فقه المعاملات [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن طلب العلم من أعظم القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو طريق إلى الجنة كما صح في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، وإن كثيراً من أوقاتنا تضيع ولا ندري في أي الكفتين تذهب، والوقت الذي يمضيه الإنسان في طلب علم أو التماسه هو وقت مبارك؛ لأنه يعلم أنه سائر إلى كفة حسناته قطعاً؛ خصوصاً إذا كان ذلك في مسجد من مساجد الله؛ فعمارتها بمجرد الجلوس فيها وانتظار الصلاة بعد الصلاة رباط في سبيل الله.

والرباط من أعظم الجهاد أجراً لما صح في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من ميت إلا يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله؛ فإنه لا يختم على عمله ويأمن الفتان )؛ فالميت يختم على عمله لأن مدة التكليف هي هذا العمر اليسير الذي نحن فيه، ووقته ضيق جداً، وما لم يعمله الإنسان فيه لا يجده؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا[آل عمران:30]، والمرابط في سبيل الله لا يختم على عمله، فإذا جاء وقت كان يصلي فيه كتب من المصلين، وإذا جاء وقت كان يصوم فيه كتب من الصائمين، وإذا جاء وقت كان يتصدق فيه كتب من المتصدقين، (ويأمن الفتان) أي: يؤمنه الله تعالى من فتنة القبر أو من فتنة الموت فيأمن ذلك.

ولذلك فإن عمارة هذه المساجد والجلوس فيها وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والتماس العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، كل ذلك قربات تجتمع للإنسان، وعمارة المسجد إنما تتأتى بالنية التي تشمل عدة أمور:

استشعار ضيافة الرحمن في المسجد

النية الأولى: أن ينوي الإنسان أولاً أنه ضيف على الرحمن جل جلاله بجلوسه هنا، فأنتم تعرفون أن الكريم إذا زاره الضيوف لا شك أنهم يتعرضون للإكرام، والملك الديان سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وهو يدعو لزيارة بيته فيكرم الزائرين، وأقل ما يرجونه من الإكرام مغفرة سيئاتهم؛ فإن الملائكة يحفونهم ويرتفعون إلى ربهم، وفي نهاية ما يقدمونه يقول: ( أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان، ليس منهم إنما جاء لحاجته! فيقول: هم القوم -أو هم الرهط- لا يشقى بهم جليسهم ).

حبس الجوارح عن المعصية

النية الثانية: حبس الإنسان جوارحه عن المعصية؛ فالإنسان ما دام في المسجد هنا لا يتعرض للمعاصي فهو مرابط؛ لأنه حبس جوارحه جميعاً عن المعاصي، لا تقع عينه على المعصية ولا يسمعها ولا يتحدث بها؛ فجوارحه هنا قد ملكها، وأنتم دائماً تسألون الله تعالى أن يملككم أنفسكم بخير؛ كما في الدعاء: اللهم ملكنا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر، والإنسان بجلوسه في المسجد قد ملك نفسه بخير؛ لأن جوارحه مشغولة بالطاعة.

التماس العلم

التعرف على الملائكة

النية الرابعة: هي التعرف على الملائكة الذين يعرفون الناس ويكتبون أسماءهم على أبواب المساجد؛ الأول فالأول، وهو من التعرف على الله في الرخاء؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نصيحته لـابن عباس ، وهي نصيحة للأمة كلها: ( تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة )، والملائكة يحصون الناس على أبواب المساجد الأول فالأول، ويصلون على ميامن الصفوف، وهم يدعون لأولئك الذين عرفوهم بالخير، وأنتم تعرفون أن دعاءهم مستجاب عند الله تعالى، ما منكم أحد الآن إلا وهو يرضى إذا دعا له أخوه المسلم بدعاء صالح؛ لأنه يعلم أنه مظنة الإجابة؛ فكيف بدعاء الملائكة! الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[غافر:7-9]؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الملائكة لتصلي على أحدكم وهو في مصلاه الذي صلى فيه: اللهم اغفر له.. اللهم ارحمه، ما لم يحدث )، فالمكان الذي جلس فيه الإنسان يبقى بعد صلاته فيه لأنه يتعرض لدعاء الملائكة، حيث يقولون: اللهم اغفر له.. اللهم ارحمه، ونحن نسرف آناء الليل وأطراف النهار، ونحتاج إلى تكفير السيئات، ومن أعظم ما نرجوه لتكفيرها دعاء الملائكة لنا؛ فهو دعاء مستجاب لا يرد.

