فقه العبادات - الطهارة [10]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المشاهدون والمشاهدات! نسعد في هذه الليلة المباركة باستكمال ما كنا قد بدأنا به من شرح وتعليق على باب المسح على الخفين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمرضاته، وأن يجعل ما سمعنا وما نتعلمه حجةً لنا لا علينا.

وأما اليوم فإننا -أيها الإخوة في الله- سوف نتحدث عن شروط المسح على الخفين، وكنا قد تحدثنا أن المسح على الخفين ثابت بالنص من كتاب وسنة، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، وما نقل عن عائشة و علي و ابن عباس من أنهم أنكروا المسح على الخفين، فإن ذلك لم يثبت عنهم، وقد قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ولم يثبت عن أحد من التابعين أنه أنكر المسح على الخفين، وعلى هذا فكل الروايات الواردة في إنكار بعض الصحابة والتابعين المسح على الخفين لم تثبت عنهم كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم.

أما اليوم فإننا نتحدث عن شروط المسح على الخفين.

فنقول: من المعلوم أنه لا يجزئ المسح على كل خف، بل لا بد من وجود خف قد كان الصحابة رضي الله عنهم يستعملونه في عهده صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا وقع الاختلاف في ما هو الخف الذي كان الصحابة رضي الله عنهم يستعملونه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

فلأجل هذا اختلف العلماء في شروطه، فبعضهم لم يذكر أي خف على الإطلاق، وإنما ذكر الخف الذي من عادة الصحابة استعماله، وبعضهم قال: إن ما كان الصحابة يستعملونه ليس هو الخف الجديد، بل هو الخف الذي قد مضى عليه زمن من الدهر، فأثر عليه شيء من تعرية الزمن من خرق ورتق وفتق وغير ذلك، ولأجل هذا لا بد أن نعلم الخلاف في شروط المسح على الخفين، ما سببه؟ هل لأن كل ما كان مستوراً مما فرضه الغسل فينتقل إلى المسح؟ ولهذا قالوا: كل ما وجد فيه فتق من الرجل فإنه لا يصح المسح عليه، فجعلوا الحكمة معلقة بستر المفروض، فقالوا: متى ما ستر المفروض فإنه حينئذ يجوز المسح، ومتى لم يستر المفروض فإنه لا يصح المسح حينئذ لاجتماع فرض حكمه الغسل، وفرض حكمه المسح، ولا يصح الجمع بين الغسل والمسح.

والقائلون بجواز تخلف بعض هذه الشروط قالوا: لأننا ننظر إلى الحكمة، وإلى المقصد، فإن الحكمة والمقصد من المسح على الخفين هو رفع الحرج، ووجود الرخصة، فمتى اشترط في المسح على الخفين ما لم يكن معتاداً فعله عند الصحابة فإننا أخرجنا المسح على الخفين عن حكمته الأصلية وهي رفع الحرج والرخصة وهذا سبب من أسباب الخلاف.

وكذلك من أسباب الخلاف: الأدلة، فبعضهم يشترط شروطاً بموجب وجود أحاديث، وبعضهم يضعف هذا الحديث ولا يثبته كما في المسح على الجوارب، فمن أهل العلم من نفى المسح على الجوارب لعدم وجود حديث صحيح في هذا الباب، في حين أن بعضهم أثبت هذه الأحاديث، وقال: إن فعل الصحابة يدل على هذا الأمر.

الشيخ: إذا ثبت هذا فلعلنا ندلف إلى شروط المسح على الخفين:

الشرط الأول: لبسهما بعد كمال الطهارة

الشيخ: الشرط الأول أيها الإخوة: أن يلبسهما بعد كمال طهارة:

وهذه الطهارة لا بد أن تكون طهارةً مائية، وعلى هذا فالشرط الأول: أن يلبسهما بعد كمال طهارة مائية، وهذا الشرط -وهو أن يلبس الخف على طهارة- نقل الاتفاق والإجماع عليه أبو محمد بن قدامة في كتابه المغني فقال: لا نعلم خلافاً في اشتراط هذا الشرط، وهو أن يلبس الخف على طهارة.

وهل يشترط في هذه الطهارة أن تكون مائية أم لا؟ نقل الإمام الشنقيطي في كتاب أضواء البيان الإجماع على أنه لا بد أن تكون الطهارة هنا طهارة مائية، والواقع أنه ليس في المسألة إجماع لا من حيث الطهارة المائية، ولا من حيث كمال الطهارة من حيث الجملة، فكل مسألة قد وقع فيها خلاف، وإن كان عامة أهل العلم على أنه لا بد من كمال الطهارة، وكذلك أن تكون الطهارة مائية.

