فقه المعاملات [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بمنهج الحق؛ لإقامته للناس وإقامة الحجة عليهم، وقفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فجاء بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً؛ فلم يبق خير إلا دل عليه، ولم يبق شر إلا حذر منه، وجاء بالدين الذي جعله الله تعالى مسيطراً على الأديان كلها وناسخاً لما سبق، ولا يرتضي الله تعالى من أحد سواه؛ فجميع الأديان الأخرى نسخت بهذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل الله من أحد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن يتبعه؛ ولذلك فإن الله تعالى قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فوالذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه رأى ورقة من التوراة بيد عمر بن الخطاب فقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي )؛ ولذلك فإن نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام ( سينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً، ينزل وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، يمينه على ملك وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس )، أي: كأنما خرج من حمام، ( إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا طأطأه تقاطر، لا يشك فيه من رآه أنه المسيح بن مريم عليه السلام )، فيأتي حاكماً بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يغير شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يطبقه على وفق ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه المؤمنين.

وقد بنى الله سبحانه وتعالى هذا الدين بناء محكماً، فجعل بعضه يصدق بعضاً ويفسره؛ فلا يمكن أن يقتطع منه جانب دون الجوانب الأخرى، ولا يستقيم على التجزئة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ[آل عمران:72-73]، ونعى الله ذلك عليهم وأنكره، ورد عليهم في سورة البقرة فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ[البقرة:85]؛ فلهذا كان لزاماً على الإنسان أن يستسلم لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأن يأخذ به كافة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين أرسله في الدعوة إلى الله تعالى إلى اليمن: ( ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره )، وعندما فتح الله العراق على المسلمين ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلمان الفارسي على مدائن كسرى، ( فجاءه حبر من اليهود فقال: يا سلمان ! لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! فقال سلمان : أجل، علمنا ألا نستقبل القبلة ببول ولا غائط، وأن نستجمر ثلاثاً )، فليس شيء من تصرفات المكلف؛ إلا وقد جاء فيه خطاب من عند الله سبحانه وتعالى، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلح عليه أمر الناس فيه.

مدارسة الشريعة وتعلم أحكامها

ولذلك فلا بد من مدارسة هذه الشريعة وألا يقدم الإنسان على شيء حتى يعلم حكم الله فيه، فقد قال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء:36]، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يحل لامرئ أن يفعل فعلاً حتى يعلم حكم الله فيه، وأن من لم يكن عالماً بذلك فيجب عليه أن يسأل أهل العلم؛ لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]؛ ولقوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى مدارسة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور، وهذا أول مراحل التصديق؛ لأن التصديق هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباعه لا بد أن يبدأ أولاً بتعلم ما جاء به، فمن كان معرضاً عما جاء به ولا يتعلمه ولا يلقي له بالاً لا شك أنه معرض عنه، وسيبعث أعمى يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ[طه:124-127].

فيحتاج الإنسان أولاً إلى أن ينفق جزءاً من وقته في تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن تعلم ذلك أفضل من العمل به؛ لأنه سابق عليه؛ ولهذا قال البخاري رحمه الله في الصحيح: باب: العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19]، فيحتاج الإنسان إلى أن يتعلم الأحكام قبل الإقدام عليها؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح تعليقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا قبل أن تسودوا). واختلف أهل العلم في معنى قوله: (قبل أن تسودوا) فقالت طائفة: قبل أن يلجأ إليكم الناس، فإن الإنسان إذا تقدم به العمر وصل إلى مقام السيادة، وهو أن يلجأ إليه الناس في أمورهم، وقيل: معنى ذلك: قبل أن تتزوجوا؛ لأن الإنسان إذا أصبح رب بيت كان سيداً في بيته، وقالت طائفة أخرى: بل المعنى: قبل أن تسود لحاكم، أي: قبل أن تنبت وجوهكم الشعر؛ فكل ذلك مما فسر به قول أمير المؤمنين رضي الله عنه.

وهذا يقتضي من الإنسان الحرص على أن يتعلم أولاً قبل أن يعمل.

