في تاريخ الجمعيات السرية
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
طائفة سرية عجيبة تعيش في عصر المدنية بأساليب همجية
تتمة البحث
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان عهد القيصر إسكندر الأول أصلح عهد لنمو الحركات الروحية السرية في روسيا. ففيه أنشئت في بطرسبرج عدة محافل سرية لمزاولة الشعائر والتجارب الروحية، وكان قوام هذه الحركة عدة من سيدات الطبقة العليا مثل البارونة بكشفدن ومدام تتاريبوفا.
وكان الأكابر والخاصة يشهدون هذه الحفلات الروحية التي اشتقت رسومها وشعائرها من رسوم بعض الجمعيات السرية الوثنية قبل جمعية (أهل الله) وطائفة (سكوبتسي) ذاتها؛ ووقع القيصر نفسه تحت تأثير البارونة فون كرورنر الشهيرة، وهي سيدة اشتهرت يومئذ بنزعتها الصوفية والروحية وكان لها أكبر الأثر في توجيه سياسة القيصر، وفي سير الحوادث والشؤون؛ وكان القيصر يعتقد أن مؤازرة هذه الحركات الروحية هي خير وسيلة لمكافحة حركة البناء الحر (الماسونية) والجمعيات السرية الأخرى التي كانت منها طائفة (سكوبتسي)، ولكن طائفة (سكوبتسي) أو طائفة المجبوبين لقيت في عهد إسكندر الأول كما قدمنا فترة صالحة للنمو، واستطاعت بما خول لها من الحرية والتسامح أن تلم شعثها، وأن تنشط لإذاعة مبادئها، واستطاعت بالأخص أن تنفذ إلى الطبقات المستنيرة التي لم تصل إليها من قبل.
وغدا سليفانوف في شيخوخته كأنه ملك غير متوج تحج إليه الوفود من كل صوب، وتنهال عليه العطايا والمنح؛ وكثرت أموال الطائفة، واشتد نفوذها، وقدم اليانسكي وهو زعيم الطائفة الفكري إلى كبير الوزراء رسالة وضعها عن مبادئ الطائفة ومثلها، وفي يبرر إجراء (الجب) بحرارة، ويقترح على القيصر مشروعاً للإصلاح السياسي تنقل بمقتضاه السلطة الفعلية إلى طائفة (المجبوبين)، ويبقى القيصر رئيس الدولة بالاسم تحت زعامة سليفانوف الروحية؛ فأثارت هذه الجرأة اهتمام القيصر وحكومته بأمر المجبوبين مرة أخرى، وقبض على اليانسكي، وسجن في أحد الأديار.
أما سليفانوف فقد ترك حراً نظراً لشيخوخته وضعفه، بعد أن وعد بالكف عن الدعوة إلى الجب والاقتصار على الد الروحية على أنه لم يف بهذا الوعد، بل استمرت الدعوة الهمجية وذاعت بين طبقات كثيرة، واعتنقها عدد من الأغنياء وذوي النفوذ، وبلغ عدد المجبوبين في هذه الفترة آلافاً كثيرة.
وانتظم في سلك الطائفة يومئذ وصيف سابق للإمبراطور بطرس الثالث (فيدوروفتس) يدعى كوبليف، وأخذ يؤكد أن سليفانوف إنما هو القيصر بطرس بلا مراء، وإن القيصر إسكندر يعرف جيداً أن جده يعيش بين المجبوبين منذ عهد بعيد؛ وأسبغ سليفانوف على هذا الداعية لقب (النبي)؛ وهكذا أصبح سليفانوف يزعم أنه المسيح وأنه القيصر معاً واكتشف حاكم بطرسبرج الكونت ملورادفتش أن ابني أخيه قد وقعا في شرك (المجبوبين) وأن أحدهما قد كابد بالفعل عملية الجب فثار سخطاً؛ وضاقت حكومة القيصر ذرعاً بهذا الاجتراء المجرم الذي لم تنج منه حتى طبقة النبلاء، فانتدبت في سنة 1820 لجنة سرية للتحقيق.
وبعد البحث قرر قرارها على اعتقال سليفانوف.
