فقه العبادات - الطهارة [8]


الحلقة مفرغة

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أيها الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع مرحوماً، وأن يجعلنا ممن تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم ربي فيمن ذكرهم في الملأ الأعلى، إنه على ذلك قدير.

أيها الإخوة! كنا قد وصلنا في شرحنا لباب الوضوء عند آخر مسألة وهي النية، وذكرنا بعض مسائلها، ولعلنا تبدأ شرحنا من حيث وقفنا.

تعريف النية وتنوعها إلى حقيقية وحكمية

الشيخ: أيها الإخوة في الله! النية في اللغة: هي القصد والعزم. وعلى هذا فمتى قصد الإنسان أن يفعل شيئاً فقد نواه، ومتى عزم على فعل شيء فقد نواه، وبمجرد أن يقوم الإنسان من فراشه ناوياً صلاة الظهر فقد نوى الطهارة.

إذاً النية -أيها الإخوة- ليست بحاجة إلى أن نستحضرها أو نتكلف في استحضارها؛ لأنها حاصلة من حين القيام، وبعض الناس يقول: أنا لا أدري نويت الوضوء أم لم أنو الوضوء؟ فنسأله: أنت حينما دخلت دورات المياه ماذا تريد؟ سيقول: أريد أن أتوضأ لصلاة الظهر، أريد أن أتوضأ لصلاة الفجر، أريد أن أتوضأ لصلاة العصر، فنقول له: أنت من حين قيامك من فراشك أو من مجلسك إنما نويت الوضوء، فهذه نية كافية، وإن كان الأفضل أن الإنسان يستحضر ذلك حال وضوئه، لكن ليس معنى ذلك أنه إن ترك استحضارها حال الوضوء بطل وضوء، ولهذا قال العلماء: إن النية تكون مستحضرة حال الوضوء، أو تكون حكمية، وهو من حين قيامه من فراشه ونحو ذلك مما هو معلوم.

وعلى هذا فإنني أقول لبعض الإخوة والأخوات الذين ابتلوا بالوسوسة بأنهم ربما يجدون من كلام بعض الفقهاء المتأخرين مبالغةً في بيان ما هو المستحب في استحضار النية، فلربما وقعوا في الوسوسة، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا قولاً حكيماً بأبي هو وأمي، فقال كما في صحيح البخاري و مسلم من حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، والنية في لغة العرب هي العزم والقصد، وهو إرادة الشيء، فمتى أراد الإنسان فعل شيء فقد نواه، وبالتالي فلسنا بحاجة إلى أن نذكر ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في كتبهم من المبالغة في بيان مثل هذه النية ما هي؛ لأن ذلك ربما يوقع الناس في الوسوسة، ويوقعهم في الحرج، فالأصل أن الإنسان حينما خرج ليتوضأ فقد نوى، والأصل أن الإنسان حينما فتح الماء ليرفع حدثه فقد نوى، والأصل بالإنسان حينما يقوم للصلاة أنه نوى.

فكل هذه الأشياء نوع من أنواع النية، والإنسان حينما يأكل بطبيعة الحال فإنما أراد بذلك رفع الجوع، فهذا نوى رفع الجوع، فكذلك هنا في الوضوء والصلاة والعبادة، فبمجرد أن الإنسان يخرج من بيته يريد الصلاة فينتظر الإمام ويستقبل القبلة ويقول: الله أكبر، فلسنا بحاجة إلى أن نقول له: أنويت صلاة الظهر؛ لأنه من حين خرج لصلاة الظهر قد نوى هذا الأمر، والعلماء يسمون هذه القضية: النية الحكمية، وهي أن تكون مستحضرةً إلى حين ابتداء فعل العبادة، فمتى وجد ما يقطعها خرجت النية، مثل: لو أن الإنسان قام من فراشه يريد أن يتوضأ، فلما رأى الساعة وجد أن وقت الصلاة بعيد، فقال: أنا لن أتوضأ، بل سأغسل وجهي فقط، فهو الآن قطع النية، فحينما غسل وجهه وجد نفسه أنه قد أنهى كامل أعضاء الوضوء، فهذه النية لا تنفعه؛ لأنه قطعها.

محل النية وحكم التلفظ بها

الشيخ: وعلى هذا -أيها الإخوة- فإن النية هي العزم والقصد على فعل شيء، ومحلها القلب، ولا يشرع التلفظ بها.

