به الأشياء.

ويجب عليه غسلهما إذا كان مستيقظاً من النوم، لمكان جوَلان اليد عند نوم الإنسان.

صفة المضمضة

قال رحمه الله: [ثم يتمضمض]

المضمضة: مأخوذة من قولهم: مضمضت الحية إذا تحركت في جُحرها، فالمضمضة في لغة العرب: الحركة.

ولذلك يرد السؤال: لماذا وصف غسل هذا الموضع من الجسم بكونه مضمضة؟

قالوا: لأن السنة في المتمضمض أن يحرك الماء في فمه، ثم اختلفوا:

فقال بعض العلماء: حقيقة المضمضة: أن يُدخل الماء ويُحركه فقط دون أن يمج.

وقال بعضهم: بل لا يتحقق كونه متمضمضاً إلا إذا حرك الماء ولفظه.

إذاً: المضمضة عند العلماء فيها وجهان:

الأول: أن يدخل الماء ويحركه فقط.

الثاني: أن يدخله ويحركه ثم يلفظه.

فوائد الخلاف:

الفائدة الأولى:

لو أن إنساناً كان عنده ماءٌ وكان عطشان، فابتدأ الوضوء فمضمض ثم بلع الماء.

فإن قلنا: المضمضة لا تتحق إلا بالطرح، لم يكن محققاً للمضمضة؛ لأنه ينبغي أن يخرج الماء إلى خارج البدن لا إلى داخله، ويقولون: وجه اعتبار المضمضة بالتحريك واللفظ هو السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض ولَفَظ، ولذلك يقتدى به عليه الصلاة والسلام في هديه، فيتمضمض ويحرك الماء ويلفظه.

الفائدة الثانية:

أن قولهم: المضمضة: تحريك الماء، ينبني عليه: أنه لو أدخل الماء ولم يحركه في فمه ثم لَفَظَه، فلا يعتبر متمضمضاً على الصفة المعتبرة شرعاً؛ لأنه لا بد من التحريك، إذ بالتحريك يحصل النقاء، فلو اقتصر على كون الماء يصل إلى فمه ثم يلفظه، لم يكن ذلك مضمضة على الوجه المعتبر.

صفة الاستنشاق

قال رحمه الله: [ويستنشق].

الاستنشاق: هو استفعال من النَّشَق، وأصل النَّشَق: جذب الشيء إلى الخياشيم بالنَّفَس، ومنه سمي النَّشُوق نَشُوقاً؛ لأنه يُستعط ويُجذب بالنَّفَس.

ودل عليه ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه).

ولذلك قال بعض العلماء: إذا جذب الماء تحقق الاستنشاق، ولا يلزمه الاستنثار يعني: الطرح؛ والصحيح أن تعبير العلماء بالاستنشاق متضمن للاستنثار؛ لأن الإنسان إذا استنشق فلا يصبر على بقاء الماء حتى ينثره.

وفائدة اشتراط النثر: أن الإنسان إذا عصر أنفه دون أن ينثر لم يكن محققاً للاستنشاق على أكمل صوره، وذلك لا بد من النثر، لقوله عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً -هذا الاستنشاق- ثم لينتثر)، فقوله: (ثم لينتثر) أي: ليطرح، ولينثر الماءَ الذي جذبه بنَفَسِه إلى خياشيمه، ولذلك لا بد من النثر؛ لأن المقصود من إدخال الماء تطهير هذا الموضع، فإذا كان يعصره دون أن يكون منه نثر، لم يتحقق به كمال التطهير لهذا الموضع.

بيان حد الوجه من حيث الطول والعرض

قال رحمه الله: [ويغسل وجهه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً]

قوله: (ويغسل وجهه): الوجه تقدم أنه من المواجهة، وبينَّا كلامَ العلماء في الوجه، ودليلَ وجوب غسله.

والآن نبين حد الوجه:

-أما طولاً: فقالوا: إنه من منابت الشعر الذي يكون في ناصية الإنسان إلى ما انحدر من اللحيين، وهو اللحية السفلى، فيشمل الوجه الشق الأيمن والأيسر إلى ما انحدر.

