فقه المعاملات [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

تكوين شخصية المسلم

فقد سبق في الدرس الماضي بيان تعريف العقود، وذكر أركانها وشروطها، وما ينبني على الإخلال بركن أو شرط من تلك الأركان والشروط، وسيكون الحديث موصولاً الليلة بذلك في تقسيم العقود، وذلك أن حكمة مشروعية العقود منها ما يرجع إلى تكوين شخصية المسلم، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفةً في الأرض، وشرع له هذه الأحكام ليمارس صلاحياته في الأرض، وهذه الصلاحيات بين الشارع احترامها، فكل إنسان له نطاقه الذي يتحرك فيه وهو محترم له محفوظ له شرعاً؛ ولذلك كان لزاماً على الإنسان أن تتكون شخصيته بالإذن له في التصرف فيما يمتحن به من مال الله تعالى، وقد شرع الله ذلك في معاملة الأيتام، فقال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، وقد نص أهل العلم على أن المقصود بابتلائهم إعطاؤهم اليسير من المال ليتصرفوا فيه حتى يعلم رشدهم من سفههم؛ ولذلك فإن التصرف في حد ذاته تكوين لشخصية المسلم، وقد نص أهل العلم على أن الوالد من حقوق ولده عليه أن يدع له مجالاً في التصرف؛ لئلا يعيش وقد توليت عنه الأمور، وتحملت عنه المسئوليات، فيعيش لا له ولا عليه كما قال جرير بن عطية في بني تيم اللات:

وإن التيم قد خبثوا وقلوا فلا طابوا ولا كثر العديد

ثلاث عجائز لهم وكلب وأشياخ على ثلل قعود

وإنك إن لقيت عبيد تيم وتيماً قلت أيهم العبيد

لئام العالمين كرام تيم وسيدهم وإن زعموا مسود

ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود

فيحتاج في تربية الأولاد إلى أن يتحملوا المسئوليات، وأن يتاح لهم المجال في التصرف، فلو تربى الولد بين أبويه يتوليان عنه كل المسئوليات، ويشتريان له كل لوازمه، دون أن يكون له أية مشاركة في الأمور؛ لم يكن ليستطيع تحمل الأعباء، ولا تولي المسئوليات فيما بعد؛ فلذلك كان من حكمة العقود تقوية شخصية المسلم حين يتولى البيع والشراء بنفسه، ويقدم على المخاطرة والمغامرة؛ ولذلك فإن الغبن وإن كان محظوراً شرعاً في العقود إلا أن أهل العلم نصوا على أنه ما من بيع إلا وفيه جانب من الغبن لأحد الطرفين؛ لأن منه ما هو قدري وهو خارج عن إرادة المكلفين، فإذا باع الإنسان حيواناً بحيوان ففي قدر الله تعيين أعمارهما، فيمكن أن يكون أحد الحيوانين لم يبق من عمره إلا اليسير، أو تكون ذريته أكثر وغلته أقوى، وهذا من قدر الله، فيكون الغبن على صاحب الحيوان الآخر، وكذلك في كل المبيعات، فبعض السيارات مثلاً في علم الله تعالى تعمر وتكون حوادثها يسيرةً قليلة، وتكون طاقتها مستمرة، وفي علم الله تعالى أن سيارات أخرى لا تعيش ولا تقوى وتكثر حوادثها، وكل ذلك من قدر الله وأمره، ومن هنا فالبيع والشراء كلاهما فيه مغامرة ومخاطرة، وتقوية للإنسان حتى يتولى هذه المغامرة والمخاطرة بنفسه؛ لما في ذلك من تقوية شخصيته، فإن الجبان لا يتحمل القرار، لا يستطيع أن يتحمل القرار، ولا أن يتخذه في أي أمر، والشجاع هو الذي يتحمل اتخاذ القرار في وقته، ويكون قراره مناسباً لحاله.

طريق مأمون لتبادل الأملاك

كذلك من حكمة مشروعية هذه العقود: أنها -كما ذكرنا سابقاً- طريق مأمون لتبادل الأملاك؛ ليصل كل إنسان إلى حاجته دون عناء، فهذا الطريق مانع من الاحتيال على حاجات الضعفاء بالسرقة، ومانع من الوصول إلى حاجات الأقوياء بالغصب والاعتداء.