والتلفظ بالنية على حالين: إما أن يتلفظ بها سراً، وإما أن يتلفظ بها جهراً.

أما التلفظ بها سراً فإن من الفقهاء من قال باستحبابها، كما هو مذهب الحنابلة والشافعية، والظاهر -والله أعلم- والأقرب من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا غير مشروع، فإن أكثر من خمسة عشر صحابياً ذكروا لنا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر واحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إني نويت أن أرفع حدثي، اللهم إني نويت أن أصلي بها ظهراً، أو غير ذلك من الألفاظ، ولو كان هذا التلفظ بينه وبين نفسه، فلما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دل على أن مثل هذا التلفظ ليس من السنة، بل هو غير مشروع؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا باتباع السنة أحرى، وبموافقة الحق أقرب، حيث إنهم أبعد عن التكلف، وأقوى تعمقاً في العلم، فهم على الطريق المستقيم، فبهم فلنقتد، وعلى هذا فإن قول: (اللهم إني نويت كذا) ولو كان بين الإنسان ونفسه فإننا نقول: هذا لا يشرع، وليس من السنة.

أما الجهر بها: فهو أن يجهر بحيث يسمع الآخرين فيقول: (اللهم إني نويت كذا)، وهذا معنى الجهر.

إذاً: الجهر هو ضد الإسرار، ومعنى السر هو أن يحدث بها نفسه، مثل قراءته في السر، بحيث لا يسمه من بجانبه، وأما الجهر فهو يُسمع الآخرين، والجهر بها لا يشرع باتفاق الأئمة، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن الجهر بالنية لا يشرع، ولم يفعله واحد من السلف، وليس من السنة، وهي بدعة إذا داوم عليها الإنسان، أما إذا خطرت بنفسه فنقول: هذا لا يشرع، فقد فعلت أمراً غير مشروع، وقد ذكر ابن تيمية أن ذلك بدعة.

وأما ما نقل عن الشافعي رحمه الله كما نقل ذلك ابن الأعرابي في معجمه من طريق محمد بن خزيمة ، عن الربيع بن سليمان ، أن الشافعي رحمه الله كان إذا أراد أن يصلي يقول: اللهم إني نويت بينه وبين نفسه، فهذا قول اختاره الشافعي رحمه الله.

وقد أنكر ابن تيمية أن ينقل عن الشافعي مثل ذلك، وقد خفي عليه، فقد روى ذلك ابن الأعرابي من طريق محمد بن خزيمة ، عن الربيع بن سليمان ، عن الشافعي رحمه الله، ولكن هذا اجتهاد من عنده رضي الله عنه ورحمه، والعالم يجتهد بما يوافق السنة، وأحياناً بما يخالف السنة، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال مالك : كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.

ثم إن هذا الذي ثبت إنما هو بالإسرار، وأما الجهر فلم ينقل عن واحد من السلف أنه جهر بها، وعلى هذا فالإسرار غير مشروع، والجهر غير مشروع، وهو آكد في معنى غير المشروعية، بل قال أبو العباس بن تيمية : إن ذلك بدعة.

وأقول أيها الإخوة: هذا في غالب العبادات، وأما في الحج فإن قال: (اللهم إني نويت) فلا حرج في ذلك، كما نص الإمام أحمد على أن ذلك مباح في الحج، وأما غير الحج فلا.

وأما في الحج فلأنه جاء عن الصحابة أنهم كانوا يقولون ذلك، ومن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده من طريق عروة بن الزبير : ( أن عائشة أم المؤمنين قالت له: هل اشترطت في حجك؟ قال: يا أم المؤمنين! وماذا أقول؟ قالت: قل: اللهم الحج أردت، ولك عمدت، فإن كان الحج وإلا فمحلي حيث حبستني )، وهذا الحديث إسناده صحيح كالشمس، يرويه الشافعي عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة ، وقاعدة أبي العباس وقاعدة العلماء: أن كل فعل فعله الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين فليس ببدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، ولو كان بدعة لأنكر على عائشة ، ولما لم ينكر دل ذلك على جوازه، ولا نقول باستحبابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فدل ذلك على جوازه، وأما غير ذلك من العبادات فلا يشرع، والله تبارك وتعالى أعلم.