التأصيل العلمي وربطه بالدليل

ثم بعد هذا لا بد أن يكون ذلك العلم الذي يتعلمه مؤصلاً، أي: أن يجد الإنسان ثبتاً من الله تعالى فيما يأخذ به؛ لأن الإنسان إذا كان مقلداً يسمع قال فلان وقال فلان من الناس لم يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له بينة بينه وبين الله فيما يعمل به، أما إذا كان يبحث عن الدليل في كل ما يأخذ به من الأقوال والأفعال، وكانت أموره معتمدة مستندة على الوحي؛ فإنه حينئذ صاحب سلاح قوي، وهو متمسك بثبت من الله تعالى؛ فلا يخشى عليه أن يقول عند سؤال الملكين: هاه.. هاه! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لأنه إنما يأخذ بالوحي.

ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون مأخذه ومرجعه هو هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؛ فلا معدل عنه، ولا يمكن أن يخالفه أحد، ولا يمكن أن يرغب الإنسان عنه إلا إذا كان سفيهاً، فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إليه في كل الأمور، وأن يعلم أن كل حكم أو أمر لم يكن معتمداً على الوحي ولم تقم عليه بينة من الله تعالى فهو رد على صاحبه؛ ولهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم هو من أكبر الكبائر التي عدها الله في هذه الآية، وهذا يقتضي أيضاً حرص الإنسان على الاستدلال على كل ما يسمعه؛ فإن الإنسان إذا تبين الدليل وعرفه التزم ما أمر الله به في قوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وكان على ثبت، وقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، فيحتاج إذاً إلى أن يتصل بالله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي الذي جاء من عنده، فإذا عمل عملاً كانت البينة والثبت بين يديه، وهو حجة بينه وبين الله، وإذا لم يفعل وكان يتبع أقوال الناس فأقوال الناس متعارضة متباينة، فيها كثير من الخلل والخلاف؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]؛ فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إلى الوحي الذي هو من عند الله لعصمته، ولأنه الذي يرضي الله وقد أرسل به نبيه صلى الله عليه وسلم.

العمل بالعلم وتطبيقه

وإذا عرف الإنسان الأحكام بأدلتها جاء إلى المرحلة الثالثة، وهي أن يعمل بما تعلمه وعرف دليله؛ لأن العلم إنما هو سلاح ذو حدين، تقوم به الحجة على من علمه إذا لم يعمل به؛ ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي). وأخرج عنه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله أيضاً أنه قال رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟)؛ ولذلك فهذا القرآن حجة ناطقة على الناس، كل من بلغه وسمعه فقد قامت عليه الحجة به.

ولذلك فلا بد من مدارسة هذه الشريعة وألا يقدم الإنسان على شيء حتى يعلم حكم الله فيه، فقد قال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء:36]، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يحل لامرئ أن يفعل فعلاً حتى يعلم حكم الله فيه، وأن من لم يكن عالماً بذلك فيجب عليه أن يسأل أهل العلم؛ لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]؛ ولقوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى مدارسة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور، وهذا أول مراحل التصديق؛ لأن التصديق هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباعه لا بد أن يبدأ أولاً بتعلم ما جاء به، فمن كان معرضاً عما جاء به ولا يتعلمه ولا يلقي له بالاً لا شك أنه معرض عنه، وسيبعث أعمى يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ[طه:124-127].

فيحتاج الإنسان أولاً إلى أن ينفق جزءاً من وقته في تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن تعلم ذلك أفضل من العمل به؛ لأنه سابق عليه؛ ولهذا قال البخاري رحمه الله في الصحيح: باب: العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19]، فيحتاج الإنسان إلى أن يتعلم الأحكام قبل الإقدام عليها؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح تعليقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا قبل أن تسودوا). واختلف أهل العلم في معنى قوله: (قبل أن تسودوا) فقالت طائفة: قبل أن يلجأ إليكم الناس، فإن الإنسان إذا تقدم به العمر وصل إلى مقام السيادة، وهو أن يلجأ إليه الناس في أمورهم، وقيل: معنى ذلك: قبل أن تتزوجوا؛ لأن الإنسان إذا أصبح رب بيت كان سيداً في بيته، وقالت طائفة أخرى: بل المعنى: قبل أن تسود لحاكم، أي: قبل أن تنبت وجوهكم الشعر؛ فكل ذلك مما فسر به قول أمير المؤمنين رضي الله عنه.

وهذا يقتضي من الإنسان الحرص على أن يتعلم أولاً قبل أن يعمل.

