فقه العبادات - الطهارة [3]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

وها نحن قد عدنا والعود أحمد، فنسأله سبحانه وتعالى المزيد من فضله، وأن يعيننا على الصواب في القول والعمل.

أيها الإخوة في الله! كنا قد شرحنا في الدرس الماضي مسائل في باب المياه، ثم تحدثنا عن باب الآنية، وذكرنا آنية الكفار، وذكرنا الأحاديث التي يفهم منها بعض القراء التعارض بينها وبين ما قررناه، فأجبنا عن كثير من المسائل، وتحدثنا عن آنية الذهب والفضة، وذكرنا أقسام هذه المسائل، أما اليوم فإننا بإذن الله سوف ندلف إلى باب آداب قضاء الحاجة.

جريان الأحكام الخمسة في آداب قضاء الحاجة

الشيخ: من المعلوم أن آداب قضاء الحاجة يذكرها الفقهاء رحمهم الله بهذا العنوان أحياناً في باب آداب قضاء الحاجة، وأحياناً يذكرونها في باب الاستنجاء، ومن المعلوم أن الاستنجاء هو: إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو بغيره كالاستجمار، لكن أحياناً من عادة الفقهاء -رحمهم الله- أنهم يذكرون في هذا الباب مسائل أخرى داخلة في ضمن هذا الباب، ولهذا فإن آداب قضاء الحاجة لا يلزم أن يكون كل أدب منها مستحباً، فيمكن أن يكون مستحباً، ويمكن أن يكون واجباً، ويمكن أن يكون مكروهاً، ويمكن أن يكون محرماً، ويمكن أن يكون مباحاً، فكلمة آداب يقصد بها الأشياء التي تفعل عند قضاء الحاجة مما هو واجب أو مستحب أو محرم، أو منع استعماله كمحرم أو مكروه، أو أن ذلك مباح، والله تبارك وتعالى أعلم.

حينما نتحدث عن آداب قضاء الحاجة فإنه من المعلوم أن الإنسان لا يقضي الحاجة إلا في مكان، وهذا المكان إما أن يكون قد خصص له كالحش ونحوه، أو يكون في فضاء، فإذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته في مكان ما، فإن هذا المكان الذي سوف يقضي فيه حاجته يكون في حكم دخوله للحش، وعلى هذا فيستحب للإنسان أولاً أن يقول شيئاً عند دخول الخلاء، وقلنا: إن الخلاء هو المكان الذي تقضى فيه الحاجة.

فإذا أراد أن يأتي مكان قضاء الحاجة فيقول الدعاء الوارد عند دخول الخلاء، كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبْثِ والخبائث )، والحديث متفق عليه.

وفيه فائدة: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك قبل الدخول، ( كان إذا أراد أن يدخل الخلاء )، وعلى هذا فإذا أراد أن يدخل الخلاء وهو دورات المياه فإنه قبل أن يدخل يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث - أو من الخبث- والخبائث.

فإن كان في فضاء فإنه إذا رأى أن هذا المكان يحسن أن يقضي حاجته فيه فإنه يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

ضبط لفظة (الخبث) ومعناها

الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه من المعلوم أن أهل العلم اختلفوا في مسألة النطق هل هي الخبث-بضم الخاء وسكون الباء- أم هي الخبث -بضم الخاء وضم الباء- بعض أهل العلم وهو أكثر المحدثين يرون التسكين، وبعضهم يقول: إن الأصح هو الضم، وكل واحد له وجهة نظر، والذي يظهر -والله أعلم- أن الأشهر هي الخُبُث بالضم، وإن كان يجوز فيها التسكين من باب التخفيف عند علماء اللغة، كما تقول: رُسُل ورُسْل، كُتُب وكُتْب، كل ذلك جائز، فالأصل هو كُتُب بالضم، ولكن يجوز أن تقول: كُتْب، وعلى هذا فإذا قلت: الخبث أو الخبث كل ذلك جائز، فما معنى الخبث؟

الخبث قال بعضهم: إنه بالضم ذكران الشياطين، والخبائث إناث الشياطين.