وأما إذا كانت غير مائية فقد وجد قول عند مالك اختاره أصبغ من المالكية، وقول عند الحنابلة بجواز هذا، والراجح أنه لا بد أن تكون طهارةً مائية، ودليل هذا الشرط ما ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة ، وفيه: ( قال: فلما أهويت لأنزع خفيه قال لي: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المغيرة بألا ينزع خفيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أدخلهما طاهرتين، والطهارة هنا هي الطهارة المائية المعتادة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

اختلاف العلماء في معنى شرط كمال الطهارة في المسح على الخفين

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن أهل العلم اختلفوا في معنى كمال الطهارة، هل معناه ألا يمسح خفاً حتى تكتمل طهارته أم أن المقصود بكمال الطهارة ألا يلبس خفاً إلا بعد كمال الطهارة؟

نقول: المسألة فيها قولان:

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسلم لو غسل رجله اليمنى، ثم لبس خفه، ثم غسل الرجل اليسرى، ثم لبس خفه، فإنه لا يصح أن يمسح على خفيه، قالوا: لأنه أدخل الخف في رجله اليمنى قبل اكتمال الطهارة، والواجب ألا يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، وهذا -كما قلت- هو قول جمهور الفقهاء، خلافاً لـأبي حنيفة، وقد رجح هذا القول النووي و ابن حجر ، فذهب مالك و الشافعي و أحمد إلى أنه لا يصح أن يغسل رجله اليمنى ثم يلبس الخف، ثم يغسل الرجل اليسرى ثم يلبس الخف، قالوا: فمن فعل ذلك فلا يصح له أن يمسح؛ لأنه أدخلهما قبل كمال الطهارة.

والقول الثاني في المسألة: مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب ابن حزم الظاهري ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية ، وقد رجحه من الفقهاء المحققين المزني من الشافعية و ابن المنذر ، فقالوا: إن ثمة فرقاً بين المسح قبل اكتمال الطهارة، ولبس الخف أو لبس أحدهما قبل اكتمال الطهارة، قالوا: فإن الواجب ألا يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، أما كونه يلبس الخف قبل اكتمال الطهارة، فلا أثر لذلك من حيث شرطية كمال الطهارة، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإنني أدخلتهما طاهرتين )، ومعنى (طاهرتين) يعني: أني أدخلتها طاهرة طهارة مائية، وقد حصلت الطهارة المائية في الرجل اليمنى، وأدخل الخف الأيسر بعد طهارة مائية، ولكنه لم يجز له أن يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، ونحن نقول في حق من لبس الخف الأيمن قبل اكتمال الطهارة: لك أن تلبس، لكن ليس لك أن تمسح، فثمة فرق بين المسح قبل اكتمال الطهارة، ولبس الخف قبل اكتمال الطهارة.

قالوا: ومما يدل على ذلك أن القائلين بعدم جواز المسح لو سألناهم: ما الواجب في حقه؟ لقالوا: يجب عليه أن يفسخ الخف الأيمن، ثم بعد ذلك يعيد لبسه، يقول أبو العباس بن تيمية: وهل هذا إلا عبث تتنزه الشريعة عنه؟! كما ذكر ذلك في مجموع الفتاوى.

والواقع أن الجمهور يقولون: لم نكن نحن قد أمرناه ابتداءً، ولكن ذلك كأنه نوع من العقوبة عليه وتصحيح، والتصحيح لا يلزم منه أن يكون مأموراً من كل وجه، ومع ذلك فإن الأحوط بالمسلم ألا يلبس الخفين أو أحدهما إلا بعد اكتمال طهارة الرجلين، وإن كان قد غسل رجله اليمنى ثم لبس الخف، فإن الراجح أنه يجوز له أن يمسح؛ لأن الحكم إنما علق بالمسح لا باللبس، فهو قد لبس قبل اكتمال الطهارة، ولا أثر لذلك؛ لأن وجود الخف في الرجل اليمنى قبل غسل الرجل اليسرى يقول العلماء: إن ذلك لا حكم له، فهو بمثابة المعدوم شرعاً، فلما غسل رجله اليسرى جاز له أن يمسح، وحينئذ يكون قد أدخلهما طاهرتين، هذا هو الأقرب، والله تبارك وتعالى أعلم.

ومما استدل به أهل العلم ما جاء في حديث صفوان بن عسال عند أهل السنن قال: ( أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا كنا قد أدخلناهما على طهر ثلاثاً إذا كنا سافرنا، ويوماً وليلة إذا كنا قد أقمنا )، فالجمهور قالوا: الطهر المقصود به كمال الطهارة.