ثم بعد هذا لا بد أن يكون ذلك العلم الذي يتعلمه مؤصلاً، أي: أن يجد الإنسان ثبتاً من الله تعالى فيما يأخذ به؛ لأن الإنسان إذا كان مقلداً يسمع قال فلان وقال فلان من الناس لم يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له بينة بينه وبين الله فيما يعمل به، أما إذا كان يبحث عن الدليل في كل ما يأخذ به من الأقوال والأفعال، وكانت أموره معتمدة مستندة على الوحي؛ فإنه حينئذ صاحب سلاح قوي، وهو متمسك بثبت من الله تعالى؛ فلا يخشى عليه أن يقول عند سؤال الملكين: هاه.. هاه! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لأنه إنما يأخذ بالوحي.

ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون مأخذه ومرجعه هو هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؛ فلا معدل عنه، ولا يمكن أن يخالفه أحد، ولا يمكن أن يرغب الإنسان عنه إلا إذا كان سفيهاً، فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إليه في كل الأمور، وأن يعلم أن كل حكم أو أمر لم يكن معتمداً على الوحي ولم تقم عليه بينة من الله تعالى فهو رد على صاحبه؛ ولهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم هو من أكبر الكبائر التي عدها الله في هذه الآية، وهذا يقتضي أيضاً حرص الإنسان على الاستدلال على كل ما يسمعه؛ فإن الإنسان إذا تبين الدليل وعرفه التزم ما أمر الله به في قوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وكان على ثبت، وقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، فيحتاج إذاً إلى أن يتصل بالله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي الذي جاء من عنده، فإذا عمل عملاً كانت البينة والثبت بين يديه، وهو حجة بينه وبين الله، وإذا لم يفعل وكان يتبع أقوال الناس فأقوال الناس متعارضة متباينة، فيها كثير من الخلل والخلاف؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]؛ فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إلى الوحي الذي هو من عند الله لعصمته، ولأنه الذي يرضي الله وقد أرسل به نبيه صلى الله عليه وسلم.

وإذا عرف الإنسان الأحكام بأدلتها جاء إلى المرحلة الثالثة، وهي أن يعمل بما تعلمه وعرف دليله؛ لأن العلم إنما هو سلاح ذو حدين، تقوم به الحجة على من علمه إذا لم يعمل به؛ ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي). وأخرج عنه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله أيضاً أنه قال رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟)؛ ولذلك فهذا القرآن حجة ناطقة على الناس، كل من بلغه وسمعه فقد قامت عليه الحجة به.

ولا بد أن يعلم الإنسان أن ما شرعه الله من الأحكام قد رتب الله بعضه على بعض، وساقه في سياق لا يقبل التجزئة والتفريق، فالقيم الأخلاقية هي منبنية على الاعتقاد، فالاعتقاد هو أصل الأمر للإسلام، فهذا الإسلام الذي آمنت به وصدقت ينبني عليه القيم الخلقية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )، فالقيم الخلقية تنبني عليها القيم الاقتصادية والاجتماعية، ثم بعد ذلك تأتي القيم السياسية، وهي منبنية على القيم الاقتصادية والاجتماعية.

وهذا الترتيب إذا فصله الإنسان وجزأه لا يمكن أن يستقيم له أمر من أمور دينه ولا من أمور دنياه، فإذا أراد الإنسان أن يأخذ من الإسلام فقط جانب العقيدة والعبادة ويهمل الجوانب الأخرى؛ فيأكل الربا ويوكله ويتعامل مع الناس بالأخلاق التي يشرعها لنفسه فيتبع بذلك خطوات الشيطان، ويكون في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مفصولاً عن هذا الدين بالكلية ولا يمكن أن يصلح له شيء، ولا يقبل الله صلاته ولا طهارته ولا صيامه، بل لا يمكن أن تستقيم عقيدته أصلاً على ذلك؛ فلا بد من الرجوع المطلق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[النساء:65].

ثم بعد هذا أضرب مثالاً لارتباط القيم الاقتصادية بالقيم الخلقية، لو أن ملكاً من الملوك رتب عقوبة عظيمة على الربا؛ فقال: من أكل الربا فسأقتله، فهل سينزجر الناس عن الربا بمجرد هذه العقوبة، مع أنهم يفشو فيهم الكذب ونقص الأمانة والإخلاف والحرص على الدنيا، والحرص على عاجل أمرها والغش والغبن وغير ذلك؟ إذا ترك هذه القيم الفاسدة في أخلاق الناس، ولكنه أراد أن يفرض عليهم العمل على مقتضى قانونه بالعقوبات، فهل سيطيعه الناس ويمتثلون لقانونه؟

لن يطيعوه، بل سيحتالوا بالوصول إلى أهدافهم بلي عنق ذلك القانون، أو الاحتيال عليه بالوساطة أو الرشوة أو غير ذلك.

