فقه المعاملات [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فدرسنا هذا في الربا وخطره، فأقول: إن الربا في الأصل معناه الزيادة، سواءً كانت حسيةً أو معنوية، ومنه قول الله تعالى: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5]، أي: زادت وارتفعت عندما يصيبها المطر، وهو في الاصطلاح مختلف فيه على قولين:

القول الأول: أنه كل بيع نهى الشارع عنه، وقيل: هو ما نهى الشارع عنه من الزيادة في المتماثلات وهو ربا الفضل، أو من التفاوت في الزمن في العقد وهو: ربا النساء، وقد زاد الشافعية نوعاً ثالثاً يسمى ربا اليد وهو عند الجمهور من ربا النساء كذلك، وقد حرم الله سبحانه وتعالى الربا، وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بطلانه ورده، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس في حجة الوداع فقال: ( كل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هذه، وأول رباً أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب )، وقد أنزل الله فيه ست آيات في كتابه، فقال تعالى في سورة البقرة: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:275-276].

ثم قال بعدها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279].

حال المرابين يوم القيامة

وهذه الآيات افتتحها الله سبحانه وتعالى بتهديد عظيم وهو بيان حال المرابين، فقال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275]، وهذا خبر من الله سبحانه وتعالى عن آكلي الربا أنهم لا يقومون إلا كقيام المجنون الذي يتخبطه الشيطان من مسه به، والمس هو: الجنون، وتخبط الشيطان: أن يلبس الأمور على الإنسان بحيث لا يعرف الصواب من الخطأ، وقد اختلف أهل التفسير في قوله: (لا يقومون) هل معناه: لا يقومون في الدنيا أي: في تصرفهم في شئونهم وأمورهم، أو معناه: لا يبعثون من قبورهم للقيام الذي هو القيام لله رب العالمين، قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، فلا يقومون في ذلك اليوم إلا كما قال تعالى: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]؟ وعلى كل فالأمر عظيم؛ لأنه إذا كان في الدنيا فهو مؤذن بأن تصرفاتهم غير موزونة وهي طائشة؛ لأن تصرفاتهم كتصرفات المجنون، فيكون في سعة من أمره واتساع من رزقه، فيضيق على نفسه ويتصرف تصرفاً أحمقاً يسد عليه الأبواب، ويغلق عليه النوافذ، ويؤدي ذلك إلى إتلاف ماله، وإضاعة جهده، وإذا كان ذلك في الآخرة فهو لا شك علامة لإهانتهم وأذاهم، فإنهم يبعثون من قبورهم كذلك كالمجانين وهذا من أعظم البلاء والجزاء، نسأل الله السلامة والعافية.

لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275]، وقد بين الله تعالى أن هذا مرتبط بالاعتقاد، فأكل الربا والعمل فيه مرتبط باعتقاد الإنسان؛ لأنه قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، أي: اعتقدوا أنه لا فرق بين البيع والربا وقد فرق الله بينهما، وهذا دليل على إفساد كل الأقيسة الباطلة، فكل قياس يستباح به ما حرم الله تعالى فهو فاسد؛ لأن الله تعالى يقول: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، ثم رد ذلك عليهم فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وهو دليل على أن الشريعة تفرق بين المجتمعات وتجمع بين المتفرقات، وأن أمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فما أدرك العقل علته استجاب له، وما لم يدرك علته كذلك لا بد أن يطيع له ويستجيب، فالطاعة ليست مشروطةً بالفهم، فما فهمنا علته واستوعبنا مراد الله به فهذا تتضح فيه مصلحتنا، وما لم نعرف علته ولم نفهم مراد الله به فعلينا أن نطيع له، وأن نبادر إليه؛ لأنه مصلحة أخروية، ومن هنا فالفقهاء يقسمون الأحكام إلى قسمين: إلى تعللات وتعبدات، فالتعللات ما اتضحت لنا علته، أو بمعنى آخر: ما جاء به تشريع من عند الله تعالى واتضح لنا فائدته وحكمته ومصلحته.