والسبب في تعبير المصنف بقوله: (إلى ما انحدر)؛ لأن الوجه يحصل بهذا القسط من العضو، فحتى يكون كاملاً في غسله لهذا القسط لا بد أن يمسك جزءاً يسيراً مما جاوره، كالصائم لا يتحقق كمال صومه إلا بإمساك جزء يسير من الليل، حتى يتحقق غروب الشمس.

ولذلك يقول العلماء: إلى ما انحدر؛ لأنه إذا غسل المنحدِر من العظم فقد كمُل غسل هذا الوجه، سواءً كان في الشق الأيمن أو الشق الأيسر، فلا بد أن يغسله إلى ما انحدر، هذا إذا كان الإنسان أجرداً أو أمرداً، أما إذا كان ذا لحية فالشعر يقوم مقام المنحدِر، ويكون غسله على الصفة التي ذكرناها في التخليل.

هذا بالنسبة للطول: أنه من منابت الشعر إلى ما انحدر من اللحيين، وبه يتحقق كمال الوجه طولاً.

- أما عرضاً: فإنه قال: (ومن الأذُن إلى الأذُن عرضاً).

قال بعض العلماء: إن الوجه كمالُه من الأذُن اليمنى إلى الأذن اليسرى عرضاً.

وقال بعضهم: بل إن حده إلى العذار، فإذا غسل العذار، وهو الشعر الذي يكون مقابلاً للأذُن فقد تم غسله للوجه.

وفائدة الخلاف: الحكم في البياض الذي بين الشعر والأذُن.

وهذا يقوى في الملتحي، ولذلك قالوا: إنه إذا كان ملتحياً، فإن المواجهة تحصل باللحية، فيغيب البياض فلا يعتبر من الوجه، ولذلك قال بعض العلماء: لا يجب غسل هذا البياض.

وبناءً على هذا القول: لا يقال: من الأذُن إلى الأذُن؛ ولكن المصنف اختار أحوط القولين، والعمل عليه: أنه يغسل البياض الذي بين الأذُن والشعر؛ لأن وجود الشعر إنما هو مختص بالملتحي دون غير الملتحي، فيجب غسله لكمال غسل الوجه، فإن الذي لا لحية له يعتبر من وجهه وجود ذلك البياض.

وجوب غسل شعر الوجه

قال رحمه الله: [وما فيه من شعر خفيف والظاهر الكثيف مع استرسل منه].

أي: يجب عليه غسل الشعر الخفيف الموجود في الوجه؛ لأن البشرة تُرى من تحته، وإذا كانت البشرة تُرى من تحته، فإنه يجب غسل هذا الشعر، كأن يكون شاربه أو لحيته صغيرة في بداية نبتها، وتُرى البشرة من تحتها، فإنه يجب عليه غسل الشعر وغسل ما تحته؛ لأن المواجهة تتحقق بالشعر وبما تحت الشعر من البشرة، فيجب غسل الجميع.

قال بعض الفضلاء في هذه المسألة:

خلِّل أصابعَ اليدين وشَعَر وجهٍ إذا مِن تحتِه الجلدُ ظَهَر

والمصنف قال: إذا كان الشعر خفيفاً، بمعنى أنك ترى البشرة من تحته، فإذا رأيت البشرة من تحت الشعر، فإن المواجهة تكن بالشعر وبالبشرة، فهذا وجه المطالبة بغسل كل منهما.

وجوب غسل اليدين مع المرفقين

قال رحمه الله: [ثم يديه مع المرفقين].

وهنا ننبه إلى خطإٍ شائع عند كثير من العامة: فإنهم إذا توضئوا غسل الواحد منهم الكفين، ثم يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، فإذا جاء يغسل يديه يبدأ من آخر الكف، فتراه يغسل ساعده ويغفل عن الكفين، ومن فعل ذلك لا يصح وضوءه، وتلزمه إعادة الوضوء والصلاة، ولذلك ينبغي التنبيه على هذا، فالإنسان إذا غسل يديه فيجب أن يكون غسله من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والغاية داخلة في المُغيَّا.