ولهذا فإن القيم الشرعية ربطت بالخلق؛ فرتب الشارع هذه القيم أمراً ونهياً على الأخلاق؛ فجعل التزام الإنسان راجعاً إلى مروءته وشرفه، وجعل إقراره مأخذاً له؛ فهو مرجعه ومخاطب به، وجعل عقود الناس متعلقة بعقائدهم: وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا[البقرة:177]، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ[النحل:91]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ[النحل:91-92]؛ فلذلك ربط الشارع هذه القيم بالقيم الخلقية؛ ليقتضي ذلك حرص الإنسان على الوفاء بالتزاماته؛ لأنها من شرفه ومن مروءته ومن خلقه، وما لم يكن الإنسان كذلك فلا يمكن أن يوثق بعمله، ولا يمكن أن يوثق بقيامه بالتزاماته، ولا بوفائه بديونه وأموره التي يغيب عليها.

الحاجة إلى خلق الأمانة في فقه المعاملات

فلذلك يحتاج الإنسان قبل التعامل أن يحرص على تحقيق الأمانة؛ فهي شرط لكل الأمور، وهي أخت الدين؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا إيمان لمن لا أمانة له )، وصح عنه أنه قال: ( إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال؛ فتعلموا من القرآن وتعلموا من السنة، وإنه سيسرى عليها فتنزع من القلوب، فيبقى أثرها كالوكت، كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، فتراه منتبراً وليس فيه شيء ).

وهذه الأمانة هي من الشرف والخلق، فإذا كان الإنسان صاحب أمانة فسيوثق به بين الناس، وسيدل ذلك على حسن خلقه وعلى صحة التزاماته ووفائه، وإذا كان صاحب إخلاف ولم تكن له أمانة فلا يمكن أن يثق أحد بتعامله، ولا يمكن أن يودع ولا أن يتعامل معه بالديون، ويحوج إلى الزيادة في السعر عن طريق الدين وهو الربا، فحاجة الناس إلى ربا النساء سببها عدم حصول الثقة، لكن إذا كانت الثقة حاصلة وكان المعلوم من الإنسان أنه سيقضي الدين في أجله المسمى والمحدد، ولا يمكن أن يتأخر عنه يوماً ولا ليلة، والثقة حاصلة به، فلا حاجة لزيادة السعر عليه؛ لأنك قد ربحت بتقديرك عندما بعته بأكثر من الثمن الذي اشتريت به، وحرصت على الوفاء في الوقت المحدد الذي تحتاج فيه إلى ثمن مبيعاتك، وكذلك الحال بالنسبة لكل الديون؛ فالسلم والقرض وبيوع الآجال كلها إذا حصلت الأمانة والثقة لن يحتاج فيها إلى الربا بوجه من الوجوه؛ لأن الربا إنما يقصد به الناس الاحتياط لأموالهم عند انعدام الثقة، وإذا حصلت الثقة زال ذلك؛ فلذلك يحتاج المعامل إلى تحقيق الأمانة قبل إقدامه على العمل.

أمور الدين القائمة على خلق الأمانة

وهذه الأمانة تشمل الأمانة في كل الأمور؛ فأمانات الله لديك منها جوارحك؛ فلا بد من حفظها، ومنها كذلك ما ائتمنك عليه من أمور دينه؛ فأمور الدين التي ائتمنك الله عليها تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: تكاليف خاصة لكل إنسان فيها مسئوليته المباشرة، مثل: طهارة الإنسان، وصلاته، ونفقة أهله، والقوامة على عياله؛ فهذه أمور على كل فرد من الأفراد مسئوليتها المباشرة.

