فقه السياسة الشرعية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن من نعم الله عز وجل على العباد أن كرمهم وشرفهم سبحانه وتعالى بالبصيرة، وهي العقول التي أنار الله عز وجل بها الإنسان وفضله على غيره، وأعظم من ذلك أن الله عز وجل جعل لتلك البصيرة نوراً وهدى يسير بها الإنسان في ظلمات الآراء والأهواء والشبهات، وجلى الله سبحانه وتعالى ذلك بكتبه المنزلة على رسله وأنبيائه، فكان الأنبياء يحملون النور والمشعل لإنارة العقول وتبديد الظلام فيها، والسياسة التي توصلهم في ذلك إلى الغاية التي يريدونها، فتجردوا من حظوظ النفس والأهواء والشبهات والشهوات، ليصلوا إلى الغاية المنشودة، لهذا جعل الله عز وجل أنبيائه صلى الله عليهم وسلم قادة في الدين والدنيا، وهم ساسة في إيصال الحق، يسوسون النفوس، ويسوسون الأفراد، ويسوسون الدول والحكام، يسوسون الرجال والنساء، ويسوسون الصغار، ويسوسون عمالهم، ويسوسون أيضاً إنفاق الأموال، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما ذهب نبي خلفه نبي بعده ).

الحكمة من سياسة الأمم

ومعنى السياسة أن الإنسان بطبعه, برأيه, بقوله, بفعله, يخرج عن الجادة مع طول الزمن وتقادمه؛ وذلك أن الإنسان في داخله شيء من مطامع النفس وهواها، ربما يصورها على أنها آراء أو أقوال حقيقية، ثم يحيد مع الزمن إلى غير مراد الله سبحانه وتعالى.

والله جل وعلا قد جعل في الإنسان فطرة ونزوة، وهي جانب الشهوات، جوانب الشهوات لا حد لها ولا حصر، وهي التي تنبت عليها الآراء والأفكار والشبهات، ثم بعد ذلك تتحول على أنها مدارس فكرية ونظرية في ذلك، وإنما هي غرائز.

لهذا ما من شبهة ولا يوجد رأي شاذ إلا وأصله قد نبت على شهوة وغريزة، وهذه الغريزة لا يبوح بها صاحبها، وإنما يشرعها بشيء من الرأي؛ فإذا الظالم أراد أن يستحوذ بالمال لحبه للمال بحث عن مشرع له، ثم أصبح بعد ذلك ديناً وشريعة، وإذا أحب الإنسان غريزة السمع والبصر والشهوة من جهة فرجه أو مطعمه أو تملكه، أخذ ذلك عن طريق الشهوة، ثم أراد بعد ذلك أن يسول له أن هذا من العمل المباح، وأخذ يُنَظِّر له.

ولهذا لما كانت الشبهات متلازمة مع هذه الشهوات وتتزاوج وتنتج بعد ذلك عقائد فاسدة، جاء الله عز وجل بالأنبياء، وجاء الله عز وجل بالرسل، جاء الله عز وجل بنذر الحق وأنزل عليهم الكتب، ليسوسوا الناس ويعيدوهم إلى جادة الحق، لهذا إذا ترك الإنسان لنفسه العنان، واسترسل بخطراتها فللنفس وساوس ولها غرائز, تتزاوج الأهواء والأفكار بالشهوات حتى تنتج من ذلك مدارس بعيدة عن منهج الله سبحانه وتعالى.

ولهذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم كلما ذهب نبي خلفه نبي بعده )، المراد من هذا أن الناس كحال القافلة التي تسير في الأرض مع طريقهم يتيهون عن ذلك، ويتفرقون جماعات ينفرد منهم أناس يمنة ويسرة، ويأتي النبي ويقوم بجمع الناس وإعادتهم إلى تلك الجادة، هكذا كلما هلك نبي جاء نبي بعده، يعني: أنه لا بد من المتابعة حتى يستقيم أمر الأمة.