فالكثير أو البعض يغفل الكفين؛ لأنه قد غسلهما في بداية وضوئه، فيترك غسلهما عند غسله ليديه، فهذا لا يصح ولا يجزئه.

وقد تقدم دليل وجوب غسل اليدين؛ لأنه من فرائض الوضوء، وبينا الحد وبينا خلاف العلماء رحمة الله عليهم.

وجوب مسح الرأس مع الأذنين

قال المصنف رحمه الله: [ثم يمسح كل رأسه مع الأذُنين مرةً واحدة].

شرع المصنف رحمه الله في بيان الفرض الذي يلي غسل اليدين، وهو مسح الرأس، فقال: (يمسح كل رأسه)، وهذا على الصحيح، وقد تقدم بيان دليل مسح الرأس، وخلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه، وأدلة كلٍّ، والراجح من أقوالهم.

قوله: (مع الأذُنين مرة واحدة) لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الترمذي : (الأذُنان من الرأس)، وقد تقدم الكلام على مسح الأذُنين مع الرأس، وبينا ذلك، وبينا مذاهب العلماء رحمة الله عليهم فيه.

وجوب غسل الرجلين مع الكعبين

قال رحمه الله: [ثم يغسل رجليه مع الكعبين].

وهذا الفرض الأخير، غسل الرجلين، أو مسحهما إذا كان لابساً للخفين أو الجوربين.

والكعبان يجب غسلهما مع القدمين، لقوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، وقد تقدم بيان دليل وجوب غسل الرجلين إلى الكعبين، وهل الكعبان يجب غسلهما أو لا يجب؟ وذكرنا الأقوال، والأدلة، والراجح في هذه المسألة، بما يغني عن الإعادة.

كيفية غسل الأقطع لأعضائه

قال رحمه الله: [ويغسل الأقطع بقية المفروض فإن قطع من المفصل غسل رأس العضد منه].

قوله: (ويغسل الأقطع بقية المفروض)؛ لأن الله أمره بغسل الجميع، فإذا سقط عنه البعض لمكان العذر، فلا يقتضي سقوط الكل؛ لأن ما جاز لحاجة يقدر بقدرها، فالخطاب متوجه عليه أن يغسل يديه كاملتين، فإذا قطعت يده وبقي ساعده، فإن الساعد داخل في المأمور، فيجب عليه غسل الساعد الذي بقي بعد القطع.

قوله: (غسل رأس العضد منه) على الأساس الذي ذكرناه، من كون الكعبين والمرفقين داخلين في المغيَّا.

حكم رفع النظر إلى السماء بعد الوضوء

قال رحمه الله: [ثم يرفع نظره إلى السماء ويقول ما وَرَدَ].

قوله: (ثم يرفع نظره إلى السماء) لم يصح بذلك حديث، وذكره العلماء -رحمة الله عليهم-، والصحيح: أنه يقتصر على القول من ذكر الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أن من قال عند تمام وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء). نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

حكم الاستعانة على الوضوء

قال رحمه الله: [وتباح معونته].

المباح: هو ما استوى طرفاه، أي: لا يؤمر به ولا يُنهى عنه.

قوله: (تباح معونته) يعني: تجوز معونة المتوضئ؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنتُ أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وغلام نحوي أحمل إداوةً وعَنَزَة)، فهذا يدل على مشروعية خدمة الأحرار بعضهم لبعض، وخاصةً إذا كانوا من أهل الفضل، وكبار السن، والوالدين. فأما إذا كانوا من الوالدين فإن خدمتهم عبادة وقربة لله جل وعلا، وتجب عند الحاجة، وأما إذا كانوا من أهل العلم والفضل خاصةً إذا كانوا من كبار السن، فإن خدمتهم قربة.