أما القائلون بجواز ذلك فقالوا: المقصود هو الطهر المائي، وهو لن يمسح إلا بعد كمال الطهارة، إذاً لا أثر للبس الخف إذا كنا قد أوجبنا عليه ألا يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، وبالتالي لا نكون قد خالفنا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

اشتراط كمال الطهارة في المسح على الجبيرة

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن أهل العلم رحمهم الله قالوا: من المسائل المترتبة على مسألة أن يلبسهما بعد كمال الطهارة أن يقال: هل هذا الشرط واجب في المسح على الخفين والجوربين فقط، أم في كل مسح على حائل كالمسح على الجبيرة، والمسح على العمامة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الحنابلة والشافعية إلى أنه لا يجوز له أن يمسح على الجبيرة إلا أن يكون قد أدخلها طاهرة. فلو أنه كسرت يده، فذهب إلى المستشفى يريد أن يجبرها، فإننا نقول: قبل أن يجبر الطبيب يدك لا بد أن تتطهر وتتوضأ لأجل ألا تضع الجبيرة إلا ويدك طاهرة.

ولا شك أيها الإخوة! أن قياس مسح الجبيرة على المسح على الخفين قياس مع الفارق، وقد ذكر بعض العلماء كصاحب الإنصاف المرداوي : أن ثمة فرقاً بين المسح على الجوارب والخفين وبين المسح على الجبيرة، وذكر تسعة فروق، ولهذا فإن الراجح -والله تبارك وتعالى أعلم- هو مذهب أبي حنيفة ، وقول لـمالك ، ورواية عن أحمد اختارها ابن حزم و أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهو اختيار ابن قدامة وصاحب المحرر: أنه لا تشترط الطهارة في المسح على الجبيرة؛ وذلك لأن المسح على الجبيرة إنما جوزت لأجل المشقة، فإلزام الطهارة مع وجود المشقة مشقة غير معتادة هذا أولاً.

ثانياً: لأن المسح على الجبيرة لم يكن في الغالب باختيار المرء، وإنما تأتي فجأةً، وعلى هذا فإن اشتراط الطهارة يحتاج إلى دليل، خاصةً وأن الأحاديث الواردة إنما هي في المسح على الخفين، ولا يسوغ أن نحمل الطهارة على غير المسح على الخفين إلا إذا كان حكمهما كحكم المسح على الخفين.

وليس حكم الجبيرة كحكم المسح على الخفين، بدليل أنه لو انتهت مدة المسح فلا نقول له: اذهب إلى الطبيب وقل له: قد انتهت مدتي فاخلع الجبيرة حتى أغسل العضو ثم بعد ذلك ضع لي جبيرة أخرى، فلما فارقت الجبيرة المسح على الخفين في الوقت، فكذلك خالفته في سائر الشروط، وهذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

ومما يدل على ذلك ما جاء عند أهل السنن من حديث جابر في قصة صاحب الشجة حينما شج، فأمروه بالغسل فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: ( قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإن شفاء العي السؤال )، وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يمسح على الجبيرة مثل يمسح على الخفين، وقد قال البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن الحسن البصري : (ما زال المسلمون يصلون بجراحاتهم)، ومعنى الجراحة هي اللفافة التي تكون على الجرح ويظهر فيها الدم، ومع ذلك لم يؤمروا بنزعها، فدل ذلك على أن الجبيرة شيء، والمسح على الخفين والجوربين شيء آخر.

اشتراط كمال الطهارة في المسح على العمامة

الشيخ: إذا ثبت هذا فالعمامة لو لبسها في شدة البرد، هل له أن يمسح عليها قبل اكتمال الطهارة، أم لا بد أن يتوضأ ويمسح؟

ذهب الحنابلة إلى أنه لا يصح له أن يمسح على العمامة إلا بعد اكتمال الطهارة كالمسح على الخفين، وذهب الشافعي رحمه الله، وهو مذهب ابن حزم واختيار أبي العباس بن تيمية إلى أنه لا يلزمه ذلك؛ وذلك لأن العمامة يمسح عليها، وإذا لم تلبس العمامة فإن حق الرأس المسح، وأما الخف إذا لم يلبسه فحق الرجلين الغسل، فصار ثمة فرق بين العمامة والمسح على الخفين، هذا الدليل الأول.