تدرج الباطل في ترسخه في حياة الناس ونفوسهم

في استعمال لفظ السياسة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم )، يعني: أنهم يعيدونهم على سبيل التدرج شيئاً فشيئاً، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول كما في الحديث: ( خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين )، يعني: أن الإنسان ربما ينحرف ويجتال من حيث لا يشعر، ولهذا الإنسان ربما ينقلب اتجاهه درجات كاملة عن الاتجاه الذي سعى إليه مع مرور الزمن من حيث لا يشعر.

ولهذا الإنسان إذا سلك طريقاً في الأرض أو في البحر، إذا كان الانحناء في ذلك بعيداً فإنه ينعكس اتجاهها من حيث لا يشعر، وربما الإنسان إذا أراد أن يصلي في برية أو في طريق سفر يتجه إلى غير القبلة؛ لأنه يظن أن الاتجاه إلى هذه الجهة بينما هو استدار من حيث لا يشعر، أما الاستدارة القريبة فيشعر بها الإنسان ولو كانت يسيرة، ولهذا مع طول الأمل ومع طول الأمد تتغير النفوس والأفكار والآراء وكذلك العقائد من حيث لا يشعر الناس، ولهذا الإنسان بحاجة إلى شيء من السياسة ولشيء من الرعاية، ولهذا الإنسان حينما يكون راعياً على بهائمه من الإبل والبقر والغنم وغيرها، يقوم بجمعها في حال مسيرها حتى لا تفترق، مع البون في بني آدم وهذه البهائم، إلا أن الناس في سيرهم في الأرض يتدرجون من حيث لا يشعرون في الباطن، ولكن البهائم أسرع من بني آدم، وبنو آدم في ذلك أبطأ ويتفقون بعد ذلك في الغاية، ما لم يبعث الله عز وجل أنبياء يسوسون البشرية.

انحراف الأمم عند تأخر الرسل

وكلما تأخر إرسال نبي، ولم يأت للأمة نذير، وعطلت الأمة رسالة الأنبياء التي جعلها الله عز وجل فيهم بدأ الانحراف في الأمة شيئاً فشيئاً، ولهذا قوم لوط ما بدءوا باللوطية ابتداء, بل أصبحوا على خلق وعلى فطرة ثم بدءوا بذلك, يقول عبد الله بن عباس و أنس بن مالك وغيرهم يقولون: إنهم ما بدأوا بذلك إلا بعد أن استحلوا الزنا، ثم لوطية النساء، ثم بعد ذلك وصلوا إلى أمر الرجال، وهذا أمر معلوم بداهة، أن الناس لا ينحرفون مثل هذا الانحراف في يوم وليلة.

كذلك كفار قريش حينما عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى الأصنام والأوثان، جعلوا ذلك لآرائهم وعقولهم, فكان الشيطان يسوسهم في الباطل، والأنبياء يسوسونهم في الحق، فإذا غاب النذر وغاب الأنبياء ساسهم الشيطان لأمر الانحراف.

كيف بدأت الوثنية؟ لما بعد العهد فيهم، وضعفت رسالة العلماء ولم يكن لديهم شيء من التعبد ذهب عمرو بن لحي إلى بلاد الشام ونظر في الأصنام والأوثان ثم جلبها إلى مكة، كانوا بداهة لا يجوزن لأنفسهم أن يسجدوا لها وأن يطوفوا عليها من دون الله سبحانه وتعالى وإنما ينظرون إليها تعظيماً، ثم جاء جيل بعد ذلك صرفوا لها نوعاً من العبادة؛ كبعض الاستقسام بالأزلام عند هذه الأصنام، أو شيء من الحلف إذا أراد الإنسان أن يغلظ يمينه أو شيء من هذا، ثم بدءوا بالتمسح والتبرك، ثم عظموها من دون الله، كما جاء عن أبي رجاء كما في البخاري قال: ( كنا إذا كان أحد منا في سفرة ولم يجد صنماً احتلب ضرع شاة على تراب فإذا يبس طاف عليه )، هل هذا الأمر كان في البداية؟ ما كان الأمر في البداية هكذا، هل تناسخت العقول من عقل إلى عقل على هذه الحيدة؟ تكون، ولهذا الشيطان يسوس الناس على الأمد البعيد، وكل جيل ينظر إلى موضع قدميه. الأنبياء حينما جاءوا بالرسالة، وأحاطوها بجملة من الحياطات لا يخشون على إنسان اليوم، ولكن يخشون على أجيال قادمة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم شدد في جانب البدعة، فقال عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح من حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ويقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، ما اكتفى بالاتباع، بل قال: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، يعني: أن الحيد عن الصراط المستقيم نسبية, شيئاً فشيئاً ثم يحيد الإنسان، ولا يشعر بعد آلاف الكيلو مترات إلا أن الاتجاه انعكس، بدلاً من أن تكون جهته جهة الشمال فإذا هو جهة الجنوب.