النية بين كونها من الواجبات أم من الشروط

الشيخ: النية أيها الإخوة! من الواجبات، ومن الشروط أيضاً، إلا أن الشرط آكد من الواجب، فإذا سألنا سؤالاً وقلنا: ما الفرق بين الشرط والواجب؟ فالجواب على ذلك: أن الشرط خارج الماهية، وأما الواجب فهو داخل في الماهية، ومعنى الماهية: أصل العبادة، فإذا تحدثنا عن الوضوء فإننا نقول: الوضوء له واجبات: غسل الوجه، المضمضة، الاستنشاق، غسل اليدين إلى المرفقين، مسح الرأس، وهذه عبادات موجودة في ذات الوضوء.

أما النية فإن الأصل فيها أنها توجد خارج الوضوء، وإن كانت باقيةً إلى انتهاء الوضوء، فلما كانت باقيةً إلى انتهاء الوضوء جعلها بعض العلماء من واجبات الوضوء، ولما كانت لا بد من وجودها قبل الوضوء جعلها بعض العلماء من الشروط، هذا الفرق الأ,ل بين الشرط والواجب.

الفرق الثاني: أن الشرط ثبت وجوبه وثبت عدم صحة العبادة إلا به، وأما الواجب فقد ثبت وجوبه ولم يدل دليل على فساد العبادة عند عدمه، مثال على ذلك: الطهارة ثبت وجوبها بقوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6]، وثبت أيضاً أن العبادة لا تصح إلا بالطهارة، كما في قوله: ( إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاةً من غير طهور، ولا صدقةً من غلول )، فدل ذلك على أن الشرط يختلف عن الواجب من وجهين.

إذا ثبت هذا فإن الشرط عند العلماء يقولون: هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.

ولعلنا نشرح معنى هذا التعريف:

فقولهم: (ما يلزم من عدمه العدم)، فمثلاً: عدم الطهارة يلزم منها عدم الصلاة، وعدم دخول الوقت يلزم منها عدم صحة صلاة الفريضة، يعني: عدم دخول وقت الظهر يلزم منه عدم وجود صلاة الظهر، وعلى هذا فإن من صلى ظاناً دخول الوقت قبل الظهر لم تصح عبادته بالإجماع، فالمأسور مثلاً لو ظن أن صلاة الظهر قد حضرت فصلى، فكان يصلي الساعة الحادية عشرة، فإننا نلزمه بالإعادة لعدم صحة صلاته، ولأنه مأمور أن يصليها في الوقت، فإذا لم يصلها في الوقت نقول: معذور بجهلك، ويجب عليك أن تقضيها.

وقولهم: (ولا يلزم من وجوده وجود)، فإذا وجدت الطهارة لم يلزم وجود الصلاة، فجائز أن أتوضأ ولكن لا يلزم أن أصلي بهذا الوضوء، وجائز أن يدخل الوقت ولا أصلي بدخوله، فربما أصلي في الوقت الثاني لأجل الجمع، أو لأجل أن الإنسان قد يكون معذوراً كالمرأة الحائض، فنقول: لا يلزم من وجوده وجود.

قولهم: (ولا عدم لذاته)، هذه العبارة لا بد من توضيحها، فنقول: الآن قد توجد الطهارة ولا توجد الصلاة، مثل: شخص توضأ ولم يصل، لكن عدم صلاته ليس لوجود الطهارة، ولكن لأجل مانع آخر وهو عدم دخول الوقت مثلاً، فعدم الصلاة ليس لأجل ذات الشرط، إنما هو لأجل مانع آخر، فهذا معنى (لا يلزم من وجوده عدم لذاته)، والله أعلم.

إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: لا يصح غسل ولا طهارة إلا بالنية، فلو أن شخصاً دخل البركة، فلما انتهى من السباحة قال: أنا نويت رفع الحدث، فلا يجزئه ذلك؛ لأنه لم ينو ذلك، ولو كان حدثاً أكبر؛ يعني: لأن الحدث الأكبر يجزئ عنه تعميم سائر البدن مع المضمضة والاستنشاق، أما الحدث الأصغر فعلى القول الراجح لا بد من وجود الترتيب، فلا يجزئه إلا أن يخرج -كما قلنا- مرتباً، أو أنه يمر يديه على أعضاء الوضوء ولو كان في البركة، فيتمضمض، ثم يغسل وجهه داخل الماء إن شاء أو إن خرج، ثم يغسل يديه لأجل أنه لا بد فيه من الترتيب، وهو مذهب الحنابلة والشافعية خلافاً لـأبي حنيفة و مالك كما هو الراجح من مذهب أهل العلم، والله تبارك وتعالى أعلم.