الدليل الثاني: قالوا: ولما جاء عند الإمام أحمد من طريق راشد بن سعد ، عن ثوبان رضي الله عنه قال: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين )، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وقد اختلف أهل العلم في صحة سماع راشد بن سعد ، من ثوبان ، فأنكر الإمام أحمد و أبو حاتم سماع راشد بن سعد من ثوبان ، وعلى هذا فيكون الحديث منقطعاً، وهو ضعيف.

وذهب الإمام البخاري إلى صحة سماع راشد بن سعد من ثوبان ، ومن المعلوم أن هؤلاء الأئمة يشترطون في السماع اللقيا مع المعاصرة، خلافاً لـمسلم الذي يشترط المعاصرة دون اللقيا، وكون الإمام البخاري أثبت السماع، فإن من أثبت حجةً على من لم يثبت، وعلى هذا فالقول بأن الحديث حسن قول قوي، ولهذا ذكر الإمام الذهبي أن الحديث إسناده قوي.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العمامة، ولم يشترط عليهم شرطاً، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فالصحابة أشكل عليهم المسح على العمائم، فكونهم يشكل عليهم شروط المسح من باب أولى، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم شرطاً للمسح على العمائم، دل على أنه متى ما وجدت العمامة جاز المسح عليها، ومتى لم توجد فإنه يجب فيها المسح على الرأس، والله تبارك وتعالى أعلم.

وهذا كما قلت: لو تأملته لوجدت أنه دليل قوي، ومما يدل على ذلك أن الصحابة الذين ذكروا مسح النبي صلى الله عليه وسلم على العمائم كما في حديث المغيرة بن شعبة ، وكما في حديث بلال، وكما في قصة أم سلمة في المسح على خمارها، فإنه لم يذكر فيه أنها كانت تمسح بوقت معين مثل المسح على الخفين، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشرط الثاني: أن يكون الخف أو الجورب مباحاً

الشيخ: الشرط الثاني من شروط المسح على الخفين: أن يكون الخف أو الجورب مباحاً.

وعليه فلا يجوز أن يمسح على خف مسروق، أو جوارب قد سرقها من صاحب المحل، أو لبس جوارب من حرير؛ لأنه لا يجوز في حق الرجل، وهذا أمر فيه شبه إجماع في حرمة لبس المحرم، إلا أن هذا الإجماع هل يلزم منه عدم صحة المسح أم لا؟

الآن نحن نقول: إنه يحرم عليه أن يمسح على خف محرم؛ لأن من واجب ذلك أن يمسح على خف مباح، لكن هل يلزم من ذلك أن يكون المسح باطلاً؟

اختلف العلماء فيه: فذهب الحنابلة رحمهم الله وقول عند المالكية إلى أن المسح يكون باطلاً؛ لأن النهي يقتضي الفساد.

وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد إلى أن الطهارة والمسح صحيح، وإن كان قد وقع في الإثم.

ومما يدل على ذلك قالوا: لأن الإنسان قد فعل ما أمره الله من حيث وجوب الطهارة، فغسل ما وجب غسله، ومسح ما وجب مسحه، وأما كون الشيء محرماً لغير ذات العبادة، فهذا نهي خارج عن الماهية، مثله مثل أي نهي يعود على أمر خارج الماهية، وكل نهي لا يعود على الماهية فإنه لا يقتضي الفساد، وهذا هو الأقرب، والله أعلم، وهو مذهب جمهور أهل العلم.

من باب توضيح دليل القائلين بالمنع، لو قال قائل: إن قول من قال بحرمة ذلك وفساده قول قوي، قلنا: ما الدليل؟ قال: الدليل قول الله تعالى في حق من اضطر إلى أكل الميتة: فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]، وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى جوز أكل الميتة في حق من اضطر إلى ذلك شريطة ألا يكون باغياً ولا عادياً، قالوا: والباغي هو الخارج على السلطان من أهل البغاة، والعادي هو قاطع الطريق والسارق، فدل ذلك على أن من خرج على السلطان، أو قاطع الطريق لا يجوز له أن يأكل الميتة، قالوا: فإذا منع من أكل الميتة مع اضطراره لأجل أنه فعل محرماً، فالمسح على الخفين المحرمين من باب أولى.