ولهذا الإنسان إذا سلك طريقاً برياً ومداه مئات الكيلو مترات أو آلاف الكيلو مترات فإنه يرى أن هذا الخط مستقيم، مثلاً إذا كان على اتجاه متقارب، ولكن الإنسان إذا نظر إليه من الجو في طائرة أو نحو ذلك فإنه يرى أن هذا الخط منحرف، لو أخبر السائق في ذلك لقال: إنه ليس منحرفاً وإنما هو مستقيم؛ لماذا؟ لأن هذا يرى البداية ويرى النهاية، ولهذا فالله سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى يرى تحولات الأفكار كما يتحول الإنسان حينما يسير في برية ثم يأتيه بعد ذلك، فجاءت الحياطة لأمر الدين، ولهذا الأمور التي تمس الديانة من جهة البدع والمحدثات يشدد فيها في الدين، لماذا؟ لأن الإنسان لا يتحول عنها، وإنما هي هرمية، شخص يضع حجراً، ثم حجراً، ثم حجراً؛ لأنه جانب تعبدي, بخلاف المعاصي فإن الشيطان يحب البدع أكثر من المعاصي، لماذا؟ لأن البدع تدين، لا يمل عنها الإنسان ويتوب منها؛ لأنه يرى أنها دين, وإذا كان هذا الجيل يضع لبنة بدعة، والجيل الذي يليه لبنة أخرى من البدع، ولبنة ثالثة ورابعة، فبعد ألف سنة يتحول الدين بالكامل، كما تحول اليهودية والنصرانية، ولهذا البدعة عظمت في الإسلام؛ لماذا؟ لأن الله عز وجل حمى دينه فأنزل الذكر: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9], وحفظ الذكر وحفظ الدين من التبديل والبدع؛ لأن الله عز وجل شدد في أمثال هذه الأمور في البدع والمحدثات، ولهذا العلماء يقولون: هذا الأمر بدعة، ربما ترى أنت اليوم أنه سهل وهين، ولكن يأتي جيل بعد ذلك يضع لبنة أخرى وثالثة ورابعة وخامسة حتى يتحول الأمر عن أمره الذي جعله الله عز وجل عليه، كما تحول المشركون من أصنام وتماثيل وضعوها؛ لأن كفار قريش بعد الحنيفية لم يكن لديهم صلاة، ولم يكن لديهم صيام، ولم يكن لديهم شيء من العبادات إلا بعض مناسك الحج التي بقيت من إبراهيم وما عدا ذلك فإنه زال، فأصبحت القلوب حينئذ خاوية تريد العمل، فـعمرو بن لحي جاء بأمثال هذه الأمور ليشغل هذا الفراغ الموجود عندهم فضل وأضل، ولكنهم ما ضلوا لأول الأمر, بل بدءوا على سبيل التدرج حتى انحرفوا ووصلوا إلى ما وصلوا إليه, حتى أصبح المتأخرون منهم ضلالاً في هذا الجانب، وقاتلوا دفاعاً عن الحجارة، التي لو كان أجدادهم أحياءً حينما جاء عمرو بن لحي بها لقالوا: اهدمها يا محمد ولا شأن لنا بها؛ لماذا؟ لأنها لم تتوغل في قلبهم، ولكن على سبيل التدرج توغلت في قلوبهم حتى بلغوا ما بلغوا.