الشيخ: أيها الإخوة في الله! النية في اللغة: هي القصد والعزم. وعلى هذا فمتى قصد الإنسان أن يفعل شيئاً فقد نواه، ومتى عزم على فعل شيء فقد نواه، وبمجرد أن يقوم الإنسان من فراشه ناوياً صلاة الظهر فقد نوى الطهارة.

إذاً النية -أيها الإخوة- ليست بحاجة إلى أن نستحضرها أو نتكلف في استحضارها؛ لأنها حاصلة من حين القيام، وبعض الناس يقول: أنا لا أدري نويت الوضوء أم لم أنو الوضوء؟ فنسأله: أنت حينما دخلت دورات المياه ماذا تريد؟ سيقول: أريد أن أتوضأ لصلاة الظهر، أريد أن أتوضأ لصلاة الفجر، أريد أن أتوضأ لصلاة العصر، فنقول له: أنت من حين قيامك من فراشك أو من مجلسك إنما نويت الوضوء، فهذه نية كافية، وإن كان الأفضل أن الإنسان يستحضر ذلك حال وضوئه، لكن ليس معنى ذلك أنه إن ترك استحضارها حال الوضوء بطل وضوء، ولهذا قال العلماء: إن النية تكون مستحضرة حال الوضوء، أو تكون حكمية، وهو من حين قيامه من فراشه ونحو ذلك مما هو معلوم.

وعلى هذا فإنني أقول لبعض الإخوة والأخوات الذين ابتلوا بالوسوسة بأنهم ربما يجدون من كلام بعض الفقهاء المتأخرين مبالغةً في بيان ما هو المستحب في استحضار النية، فلربما وقعوا في الوسوسة، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا قولاً حكيماً بأبي هو وأمي، فقال كما في صحيح البخاري و مسلم من حديث عمر : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، والنية في لغة العرب هي العزم والقصد، وهو إرادة الشيء، فمتى أراد الإنسان فعل شيء فقد نواه، وبالتالي فلسنا بحاجة إلى أن نذكر ما ذكره الفقهاء رحمهم الله في كتبهم من المبالغة في بيان مثل هذه النية ما هي؛ لأن ذلك ربما يوقع الناس في الوسوسة، ويوقعهم في الحرج، فالأصل أن الإنسان حينما خرج ليتوضأ فقد نوى، والأصل أن الإنسان حينما فتح الماء ليرفع حدثه فقد نوى، والأصل بالإنسان حينما يقوم للصلاة أنه نوى.

فكل هذه الأشياء نوع من أنواع النية، والإنسان حينما يأكل بطبيعة الحال فإنما أراد بذلك رفع الجوع، فهذا نوى رفع الجوع، فكذلك هنا في الوضوء والصلاة والعبادة، فبمجرد أن الإنسان يخرج من بيته يريد الصلاة فينتظر الإمام ويستقبل القبلة ويقول: الله أكبر، فلسنا بحاجة إلى أن نقول له: أنويت صلاة الظهر؛ لأنه من حين خرج لصلاة الظهر قد نوى هذا الأمر، والعلماء يسمون هذه القضية: النية الحكمية، وهي أن تكون مستحضرةً إلى حين ابتداء فعل العبادة، فمتى وجد ما يقطعها خرجت النية، مثل: لو أن الإنسان قام من فراشه يريد أن يتوضأ، فلما رأى الساعة وجد أن وقت الصلاة بعيد، فقال: أنا لن أتوضأ، بل سأغسل وجهي فقط، فهو الآن قطع النية، فحينما غسل وجهه وجد نفسه أنه قد أنهى كامل أعضاء الوضوء، فهذه النية لا تنفعه؛ لأنه قطعها.

الشيخ: وعلى هذا -أيها الإخوة- فإن النية هي العزم والقصد على فعل شيء، ومحلها القلب، ولا يشرع التلفظ بها.