والجواب عليهم: أن قول الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه: (غير باغ ولا عاد)، ليس هو الباغي ممن خرج على السلطان، وليس هو العادي الذي هو قاطع الطريق، وإنما المقصود بالباغي هو الذي يأكل ميتةً أكثر من حاجته، فالبغي والعدوان في نفس الميتة، أي: جاوز الحد، فأكل أكثر من حاجته، فمن أكل أكثر من حاجته، فلا يعد مضطراً، هذا هو الباغي، وأما العادي فهو الذي يأكل الميتة وعنده شيء مباح، فقد تعدى أمر الله سبحانه وتعالى بأكل الميتة وعنده مندوحة عن أكلها، فقالوا: إن هذا معنى (غير باغ ولا عاد)، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وعلى هذا فالراجح صحة المسح مع حرمة ذلك؛ لعدم وجود الدليل المقتضي للفساد، والله أعلم. هذا هو الشرط الثاني.

الشرط الثالث: أن يكون الخفان ساترين لمحل الفرض

الشيخ: الشرط الثالث: أن يكون الخفان ساترين لمحل الفرض.

وهذا الشرط مجمع عليه في الجملة، بمعنى: أنه لو لبس جورباً إلى نصف رجله بحيث لا يكون على العقب شيء، فإنه لا يصح له أن يمسح، مثل: شدة الرجل التي تشد على نصف الرجل، فهذا لا يجوز أن يمسح عليها، لأنها لا تسمى خفاً، وليست هي ساترة للمفروض أو غالب المفروض، والخف في الغالب يكون ساتراً للمفروض، وإن كانوا قد اختلفوا في بعض جزئياته، إلا أنه حينما نقول: ساتر للمفروض، فإن الحنابلة والشافعية قالوا: يلزم من ذلك ألا يجوز المسح على خف ولا على جورب مخرق، فمتى وجد خرق ولو يسيراً يظهر منه ما حقه الغسل من الرجل، فلا يجوز المسح عليهما.

ودليلهم في هذا قالوا: لأنه لو مسح في خف مخرق فإنه يكون قد جمع بين مسح وغسل؛ لأن ما ظهر من البدن فحقه الغسل، وما بطن من الخف فحقه المسح، فيكون حينئذ قد جمع بين المسح والغسل في عضو واحد، ولا يجوز الجمع بين البدل والمبدل في عضو واحد، وهل هذا الدليل قوي؟

قد يقول بعض طلبة العلم: إنه قوي جداً، وأنا أقول: يجب على طالب العلم وطالبة العلم إذا أرادوا أن يحصلوا على الملكة الفقهية أن يتقمصوا شخصية المخالف، يعني: أنا حينما يلوح لي القول بالتحريم أتقمص شخصية المبيح لأجل أن أعرف وجهة نظره، وإذا كنت أرى الإباحة أتقمص شخصية المحرم لأجل أن أعرف وجهة نظره.

هذا الدليل وهو أن ما كان قد ظهر من البدن فحقه الغسل، وما لم يظهر فحقه المسح، فيكون حينئذ قد جمع بين الغسل والمسح في عضو واحد، ولا يجوز المسح والغسل في عضو واحد؛ لأنه جمع بين البدل والمبدل، فالجواب على هذا أن نقول: إن قولكم: (ما لم يظهر من البدن فحقه المسح) ليس على إطلاقه، بدليل أن الخف والجورب لو لم يظهر شيء تحت الرجل فلا نقول: يمسح عليه، وإنما يمسح على أعلى الخف، فدل ذلك على أنه ليس كل ما غطي من الرجل حقه المسح، فكذلك ليس كل ما ظهر من الرجل حقه الغسل. وإذا كانت إحدى المقدمتين ليست صحيحة لم يقتض صحة النتيجة، بل يقتضي ذلك عدم صحة النتيجة.

وعلى هذا فقد ذهب مالك و أبو حنيفة إلى جواز مسح الخف المخرق إذا كان يسيراً يمكن المشي والسير عليه بنفسه أو بغيره، فمتى أمكن المشي عليه ويسمى خفاً ولم يفحش، فالراجح والله أعلم جواز المسح عليه، ويدل على ذلك أدلة كثيرة نذكر منها:

أولاً: أن السنة جاءت بالمسح على الخفين بإطلاق من غير تقييد بقيد، فيجب حمل المطلق على إطلاقه ما لم يرد فيه قيد، ولم يرد قيد في ذلك، فدل ذلك على أن الأصل حمله على عموم مسمى الخف، والقاعدة في هذا: أن كل ما أتى في الشرع ولم يحدد فإن الذي يحدده العرف، والخف الذي جاء الشرع بجواز مسحه قالوا: إن الصحابة كانوا يمسحون على الخف، والعادة أنه لا يخلو خف في الغالب من فتق أو رتق أو خرق، خاصةً أن الصحابة فقراء، ولبسهم للخف لبس قد مضى عليه مدة من الزمن، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخف المعتاد لبسه -وإن كان فيه أحياناً خرق- دل ذلك على أنه يجوز المسح على المخرق ما دام يطلق عليه اسم الخف، ولو كان لا يجوز لما ترك صلى الله عليه وسلم بيانه، فيكون ذلك من باب: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد قال العلماء: إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وحاشا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يموت ولم يبلغ، بل قد بلغ البلاغ المبين بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