وقال بعضهم: إنه بالتسكين يكون المقصود به الشر، الخبْث اللي هو الشر، والخبائث هي الذوات الشريرة، إذاً الأول بالتسكين الشر، وبالخبائث المقصود بها الشريرة، والذي يظهر والله أعلم أننا إذا قلنا: الخبث والخبائث فالمقصود به ذكران الشياطين والشر نفسه، والخبائث إناث الشياطين والأنفس الشريرة كلها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

فائدة دعاء دخول الخلاء وحكم البسملة قبله

الشيخ: ومن المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته فإنه لا بد فيه من ذكر؛ لأنه بحاجة إلى من يعينه وهو الله سبحانه وتعالى، وهذه فائدة فلا يلزم أن نأخذ الفقه فقط بطريقة غير معلقة بالله سبحانه وتعالى، العبد حينما يريد أن يقضي حاجته فهو يعلم أن هذا الذي استجمعه هو الله سبحانه وتعالى، والذي يخرجه بعونه وتسهيله هو الله سبحانه وتعالى، فهو إذا أراد أن يقضي حاجته يتعوذ من الشياطين الذين ربما رأوا عورته، فربما آذوه، فهو يتعوذ بالله من شرهم، فيقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث؛ لأنه يعلم أنه لا حول ولا قوة له إلا بالله سبحانه وتعالى، فناسب ذلك هذا الدعاء.

إذا علم هذا فإن بعض الناس يقول: بسم الله، فأقول: إنه لو قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث فجائز، ولكن كل الأحاديث الواردة بالبسملة أحاديث ضعيفة، من ذلك ما رواه الترمذي و ابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم أن يقول إذا دخل الكنيف: بسم الله )، وهذا الحديث ضعيف، في سنده رجل يقال له: الحكم النصري وهو ضعيف، فإذا لم يقل: بسم الله، فهذا هو الذي جاءت السنة به.

فإن قال ذلك فنقول: لا حرج شريطة ألا يظن أنها سنة، أو أن يداوم عليها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

إذا ثبت هذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما سبب هذا الذكر؟

مداخلة: أن الشخص إذا أراد أن يقضي حاجته لا بد له من معين، فيكون هذا الدعاء معيناً له بإذن الله.

الشيخ: ويتعوذ بالله من الذي يكشف وينظر إلى عورته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الغائط فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، فلأجل أنها محتضرة، يعني حاضرة فإنه ينبغي له أن يتعوذ بالله من شرها، والله أعلم.

الدعاء بعد الخروج من الخلاء

الشيخ: إذا ثبت هذا فماذا يقول عند الخروج من الخلاء؟

عند الخروج من الخلاء يقول: غفرانك، كما ثبت ذلك عند أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج من الخلاء قال: غفرانك )، وهذا الحديث صححه ابن خزيمة ، و ابن حبان ، و النووي ، وغير واحد من أهل العلم.

ولو قال: ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ) فهذا حديث رواه ابن ماجه ، فإن قاله فلا حرج، لكن الحديث فيه ضعف، والله أعلم، والصحيح أنه من قول أبي ذر كما ذكر ذلك الدارقطني ، فإن قاله أحياناً فلا حرج ولو لازمه؛ لأنه قول صحابي فلا حرج إن شاء الله، لكن السنة أن يقول: غفرانك. ما الحكمة بأن يقول الإنسان: غفرانك؟

الحكمة -والله أعلم- هو أنه لما يسر الله له إزالة ما في بطنه، فهو يسأل ربه أن يزيل ما علق من الذنوب، أي: فلما زال ما علق من الأوساخ الحسية ناسب أن يسأل ربه أن يزيل عنه الأوساخ المعنوية، وهذا هو الظاهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

من نسي دعاء الدخول وتذكره بعد الدخول

الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه من المعلوم أن الإنسان يقولها وهو ذاكر قبل دخول الخلاء، لكن ماذا لو دخل الإنسان الخلاء ولم يتذكر قول ذلك؟

فالجواب: أنه لا حرج أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث وهو يقضي حاجته، لماذا؟ الجواب: سوف نتحدث عن مسألة ذكر الله في الخلاء أنه مكروه، لكن يقال: ذكر الله العام مكروه، وقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث مستحب، والقاعدة: إذا تعارض مأمور ومحظور فيقدم المأمور. وإذا تعارض واجب ومحرم فالمقدم الواجب؛ لأن الواجب أعظم، وهذا غير ما لو تعارض مباح ومحرم، فيقدم المحرم.