والتلفظ بالنية على حالين: إما أن يتلفظ بها سراً، وإما أن يتلفظ بها جهراً.

أما التلفظ بها سراً فإن من الفقهاء من قال باستحبابها، كما هو مذهب الحنابلة والشافعية، والظاهر -والله أعلم- والأقرب من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا غير مشروع، فإن أكثر من خمسة عشر صحابياً ذكروا لنا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر واحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إني نويت أن أرفع حدثي، اللهم إني نويت أن أصلي بها ظهراً، أو غير ذلك من الألفاظ، ولو كان هذا التلفظ بينه وبين نفسه، فلما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دل على أن مثل هذا التلفظ ليس من السنة، بل هو غير مشروع؛ لأنه لو كان مشروعاً لفعله الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا باتباع السنة أحرى، وبموافقة الحق أقرب، حيث إنهم أبعد عن التكلف، وأقوى تعمقاً في العلم، فهم على الطريق المستقيم، فبهم فلنقتد، وعلى هذا فإن قول: (اللهم إني نويت كذا) ولو كان بين الإنسان ونفسه فإننا نقول: هذا لا يشرع، وليس من السنة.

أما الجهر بها: فهو أن يجهر بحيث يسمع الآخرين فيقول: (اللهم إني نويت كذا)، وهذا معنى الجهر.

إذاً: الجهر هو ضد الإسرار، ومعنى السر هو أن يحدث بها نفسه، مثل قراءته في السر، بحيث لا يسمه من بجانبه، وأما الجهر فهو يُسمع الآخرين، والجهر بها لا يشرع باتفاق الأئمة، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن الجهر بالنية لا يشرع، ولم يفعله واحد من السلف، وليس من السنة، وهي بدعة إذا داوم عليها الإنسان، أما إذا خطرت بنفسه فنقول: هذا لا يشرع، فقد فعلت أمراً غير مشروع، وقد ذكر ابن تيمية أن ذلك بدعة.

وأما ما نقل عن الشافعي رحمه الله كما نقل ذلك ابن الأعرابي في معجمه من طريق محمد بن خزيمة ، عن الربيع بن سليمان ، أن الشافعي رحمه الله كان إذا أراد أن يصلي يقول: اللهم إني نويت بينه وبين نفسه، فهذا قول اختاره الشافعي رحمه الله.

وقد أنكر ابن تيمية أن ينقل عن الشافعي مثل ذلك، وقد خفي عليه، فقد روى ذلك ابن الأعرابي من طريق محمد بن خزيمة ، عن الربيع بن سليمان ، عن الشافعي رحمه الله، ولكن هذا اجتهاد من عنده رضي الله عنه ورحمه، والعالم يجتهد بما يوافق السنة، وأحياناً بما يخالف السنة، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال مالك : كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.

ثم إن هذا الذي ثبت إنما هو بالإسرار، وأما الجهر فلم ينقل عن واحد من السلف أنه جهر بها، وعلى هذا فالإسرار غير مشروع، والجهر غير مشروع، وهو آكد في معنى غير المشروعية، بل قال أبو العباس بن تيمية : إن ذلك بدعة.

وأقول أيها الإخوة: هذا في غالب العبادات، وأما في الحج فإن قال: (اللهم إني نويت) فلا حرج في ذلك، كما نص الإمام أحمد على أن ذلك مباح في الحج، وأما غير الحج فلا.

وأما في الحج فلأنه جاء عن الصحابة أنهم كانوا يقولون ذلك، ومن ذلك ما رواه الشافعي في مسنده من طريق عروة بن الزبير : ( أن عائشة أم المؤمنين قالت له: هل اشترطت في حجك؟ قال: يا أم المؤمنين! وماذا أقول؟ قالت: قل: اللهم الحج أردت، ولك عمدت، فإن كان الحج وإلا فمحلي حيث حبستني )، وهذا الحديث إسناده صحيح كالشمس، يرويه الشافعي عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة ، وقاعدة أبي العباس وقاعدة العلماء: أن كل فعل فعله الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين فليس ببدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، ولو كان بدعة لأنكر على عائشة ، ولما لم ينكر دل ذلك على جوازه، ولا نقول باستحبابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فدل ذلك على جوازه، وأما غير ذلك من العبادات فلا يشرع، والله تبارك وتعالى أعلم.