ولهذا ذكر الإمام الثوري رحمه الله كلمة جميلة يقول: امسح على الخفين ما أمكنك المشي عليهما، وهل كانت خفاف المهاجرين إلا مخرقةً مشققةً مرقعة؟ وهذه كلمة جميلة جداً وهذه الكلمة عظيمة من هذا الإمام سفيان الثوري رحمه الله، وعلى هذا فالذي يظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- هو جواز المسح على الخف المخرق ما دام اسم الجورب واقعاً عليه، والله تبارك وتعالى أعلم.

المسح على خف يظهر منه الكعبان

الشيخ: إذا ثبت هذا فإننا نقول: يجوز المسح على الخف ما دام اسم الخف باقياً عليه، والسؤال: هل يجوز المسح على خف قد ظهر منه الكعبان؟ مثل ما نسميه نحن (الجزمة) الآن، فلو لبس الجزمة من غير شراب هل له أن يمسحها؟

فالجزمة مقطوعة بحيث يظهر الكعبان، فهل يجوز المسح عليه؟

الجواب على هذا: ذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يصح المسح على خف قد ظهر فيه الكعبان، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء.

والقول الثاني في المسألة: جواز المسح على الخف ولو بدا الكعبان، وهو اختيار ابن حزم ، وقول عند المالكية، والراجح هو عدم الجواز، ودليل ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالمسح على الخفين، والخف إذا قطع دون الكعبين فلا يسمى خفاً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحج: ( ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين )، فقطع الخف أسفل من الكعبين يخرجه عن مسمى الخف، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهذا هو الأقرب وهو الأحوط، وعليه فلبس الجوارب الرياضية التي تكون بمقدار القدم والعقبين، ولم يغط الكعبين، لا يصح المسح عليهما.

وهل هي مسألة إجماع؟ ليست مسألة إجماع، ولكنه مذهب جماهير أهل العلم خلافاً لـابن حزم القائل بجواز ذلك.

وبالمناسبة نقل ابن مفلح و المرداوي في الإنصاف: أن أبا العباس بن تيمية يجوز ذلك، والواقع أن كلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وفي الفتاوى الكبرى أنه يمنع، ولهذا قال: والخف إذا قطع أسفل من الكعبين لا يسمى خفاً، وقد يقال: إن ابن تيمية له قولان في المسألة، وإن كان الذي يظهر لي والله أعلم أن المشهور عنه هو عدم المسح في ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشرط الرابع: صفاقة الخفين أو الجوربين

الشيخ: الشرط الرابع في شروط المسح على الخفين أن تكون الخفان أو الجوارب صفيقة، ومعنى (صفيقة): أي ثخينة لا يظهر منها موضع القدم.

وعليه قالوا: لا يصح المسح على خف أو على جوارب بلاستيكية تظهر فيها الرجل، أو على جوارب رقيقة، فإنهم منعوا من ذلك؛ قالوا: لأنه إذا ظهر شيء من القدم فإن حقه الغسل، وما لم يظهر فحقه المسح.

والجواب على هذا قد سبق أن ذكرناه، ولهذا فإن في المسألة قولاً ثانياً وهو جواز المسح على الخف الرقيق، أو على الجورب الرقيق، وهذا هو مذهب ابن حزم ، واختاره ابن المنذر ، وقول عند مالك ، ورواية عن الإمام أحمد ، وهو قول الصاحبين: أبي يوسف و محمد بن الحسن .

وعلى هذا فالراجح -والله أعلم- جواز المسح على الخف الرقيق، ومن ذلك ما تلبسه النساء في العادة من جوارب يظهر منها ذلك فلا بأس، وإن كان الأحوط والأولى أن الإنسان يبحث له عن جوارب لا تظهر ذلك في الغالب، وحينما نقول: (في الغالب) فمعناه: أن الجوارب التي يظهر فيها من حيث الدقة بالنظر لا بأس بها، لكن الجوارب الرقيقة جداً تركها أولى، وإن كان الأصل الجواز؛ لأن ( النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يمسحوا على العصائب والتساخين )، والتساخين هي اللفائف، ولم يشترط صلى الله عليه وسلم عليهم شرطاً، ومن المعلوم أن من الصحابة كان معهم من الأعراب من لم يعلم من العلم شيئاً كثيراً، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يطلق هذا اللفظ دليل على أن كل ما أمكن إطلاق اللفظ على معنى من المعاني فإنه يجوز المسح عليه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