والقسم الثاني يسمونه: التعبدات، وهي الأحكام التي أمر الشارع بها وشرعها ولم تظهر لنا علتها، وهذه فائدتها راجعة إلى الدار الآخرة، فالإنسان له حياتان كما هو معلوم: الحياة الدنيا والحياة الأخرى، فما يحقق مصالح الدنيا يعرفه الإنسان فيعرف أنه يرتبط بمصلحة له إما أن تكون شخصيةً، وإما أن تكون جماعية في هذه الحياة الدنيا، وما لم يدرك مصلحته من أحكام الشرع فمصلحته تعود إليه في الدار الآخرة؛ كما لا ندرك الآن الحكمة من عدد الصلوات ولا عدد الركعات، ولا ندرك الحكمة من كون الشارع رتب على غروب الشمس وجوب ثلاث ركعات، وعلى غروب الشفق وجوب أربع ركعات، وعلى طلوع الفجر وجوب ركعتين، وعلى زوال الشمس وجوب أربع ركعات، وعلى دلوكها وجوب أربع ركعات، فهذه أمور لا يدركها العقل المحض، وكذلك لا ندرك الحكمة من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، فهذه أمور لا يدرك العقل مصلحتها الدنيوية، فعلم أن مصلحتها أخروية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله )، أي أن الحكمة في ذلك أخروية راجعة إلى الدار الآخرة.

الفرق بين البيع والربا

ثم بعد هذا بين الله سبحانه وتعالى هذا التفريق بين البيع والربا، فالبيع شرعه الله سبحانه وتعالى للتبادل السلمي في الأملاك؛ لأن الله تعالى قسم الأرزاق وكتب لكل إنسان رزقه، وجعله مطابقاً لأجله، فلا يمكن أن ينفذ رزقه قبل أن ينفد عمره، وإذا نفد عمره كذلك لا بد أن ينفد رزقه، وبهذا شرع لنا وسيلةً للتبادل؛ لأن الإنسان قد يرغب فيما لدى غيره، فإذا لم يشرع له طريق للوصول إليه بوجه سلمي وكان قوياً سيأخذه بالغصب، وإن كان ضعيفاً سيحتال عليه بالسرقة، فشرع الشارع هذه العقود لإزالة ذلك؛ ولتشريع ما يضمن للناس علاقاتهم على الوجه السلمي الودي الذي يتبادلون فيه أملاكهم ومصالحهم، ويحقق بعضهم لبعض آرابه ومصالحه؛ ولذلك أحل الله البيع، وهذا الإطلاق في قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] يشمل جميع العقود التي فيها معاوضة، فالبيع في اللغة يشمل كل معاوضة سواءً كانت إجارةً أو جعالةً أو بيعاً أو سلماً، أو صرفاً.. أو غير ذلك، فلذلك يعرف الفقهاء عقد البيع بالمعنى العمومي: أنه عقد معاوضة ذو مكايسة، فقولنا: (عقد معاوضة) يشمل جميع عقود المعاوضات، وقولنا: (ذو مكايسة) أي: يقع فيه التكايس بين العقلين ليعرف أيهما أكيس أي: أيهما أتم عقلاً؛ لأن كل واحد منهما يريد أن يكون الغابن، وأن يكون الطرف الآخر مغبوناً، فهذا مخرج للنكاح فليست فيه مكايسة، بل هو مبني على المكارمة، فالنكاح عقد معاوضة لكنه ليس ذا مكايسة بل هو ذو مكارمة بخلاف عقود البيعات كلها، وإذا أردت تخصيص البيع بالمعنى الاصطلاحي الخاص الضيق فإنك تزيد على ذلك التعريف السابق: (أحد طرفيه غير نقد) فهذا مخرج للصرف، فإن كلا طرفيه نقد، فيخرج الصرف من التعريف بهذا الاحتراز.

وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، وهذا دليل على أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما جاء النهي عنه، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمانية وخمسين نوعاً من أنواع البيوع، وقد سبق أن تلك البيوع والعقود التي نهى عنها الشارع ترجع في الأصل إلى إحدى العلل الكبرى: وهي إما الربا، وإما أكل أموال الناس بالباطل، وإما ترد البيع بين السلفية والثمنية، وإما الغرر والجهالة، وإما الضرر، وإما إضاعة وقت العبادة كالعقد وقت أذان الجمعة الثاني، وإما حصول الغبن الفاحش.. فهذه هي العلل الكبرى التي من أجلها حرم الشارع بعض العقود.

علة تحريم الربا

وهذه العلل الكبرى منها الربا، وعلة تحريمه: أن الشارع الحكيم جعل الإنسان مستخلفاً في هذه الأرض؛ لإخراج ما فيها من الخيرات والأرزاق وللعدالة في توزيعها، وللإصلاح فيها؛ ولذلك يشرع للإنسان أن ينفع إخوانه المسلمين بما يستطيع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، فيشرع للإنسان أن ينفع إخوانه بكل ما لا يضر به هو، فكل نفع يستطيع إيصاله إلى الغير ولا يضر به أحداً فيشرع له أن يفعله، وقد كان ذلك واجباً في صدر الإسلام؛ كما قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ [البقرة:219]، والعفو هو ما زاد عن الحاجة، فقد كان في صدر الإسلام يجب على الإنسان أن ينفق كل ما زاد عن حاجته من أمور دنياه، والعفو في اللغة: ما زاد عن الحاجة، ومنه قول الشاعر:

فتملأ الهجم عفواً وهي وادعة حتى تكاد شفاه الهجم تنثلم

وهو يصف ناقةً يقول: (فتملأ الهجم) وهو القدح الكبير، (عفواً) أي: بالزيادة عن ملئه، (وهي وادعة)، أي: لا يكلفها ذلك، (حتى تكاد شفاه الهجم تنثلم).

وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فيهم خطيباً فقال: من كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان معه فضل من رحل فليعد به على من لا رحل له، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا فيما زاد عن حاجته )، وقد نسخ هذا الحكم بعد غزوة أحد بنزول قول الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215]، وهذه الآية وإن كانت متقدمةً في ترتيب المصحف إلا أنها متأخرة في النزول، فالناسخ دائماً هو الأخير نزولاً، ولو تقدم ترتيبه في المصحف، ففي سورة البقرة مثالان لما تقدم في المصحف وتأخر في النزول أحدهما: هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:215]، فإنها تقدمت في ترتيب المصحف، وهي متأخرة في النزول عن التي بعدها وهي قوله: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219]، وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فهذه الآية هي السابقة في ترتيب المصحف، وهي اللاحقة في النزول، فالآية التي بعدها منسوخة بها وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240].

الحكمة من تحريم الربا

وحكمة تحريم الربا ما فيه من الاستغلال؛ لأن الإنسان إذا شرع له أن ينفع غيره، وأن يستغل ما في الأرض من الخيرات، فإذا كان كذلك فعليه أن يسعى لنفع الناس إما بالزراعة، وإما بالصناعة، وإما بابتكار أمر ينفع الناس، ولا يقصد الشارع الحكيم أن يتكدس المال لدى فئة قليلة من الناس، وتكون مهيمنةً بذلك على الاقتصاد ميسرةً له على حسب هواها؛ لما في ذلك من الشح والظلم؛ لأن الإنسان بطبعه ظلوم فهذا طبع الإنسان؛ كما قال الله تعالى: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وقد قال الحكيم المتنبي :

والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

فهذا الأصل في الإنسان أنه ظلوم لغيره، كلما قدر على ذلك فعله، ومن هنا انظروا إلى الصبيان الصغار الذين لم تهذب عقولهم وأخلاقهم فإنهم سريعاً ما يتظالمون فيما بينهم، فدل ذلك على أن هذه الطبيعة سابقة في الإنسان.