والقسم الثاني: هو الخطاب العام المشترك وهو فروض الكفايات؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الدين وتبليغه إلى الناس، والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك؛ فهذه فرائض مشتركة على كل إنسان منها حظ، وكل إنسان يجب عليه أن يشارك في القيام بها ما تيسر له ذلك وما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ فيحتاج الإنسان إلى معرفة أنها أمانة لديه وأنه مسئول عنها بين يدي الله تعالى، إذا تذكر الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بأمانة عظيمة يحملها من عند الله فأداها إلينا فحملناها في أعناقنا، وما منا أحد إلا وقع على الاستلام؛ فكل إنسان منا بمجرد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد وقع الوثيقة على الاستلام ورفعت إلى الله، فكانت بيعة بيننا وبين الله، أكدها الله في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فقال تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111]؛ فهذه أمانة عظيمة، وقد عرضت من قبل تنبيهاً لعظمها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؛ كما قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[الأحزاب:72].

تعامل الإنسان مع أمانات الناس

ثم كذلك أمانات الناس لديك، وهي تشمل أسرارهم وعيوبهم التي تطلع عليها، وما تطلع عليه من أحوالهم التي لا يريدون إظهارها فهي أمانة لديك؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه )، فلذلك تحتاج إلى حفظ أمانات الناس وأسرارهم، ولو لم يصرح لك بالأمانة فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حدثك والتفت فقد ائتمنك )، فمجرد الالتفات مؤذن بأنه يأتمنك على سره، وكذلك منها ديونهم وبياعاتهم وأمورهم؛ فهي أمانة لا بد من الوفاء بها وأدائها على الوجه الصحيح، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم برفع الأمانة، وذكر أن الأمانة إذا رفعت فهي علامة من أشراط الساعة، وبين أنها سترفع حتى يقال: ( في بني فلان رجل أمين )، أي: في القبيلة كلها رجل واحد أمين، وبين كذلك أن من رفعها أن يوسد الأمر إلى غير أهله، وأن يوثق بمن لا يستحق الثقة؛ فهذا من رفع الأمانة حيث قال: ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قلت: فما ضياعها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ).

فلذلك نحتاج إلى مراجعة هذه الأمانة قبل العقود كلها، وأن يمتحن الإنسان نفسه في الأمانة؛ فهي من تقواه؛ فإذا كان الإنسان يعلم أنه غير أمين، فعليه أن يعالج هذا المرض الذي فيه كما لو علم أنه مصاب بداء عضال، أليس سينفق أمواله من أجل شفاء ذلك المرض وعلاجه؟ فكذلك إذا أحس بنقص في الأمانة سواءً تعلق بجوارحه، أو بطاعاته وعباداته، أو تعلق بمعاملاته مع الناس، فلا بد أن يبادر لعلاج هذا المرض قبل استفحاله، وكذلك الحال في حق أقاربه فمن له قريب يعلم أن لديه نقصاً في الأمانة لا بد أن يبادر لعلاجه من هذا المرض قبل أن يستشري فيه.

دور الوالي في الحفاظ على الأمانة العامة بين الناس

ومن هنا فإن الحق العام في ذلك ينبغي أن ترعاه الدولة؛ فمن عرف بنقص الأمانة لا بد أن تقوم الدولة برعاية تصرفاته حتى لا يغر الناس، وحتى لا يعاملهم معاملات يضيع فيها أملاكهم وأموالهم؛ ولذلك فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف على المنبر في خطبة له فقال: (ألا إن الأسيفع -أسيفع جهينة- قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سابق الحاج، فادّان معرضاً، فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة، فلنقسم ماله بينهم بالحصص). فهذا رجل من جهينة كان يأخذ الديون فيشتري أسبق الرواحل؛ ليسبق الحجاج في الرجوع إلى المدينة ليقال: سابق الحاج، فكثرت ديونه ففلسه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا التفليس قد لا يضره في دينه وخلقه؛ لأن الإنسان قد يقع في مثل هذا النوع من غير قصد منه، كما حصل لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه، وأنتم تعلمون مكانته في الإسلام ومنزلته فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه أعلم أصحابه بالحلال والحرام؛ فقال: ( أقرؤكم أبي ، وأقضاكم علي ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )، وذكر أنه يبعث يوم القيامة أمام العلماء برتوة، أي: بمجرى فرس، يسبق العلماء به يوم القيامة، ومع هذا فقد فلسه النبي صلى الله عليه وسلم عندما تراكمت عليه الديون، وأنتم تعلمون قطعاً أنها ليست في مخيلة ولا سرف، ( دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحضر لي ما تملكه، فجاء بحلس وقتب وقدح )، ثلاثة أمور هي ملكه، ما عدا سيفه الذي يجاهد به في سبيل الله، فعرضها النبي صلى الله عليه وسلم للناس للبيع، وأراد بذلك أن يتسابق أغنياء المسلمين لقضاء دين معاذ ، فكانت أول مزايدة في الإسلام، وأول بيع يبيعه المسلمون مزايدة هو تفليس معاذ بن جبل ، قال: ( من يشتري هذا القدح؟ من يشتري هذا القتب؟ من يشتري هذا الحلس؟ )، فبادر الناس كل يدفع فوق ما يدفع صاحبه، حتى حصل من ذلك ما قضى دين معاذ ، وهذا من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وتدبيره.