كذلك ود, وسواع ويغوث ويعوق ونسر هؤلاء أسماء رجال صالحين، كيف عظموا؟ عظموا على سبيل التدرج بصور علقت على الحيطان أن هؤلاء أولياء، وهؤلاء الأولياء على الإنسان أن يقدم لهم شيئاً من الاحترام، ثم بعد ذلك يأتي جيل بعد ذلك يصرف لهم شيئاً من التعظيم، ثم حولوا من صور معلقه إلى أجسام وتماثيل، ثم نصبت ووضعت مضاهاة لله سبحانه وتعالى بجوار البيت الحرام.

سياسة الأنبياء للعقول والنفوس

ولهذا نقول: إن الأنبياء يأتون بسياسة العقول وسياسة النفوس ولو استنكر الإنسان؛ لأن ما تحمله أنت ليس ملكاً لك، وإنما هو لمن جاء بعدك، فإذا انفرد الإنسان بأمر باختيار الرأي، أو اختيار الفكر، أو اختيار القناعات، فهذه القناعات لو كانت فردية تموت بموت الإنسان لكان الأمر إليه، ولكنها تتحول إلى غيره، ولهذا الأحكام, والعقائد, والآراء والأفكار التي تمس الديانة ليست للإنسان وإنما لله سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله جل وعلا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، هل الحكم عبادة؟ نعم عبادة؛ لماذا؟ لأنه ليس ملكاً لك، الإنسان لا يستطيع أن يبدل لباس أهل بلده؛ لأنه ورثه عن أبيه وجده ولا خيار له بهذا غالباً، لم يستطع كل جيل أن يغير اللباس فكيف يغير الأفكار؟ لأنها لا تتغير إلا بعد أجيال مديدة، ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل الأمر لديه، حتى لا يفرضه أحد على أحد، والله سبحانه وتعالى جعل الأمر إليه أيضاً وحمى دينه من التبديل بالبدع والشبهات؛ لماذا؟ لأن أفكار البشر تبنى كحال الهرم ثم تتحول عن بدايتها، اللبرالية الغربية نشأت من مبدأ حرية العمل والاقتصاد، ثم تحولت إلى الأخلاق, ثم إلى نكاح الذكور بالذكور، ونكاح الإناث للإناث، بل نكاح البهائم أيضاً، هذا التحول هل الذين ابتدءوا بهذا الفكر كانوا يظنون أن هذا الأمر سيتحول إليه؟ ما كان يخطر في بالهم، لو تيقنوا ذلك لتبرءوا من هذا الفكر بالكلية، ولهذا نقول: إن الغرب إنما تركوا الدين المبدل إلى الرأي المجرد؛ لأنهم لا يوجد لديهم بديل، أما هذه الأمة فهي أمة دين صحيح تام، حفظ الله عز وجل عليها رأيها، وحفظ الله عز وجل عليها شريعتها، وحفظ الله سبحانه وتعالى عليها آدابها وأخلاقها.

هناك نزوات من البشر تريد التمرد على شريعة الله سبحانه وتعالى، هذا التمرد جاء الأنبياء بسياسة هذا الأمر, الله سبحانه وتعالى رسم الحق، وأمر الناس بأن تسير عليه، ولابد من خارجين عليه، خارجون عليه لدافع الشبهة، وخارجون عليه لدافع الشهوة.

هناك أصحاب نزوات والنزوات في هذا تتباين، هناك من نزوته في السمع من حب السماع، أو التمتع مثلاً بسماع النميمة والأحاديث والأقاويل في الناس والشماتة فيهم والتعيير, يستلذ بأمثال هذا الأمر، وهناك من يسمع المحرمات كالطرب وغير ذلك، وهنا من شهوته بقوله، بلسانه، بالكلام والوقيعة والسب والشتم، ويستمتع بأمثل هذا الأمر، وهناك من شهوته بأكله ويحب أكل أو شرب الحرام كالخمر والخنزير وغير ذلك من المحرمات؛ كأكل الربا ومال اليتيم وغير هذا, أناس يشرعون وأناس يشتهون من غير تشريع، فإذا سألت عن الخمر قال: حرام، ولكنه يتناول ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل ثقل الشبهة؛ لأنها بدعة أعظم خطراً من الشهوة؛ لأن الإنسان إذا زالت شهوته القائمة في نفسه تخلى عن الشهوة، ولهذا كبار السن إذا كبروا، تقدموا في العمر، قربوا إلى الله وتركوا المحرمات، أما البدع ازدادوا تمسكاً بها؛ لأنه يراها ديناً، إذاً فهي أشد رسوخاً، أما الشهوة فهي بطيئة التحول إلى شبهة فتتحول إلى شبهة بعد أمد طويل، ولهذا عظمت محاربة البدع في الشريعة أعظم من مواجهة الشهوات؛ لماذا؟ لأن الإنسان قد غرس في نفسه وازع بحرمة هذا الشيء، وينتظر الأمر حتى يتخلص منه، فإذا اغتنى ترك الربا، وإذا تزوج ترك المحرمات، وغير ذلك أو كبر وضعف فيه الوازع ابتعد عن جوانب المحرمات، إذاً ثمة إقلاع سريع بخلاف البدعة، ولهذا عظمت من هذا الوجه.