وكذلك فإنه بخيل بطبعه، فهو شحيح على أمور هذه الدنيا، حريص على جمعها وتحصيلها، فلو جعلت تحت يده أرزاق الناس لأمسكها؛ ولذلك قال الله تعالى: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]، فالإنسان بطبعه قتور، أي: بخيل يقتر في إنفاقه، ويمنع الناس بعض حقوقهم بطبعه؛ فلذلك شرع له ما يهذبه ويزيل عنه هذه الأخلاق الذميمة، فإيمان الإنسان يدعوه لتهذيب نفسه وإزالة الشح والبخل عنه، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9]، ومن هنا فعليه أن يسعى لأن يربح وأن يربح الآخرون معه، وأن يصل هو إلى مراده، وأن يصل الآخرون إلى مرادهم، فلو أن كل إنسان سعى لإحراز مراده وتحصيل غرضه هو وبعد ذلك لا يبالي بمصالح الآخرين لأدى هذا إلى ضياع كبير في أمور الدنيا وتلف لها، ومن هنا فعلى الإنسان أن يعلم أن خيرات الأرض خلقت في الأيام الأول الأربع من الدنيا، وخلق فيها أرزاق الخلائق إلى نهايتهم، فعليه ألا يضيع حقوق الذين يأتون فيما بعد، ومن هنا فترشيد ثروات الأرض وما فيها من الخيرات واجب جماعي على الناس، فلو أننا نحن الآن مثلاً كان استغلالنا للثروة السمكية التي رزقنا الله في هذا المحيط استغلالاً سيئاً، فعقدنا فيها العقود المجحفة، وأدخلنا فيها العدد الكبير من البواخر التي هي مصانع فتأخذ الأسماك ببيضها وبصغارها؛ لاقتضى هذا أننا اعتدينا على أرزاق الأجيال اللاحقة التي بعد موتنا، وكذلك لو عقدنا العقود المجحفة بالثروة الحديدية -مثلاً- فأدى ذلك إلى استهلاكها لجاءت الأجيال اللاحقة وقالت: قد خلق الله لنا ثروةً عجيبةً في بلادنا، ولكن سبقنا إليها نفر فأخذوها لأنفسهم؛ ولهذا لا بد أن تكون هذه العقلية سائدةً لدى الناس وهي أن هذه الأرض ملك مشترك، وهي بمثابة سفينة نركبها في عمق البحر، فعلينا أن نحافظ عليها جميعاً، وأن نعلم أنها أرزاق قوم يأتون بعدنا، ومن المؤسف أن يكون الإنسان ظالماً لمن لم يلقه ولم يعرفه، الإنسان إذا ظلم من يعرفه ويلقاه يكفيه هذا ضرراً وشراً، فكيف إذا كان يعتدي على أرزاق الأجيال التي لم تخلق بعد؟ ومن هنا فإن الربا يقتضي هذه الصفات الذميمة، فيقتضي تكديس المال لدى الأغنياء وأن يكون الفقراء خدماً لهم، فيزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً وهذا مناف للحكمة الشرعية؛ لأن الحكمة الشرعية تقتضي اشتراك أهل الأرض فيما خلق الله لهم فيها من أنواع الخيرات، وأن تكون مسئولية الأغنياء عن الفقراء مسئوليةً قائمة، وأن يشركوهم في عين أموالهم في الزكاة، وأن يقوموا بحقوقهم ورعايتها، فكل ذلك مما شرعه الشارع يبين ضرر الربا وخطره، وبالأخص أنه لا نفع فيه لأهل الأرض، فالإنسان الذي يملك نقوداً كثيرة ويقرضها بالزيادة تزداد نقوده هو دون أن يكون قد أنتج أي شيء، فهو لم يقم مصنعاً، ولم يزرع زراعة، ولم يصنع صناعةً نافعةً للناس، ولم يؤد أية خدمة ينتفع بها البشر، حتى مجرد استئجار العمال الذين يحملون البضائع لم ينفع به، استئجار العربات التي تحمل البضائع لم ينفع به، استئجار المخازن التي توضع فيها لم ينفع به، فلم يصل نفعه إلى البشر عندما ملك نقوداً فكدسها فكان يقرضها بالربا؛ فلذلك لم ينفع البشرية بوجه من الوجوه، بل حصر أرزاقهم وحاصرهم فيها حصاراً عصيباً، وبهذا يكون معتدياً عليهم، وهذا يؤدي إلى خطرين: أحدهما في نفس المرابي، فإنه سيكون إقطاعياً يريد استغلال أكبر من طاقته، ويريد الجشع والحرص على هذه الدنيا والازدياد مما فيها، فيتصف بزيادة البخل والشح، ويكون أيضاً مرتبطاً بهذه الدنيا ارتباطاً عضوياً، فإذا فاته شيء منها أسف له غاية الأسف، وإذا نال شيئاً منها فرح به غاية الفرح، وهذا مناف للحكمة الشرعية، فقد قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23].