وأما إذا كان صغير السن وأردت أن تخدمه فلا حرج إذا قُصِد بذلك وجهُ الله لا رياءً ولا سمعةً؛ لكن الأفضل لطالب العلم أن لا يمكن الناس من خدمته في بداية طلبه للعلم، أو عند صغر سنه؛ لما في ذلك من الفتنة، والإنسان في مقتبل عمره لا يأمن الفتنة، بخلاف كبار السن، فإن الخشوع فيهم أكبر وقربهم من الموت يبعدهم من قصد هذا في الناس، مع ما لهم من حق؛ بسبب كِبَر السن.

فلذلك يستحب بعض العلماء للإنسان إذا كان صغير السن ولو كان من العلماء أن يتورع عن خدمة الناس له، حتى يكون ذلك أبلغ في إخلاصه، وأبلغ في طاعته لله جل وعلا.

وأُثِر عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إن صحبتَ رفقة في السفر فلا تكن صائماً، إنك إن أخبرتهم بصيامك، قالوا: أنزلوا الصائم، أكرموا الصائم، احملوا الصائم، حتى يذهب أجرك)، أي: لا يزالون يكرمونك ويكرمونك حتى يذهب أجرك؛ بما يكون منهم من إكرام. ولذلك فالأكمل للإنسان والأفضل له أن يتورع عن ذلك.

وقد عهدنا علماء أجلاء رحمة الله عليهم بلغوا من العلم شأواً عظيماً، كانوا يتورعون عن خدمة الناس لهم، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن يوجد فيها المخلص، وإن وُجد المخلص قد يوجد المغالي، وكثير من البدع والأهواء والغلو في الصالحين نشأ بسبب الخدمة، ولذلك لا ينبغي أن يُتخذ الدين طريقة لإهانة عباد الله جل وعلا، فإن الله أخرج الناس بالإسلام من العبودية لغيره إلى العبودية له سبحانه وتعالى.

وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلاماً نفيساً في الفوائد حيث قال: إن كثيراً من الفساق يغترون بصحبة الصالحين، حتى يكونوا جريئين على المعاصي؛ بسبب اغترارهم بصحبة الصالحين وخدمتهم لهم، فتجد الواحد من هؤلاء يجرؤ على حدود الله، ولا يُصْلِح من حاله، وتصبح صحبتُه للعالِم صحبةً شكلية للخدمة، لكن أن ينتفع بعلمه ويستفيد من ورعه ومن تقواه لا تجد لذلك أثراً، حتى -والعياذ بالله- يفْسُدَ عليه دينُه.

إذاً ينبغي أن يحمل الإنسان نفسَه على أتم الوجوه، وأقربها إخلاصاً لله جلَّ وعَلا، وقد خرج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من المسجد فخرج معه أصحابه يشيعونه، فقال: (ما لكم؟

قالوا: رأيناك تسير وحدك، فأردنا أن نشيعك.

قال: إليكم عني، إنها فتنة للتابع والمتبوع).

هذا ابن مسعود في عصر الخيرية وزمان الخيرية.

(إنها فتنة للتابع) أي: أن الإنسان إذا صار مع العالِم دون أن يسأله ودون أن يستفيد من علمه، فذلك فتنة له.

(وفتنة للمتبوع) أي: أن العالم ربما دخله غرور برؤية مَن حوله.

ولذلك فالأسلم والأكمل أن الإنسان يتورَّع، وإذا نظر الله إليك -وقد حباك العلم، وحباك الفضل- لا تهين عباده، ولا تأخذ منهم أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً، كمُل أجرُك عند الله جل وعلا، ولذلك قال تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

لكن لا يعني هذا: التحريم والمنع؛ ولكن نقول: إن الإنسان إذا خشي الفتنة لنفسه أو لمن معه، فإنه ينبغي عليه أن يتورع، وهذه المسألة أحب أن أنبه عليها؛ لأنه حصل فيها كثير من الدَّخَن، فلقد رأينا كثيراً من طلاب العلم يصحبون العلماء، ويكون في بداية صحبته للعالم كأحسن ما أنت راءٍ؛ أدباً، وخُلقاً، واستفادةً من العالم، وكثرةَ سؤالٍ ومُدارسةٍ له؛ ولكن ما إن يدخل إلى مقام خدمته، والقيام على شأنه، ويداخله في أموره الخاصة، حتى تنزل منزلتُه، فيصبح كأن العَالِمَ شيء معتاد بالنسبة له، فيخرج عن حد الأدب، ولربما يأتي وقت -وقد رأينا ذلك بأعيننا في بعض ضعاف النفوس- يجرؤ فيه على أن يفتي بحضرة العالم، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من المزالق الخطيرة.