وإذا اجتمع مبيح ومحظور فيقدم المحظور، أما الواجب فيقدم على المحرم، والمستحب يقدم على المكروه، وعلى هذا فلو قال: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) وهو في دروة المياه فلا حرج في ذلك؛ لأن المستحب أقوى من المكروه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

تقديم اليسرى عند دخول الخلاء واليمنى عند الخروج منه

الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه يستحب له قبل أن يدخل الخلاء أن يقدم رجله اليسرى، وإذا أراد أن يخرج قدم رجله اليمنى، وذلك لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله إذا انتعل، وفي ترجله إذا ترجل )، وفي رواية: ( وفي شأنه كله )، فدل ذلك على أن كل ما كان فيه إكرام لليمين قدم اليمنى، وكل ما فيه عدم إكرام لليمين قدم اليسرى، وقل مثل ذلك في دخول المسجد، فدخول المسجد إكرام لليمين، فيقدم اليمنى، وعند الخروج بقاء الرجل بالمسجد أبرك من بقائها خارج المسجد، فيقدم اليسرى، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

ما فيه ذكر الله .. أنواعه وحكم دخول الخلاء به

الشيخ: إذا ثبت هذا فعندنا مسألة وهي: هل يكره الدخول إلى الخلاء بشيء فيه ذكر الله

الجواب: الشيء الذي يدخل به إلى الخلاء وفيه ذكر الله أنواع:

أولاً: المصحف: ما حكم الدخول بالمصحف إلى الخلاء؟

الجواب: لا يجوز، بل قال بعض أهل العلم كـالمرداوي صاحب الإنصاف ولا أظن عاقلاً يخالف في ذلك؛ لأن المصحف مأمور فيه الإكرام، ودخول الخلاء به فيه الإهانة له، إلا إذا كان ذلك خوفاً عليه، فإذا كان ذلك خوفاً عليه فأصبح ضرورة فلا حرج، مثل أن يكون في دورات مياه غير أهل الإسلام، أو يخاف على مصحفه من الضياع فنقول: احفظه خارج الحمام، ولكن لا ينبغي أن تدخل به إلى الحمام إلا إذا خفت عليه من سرقة ونحوها، فاجعله في داخل الجيب، ومع ذلك يجب على الإنسان أن يتوقى ولا يدخله إلى الخلاء، والله أعلم.

ثانياً: دخول شيء فيه ذكر الله، كصحيفة فيها اسم الله، فنقول أولاً: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح في هذا الباب، واستدل بعض أهل العلم على الكراهة بما جاء من حديث أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدخل الخلاء خلع خاتمه، وكان نقشه محمد رسول الله )، فقالوا: كلمة (الله) ذكر، فكان الرسول يخلع خاتمه لأجل ألا يدخل به الخلاء.

والجواب على هذا أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، فقد ضعفه النسائي و أبو داود وقال: منكر، وهذه هي طريقة أهل العلم من المتقدمين، وصححه بعض أهل العلم من المتأخرين، والصحيح أن الحديث موقوف على أنس.

فإن خلع ما كان فيه ذكر الله عند دخوله الخلاء فهذا أفضل إلا إذا كان قد وضعه في جيبه فلا حرج في ذلك؛ لأنه في حكم ما في قلبك، فلما جاز أن تدخل أنت لأن قلبك في حكم الصندوق، فكذلك يجوز دخولك بما فيه ذكر الله تعالى وقل مثل ذلك دخول الأجهزة الالكترونية، كالجوال والأيفون، وغير ذلك مما فيها مصاحف، فإذا كانت مقفلة وهي داخله فهذه حكمها كحكم ما لو دخل الإنسان وفي قلبه القرآن كاملاً، فلا حرج في ذلك، لكن إذا كان سوف يظهره أو يقرأ فيه فلا ينبغي له ذلك، والله أعلم.