الشيخ: النية أيها الإخوة! من الواجبات، ومن الشروط أيضاً، إلا أن الشرط آكد من الواجب، فإذا سألنا سؤالاً وقلنا: ما الفرق بين الشرط والواجب؟ فالجواب على ذلك: أن الشرط خارج الماهية، وأما الواجب فهو داخل في الماهية، ومعنى الماهية: أصل العبادة، فإذا تحدثنا عن الوضوء فإننا نقول: الوضوء له واجبات: غسل الوجه، المضمضة، الاستنشاق، غسل اليدين إلى المرفقين، مسح الرأس، وهذه عبادات موجودة في ذات الوضوء.

أما النية فإن الأصل فيها أنها توجد خارج الوضوء، وإن كانت باقيةً إلى انتهاء الوضوء، فلما كانت باقيةً إلى انتهاء الوضوء جعلها بعض العلماء من واجبات الوضوء، ولما كانت لا بد من وجودها قبل الوضوء جعلها بعض العلماء من الشروط، هذا الفرق الأ,ل بين الشرط والواجب.

الفرق الثاني: أن الشرط ثبت وجوبه وثبت عدم صحة العبادة إلا به، وأما الواجب فقد ثبت وجوبه ولم يدل دليل على فساد العبادة عند عدمه، مثال على ذلك: الطهارة ثبت وجوبها بقوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6]، وثبت أيضاً أن العبادة لا تصح إلا بالطهارة، كما في قوله: ( إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله صلاةً من غير طهور، ولا صدقةً من غلول )، فدل ذلك على أن الشرط يختلف عن الواجب من وجهين.

إذا ثبت هذا فإن الشرط عند العلماء يقولون: هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.

ولعلنا نشرح معنى هذا التعريف:

فقولهم: (ما يلزم من عدمه العدم)، فمثلاً: عدم الطهارة يلزم منها عدم الصلاة، وعدم دخول الوقت يلزم منها عدم صحة صلاة الفريضة، يعني: عدم دخول وقت الظهر يلزم منه عدم وجود صلاة الظهر، وعلى هذا فإن من صلى ظاناً دخول الوقت قبل الظهر لم تصح عبادته بالإجماع، فالمأسور مثلاً لو ظن أن صلاة الظهر قد حضرت فصلى، فكان يصلي الساعة الحادية عشرة، فإننا نلزمه بالإعادة لعدم صحة صلاته، ولأنه مأمور أن يصليها في الوقت، فإذا لم يصلها في الوقت نقول: معذور بجهلك، ويجب عليك أن تقضيها.

وقولهم: (ولا يلزم من وجوده وجود)، فإذا وجدت الطهارة لم يلزم وجود الصلاة، فجائز أن أتوضأ ولكن لا يلزم أن أصلي بهذا الوضوء، وجائز أن يدخل الوقت ولا أصلي بدخوله، فربما أصلي في الوقت الثاني لأجل الجمع، أو لأجل أن الإنسان قد يكون معذوراً كالمرأة الحائض، فنقول: لا يلزم من وجوده وجود.

قولهم: (ولا عدم لذاته)، هذه العبارة لا بد من توضيحها، فنقول: الآن قد توجد الطهارة ولا توجد الصلاة، مثل: شخص توضأ ولم يصل، لكن عدم صلاته ليس لوجود الطهارة، ولكن لأجل مانع آخر وهو عدم دخول الوقت مثلاً، فعدم الصلاة ليس لأجل ذات الشرط، إنما هو لأجل مانع آخر، فهذا معنى (لا يلزم من وجوده عدم لذاته)، والله أعلم.

إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: لا يصح غسل ولا طهارة إلا بالنية، فلو أن شخصاً دخل البركة، فلما انتهى من السباحة قال: أنا نويت رفع الحدث، فلا يجزئه ذلك؛ لأنه لم ينو ذلك، ولو كان حدثاً أكبر؛ يعني: لأن الحدث الأكبر يجزئ عنه تعميم سائر البدن مع المضمضة والاستنشاق، أما الحدث الأصغر فعلى القول الراجح لا بد من وجود الترتيب، فلا يجزئه إلا أن يخرج -كما قلنا- مرتباً، أو أنه يمر يديه على أعضاء الوضوء ولو كان في البركة، فيتمضمض، ثم يغسل وجهه داخل الماء إن شاء أو إن خرج، ثم يغسل يديه لأجل أنه لا بد فيه من الترتيب، وهو مذهب الحنابلة والشافعية خلافاً لـأبي حنيفة و مالك كما هو الراجح من مذهب أهل العلم، والله تبارك وتعالى أعلم.