الأخطار التي يلاقيها المرابي من قبل الناس

وكذلك فيه خطر عليه من ناحية الآخرين، فإن الإنسان إذا كان يرابي فيحرز الأموال ويكدسها ويجمعها فسيحسده غيره، وسيجد الفقراء حقداً وضغينة عليه، فإن استطاعوا إيصال ضررهم إليه فعلوا، وإن استطاع ذلك من دونه من التجار الذين يعاملهم معاملةً قاسية فوجدوا فيه فرصتهم ضروه أيضاً وأفسدوا تجارته، وأثروا عليه تأثيراً بالغاً، فلهذا لا شك أن الربا مؤد للضغائن والشحناء، ومؤد للبغضاء؛ لأن الناس يستشعرون أن عرق جلودهم وطاقاتهم تذهب لنفع الآخرين، وأنهم يستغلونهم استغلالاً سيئاً، ولا يرحمون ضعفهم وعوزهم وحاجتهم، وكذلك يؤدي هذا إلى تكبر الأغنياء، وهذا الكبر صفة ذميمة هي التي أدخلت إبليس النار، وأوصلته إلى لعنة الله تعالى، وهذه الدنيا إذا لم ينتبه الإنسان لها أدت به إلى الطغيان؛ كما قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]؛ فلذلك حرم الله الربا بكل أنواعه، ورتب عليه هذه العقوبة العظيمة، فقال: لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، أي: هذا الأمر مرتبط باعتقادهم حين اعتقدوا أن البيع مثل الربا، وهذا القول قد لا يكون بلسان المقال بل يكون بلسان الحال؛ لأن الإنسان إذا استحل شيئاً وعمله وبادر إليه وسارع فيه فهو يقول بإباحته، ولو لم يصرح بذلك، ومن هنا فإن دلالة الحال قد تكون أعظم من دلالة المقال في كثير من الأحيان، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، هذا رد لدعواهم، وإبطال لمعتقدهم وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فيكفي هذا تفريقاً بينهما.

التعليل بالحكم الشرعي وعلاقته بتقرير الفرق بين البيع والربا

ومن هنا فالصفات التي يوصف بها العقد هي إما أن تكون صفات ذاتيةً، أو أن تكون صفات عرضيةً، أو أن تكون صفات حكمية، والصفة الحكمية صالحة للتعليل على الراجح، وقد اختلف الأصوليون في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن الحكم الشرعي لا يكون علةً لحكم شرعي آخر؛ لأنه مكتسب طارئ بالنص، وذهب الجمهور إلى أن الحكم الشرعي صالح للتعليل به؛ لأن الله هنا علل الفرق بين الربا والبيع بقوله: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فدل هذا على أن الحكم الشرعي يصلح للتعليل، أي: يمكن أن يعلل به.