فإذا صحبتَ أهل العلم فلا حرج أن تخدمهم وأنت تريد وجه الله؛ ولكن اعلم أن صحبة العلماء للعلم والفائدة، وليست للمظاهر وللأمور التي قد تكون فتنة على الإنسان في دينه ودنياه وآخرته.

إذاً: معنى قوله رحمه الله: (تباح معونته) أي: يجوز أن يعاونه الغير على وضوئه، فيصب الوضوء له، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة في الصحيح: (أنه دخل الشعب فبال، ثم صب عليه المغيرة رضي الله عنه وأرضاه الوضوء) صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عن المغيرة وأرضاه.

حكم التنشف بعد الوضوء

قال رحمه الله: [وتنشيف أعضائه].

الأفضل والأعظم أجراً أن لا ينشف الأعضاء بعد الوضوء،؛ لِمَا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مسلم يقرب وضوءه، فيمضمض، ويستنشق، ويغسل وجهه، إلا خرجت كل خطيئة نظرت إليها عيناه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء -وكذلك قال في اليدين- حتى تخرج من تحت أظفار أصابعه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء)، فاستحب طائفة من العلماء ألَّا ينشف الأعضاء من ماء الوضوء.

وكذلك ثبت في السنة تأكيد هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما اغتسل وجاءته أم المؤمنين بمنديل، قالت: (فلم يُرِدْه، وجعل ينفض الماء بيديه). لكن يجوز للإنسان أن يتنشف، خاصةً إذا وُجدت الحاجة؛ كشدة البرد، أو نحو ذلك؛ لكن الذي استحبه العلماء أنه يُبقي الأعضاء مبلولة، حتى يكون ذلك أدعى لخروج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، على ظاهر الحديث.

قوله: (وصفة الوضوء)

صفة الشيء: حِليته وما يتميز به، ولما كان الوضوء قد أمر الشرع فيه، بغسل ومسح أعضاء مخصوصة، فإن له صفتين:

الصفة الأولى: يسميها العلماء: صفة الكمال.

والثانية: يسميها العلماء: صفة الإجزاء.

أما صفة الكمال: فهي الصفة التي توضأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكمل ما يكون عليه إيقاع هذه العبادة، مثل البداءة بالمسنونات، سواء كانت قولية أو فعلية، والمحافظة على وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الوضوء كاملاً، فهذا يعتبر صفة كمال؛ لأن المكلف حصَّل فيه أعلى درجات هذه العبادة.

وأما صفة الإجزاء: فهي الصفة التي إذا فعلها أجزأه وضوءه، كأن يكون ماؤه قليلاً، ويخشى أنه لو فعل المسنونات أنه لا يستطيع غسل المفروضات، فيقتصر على صفة الإجزاء.

هذا وجه تقسيم الوضوء إلى صفة إجزاء وكمال.

والسبب في هذا التقسيم: أنه يستفاد منه في الحكم بصحة الوضوء، وعدم صحته في حال ترك شيء من الوضوء.

فإذا قلنا: إن غسل اليدين يعتبر من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يغسل يديه لم يصح وضوءه.

وإذا قلنا: إن المضمضة والاستنشاق ليس كل منهما من فرائض الوضوء، فتوضأ ولم يتمضمض ولم يستنشق، لحكمنا بصحة وضوئه.

هذا الفرق بين كونه مجزئاً وكونه كاملاً.

قال رحمه الله: [أن ينوي ثم يسمي]

تقدم الكلام على النية، وعلى التسمية.