ومن هنا فإنه صلى الله عليه وسلم أيضاً في نصيحته لـفاطمة بنت قيس ، لما أمرها ألا تسبق بنفسها إذا انتهت عدتها، فلما انتهت عدتها جاءت فقال: ( من تعرض لك من الخطاب؟ فقالت: معاوية و أبو الجهم ، فقال: أما معاوية فرجل صعلوك )، أي: فقير، ليس له مال، ( وأما أبو الجهم فلا يرفع عصاه عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة بن زيد )، فاختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، الحب بن الحب، وهذا النوع لا يقتضي نقصاً في الخلق ولا في الدين كما رأيتم، ولكنه حفاظ على الأمانة العامة بين الناس؛ فكل من عرف أنه صاحب ديون أو أن ذات يده عجزت عن سداد ديونه، فلا بد من ضرب قيد عليه؛ لئلا يغتر به الناس فيعاملوه فتذهب أموالهم، فأموال المسلمين معصومة كعصمة دمائهم؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أي يوم هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فأي بلد هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلدة؟ )، أي: البلدة الحرام، ( قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ).

حرص الإنسان على خلق الأمانة والوفاء بديونه

فلذلك لا بد من الحفاظ على أموال المسلمين وعدم تضييعها وتعريضها للضياع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أخذ مال مسلم يريد الوفاء به أعانه الله عليه، ومن أخذه يريد إتلافه أتلفه الله )، فمن أخذ مال امرئ مسلم ديناً وهو يريد الوفاء به أعانه الله على الوفاء به ومن أخذه وهو يريد إتلافه أتلفه الله.

ولذلك كان لزاماً على كل إنسان أن يعرض نفسه على هذه القيمة من قيم الإسلام وهي قيمة الأمانة، وأن ينظر هل هو أمين في تعامله مع الناس؟ وهل هو وفي بالتزاماته؟ وهل هو محل للثقة؟ فإن كثيراً من الناس لا يقوم نفسه من هذا الجانب، وإنما يقوم الأطراف الأخرى التي تتعامل معه؛ فيقول: استدنت من فلان ومن فلان فلم يدينوني، وقد قال الشاعر:

أخذت بعين المال حتى نهكته وبالدين حتى ما أكاد أدان

وحتى طلبت القرض عند ذوي الغنى ورد فلان حاجتي وفلان

فمثل هذا النوع ينبغي للإنسان ألا يقوم فيه الآخرين، بل يقوم فيه نفسه أولاً؛ فإن كان صاحب صدق ووفاء وأمانة، وكان يسعى لقضاء ديون الناس، فسيثقون به ويدينونه، وإن كان ليس كذلك فالعلة ليست من الناس بل هي منه؛ ولذلك عليه أن يعالج هذا المرض قبل أن يتفاقم فيه.

إن خلق الأمانة خلق عظيم، لا بد من تحصيله قبل الإقدام على أي عقد، سواء كان ذلك العقد ناضاً أو كان ديناً، فهي تشمل العقود كلها، فالعقد الناض الذي لا دين فيه يمكن أن يخفي فيه الإنسان بعض ما يكره، فيكون ذلك غشاً وخداعاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه مر بالسوق فرأى صبرة من طعام )، أي: طعاماً قد صب بعضه فوق بعض، ( فأدخل يده في تلك الصبرة فأخرج منها )، أي: ما مسه البلل، ( فقال: يا صاحب الطعام ما هذا؟ فقال: أصابه المطر، فقال: هلا أخرجته؛ فمن غشنا فليس منا )، فلذلك يمكن أن يقع الغش ونقص الأمانة، حتى في العقود التي ليس فيها دين.