ونظير ذلك ما نقوله في النقود الورقية، مثلاً من علل الربا فيها: وجوب الزكاة فيها، فهذا حكم شرعي وهو أن الله أوجب الزكاة فيها؛ لأنه أوجبها في جميع الأموال في قوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]؛ فلذلك هذا الحكم الشرعي يجعل علةً لحكم شرعي آخر وهو حصول الربا فيها؛ فلهذا قال: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

أثر امتثال النهي عن الربا في زيادة الإيمان والتوبة وحصول الرزق وكفالة الله

ثم بعد هذا رتب أمراً يتعلق بالإيمان على هذه القاعدة وهو قوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275]، أي: من جاءه تحريم من عند الله تعالى كتحريم الربا وهو الموعظة، فالموعظة تطلق على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: تطلق على ما يرقق القلب لقبول الأمر والنهي كذكر الدار الآخرة والجنة والنار والموت والبرزخ، فهذا النوع موعظة؛ لأنه يرقق القلب لامتثال الأوامر واجتناب النواهي.

الأمر الثاني: النهي، فكل نهي هو موعظة من الله سبحانه وتعالى، يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ [النور:17]، أي: ينهاكم، فالوعظ بمعنى: النهي، فإذا وعظ الله تعالى بأمر معناه نهى عنه.

الأمر الثالث: الدعوة، فإنها تسمى موعظةً كقول الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ:46]، أي: قل: إنما أدعوكم بواحدة وهي: أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ:46].

وهذه المعاني الثلاثة المقصود منها هنا: المعنى الأوسط وهو النهي فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ [البقرة:275] أي: نهي مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى [البقرة:275] عما نهي عنه فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275] أي: الماضي قبل النهي، وهذا لا يشمل ما كان بعد نزول هذه الآية، فما كان بعد التحريم فهو غير داخل هنا، إنما المقصود به ما سلف قبل التحريم قبل نزول الآية، وهذا النوع تكرر في القرآن كقول الله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، (إلا ما قد سلف) أي: قبل تحريم ذلك وقبل نزول هذه الآية، أما بعد تحريمها فهو باق وهو شامل للجميع؛ ولذلك فإن عمر رضي الله عنه فرق بين منظور بن زبان و مليكة وهي زوجة أبيه، وقد خلف عليها بعد موت أبيه، فأراد عمر بن الخطاب أن يقيم عليه الحد فزعم أنه لم يسمع سورة النساء، فحلفه ما قرأ سورة النساء ولا سمعها، فلما حلف على ذلك درأ عنه الحد بهذه الشبهة وفرق بينهما.

فالمقصود هنا في قوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ [البقرة:275] أي: الماضي قبل التحريم، وذلك محله إذا كان قد تقاضاه، أما إذا كان الربا مستمراً كمن كان له دين من رباً في المستقبل فجاءته الموعظة أي: نزلت الآية في ذلك الوقت فإن رباه محطوط؛ ولهذا حط النبي صلى الله عليه وسلم ربا العباس بن عبد المطلب ، فدل ذلك على أن الآية لم تشمله، فالعقد سابق ولكن تقاضيه لاحق، والعبرة بوقت التقاضي لا بوقت العقد، فلذلك جاءت الآية بينهما، أي: بين وقت العقد ووقت التقاضي فأبطلت التقاضي؛ فلذلك لم يستحق العباس شيئاً من دينه الربوي بعد نزول هذه الآية، ولو كان المقصود هنا بـ (ما سلف) ما سلف عقده لكان العباس مستحقاً لذلك الربا؛ لأن عقده سابق على نزول الآية؛ لذلك قال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ [البقرة:275] ، (أمره إلى الله) أي: أن رزقه وتدبير شئونه إلى الله تعالى، فهو المدبر لشئون الكون كله، وقد قال تعالى: أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53].

وقد قالت طائفة أخرى: بل المقصود بذلك أمره إلى الله أي: أنه في المشيئة، وهذا الذي استدلت به الطائفة التي ترى أن التوبة من كل ذنب عرضة للقبول وعدمه، والراجح لدى أهل العلم: أن التوبة ممن هو متق خائف وجل مقبولة قطعاً؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]، وهذا وعد من الله والله لا يخلف الميعاد.