ومعنى السياسة أن الإنسان بطبعه, برأيه, بقوله, بفعله, يخرج عن الجادة مع طول الزمن وتقادمه؛ وذلك أن الإنسان في داخله شيء من مطامع النفس وهواها، ربما يصورها على أنها آراء أو أقوال حقيقية، ثم يحيد مع الزمن إلى غير مراد الله سبحانه وتعالى.

والله جل وعلا قد جعل في الإنسان فطرة ونزوة، وهي جانب الشهوات، جوانب الشهوات لا حد لها ولا حصر، وهي التي تنبت عليها الآراء والأفكار والشبهات، ثم بعد ذلك تتحول على أنها مدارس فكرية ونظرية في ذلك، وإنما هي غرائز.

لهذا ما من شبهة ولا يوجد رأي شاذ إلا وأصله قد نبت على شهوة وغريزة، وهذه الغريزة لا يبوح بها صاحبها، وإنما يشرعها بشيء من الرأي؛ فإذا الظالم أراد أن يستحوذ بالمال لحبه للمال بحث عن مشرع له، ثم أصبح بعد ذلك ديناً وشريعة، وإذا أحب الإنسان غريزة السمع والبصر والشهوة من جهة فرجه أو مطعمه أو تملكه، أخذ ذلك عن طريق الشهوة، ثم أراد بعد ذلك أن يسول له أن هذا من العمل المباح، وأخذ يُنَظِّر له.

ولهذا لما كانت الشبهات متلازمة مع هذه الشهوات وتتزاوج وتنتج بعد ذلك عقائد فاسدة، جاء الله عز وجل بالأنبياء، وجاء الله عز وجل بالرسل، جاء الله عز وجل بنذر الحق وأنزل عليهم الكتب، ليسوسوا الناس ويعيدوهم إلى جادة الحق، لهذا إذا ترك الإنسان لنفسه العنان، واسترسل بخطراتها فللنفس وساوس ولها غرائز, تتزاوج الأهواء والأفكار بالشهوات حتى تنتج من ذلك مدارس بعيدة عن منهج الله سبحانه وتعالى.

ولهذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم كلما ذهب نبي خلفه نبي بعده )، المراد من هذا أن الناس كحال القافلة التي تسير في الأرض مع طريقهم يتيهون عن ذلك، ويتفرقون جماعات ينفرد منهم أناس يمنة ويسرة، ويأتي النبي ويقوم بجمع الناس وإعادتهم إلى تلك الجادة، هكذا كلما هلك نبي جاء نبي بعده، يعني: أنه لا بد من المتابعة حتى يستقيم أمر الأمة.

في استعمال لفظ السياسة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم )، يعني: أنهم يعيدونهم على سبيل التدرج شيئاً فشيئاً، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول كما في الحديث: ( خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين )، يعني: أن الإنسان ربما ينحرف ويجتال من حيث لا يشعر، ولهذا الإنسان ربما ينقلب اتجاهه درجات كاملة عن الاتجاه الذي سعى إليه مع مرور الزمن من حيث لا يشعر.