من آداب قضاء الحاجة البعد

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن أهل العلم ذكروا من آداب قضاء الحاجة إذا أراد أن يقضي الحاجة أن يبتعد، وهذا كما جاء في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة أنه قال: ( حتى توارى عني في سواد الليل ) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا يدل على أن الرسول كان قد ابتعد.

إذاً: الابتعاد غير الاستتار، فأنت ربما تقضي حاجتك وقد استترت من زملائك وأصحابك، لكنك لم تبتعد، فالسنة أن تبتعد، وقد جاء في ذلك حديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يقضي حاجته أبعد )، ولكنه حديث ضعيف، وأحسن شيء هو حديث المغيرة بن شعبة. إذاً يستحب للإنسان أن يبتعد.

من آداب قضاء الحاجة الاستتار

الشيخ: الثاني: الاستتار، والاستتار نوعان: الاستتار عن كشف العورة، فهذا واجب، فبعض الناس أحياناً لا يبالي فيقضي حاجته في دورات المياه والناس ينظرون عورته، وهذا لا يجوز؛ لما جاء عند أهل السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك، إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك. قال: يا رسول الله! يكون أحدنا وحده؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه )، فدل ذلك على أن الإنسان إذا كان مع إخوانه فيجب أن يحفظ عورته إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه، هذا هو القسم الأول.

القسم الثاني: الاستتار بمعنى ألا يراه أصحابه حال قضاء الحاجة، يعني يختفي، الآن عندنا ابتعاد والثاني اختفاء، فكان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يستتر؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن جعفر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب ما استتر لحاجته هدف أو حائش نخل )، الهدف: يعني الشيء المعترض، مثل تل صغير، أو شجرة ليس فيها ظل ينتفع به، فيقضي حاجته بحيث لا يراه أحد، ولو كان قريباً، هذا هو الأفضل.

فهذا ينبغي أن يكون عليه الإنسان، وإذا كان ليس هناك مكان فلا حرج إن شاء الله شريطة ألا يظهر منه شيء من العورة، وفي الصحيحين قال حذيفة رضي الله عنه: ( فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم، فبال قائماً وأنا خلف عقبه )، يعني أنه قريب منه، فإذا كان هناك حاجة وضرورة فلا حرج إن شاء الله، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

من آداب قضاء الحاجة ألا يتكلم

الشيخ: من المسائل أيضاً: أنه يستحب للإنسان عند قضاء الحاجة ألا يتكلم؛ لأن بعض أهل العلم يرى أن الكلام ممقوت؛ واستدلوا على ذلك بما جاء من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول، فجاء رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، ثم قال: إني كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طهر )، فقالوا: يكره ذلك، والصحيح أن هذا الحديث فيه دلالة على أنه يكره حال قضاء الحاجة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كره ذلك لأجل أنه يقول: وعليكم السلام، ففيه ذكر الله وهو في حال قضاء حاجته، فدل ذلك على أن النبي إنما امتنع لأجل عدم الطهر.

ومما يدل على أن الكلام إن كان لحاجة فلا بأس به ما جاء في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال له: ( ائتني بثلاثة أحجار، قال: فأتيته وهو يقضي حاجته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: إنها رجس )، وفي رواية عند ابن خزيمة : ( ائتني بغيرها )، فدل ذلك على أنه إذا كان يحتاج إلى الكلام فلا حرج، فإذا كان الإنسان في دورات المياه، وطرق عليه الباب فلا حرج أن يتنحنح أو يقول: أنا فيه، أو قد ينادى به فيقال: يا فلان، فيقول: نعم، بحيث يخبر الناس.