تكثير سواد المسلمين

النية الخامسة من النيات التي ينويها الإنسان بمرابطته في المسجد أيضاً: تكثير سواد المسلمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم عطية في الصحيحين: ( كان في صلاة العيد يأمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين )؛ فتكثير سواد المسلمين مقصد شرعي، وهو زيادة في درجة النبي صلى الله عليه وسلم وتكثير لأتباعه، وهذا ما كان يحبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وأنتم تحبون إدخال السرور على النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل السرور عليه تكثير سواد المسلمين في المساجد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، فهو يرجو كثرة الأتباع.

التعرف على المسلمين

النية السادسة التي ينويها الإنسان في مرابطته في المسجد: هي التعرف على إخوانه المسلمين؛ فلهم حقوق عظيمة عليه، وهذه الحقوق أقلها هو مجرد مجالستهم ومجاورتهم؛ فالمجالسة في الله سبحانه وتعالى سبب لمحبته وظله يوم القيامة؛ كما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )، ويقول كما أخرج مسلم في الصحيح كذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في )؛ فأمر عظيم جداً أن يجالس الإنسان إخوانه المؤمنين، وهو علاج لنفسه أولاً؛ فالإنسان عرضة للكبر والعجب ولكثير من الطغيان؛ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، فإذا جلس بين إخوانه المؤمنين وعلم أنه منهم، وهو يرجو أن يبعث بين ظهرانيهم وأن يكون مع المؤمنين في المحيا وأن يكون معهم في الممات وأن يكون معهم في البعث، يجلس الغني بين الفقراء والكبير بين الصغار والقوي بين الضعفاء، وبهذا تتم الألفة وتزول الكلفة بين المسلمين، وهذا تحقيق للأخوة التي أمرنا الله بتحقيقها؛ ومن هنا فإن مخالطة الإنسان لإخوانه المؤمنين في المسجد انتصار على نفسه وتعويد لها على الصبر، وفيها من الأجر العظيم والخير الكثير ما لا يمكن أن يخطر على بال.

التعرض لاستجابة الدعاء

النية السابعة من النيات التي ينبغي أن تخطر على بال الإنسان في وقت مرابطته في المسجد: أنه الآن عرضة لاستجابة الدعاء؛ فهذا الحشد الكبير من المسلمين لا يمكن أن يرفعوا أيدي الضراعة إلى الله إلا استجاب لهم؛ لأنه لا بد أن يكون فيهم مجاب، يستجاب دعاؤه، فشهود الإنسان معهم تعرض لإجابة دعائه، وهو محتاج إلى ذلك لا شك؛ فما منا أحد يحب أن ترد حاجته لدى مسئول من المسئولين أو شخص من الأشخاص المعروفين في الحياة الدنيا؛ فكيف برد حاجته عند الملك الديان! نحن محتاجون إلى أن تقبل حوائجنا عند الله تعالى، ومن التعرض لذلك الاشتراك في مثل هذه الجموع العظيمة، التي فيها دعاء المذلة والضراعة إلى الله تعالى ورفع الأكف إليه، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وهذا الحشد الكبير من المسلمين لا بد أن يكون فيهم مجابون؛ فيستجيب الله تعالى دعاءهم في البقية، ويهب المسيئين للمحسنين.