ولهذا الإنسان إذا سلك طريقاً في الأرض أو في البحر، إذا كان الانحناء في ذلك بعيداً فإنه ينعكس اتجاهها من حيث لا يشعر، وربما الإنسان إذا أراد أن يصلي في برية أو في طريق سفر يتجه إلى غير القبلة؛ لأنه يظن أن الاتجاه إلى هذه الجهة بينما هو استدار من حيث لا يشعر، أما الاستدارة القريبة فيشعر بها الإنسان ولو كانت يسيرة، ولهذا مع طول الأمل ومع طول الأمد تتغير النفوس والأفكار والآراء وكذلك العقائد من حيث لا يشعر الناس، ولهذا الإنسان بحاجة إلى شيء من السياسة ولشيء من الرعاية، ولهذا الإنسان حينما يكون راعياً على بهائمه من الإبل والبقر والغنم وغيرها، يقوم بجمعها في حال مسيرها حتى لا تفترق، مع البون في بني آدم وهذه البهائم، إلا أن الناس في سيرهم في الأرض يتدرجون من حيث لا يشعرون في الباطن، ولكن البهائم أسرع من بني آدم، وبنو آدم في ذلك أبطأ ويتفقون بعد ذلك في الغاية، ما لم يبعث الله عز وجل أنبياء يسوسون البشرية.

وكلما تأخر إرسال نبي، ولم يأت للأمة نذير، وعطلت الأمة رسالة الأنبياء التي جعلها الله عز وجل فيهم بدأ الانحراف في الأمة شيئاً فشيئاً، ولهذا قوم لوط ما بدءوا باللوطية ابتداء, بل أصبحوا على خلق وعلى فطرة ثم بدءوا بذلك, يقول عبد الله بن عباس و أنس بن مالك وغيرهم يقولون: إنهم ما بدأوا بذلك إلا بعد أن استحلوا الزنا، ثم لوطية النساء، ثم بعد ذلك وصلوا إلى أمر الرجال، وهذا أمر معلوم بداهة، أن الناس لا ينحرفون مثل هذا الانحراف في يوم وليلة.

كذلك كفار قريش حينما عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى الأصنام والأوثان، جعلوا ذلك لآرائهم وعقولهم, فكان الشيطان يسوسهم في الباطل، والأنبياء يسوسونهم في الحق، فإذا غاب النذر وغاب الأنبياء ساسهم الشيطان لأمر الانحراف.

كيف بدأت الوثنية؟ لما بعد العهد فيهم، وضعفت رسالة العلماء ولم يكن لديهم شيء من التعبد ذهب عمرو بن لحي إلى بلاد الشام ونظر في الأصنام والأوثان ثم جلبها إلى مكة، كانوا بداهة لا يجوزن لأنفسهم أن يسجدوا لها وأن يطوفوا عليها من دون الله سبحانه وتعالى وإنما ينظرون إليها تعظيماً، ثم جاء جيل بعد ذلك صرفوا لها نوعاً من العبادة؛ كبعض الاستقسام بالأزلام عند هذه الأصنام، أو شيء من الحلف إذا أراد الإنسان أن يغلظ يمينه أو شيء من هذا، ثم بدءوا بالتمسح والتبرك، ثم عظموها من دون الله، كما جاء عن أبي رجاء كما في البخاري قال: ( كنا إذا كان أحد منا في سفرة ولم يجد صنماً احتلب ضرع شاة على تراب فإذا يبس طاف عليه )، هل هذا الأمر كان في البداية؟ ما كان الأمر في البداية هكذا، هل تناسخت العقول من عقل إلى عقل على هذه الحيدة؟ تكون، ولهذا الشيطان يسوس الناس على الأمد البعيد، وكل جيل ينظر إلى موضع قدميه. الأنبياء حينما جاءوا بالرسالة، وأحاطوها بجملة من الحياطات لا يخشون على إنسان اليوم، ولكن يخشون على أجيال قادمة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم شدد في جانب البدعة، فقال عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح من حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ويقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، ما اكتفى بالاتباع، بل قال: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، يعني: أن الحيد عن الصراط المستقيم نسبية, شيئاً فشيئاً ثم يحيد الإنسان، ولا يشعر بعد آلاف الكيلو مترات إلا أن الاتجاه انعكس، بدلاً من أن تكون جهته جهة الشمال فإذا هو جهة الجنوب.