اشتراط ثبوت الخفين بنفسيهما وتنعيل الجوربين

الشيخ: وقد اشترط الفقهاء شروطاً أخرى لم يكن عليها دليل واضح، ونحن تركناها من باب أن الأصل الجواز، وعلى هذا فلو لبس خفاً لا يثبت بنفسه إنما يثبت بربطه، فإن من الفقهاء من قال: لا يجوز، والصحيح جوازه، سواء ثبت بنفسه أو ثبت بغيره؛ لأنه يطلق عليه اسم خف.

وكذلك من العلماء من لم يجوز المسح على الجوارب، وهذه فائدة يا إخوان! العلماء لم يجوزوا المسح على الجوارب مطلقاً إلا بأن تكونا منعلتين من جلد، أي: يكون موطئهما جلداً، فإذا كان موطئهما ليس بجلد فقد منع الشافعية والمالكية وقول عند الحنفية والحنابلة بأنه لا يجوز المسح عليها، والراجح جواز المسح على الجوارب سواء ثبت بنفسيهما، أو ثبت بغيرهما، وسواء كانا منعلين، أو لم يكونا منعلين، والحنابلة لم يشترطوا النعلين، لكنهم قالوا: بشرط أن تكونا ثابتتين بنفسيهما، والراجح أنه بنفسيهما أو بغيرهما جائز المسح عليها، والله أعلم.

الأدلة الواردة في المسح على الجوارب والحكم عليها

الشيخ: والمسح على الجوارب جاءت فيه أحاديث، من ذلك ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجه من حديث أبي قيس الأودي ، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين ).

وهذا الحديث صححه الترمذي ، و ابن حبان ، و ابن خزيمة ، و الألباني رحمه الله، والشيخ أحمد شاكر ؛ قالوا: لأن إسناده جيد.

إلا أن كبار الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في هذا الباب ضعفوا هذا الحديث، فضعفه الإمام أحمد ، و ابن معين ، و ابن المديني ، و أبو داود ، و ابن مهدي ، وقالوا: لا يصح عن المغيرة بن شعبة إلا المسح على الخفين، ولذا ذكرها البخاري و مسلم في صحيحيهما.

فقالوا: إن الحديث ضعيف، وهذا هو الأقرب، والله أعلم، إلا أن المسح على التساخين هو المسح على اللفائف، وهي تأخذ حكم الجوارب، وجاء أيضاً في حديث أبي موسى ولكن لا يصح أيضاً.

وقد نقل ابن المنذر رحمه الله عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يقولون بجواز المسح على الجوارب، ونقله ابن القيم في تهذيب السنن عن ثلاثة عشر صحابياً، وهؤلاء هم أعلم بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما جوزوا المسح على الجوارب دل على أنه ليس ثمة فرق بين الجوارب والخفين، بدليل فعل الصحابة، ولم ينقل عن واحد من الصحابة أنه أنكر ذلك، فكان شبه إجماع عندهم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: الشرط الأول أيها الإخوة: أن يلبسهما بعد كمال طهارة:

وهذه الطهارة لا بد أن تكون طهارةً مائية، وعلى هذا فالشرط الأول: أن يلبسهما بعد كمال طهارة مائية، وهذا الشرط -وهو أن يلبس الخف على طهارة- نقل الاتفاق والإجماع عليه أبو محمد بن قدامة في كتابه المغني فقال: لا نعلم خلافاً في اشتراط هذا الشرط، وهو أن يلبس الخف على طهارة.

وهل يشترط في هذه الطهارة أن تكون مائية أم لا؟ نقل الإمام الشنقيطي في كتاب أضواء البيان الإجماع على أنه لا بد أن تكون الطهارة هنا طهارة مائية، والواقع أنه ليس في المسألة إجماع لا من حيث الطهارة المائية، ولا من حيث كمال الطهارة من حيث الجملة، فكل مسألة قد وقع فيها خلاف، وإن كان عامة أهل العلم على أنه لا بد من كمال الطهارة، وكذلك أن تكون الطهارة مائية.