وفي الحال اعتقل الداعية، ولكن في رعاية ورفق، وألقي في دير سوزدال؛ فارتاع أنصاره، وحاولوا السعي لإطلاق سراحه، ولكن الحكومة كانت هذه المرة جادة ثابتة العزم.
ولما رأى الزعماء أن السلطات تتربص بهم وترقب حركاتهم عمدوا إلى أساليب السرية القديمة، وأخذوا يعملون في الخفاء، ويتظاهرون بأنهم من أخلص أنصار الكنيسة، ولكن السلطات قبضت على معظم زعماء الطائفة وزجتهم في مختلف الأديار والقلاع.
وتوفي سليفانوف في معتقله سنة 1832؛ ولكن (المؤمنين) يعتقدون إلى اليوم أنه حي، وأنه سيعود ليتولى السلطات في روسيا ويقيم يوم الحساب على نحو ما يعتقد الدروز في عودة الحاكم بأمر الله ولم يخمد نشاط هذه الطائفة السرية العجيبة خلال القرن التاسع عشر، بل لبثت دعوتها تتسرب إلى جميع الطبقات؛ ونفذت الدعوة إلى الجيش بكثرة، واكتشفت السلطات مئات من (المجبوبين) في كرونستات وفي القوقاز، وأمر القيصر أن تؤلف من هؤلاء الخصيان فرقة خاصة في الجيش.
وفي سنة 1842 قدم جند هذه الفرقة إلى القيادة بلاغاً قالوا فيه أنهم لا يعترفون بالقيصر، وإن القيصر الحقيقي هو بطرس الثالث الذي اعتقل في سوزدال وأعلنت وفاته كذباً، فقبض على زعماء الفرقة ونفوا إلى سيبيريا وتوالت محاكمات دعاة (السكوبتسي) خلال القرن التاسع عشر، وأدمجت في قانون العقوبات الروسي العقوبات الآتية: وهي أن يعاقب الشخص الذي يقوم بتشويه نفسه بالنفي إلى سيبيريا؛ ويعاقب الذي يقوم بتشويه (بخصي) شخص آخر بستة أعوام في الأشغال الشاقة؛ ويعاقب الدعاة بالنفي إلى سيبيريا؛ ويعاقب الشخص الذي يقوم بإيواء الدعاة في منزله عقاب مرتكبي جريمة التشويه ومن أشهر قضايا (المجبوبين) في هذه الفترة، محاكمة وقعت في سنة 1869 أمام محكمة جنايات تمبوف، وفيها حكم بالنفي على مكسيم بلوتتزين، وهو تاجر غني كان يأوي في منزله تسع نساء مشوهات؛ ذلك أن هذه الطائفة البربرية كانت تجتذب إليها النساء أيضاً، وكان تشويه النساء يجري بقطع أجزاء من الثديين أو بانتزاعهما، وكذلك بتشويه أعضاء أخرى؛ وكان يخرج من هؤلاء النسوة المشوهات بين آونة وأخرى (مريم) تزعم أنها أم المسيح المزعوم.
وكان بلوتتزين من أكابر الدعاة، وكان يعتبر من (أنبياء) الطائفة وله نفوذ عظيم في الولاية كلها.
وفي سنة 1876، كانت محاكمة رنانة أخرى أمام محكمة جنايات مليتوبول، وفيها ظهر أمام القضاة مائة وستة وثلاثون مجبوباً حكم على معظمهم بالنفي.
وكانت هذه المحاكمة الشهيرة خاتمة حركة سرية واسعة النطاق تعدت حدود روسيا إلى رومانيا، وذهب ضحيتها مئات من الفلاحين والعمال.
وكان الدعاة قد أخذوا إزاء اشتداد المطاردة في روسيا يتسربون إلى رومانيا وهنالك أسسوا لهم (محافل) سرية في ياسي وجلاتز؛ وظهر في جلاتز بين الدعاة شخص يدعى ليسين وهو روسي من موسكو، وكان يمتاز بنوع من الهيام الصوفي، فالتف المؤمنون حوله ولقبوه (بالمنقذ) وزعموا أنه القيصر بطرس الثالث.