أما الحديث الوارد (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك)، فهذا الحديث ضعيف، ولو صح فإن النهي إنما هو لأجل أن الرجل يرى عورة أخيه، والرجل الآخر يرى عورة صاحبه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: من المعلوم أن آداب قضاء الحاجة يذكرها الفقهاء رحمهم الله بهذا العنوان أحياناً في باب آداب قضاء الحاجة، وأحياناً يذكرونها في باب الاستنجاء، ومن المعلوم أن الاستنجاء هو: إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو بغيره كالاستجمار، لكن أحياناً من عادة الفقهاء -رحمهم الله- أنهم يذكرون في هذا الباب مسائل أخرى داخلة في ضمن هذا الباب، ولهذا فإن آداب قضاء الحاجة لا يلزم أن يكون كل أدب منها مستحباً، فيمكن أن يكون مستحباً، ويمكن أن يكون واجباً، ويمكن أن يكون مكروهاً، ويمكن أن يكون محرماً، ويمكن أن يكون مباحاً، فكلمة آداب يقصد بها الأشياء التي تفعل عند قضاء الحاجة مما هو واجب أو مستحب أو محرم، أو منع استعماله كمحرم أو مكروه، أو أن ذلك مباح، والله تبارك وتعالى أعلم.

حينما نتحدث عن آداب قضاء الحاجة فإنه من المعلوم أن الإنسان لا يقضي الحاجة إلا في مكان، وهذا المكان إما أن يكون قد خصص له كالحش ونحوه، أو يكون في فضاء، فإذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته في مكان ما، فإن هذا المكان الذي سوف يقضي فيه حاجته يكون في حكم دخوله للحش، وعلى هذا فيستحب للإنسان أولاً أن يقول شيئاً عند دخول الخلاء، وقلنا: إن الخلاء هو المكان الذي تقضى فيه الحاجة.

فإذا أراد أن يأتي مكان قضاء الحاجة فيقول الدعاء الوارد عند دخول الخلاء، كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبْثِ والخبائث )، والحديث متفق عليه.

وفيه فائدة: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك قبل الدخول، ( كان إذا أراد أن يدخل الخلاء )، وعلى هذا فإذا أراد أن يدخل الخلاء وهو دورات المياه فإنه قبل أن يدخل يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث - أو من الخبث- والخبائث.

فإن كان في فضاء فإنه إذا رأى أن هذا المكان يحسن أن يقضي حاجته فيه فإنه يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه من المعلوم أن أهل العلم اختلفوا في مسألة النطق هل هي الخبث-بضم الخاء وسكون الباء- أم هي الخبث -بضم الخاء وضم الباء- بعض أهل العلم وهو أكثر المحدثين يرون التسكين، وبعضهم يقول: إن الأصح هو الضم، وكل واحد له وجهة نظر، والذي يظهر -والله أعلم- أن الأشهر هي الخُبُث بالضم، وإن كان يجوز فيها التسكين من باب التخفيف عند علماء اللغة، كما تقول: رُسُل ورُسْل، كُتُب وكُتْب، كل ذلك جائز، فالأصل هو كُتُب بالضم، ولكن يجوز أن تقول: كُتْب، وعلى هذا فإذا قلت: الخبث أو الخبث كل ذلك جائز، فما معنى الخبث؟

الخبث قال بعضهم: إنه بالضم ذكران الشياطين، والخبائث إناث الشياطين.

وقال بعضهم: إنه بالتسكين يكون المقصود به الشر، الخبْث اللي هو الشر، والخبائث هي الذوات الشريرة، إذاً الأول بالتسكين الشر، وبالخبائث المقصود بها الشريرة، والذي يظهر والله أعلم أننا إذا قلنا: الخبث والخبائث فالمقصود به ذكران الشياطين والشر نفسه، والخبائث إناث الشياطين والأنفس الشريرة كلها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: ومن المعلوم أن الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجته فإنه لا بد فيه من ذكر؛ لأنه بحاجة إلى من يعينه وهو الله سبحانه وتعالى، وهذه فائدة فلا يلزم أن نأخذ الفقه فقط بطريقة غير معلقة بالله سبحانه وتعالى، العبد حينما يريد أن يقضي حاجته فهو يعلم أن هذا الذي استجمعه هو الله سبحانه وتعالى، والذي يخرجه بعونه وتسهيله هو الله سبحانه وتعالى، فهو إذا أراد أن يقضي حاجته يتعوذ من الشياطين الذين ربما رأوا عورته، فربما آذوه، فهو يتعوذ بالله من شرهم، فيقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث؛ لأنه يعلم أنه لا حول ولا قوة له إلا بالله سبحانه وتعالى، فناسب ذلك هذا الدعاء.