وأما إذا كانت غير مائية فقد وجد قول عند مالك اختاره أصبغ من المالكية، وقول عند الحنابلة بجواز هذا، والراجح أنه لا بد أن تكون طهارةً مائية، ودليل هذا الشرط ما ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة ، وفيه: ( قال: فلما أهويت لأنزع خفيه قال لي: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المغيرة بألا ينزع خفيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أدخلهما طاهرتين، والطهارة هنا هي الطهارة المائية المعتادة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن أهل العلم اختلفوا في معنى كمال الطهارة، هل معناه ألا يمسح خفاً حتى تكتمل طهارته أم أن المقصود بكمال الطهارة ألا يلبس خفاً إلا بعد كمال الطهارة؟

نقول: المسألة فيها قولان:

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسلم لو غسل رجله اليمنى، ثم لبس خفه، ثم غسل الرجل اليسرى، ثم لبس خفه، فإنه لا يصح أن يمسح على خفيه، قالوا: لأنه أدخل الخف في رجله اليمنى قبل اكتمال الطهارة، والواجب ألا يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، وهذا -كما قلت- هو قول جمهور الفقهاء، خلافاً لـأبي حنيفة، وقد رجح هذا القول النووي و ابن حجر ، فذهب مالك و الشافعي و أحمد إلى أنه لا يصح أن يغسل رجله اليمنى ثم يلبس الخف، ثم يغسل الرجل اليسرى ثم يلبس الخف، قالوا: فمن فعل ذلك فلا يصح له أن يمسح؛ لأنه أدخلهما قبل كمال الطهارة.

والقول الثاني في المسألة: مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب ابن حزم الظاهري ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية ، وقد رجحه من الفقهاء المحققين المزني من الشافعية و ابن المنذر ، فقالوا: إن ثمة فرقاً بين المسح قبل اكتمال الطهارة، ولبس الخف أو لبس أحدهما قبل اكتمال الطهارة، قالوا: فإن الواجب ألا يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، أما كونه يلبس الخف قبل اكتمال الطهارة، فلا أثر لذلك من حيث شرطية كمال الطهارة، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإنني أدخلتهما طاهرتين )، ومعنى (طاهرتين) يعني: أني أدخلتها طاهرة طهارة مائية، وقد حصلت الطهارة المائية في الرجل اليمنى، وأدخل الخف الأيسر بعد طهارة مائية، ولكنه لم يجز له أن يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، ونحن نقول في حق من لبس الخف الأيمن قبل اكتمال الطهارة: لك أن تلبس، لكن ليس لك أن تمسح، فثمة فرق بين المسح قبل اكتمال الطهارة، ولبس الخف قبل اكتمال الطهارة.

قالوا: ومما يدل على ذلك أن القائلين بعدم جواز المسح لو سألناهم: ما الواجب في حقه؟ لقالوا: يجب عليه أن يفسخ الخف الأيمن، ثم بعد ذلك يعيد لبسه، يقول أبو العباس بن تيمية: وهل هذا إلا عبث تتنزه الشريعة عنه؟! كما ذكر ذلك في مجموع الفتاوى.

والواقع أن الجمهور يقولون: لم نكن نحن قد أمرناه ابتداءً، ولكن ذلك كأنه نوع من العقوبة عليه وتصحيح، والتصحيح لا يلزم منه أن يكون مأموراً من كل وجه، ومع ذلك فإن الأحوط بالمسلم ألا يلبس الخفين أو أحدهما إلا بعد اكتمال طهارة الرجلين، وإن كان قد غسل رجله اليمنى ثم لبس الخف، فإن الراجح أنه يجوز له أن يمسح؛ لأن الحكم إنما علق بالمسح لا باللبس، فهو قد لبس قبل اكتمال الطهارة، ولا أثر لذلك؛ لأن وجود الخف في الرجل اليمنى قبل غسل الرجل اليسرى يقول العلماء: إن ذلك لا حكم له، فهو بمثابة المعدوم شرعاً، فلما غسل رجله اليسرى جاز له أن يمسح، وحينئذ يكون قد أدخلهما طاهرتين، هذا هو الأقرب، والله تبارك وتعالى أعلم.

ومما استدل به أهل العلم ما جاء في حديث صفوان بن عسال عند أهل السنن قال: ( أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا كنا قد أدخلناهما على طهر ثلاثاً إذا كنا سافرنا، ويوماً وليلة إذا كنا قد أقمنا )، فالجمهور قالوا: الطهر المقصود به كمال الطهارة.

أما القائلون بجواز ذلك فقالوا: المقصود هو الطهر المائي، وهو لن يمسح إلا بعد كمال الطهارة، إذاً لا أثر للبس الخف إذا كنا قد أوجبنا عليه ألا يمسح إلا بعد اكتمال الطهارة، وبالتالي لا نكون قد خالفنا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.