والديون كلها عرضة كذلك لعدم السداد وعدم الوفاء، فيحتاج الإنسان أولاً إلى أن يعرض على نفسه لماذا يستدين؟ فإن كان ذلك في خيلاء، ويريد فقط زيادة الرفاه أكثر من حاجته فهذا الدين حرام، ولا يحل له اقتراضه، وكذلك إذا كان في مخيلة، أي: في خيلاء وكبر فهذا الدين لا يحل له اقتراضه، إنما يحل له اقتراضه في غير سرف ولا مخيلة ولا كبر، فما يضطر إليه الإنسان من ضرورياته، أو ما يحتاج إليه من حاجياته وتكميلياته إذا كانت في غير سرف ولا مخيلة جاز له اقتراض الدين فيها؛ بشرط أن يكون عازماً على الوفاء، وأن يحرص على أن يفي في الوقت المحدد ليوفي الله عنه ذلك.

فلذلك يحتاج الإنسان قبل التعامل أن يحرص على تحقيق الأمانة؛ فهي شرط لكل الأمور، وهي أخت الدين؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا إيمان لمن لا أمانة له )، وصح عنه أنه قال: ( إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال؛ فتعلموا من القرآن وتعلموا من السنة، وإنه سيسرى عليها فتنزع من القلوب، فيبقى أثرها كالوكت، كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، فتراه منتبراً وليس فيه شيء ).

وهذه الأمانة هي من الشرف والخلق، فإذا كان الإنسان صاحب أمانة فسيوثق به بين الناس، وسيدل ذلك على حسن خلقه وعلى صحة التزاماته ووفائه، وإذا كان صاحب إخلاف ولم تكن له أمانة فلا يمكن أن يثق أحد بتعامله، ولا يمكن أن يودع ولا أن يتعامل معه بالديون، ويحوج إلى الزيادة في السعر عن طريق الدين وهو الربا، فحاجة الناس إلى ربا النساء سببها عدم حصول الثقة، لكن إذا كانت الثقة حاصلة وكان المعلوم من الإنسان أنه سيقضي الدين في أجله المسمى والمحدد، ولا يمكن أن يتأخر عنه يوماً ولا ليلة، والثقة حاصلة به، فلا حاجة لزيادة السعر عليه؛ لأنك قد ربحت بتقديرك عندما بعته بأكثر من الثمن الذي اشتريت به، وحرصت على الوفاء في الوقت المحدد الذي تحتاج فيه إلى ثمن مبيعاتك، وكذلك الحال بالنسبة لكل الديون؛ فالسلم والقرض وبيوع الآجال كلها إذا حصلت الأمانة والثقة لن يحتاج فيها إلى الربا بوجه من الوجوه؛ لأن الربا إنما يقصد به الناس الاحتياط لأموالهم عند انعدام الثقة، وإذا حصلت الثقة زال ذلك؛ فلذلك يحتاج المعامل إلى تحقيق الأمانة قبل إقدامه على العمل.

وهذه الأمانة تشمل الأمانة في كل الأمور؛ فأمانات الله لديك منها جوارحك؛ فلا بد من حفظها، ومنها كذلك ما ائتمنك عليه من أمور دينه؛ فأمور الدين التي ائتمنك الله عليها تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: تكاليف خاصة لكل إنسان فيها مسئوليته المباشرة، مثل: طهارة الإنسان، وصلاته، ونفقة أهله، والقوامة على عياله؛ فهذه أمور على كل فرد من الأفراد مسئوليتها المباشرة.

والقسم الثاني: هو الخطاب العام المشترك وهو فروض الكفايات؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الدين وتبليغه إلى الناس، والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك؛ فهذه فرائض مشتركة على كل إنسان منها حظ، وكل إنسان يجب عليه أن يشارك في القيام بها ما تيسر له ذلك وما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ فيحتاج الإنسان إلى معرفة أنها أمانة لديه وأنه مسئول عنها بين يدي الله تعالى، إذا تذكر الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بأمانة عظيمة يحملها من عند الله فأداها إلينا فحملناها في أعناقنا، وما منا أحد إلا وقع على الاستلام؛ فكل إنسان منا بمجرد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد وقع الوثيقة على الاستلام ورفعت إلى الله، فكانت بيعة بيننا وبين الله، أكدها الله في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فقال تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111]؛ فهذه أمانة عظيمة، وقد عرضت من قبل تنبيهاً لعظمها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؛ كما قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[الأحزاب:72].