وصرح ليسين لأنصاره أنه أعظم من المسيح، لأنه أتى لأجل المجد وليس كالمسيح لأجل المعاناة، وأسبغ صفة الأنبياء والحواريين على عدة من أنصاره؛ وذاعت الدعوة الجديدة في رومانيا بسرعة، وهرع الخصيان من كل صوب لتحية المسيح الجديد؛ وبعث ليسين رسله يبشرون بقيامه؛ ثم سار بنفسه في حفل من أنصاره إلى بطرسبرج ليقدم نفسه إلى (القيصر الظاهر)؛ ولكنه اعتقل مع زملائه في الطريق؛ وقامت السلطات بتحقيق واسع النطاق في أمر المجبوبين استغرق أربعة أعوام، وقدم إلى محكمة مليتوبول مائة وستة وثلاثون متهماً، وكان جلهم من الفلاحين ومعظمهم شبان ومنهم شيوخ قلائل وأحداث لم يجاوزوا الخامسة عشرة؛ وكانت في الواقع أشهر محاكمات هذه الطائفة السرية المدهشة واعترف بعض (الأنبياء) المتهمين أثناء المحاكمة بكثير من أسرار الطائفة وإجراءاتها ورسومها الوثنية؛ ولكن ليسين (المسيح والقيصر) صرح أمام قضاته بأنه غير مذنب، وأن المؤمنين قد اختاروه وفقاً للنبوءات المقدسة، وأن رسل الطائفة يبشرون بالمسيح الجديد وفقاً لتعاليم الإنجيل، وإنه لا يزال على عقيدته مخلصاً لمبادئه ورسالته، وأنه منذ شبابه يبحث عن السلام والحقيقة فلم يجدها إلا لدى طائفة (سكوبتسي)؛ وألقى آخرون من الدعاة تصريحات روحية وفلسفية، وأشادوا بنقاء المثل التي ينشدها المجبوبون؛ وقضت المحكمة في النهاية على ليسين بالأشغال الشاقة ستة أعوام، وقضت على آخرين من الأنبياء بالأشغال الشاقة لمدد مختلفة، وقضت على معظم المتهمين الآخرين بالنفي إلى سيبيريا وفي أوائل هذه القرن بعد ثورة سنة 1905 سمح للمجبوبين أن يختاروا مكان إقامتهم، فهرع كثير منهم إلى روسيا؛ وقدر عدد المنتمين إلى الطائفة يومئذ في روسيا بخمسة عشر ألفاً، وجرت بعد ذلك عدة محاكمات أخرى اتهم فيها الدعاة بالتحريض على (الجب) وقضي على مئات منهم بالسجن والنفي وفي ظل النظام البلشفي استطاعت الطائفة أن تجوز العاصفة بسلام بالرغم مما لحق زعماءها الأغنياء من فقد ثرواتهم وأملاكهم الواسعة؛ ورأى الدعاة أن يسايروا النظام الجديد اجتناباً للمطاردة وقام منهم داعية يدعى ارماكوف، فوجه إلى جميع (المؤمنين) خطاباً مفتوحاً يناشدهم فيه أن يجانبوا الغنى والكبرياء والشح، وأن يعودوا إلى الحياة الأخوية الساذجة التي دعا إليها سليفانوف، واقترح أن ينتظم أبناء الطائفة في جماعات روحية مشتركة، ووضع للطائفة نظاماً تعاونياً جديداً على أساس الشيوع؛ وحمل ارماكوف على الاختلاط الجنسي، ووصفه بأنه أعظم عقبة تحول دون تحقيق الصفوة الإنسانية لمبادئ الحياة الرفيعة؛ وتبعه داعية آخر يدعى منشنين، وأذاع في سنة 1928 رسالة قال فيها إن مصائب الإنسانية كلها، وجميع المنازعات والجرائم والحروب، هي نتيجة الغريزة الجنسية؛ ثم يقول ما يأتي: (ما الذي يدفع إنساناً إلى الاختلاس والجريمة؟ هي الغريزة الجنسية.