استشعار الاتصال الروحي بمجالس النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده

كذلك فإن اجتماعنا في المساجد لتعلم أمور ديننا هو مما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحجة البيضاء التي تركنا عليها صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان الناس يجتمعون عليه في المسجد يعلمهم مما علمه الله، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره: ( أنه تقدم إلى الصلاة وأقيمت الصلاة، فجاء أعرابي فوقف أمام الصف فقال: يا رسول الله! علمني مما علمك الله؛ فانفتل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده على منكبه وعلمه ساعة والناس ينتظرون في مصافهم، ثم عاد إلى مكانه فأحرم فصلى بالناس )؛ فلذلك نتذكر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسه فيكون هذا اتصالاً روحياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كأننا معه في مجلسه؛ ولذلك قال ابن الأعرابي رحمه الله: (من كان في بيته كتاب الترمذي فكأنما في بيته نبي يتكلم) أي: إن سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمجالس التي يذكر فيها وتكثر فيها الصلاة عليه هي مما ينور الله به البصائر والقلوب، ونحن محتاجون إلى تنوير بصائرنا للفهم عن الله تعالى والإقبال عليه؛ فإن هذه الدنيا دار غرور، والناس مشغولون فيها منغمسون في أمورها، والانعماس فيها يؤدي إلى قسوة القلب ويؤدي إلى إكثار الكلام في الهذر، وإكثار الكلام في الهذر إنما هو رسالة يوجهها الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، رسالة يكتبها ويضعها في البريد الأمين، يسلمها إلى الملائكة الكرام الكاتبين ليؤدوها إلى الله سبحانه وتعالى، وفيها شغل للملائكة الكرام الكاتبين بما لا خير فيه؛ فأنتم تعرفون أن من تقدم الآن وشغل الناس عن الدرس فإنه صاحب جريمة عظيمة؛ فكيف بالذي يشغل الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟! كيف بمن يشغلهم بما لا خير فيه؟! فهذا كلنا محتاجون جداً إلى الساعات التي نمضيها ولم يكتب علينا الملائكة هذراً ولا لغواً، وجلوس الإنسان في استماعه إلى الدرس سيمسك فيه لسانه إلا من خير؛ وبذلك يكون قد أعان نفسه على إمساكها عن الهذر؛ فيتعود على الصمت إلا من ذكر، وتعرفون أن مالكاً أخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه: (أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً؛ فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)؛ فلذلك علينا أن نشكر نعمة الله تعالى إذ أذن لنا بدخول بيته وإذ لم يشغلنا بالمعصية، فالذين شغلوا بالمعصية ما شغلوا بها إلا بعلم الله تعالى بذلك، فالله تعالى لا يعصى إلا بعلمه ولا يطاع إلا بإذنه؛ ومن هنا فإنه أذن لكم بالجلوس في بيته، وسماع كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والتماس بعض أحكام دينكم التي تتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بتعلمها، ثم تتقربون إليه بالعمل بها بعد أن تعلمتموها، وهذه نعمة عظيمة تستحق الشكر؛ فعلينا أن نشكرها لله حين لم يجعلنا من المعرضين الكافرين، ولا من الفساق الفاجرين، ولا من أهل الغفلة المعرضين؛ بل جعلنا من الذين يجيبون نداء الله إذا سمعوا: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، ويأتون مقبلين على الله سبحانه وتعالى، يلتمسون ما عنده ويرجون ثوابه ويخافون عقابه، نعمة عظيمة جداً خصنا الله بها فلا بد من ذكرها وشكرها لله تعالى.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

النية الأولى: أن ينوي الإنسان أولاً أنه ضيف على الرحمن جل جلاله بجلوسه هنا، فأنتم تعرفون أن الكريم إذا زاره الضيوف لا شك أنهم يتعرضون للإكرام، والملك الديان سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وهو يدعو لزيارة بيته فيكرم الزائرين، وأقل ما يرجونه من الإكرام مغفرة سيئاتهم؛ فإن الملائكة يحفونهم ويرتفعون إلى ربهم، وفي نهاية ما يقدمونه يقول: ( أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان، ليس منهم إنما جاء لحاجته! فيقول: هم القوم -أو هم الرهط- لا يشقى بهم جليسهم ).