ولهذا الإنسان إذا سلك طريقاً برياً ومداه مئات الكيلو مترات أو آلاف الكيلو مترات فإنه يرى أن هذا الخط مستقيم، مثلاً إذا كان على اتجاه متقارب، ولكن الإنسان إذا نظر إليه من الجو في طائرة أو نحو ذلك فإنه يرى أن هذا الخط منحرف، لو أخبر السائق في ذلك لقال: إنه ليس منحرفاً وإنما هو مستقيم؛ لماذا؟ لأن هذا يرى البداية ويرى النهاية، ولهذا فالله سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى يرى تحولات الأفكار كما يتحول الإنسان حينما يسير في برية ثم يأتيه بعد ذلك، فجاءت الحياطة لأمر الدين، ولهذا الأمور التي تمس الديانة من جهة البدع والمحدثات يشدد فيها في الدين، لماذا؟ لأن الإنسان لا يتحول عنها، وإنما هي هرمية، شخص يضع حجراً، ثم حجراً، ثم حجراً؛ لأنه جانب تعبدي, بخلاف المعاصي فإن الشيطان يحب البدع أكثر من المعاصي، لماذا؟ لأن البدع تدين، لا يمل عنها الإنسان ويتوب منها؛ لأنه يرى أنها دين, وإذا كان هذا الجيل يضع لبنة بدعة، والجيل الذي يليه لبنة أخرى من البدع، ولبنة ثالثة ورابعة، فبعد ألف سنة يتحول الدين بالكامل، كما تحول اليهودية والنصرانية، ولهذا البدعة عظمت في الإسلام؛ لماذا؟ لأن الله عز وجل حمى دينه فأنزل الذكر: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9], وحفظ الذكر وحفظ الدين من التبديل والبدع؛ لأن الله عز وجل شدد في أمثال هذه الأمور في البدع والمحدثات، ولهذا العلماء يقولون: هذا الأمر بدعة، ربما ترى أنت اليوم أنه سهل وهين، ولكن يأتي جيل بعد ذلك يضع لبنة أخرى وثالثة ورابعة وخامسة حتى يتحول الأمر عن أمره الذي جعله الله عز وجل عليه، كما تحول المشركون من أصنام وتماثيل وضعوها؛ لأن كفار قريش بعد الحنيفية لم يكن لديهم صلاة، ولم يكن لديهم صيام، ولم يكن لديهم شيء من العبادات إلا بعض مناسك الحج التي بقيت من إبراهيم وما عدا ذلك فإنه زال، فأصبحت القلوب حينئذ خاوية تريد العمل، فـعمرو بن لحي جاء بأمثال هذه الأمور ليشغل هذا الفراغ الموجود عندهم فضل وأضل، ولكنهم ما ضلوا لأول الأمر, بل بدءوا على سبيل التدرج حتى انحرفوا ووصلوا إلى ما وصلوا إليه, حتى أصبح المتأخرون منهم ضلالاً في هذا الجانب، وقاتلوا دفاعاً عن الحجارة، التي لو كان أجدادهم أحياءً حينما جاء عمرو بن لحي بها لقالوا: اهدمها يا محمد ولا شأن لنا بها؛ لماذا؟ لأنها لم تتوغل في قلبهم، ولكن على سبيل التدرج توغلت في قلوبهم حتى بلغوا ما بلغوا.

كذلك ود, وسواع ويغوث ويعوق ونسر هؤلاء أسماء رجال صالحين، كيف عظموا؟ عظموا على سبيل التدرج بصور علقت على الحيطان أن هؤلاء أولياء، وهؤلاء الأولياء على الإنسان أن يقدم لهم شيئاً من الاحترام، ثم بعد ذلك يأتي جيل بعد ذلك يصرف لهم شيئاً من التعظيم، ثم حولوا من صور معلقه إلى أجسام وتماثيل، ثم نصبت ووضعت مضاهاة لله سبحانه وتعالى بجوار البيت الحرام.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2709 استماع
إنما يخشى الله من عباده العلماء 2473 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2314 استماع
العالِم والعالَم 2307 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2296 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2129 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2101 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2100 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2075 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2044 استماع