مدعاة إلى التكافل الاجتماعي والتعاون

وكذلك من حكمة مشروعية العقود أيضاً: أنها مدعاة للتكافل الاجتماعي والتعاون، فإذا أحس التاجر أنه سيشترى منه بضائعه التي يوردها فإنه سيأتي بأكثر مما يحتاج هو إليه ومحيطه الخاص، ومن هنا كانت دراسة الأسواق مهمةً في إجراء العقود، فإذا أدرك الإنسان أن السوق عرضاً وطلباً مؤثر في السعر، ومؤثر كذلك في نوعية الحاجة؛ فسيسعى لسد حاجة الناس، ولتوفير ما هم راغبون فيه؛ ولذلك فميزان العرض والطلب هو من أهم المؤثرات في السعر، فإذا كانت المادة تكثر الرغبة فيها، ويكثر الطلب عليها، ويقل عرضها فسيرتفع ثمنها؛ لأن القيمة -كما سبق- تابعة للرقبات، والثمن تابع للرغبات؛ فلذلك إذا كثرت رغبة الناس في الشيء فسيكثر بذل الثمن فيه، ومن هنا يقع التعاون على توفير حاجيات الناس.

فالناس في باب العقود على ثلاثة أقسام: منتج، ومستهلك، ووسيط، فالمنتج هو: الذي ينتج المادة أو يأتي بها ليوصلها إلى أيدي المستهلكين، والمستهلك هو: الذي يشتريها ليقضي بها حوائجه، والوسيط هو: الذي يكون وسيطاً في توزيعها، فعادةً المنتج هو الذي ينتج الكمية، والوسيط هو الذي يوزعها بما كان أقل من ذلك وبما دونه؛ ولهذا يعد البائع بالجملة من جملة المنتجين، والبائع بالتقسيط من الوسيطين الذين هم وسطاء بين المستهلكين والمنتجين.

وهذه العقود لا بد من تقسيمها وذلك لحكمتين:

التسهيل في فهم العقود

الحكمة الأولى: أن التقسيم هو من جنس التعريف؛ ولذلك فإنك إذا قلت: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5]، يمكن أن يسألك إنسان: ما هي الأنعام؟ فإذا قلت: هي الإبل والبقر والغنم فهم معنى الأنعام، فهذا يدل على أن التقسيم نوع من أنواع التعريف تفهم به الحقائق والماهيات؛ فكذلك العقود ما دامت في إجمالها -وهي ما له طرفان إيجاب وقبول- يشق تصورها وفهمها ولكن إذا قسمت إلى أقسام سهل فهمها بعد ذلك.

معرفة الحكم التي من أجلها حرمت بعض العقود وأبيحت بعضها

وكذلك من حكمة معرفة هذا التقسيم: أن الشارع الحكيم رتب على بعض العقود من الأحكام ما لم يرتبه على بعض، ونحن مطالبون شرعاً بالتدبر والتفهم لمعرفة الحكم التي من أجلها أباح الشارع ما أباح، وحظر ما حظر، ورخص فيما رخص فيه، كل ذلك لحكمة بالغة. ومن هنا فإن أهل الأصول قسموا متعلق الخطاب الوضعي الذي هو علامة على إباحة الشارع للأمر، أو على حظره له أو على طلبه له إلى قسمين:

القسم الأول: يسمى السبب.

والقسم الثاني: يسمى العلة.

فالسبب: هو ما نصبه الشارع علامةً للحكم ولم تظهر لنا علاقته به، فالشارع نصب زوال الشمس سبباً لصلاة أربع ركعات وهي صلاة الظهر، ونصب دلوك الشمس سبباً لوجوب أربع ركعات وهي صلاة العصر، ونصب غروب الشمس سبباً لوجوب صلاة المغرب ثلاث ركعات، ونصب غروب الشفق سبباً لأربع ركعات صلاة العشاء، ونصب طلوع الفجر سبباً لركعتين، والعقل لا يمكن أن يتصور لماذا كان زوال الشمس سبباً لأربع ركعات، ودلوكها سبباً لأربع، وغروبها سبباً لثلاث، وغروب شفقها سبباً لأربع، وطلوع ضوئها -وهو الفجر- سبباً لركعتين، فهذا لا يدركه العقل، وهو الذي يسمى بالأسباب.