وفي كل مكان نرى عيادات الأمراض السرية، وفي كل يوم تقع آلاف من حوادث الإجهاض وقتل المواليد؛ ولقد كان العالم وما يزال غاصاً بالبغاء والبغايا، وكل ذلك يرجع إلى فعل الأعضاء الجنسية) ويقترح منشنين كعلاج لهذه المحنة الإنسانية أن يعاني الرجال عملية (الجب) في سن النضج، ويقول إن ذلك لا يضير الإنسانية في شيء وفي سنة 1929 اكتشفت السلطات السوفيتية محافل سرية للمجبوبين في موسكو ولننجراد، وظهر من التحقيق أن الدعاة يرتكبون جريمة التشويه، ويبشرون في اجتماعاتهم السرية باقتراب حكم القيصر بطرس الثالث؛ فقبض على كثيرين من الزعماء والدعاة، وحوكموا أمام المحكمة الثورية، وقضي على كثير منهم بالسجن (لأنهم يذيعون خرافة دينية تقترن بها فائدة مادية، ولأنهم ارتكبوا جرائم الضرب والجرح).
ووقعت في سنة 1930 محاكمة رنانة أخرى في لننجراد حيث قبض على كثيرين من أعضاء الطائفة وبينهم عدة من أكابر الأغنياء السابقين، وعدة من العاملات؛ فقضت المحكمة على الزعماء بالسجن، ولكنها قضت ببراءة الضحايا من العمال والعاملات.
وظهر من التحقيق أن الطائفة تعمل بنشاط في جميع أنحاء روسيا، وأنها تبذل كل الوسائل وكل صنوف الإغراء لاجتذاب الأنصار، وأنها لا تحجم عن ارتكاب صنوف الإفساد والوعيد والعنف لتحقيق غايتها؛ وأنها تستظل في دعايتها ببعض نصوص الإنجيل والتوراة، وتعمد إلى خصي الأطفال وبذل العطايا للفقراء الذين يرتضون التشويه، واستخدام اليتامى ثم تشويههم بعد ذلك.
وتجري عملية التشويه دون رسوم معينة بل تجري حيثما أمكن؛ ويأخذ الداعي على الضحية دائماً عهداً وثيقاً بالكتمان.
وظهر أيضاً أن الدعاة يجتمعون تحت جنح الظلام في مصلى خفي يقام فيه حاجز بين الرجال والنساء، ويرتدي (المؤمنون) ثياباً بيضاء ويحملون الشموع المنيرة، ويتلون صلوات من تأليف رسلهم ودعاتهم، ويتمايلون أثناء الصلاة في حركات عنيفة تبلغ أحياناً درجة الهيام وهكذا نرى أن هذه الطائفة السرية التي قامت منذ القرن السابع عشر على مبادئ وثنية، وأساطير روحية سخيفة، والتي تتوسل إلى تحقيق مثلها بأشنع الأساليب البربرية، لا تزال تقوم إلى اليوم في قلب أوربا، وفي قلب روسيا السوفيتية التي يغمرها جو من الإلحاد والإنكار لم تعرفه من قبل أمة من الأمم.
على إن قيام هذه الطائفة الهمجية في قلب روسيا بالذات أمر يمكن فهمه وتفسيره، ففي قفار روسيا النائية توجد مجتمعات من الفلاحين يسحقها الجهل والفقر، وتنحدر في سذاجتها إلى مستوى يدنو من الهمجية، وفي هذه المجتمعات الساذجة المتأخرة تفشو الخرافات والأساطير الدينية بصور مروعة تذكرنا بأساطير الوثنية الأولى؛ وفيها بالذات استطاع الدعاة أن يحشدوا ضحاياهم.
بيد أننا قد رأينا أن دعوة المجبوبين قد وصلت في العصر الأخير إلى طبقة المثقفين والنبلاء.
وأعجب من ذلك أن تقوم مثل هذه الطائفة إلى اليوم تبشر بمبادئها ورسومها الهمجية.
ولكن روسيا بلد العجائب؛ ومن الصعب أن نتصورها قطعة من أوربا المتمدنة، وقد كانت وما تزال اليوم مسرحاً لأغرب الدعوات والمذاهب والأساطير (فينا في أوائل أكتوبر) محمد عبد الله عنان