إذا علم هذا فإن بعض الناس يقول: بسم الله، فأقول: إنه لو قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث فجائز، ولكن كل الأحاديث الواردة بالبسملة أحاديث ضعيفة، من ذلك ما رواه الترمذي و ابن ماجه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ستر ما بين الجن وعورات بني آدم أن يقول إذا دخل الكنيف: بسم الله )، وهذا الحديث ضعيف، في سنده رجل يقال له: الحكم النصري وهو ضعيف، فإذا لم يقل: بسم الله، فهذا هو الذي جاءت السنة به.

فإن قال ذلك فنقول: لا حرج شريطة ألا يظن أنها سنة، أو أن يداوم عليها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

إذا ثبت هذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما سبب هذا الذكر؟

مداخلة: أن الشخص إذا أراد أن يقضي حاجته لا بد له من معين، فيكون هذا الدعاء معيناً له بإذن الله.

الشيخ: ويتعوذ بالله من الذي يكشف وينظر إلى عورته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الغائط فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )، فلأجل أنها محتضرة، يعني حاضرة فإنه ينبغي له أن يتعوذ بالله من شرها، والله أعلم.

الشيخ: إذا ثبت هذا فماذا يقول عند الخروج من الخلاء؟

عند الخروج من الخلاء يقول: غفرانك، كما ثبت ذلك عند أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج من الخلاء قال: غفرانك )، وهذا الحديث صححه ابن خزيمة ، و ابن حبان ، و النووي ، وغير واحد من أهل العلم.

ولو قال: ( الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ) فهذا حديث رواه ابن ماجه ، فإن قاله فلا حرج، لكن الحديث فيه ضعف، والله أعلم، والصحيح أنه من قول أبي ذر كما ذكر ذلك الدارقطني ، فإن قاله أحياناً فلا حرج ولو لازمه؛ لأنه قول صحابي فلا حرج إن شاء الله، لكن السنة أن يقول: غفرانك. ما الحكمة بأن يقول الإنسان: غفرانك؟

الحكمة -والله أعلم- هو أنه لما يسر الله له إزالة ما في بطنه، فهو يسأل ربه أن يزيل ما علق من الذنوب، أي: فلما زال ما علق من الأوساخ الحسية ناسب أن يسأل ربه أن يزيل عنه الأوساخ المعنوية، وهذا هو الظاهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإنه من المعلوم أن الإنسان يقولها وهو ذاكر قبل دخول الخلاء، لكن ماذا لو دخل الإنسان الخلاء ولم يتذكر قول ذلك؟

فالجواب: أنه لا حرج أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث وهو يقضي حاجته، لماذا؟ الجواب: سوف نتحدث عن مسألة ذكر الله في الخلاء أنه مكروه، لكن يقال: ذكر الله العام مكروه، وقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث مستحب، والقاعدة: إذا تعارض مأمور ومحظور فيقدم المأمور. وإذا تعارض واجب ومحرم فالمقدم الواجب؛ لأن الواجب أعظم، وهذا غير ما لو تعارض مباح ومحرم، فيقدم المحرم.

وإذا اجتمع مبيح ومحظور فيقدم المحظور، أما الواجب فيقدم على المحرم، والمستحب يقدم على المكروه، وعلى هذا فلو قال: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) وهو في دروة المياه فلا حرج في ذلك؛ لأن المستحب أقوى من المكروه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.