أما من لم يكن خائفاً وجلاً فإن توبته غير نصوح فلذلك قد ترد عليه ولا يقبلها الله ككل أعماله، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ [المائدة:27]، والتوبة من العمل؛ فلذلك قد لا تقبل من الإنسان إذا علم الله فيه عدم الإخلاص والصدق فيردها الله عليه كسائر أعماله، وهذه الآية وجه الاستدلال بها لأولئك بعيد؛ لأن قوله: وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ [البقرة:275] الراجح في تفسيرها أن المقصود بذلك ضمان رزقه في مستقبله، فإن الذين كانوا يرابون وقد تعودوا على ذلك في الجاهلية ظنوا أن أرزاقهم ستنقطع لما حرم الربا، كما حصل للمهاجرين والأنصار عندما حرم الله تعالى دخول المشركين إلى المسجدين إلى مكة والمدينة ظنوا أن الأرزاق ستنقطع؛ لأن هؤلاء هم التجار، وهم الذين بأيديهم الصناعات، وهم الذين يصنعون الملابس وغيرها، فأنزل الله تعالى في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]، (إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي: إن خفتم فقراً، والعيلة الفقر، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]، وهذا تعهد وضمان من الله تعالى، وهو نظير قوله: وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ [البقرة:275].

ثم قال: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، (ومن عاد) أي: لما نهي عنه بعد الموعظة فأصر عليه، وهذا يشمل العودة للاعتقاد، والعودة للعمل؛ فلذلك جاء الوعيد عليه على أبلغ الوجوه؛ لأن الربا كما سبق مؤلف من عملين: عمل قلبي وهو الاعتقاد ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، وإلى عمل بدني وهو العمل المالي في ممارسة الربا، وبينهما فرق، فاستحلال الربا كفر مخرج من الملة، وأكله أو إيكاله حرام من الكبائر الموبقات لكنه غير مخرج من الملة، فإذاً: بينهما فرق والوعيد جاء عليهما معاً، فلذلك قال: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، وهذا الوعيد يتحقق بالدرجة الأولى على أصحاب الاعتقاد السيئ وهم الذين يستحلون الربا، فإن هذا الوعيد شامل لهم فهم متوعدون بالخلود في النار -نسأل الله السلامة والعافية- والخلود في النار لا يكون لأهل الإيمان، وإنما هو لأهل الكفر المخرج من الملة، فدل ذلك على أن استحلال الربا واستحلال كل معلوم من الدين بالضرورة هو من الكفر البواح المخرج من الملة، وهذا الاستحلال هو عمل قلبي قد لا يظهر للإنسان لكن يظهر أثره، فإن كان الإنسان يفعله ولا يبالي أو لا يسأل عن حكمه أصلاً فهذا دليل على الاستحلال؛ لأن الحكم الشرعي منوط بالظواهر لا بالبواطن، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما نحن قوم نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، فمن أبدا لنا صفحة عنقه أخذناه).

ومن هنا يستتاب المرابي إذا كان عمله في حياته على الربا، وقد جمع منه مالاً كثيراً، فيستتاب لئلا يكون قد اعتقد إباحته، فيعود إلى الإسلام من جديد؛ لأنه إن كان قد اعتقد إباحة ما يعمله وقتاً من الأوقات فهو كافر خارج من الملة، وإن كان يفعله وهو يعلم أنه كبيرة من الكبائر، وجرم عظيم في حق الإنسانية، وجرم في حق نفسه، ومعصية لربه، ولكنه يقبل عليه بشهوته وشيطانه فهو فاسق عاص، ولكنه مع ذلك لا يكفر إلا باستحلاله واعتقاده. وهذا يدل على أن أركان هذا الدين تنقسم إلى قسمين: إلى أركان إيجابية وإلى أركان سلبية، فالأركان الإيجابية منها الست التي هي أركان الإيمان في حديث جبريل : ( أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ).