والقسم الثاني: هو الذي يدرك العقل وجه ارتباطه بالحكم وهو الذي يسمى بالعلل، فالخمر حرمها الله تعالى، وعلة تحريمها هي الإسكار أي: تغطية العقل، وهذه العلة واضحة منضبطة، وكل إنسان إذا عرف ضرر الخمر على العقول وتغطيتها لها سهل عليه أن يفهم لماذا حرمها الشارع؟ ولهذا يقول الحكيم:

لا تضع من عظيم قدر ولو كنت مشاراً إليك بالتعظيم

فالكبير العظيم يصغر قدراً بالتجري على الكبير العظيم

ولع الخمر بالعقول رمى الخمر بتنجيسها وبالتحريم

فإذا فهمنا هذه العلل ازدادت عقولنا، وتلقينا عن الله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ومن هنا كان لزاماً على كل إنسان أن يتعلم أحكام العقود، حتى إن الحطاب رحمه الله ذكر في حاشيته على مختصر خليل وهي مواهب الجليل في مقدمة البيوع، قال: أما قولهم: يكفي من الفقه ربع العبادات فلا شيء؛ لأن الإنسان لا يخلو عادةً من الحاجة إلى البيع والشراء، ولا يحل له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه؛ لقول الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، فكانت دراسة العقود من هذا القبيل من باب الجهاد في سبيل الله؛ لأنها تعلم علم، وقد سبق أن تعلم العلم من الجهاد، وأن مالكاً أخرج في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً).

وتقسيم العقود إذا عرفنا حكمة البحث فيه فلن نتعب أنفسنا بكثير من التقسيمات التي يذكرها الفقهاء والأصوليون، وإنما نقتصر على ما يؤدي إلى هاتين الحكمتين اللتين هما: معرفة الفرق بينها في الأحكام، وتصورها وفهمها، فنقسم العقود أربع تقسيمات:

فقد سبق في الدرس الماضي بيان تعريف العقود، وذكر أركانها وشروطها، وما ينبني على الإخلال بركن أو شرط من تلك الأركان والشروط، وسيكون الحديث موصولاً الليلة بذلك في تقسيم العقود، وذلك أن حكمة مشروعية العقود منها ما يرجع إلى تكوين شخصية المسلم، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفةً في الأرض، وشرع له هذه الأحكام ليمارس صلاحياته في الأرض، وهذه الصلاحيات بين الشارع احترامها، فكل إنسان له نطاقه الذي يتحرك فيه وهو محترم له محفوظ له شرعاً؛ ولذلك كان لزاماً على الإنسان أن تتكون شخصيته بالإذن له في التصرف فيما يمتحن به من مال الله تعالى، وقد شرع الله ذلك في معاملة الأيتام، فقال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، وقد نص أهل العلم على أن المقصود بابتلائهم إعطاؤهم اليسير من المال ليتصرفوا فيه حتى يعلم رشدهم من سفههم؛ ولذلك فإن التصرف في حد ذاته تكوين لشخصية المسلم، وقد نص أهل العلم على أن الوالد من حقوق ولده عليه أن يدع له مجالاً في التصرف؛ لئلا يعيش وقد توليت عنه الأمور، وتحملت عنه المسئوليات، فيعيش لا له ولا عليه كما قال جرير بن عطية في بني تيم اللات:

وإن التيم قد خبثوا وقلوا فلا طابوا ولا كثر العديد

ثلاث عجائز لهم وكلب وأشياخ على ثلل قعود

وإنك إن لقيت عبيد تيم وتيماً قلت أيهم العبيد

لئام العالمين كرام تيم وسيدهم وإن زعموا مسود

ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود

فيحتاج في تربية الأولاد إلى أن يتحملوا المسئوليات، وأن يتاح لهم المجال في التصرف، فلو تربى الولد بين أبويه يتوليان عنه كل المسئوليات، ويشتريان له كل لوازمه، دون أن يكون له أية مشاركة في الأمور؛ لم يكن ليستطيع تحمل الأعباء، ولا تولي المسئوليات فيما بعد؛ فلذلك كان من حكمة العقود تقوية شخصية المسلم حين يتولى البيع والشراء بنفسه، ويقدم على المخاطرة والمغامرة؛ ولذلك فإن الغبن وإن كان محظوراً شرعاً في العقود إلا أن أهل العلم نصوا على أنه ما من بيع إلا وفيه جانب من الغبن لأحد الطرفين؛ لأن منه ما هو قدري وهو خارج عن إرادة المكلفين، فإذا باع الإنسان حيواناً بحيوان ففي قدر الله تعيين أعمارهما، فيمكن أن يكون أحد الحيوانين لم يبق من عمره إلا اليسير، أو تكون ذريته أكثر وغلته أقوى، وهذا من قدر الله، فيكون الغبن على صاحب الحيوان الآخر، وكذلك في كل المبيعات، فبعض السيارات مثلاً في علم الله تعالى تعمر وتكون حوادثها يسيرةً قليلة، وتكون طاقتها مستمرة، وفي علم الله تعالى أن سيارات أخرى لا تعيش ولا تقوى وتكثر حوادثها، وكل ذلك من قدر الله وأمره، ومن هنا فالبيع والشراء كلاهما فيه مغامرة ومخاطرة، وتقوية للإنسان حتى يتولى هذه المغامرة والمخاطرة بنفسه؛ لما في ذلك من تقوية شخصيته، فإن الجبان لا يتحمل القرار، لا يستطيع أن يتحمل القرار، ولا أن يتخذه في أي أمر، والشجاع هو الذي يتحمل اتخاذ القرار في وقته، ويكون قراره مناسباً لحاله.

كذلك من حكمة مشروعية هذه العقود: أنها -كما ذكرنا سابقاً- طريق مأمون لتبادل الأملاك؛ ليصل كل إنسان إلى حاجته دون عناء، فهذا الطريق مانع من الاحتيال على حاجات الضعفاء بالسرقة، ومانع من الوصول إلى حاجات الأقوياء بالغصب والاعتداء.

وكذلك من حكمة مشروعية العقود أيضاً: أنها مدعاة للتكافل الاجتماعي والتعاون، فإذا أحس التاجر أنه سيشترى منه بضائعه التي يوردها فإنه سيأتي بأكثر مما يحتاج هو إليه ومحيطه الخاص، ومن هنا كانت دراسة الأسواق مهمةً في إجراء العقود، فإذا أدرك الإنسان أن السوق عرضاً وطلباً مؤثر في السعر، ومؤثر كذلك في نوعية الحاجة؛ فسيسعى لسد حاجة الناس، ولتوفير ما هم راغبون فيه؛ ولذلك فميزان العرض والطلب هو من أهم المؤثرات في السعر، فإذا كانت المادة تكثر الرغبة فيها، ويكثر الطلب عليها، ويقل عرضها فسيرتفع ثمنها؛ لأن القيمة -كما سبق- تابعة للرقبات، والثمن تابع للرغبات؛ فلذلك إذا كثرت رغبة الناس في الشيء فسيكثر بذل الثمن فيه، ومن هنا يقع التعاون على توفير حاجيات الناس.

فالناس في باب العقود على ثلاثة أقسام: منتج، ومستهلك، ووسيط، فالمنتج هو: الذي ينتج المادة أو يأتي بها ليوصلها إلى أيدي المستهلكين، والمستهلك هو: الذي يشتريها ليقضي بها حوائجه، والوسيط هو: الذي يكون وسيطاً في توزيعها، فعادةً المنتج هو الذي ينتج الكمية، والوسيط هو الذي يوزعها بما كان أقل من ذلك وبما دونه؛ ولهذا يعد البائع بالجملة من جملة المنتجين، والبائع بالتقسيط من الوسيطين الذين هم وسطاء بين المستهلكين والمنتجين.

وهذه العقود لا بد من تقسيمها وذلك لحكمتين:




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه المعاملات [3] 3343 استماع
فقه المعاملات [7] 3105 استماع
فقه المعاملات [4] 2305 استماع
فقه المعاملات [5] 2301 استماع
فقه المعاملات [6] 2142 استماع
فقه المعاملات [1] 1421 استماع
فقه المعاملات [8] 1390 استماع