تمييز العبادات بعضها عن بعض

الشيخ: إذا ثبت هذا أيها الإخوة! فإننا نقول: إن النية إنما شرعت لثلاثة أمور:

أولاً: للتمييز بين العبادات بعضها عن بعض، فأنا حينما أصلي للظهر فإنني ميزت صلاة الظهر عن صلاة العصر بالنية، فلو أن إنساناً يريد أن يجمع صلاة الظهر مع العصر إما لأجل المطر أو لأنه كان مسافراً، فلا يستطيع أن يميز بينهما إلا بالنية؛ لأن الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، فلا يستطيع أن يميز بينهما، ولا يقال: هذه الأولى وهذه الثانية، حتى الأولى إنما قدمتها نية المصلي، فهذا يدل على أن النية إنما شرعت لأجل التمييز بين العبادات.

التمييز بين الواجبات والمستحبات

الشيخ: ثانيا:ً للتمييز بين الواجبات والمستحبات، مثاله: غسل الجنابة وغسل الجمعة، فغسل الجمعة الراجح أنه سنة كما سوف يأتي بيانه، وهذا مذهب عامة أهل العلم كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره، وهو مذهب الأئمة الأربعة في المشهور عنهم، إذا ثبت هذا فإن الإنسان إذا كان عليه جنابة وقام إلى صلاة الفجر يوم الجمعة، وأراد أن يغتسل للحدث الأكبر، وأراد أن يجعل غسله هذا لصلاة الجمعة، فإن هذا يجزئه إذا نواهما معاً، وهذا مذهب الشافعي و أحمد ؛ لأن الشافعية و أحمد يقولون: يجزئ غسل الجمعة من طلوع فجر يوم الجمعة، وأما مالك بن أنس وكذلك يروى عن أبي حنيفة : أن ذلك يبدأ من طلوع الشمس، وقال مالك : إنما هو لأجل الرواح، فمتى ما أراد أن يذهب اغتسل، وأما إن اغتسل من الفجر فإن ذلك لا ينفعه، والراجح هو مذهب الشافعي و أحمد ، وهو أن الغسل يوم الجمعة يبدأ من طلوع فجر يوم الجمعة؛ لأنه يجزئ أن ينطلق ويذهب إلى المسجد من دخول يوم الجمعة، ودخول يوم الجمعة يبدأ من طلوع الفجر، والله تبارك وتعالى أعلم.

ودخول يوم الجمعة غير دخول وقت الصلاة، فدخول وقت الصلاة الراجح أنه يبدأ من بعد زوال الشمس، كما هو مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة كما سوف يأتي بيانه.

التمييز بين العبادات والعادات

الشيخ: ثانياً: للتمييز بين العبادات والعادات.

إذاً: التمييز بين الفروض بعضها عن بعض، والتمييز بين المستحبات بعضها عن بعض، هذا القسم الأول. الثاني: التمييز بين الواجبات والمستحبات، والقسم الثالث: التمييز بين العبادات والعادات، فلو أن إنساناً يريد أن يتوضأ ليعلم الآخرين، فوضوءه لأجل التعليم لا يرفع حدثه؛ لأنه لم ينو رفع الحدث، فأما إن قال: أنا أريد أن أرفع حدثي وأعلم الآخرين، فإنه يرفع حدثه؛ لأنه نوى رفع الحدث، والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات - الطهارة [4] 2581 استماع
فقه العبادات - الطهارة [17] 2561 استماع
فقه العبادات - الطهارة [5] 2438 استماع
فقه العبادات - الطهارة [15] 2389 استماع
فقه العبادات - الصلاة [9] 2348 استماع
فقه العبادات - الصلاة [11] 2238 استماع
فقه العبادات - الصلاة [16] 2235 استماع
فقه العبادات - الطهارة [7] 2185 استماع
فقه العبادات - الصلاة [14] 2112 استماع
فقه العبادات - الطهارة [14] 2091 استماع