ومنها أركان الإسلام الخمسة التي في حديث ابن عمر : ( شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت )، فهذه الأركان أحدى عشر ركناً وكلها فعلية، في مقابلها الأركان السلبية وهي تروك المعلوم من الدين بالضرورة، فترك شرب الخمر، وترك الزنا، وترك السرقة، وترك قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وترك الربا، وترك الشرك بكل أنواعه، وترك السحر، ونحو ذلك هذه أركان أيضاً تركية؛ لأن المستبيح شيئاً منها كافر كفراً مخرجاً من الملة، فدل ذلك على أنها مناظرة للأركان العملية. فمثلاً من زعم أن الصلاة غير واجبة فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، ومن زعم أن صوم رمضان غير واجب فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، ونظير ذلك: من زعم إباحة الربا، أو إباحة الخمر، أو إباحة الزنا فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، فدل هذا على أن الأركان منها إيجابي ومنها سلبي، وإذا ذكرت الأركان الإيجابية كما هو المشهور في النصوص الشرعية فلا يقتضي ذلك إبطال الجانب الآخر، بل هو معتبر شرعاً، ولا بد من الانتباه له، ومن هنا يلزم الإنسان أن يتعلم المعلوم من الدين بالضرورة، فما نهى الشارع عنه مثلما أمر به لا بد من تعلمه، فكما يتعلم الإنسان أوامر الشارع كذلك لا بد أن يتعلم نواهيه، وبالأخص النواهي الكبرى التي هي معلومة من الدين بالضرورة؛ لئلا ينكر الإنسان شيئاً منها فيكفر بذلك، ولهذا قال: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، وهذه الآية فيها دقة عجيبة في قوله: (فأولئك أصحاب النار) ولم يقل: فأولئك يدخلون النار؛ لأن أصحاب النار معناه صحبوها بعملها؛ لأنهم عملوا عملاً يؤدي إليها، وهم بذلك عرضة للتوبة، فإذا تابوا كفر الله عنهم سيئاتهم، ومن مات على الإيمان لا يضره ما سلف من عمله؛ لأن ( الإيمان يجب ما قبله ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38]، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:53-54]، وقوله: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) فيه قوة التعقيب على ما سبق؛ لأن معنى المغفرة إنما يكون بالإنابة والإسلام، فإذا أسلم الإنسان من الكفر فإنه تكفير له، وإذا تاب من المعصية -وهي الإنابة- فذلك تكفير لتلك المعصية؛ ولهذا فإن قوله: (يغفر الذنوب جميعاً) شامل للشرك، مع أن الآيات الأخر فيها: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]؛ لأن المقصود بالنفي (لا يغفر أن يشرك به) أي: في حق من مات على الشرك، وهنا الوعد لمن آمن وتاب وأناب؛ لأنه قال: إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:53-54]، فدل هذا على أن المشرك إذا أسلم بعد شركه، وأن العاصي إذا أناب بعد معصيته؛ فهم جميعاً عرضة للمغفرة، والله تعالى يغفر الذنوب جميعاً بالتوبة والرجوع، ولا يغفر الشرك ما لم يتب منه صاحبه، فالإطلاق باق لكن القيد في موضعه أيضاً؛ ولذلك قال: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39]، وهذا حكم عليهم بالكفر، نسأل الله السلامة والعافية.

سنة محق الله للربا

وقال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، هنا قال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وهذه سنة من سنن الله الماضية، فهذا الكون كله تحكمه سنن كبرى يسيِّر الله على وفقها العالم، وهذه السنن الكبرى هي القوانين الكبرى المسيرة للكون كله، فمنها مثلاً سنة التدافع بين الحق والباطل، قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251]، ومنها كذلك سنة الوضع ( كان حقاً على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه )، ومنها كذلك سنة إهلاك الطاغين، وإزهاق الباطل، وإظهار الحق، قال تعالى:


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه المعاملات [3] 3341 استماع
فقه المعاملات [7] 3104 استماع
فقه المعاملات [2] 2733 استماع
فقه المعاملات [4] 2305 استماع
فقه المعاملات [5] 2301 استماع
فقه المعاملات [1] 1420 استماع
فقه المعاملات [8] 1389 استماع