فقه العبادات - الطهارة [2]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أحبتي في الله, أيها المشاهدون والمشاهدات! سلام الله عليكم أيها الإخوة الطلاب، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

وكنا أيها الإخوة قد تحدثنا في أول درس من دروس هذه الأكاديمية في باب الفقه عن الماء، وقلنا: إن الماء الصحيح أنه على قسمين: طهور، ونجس، وذكرنا أدلة هذا التفريق، وفرعنا فيه وقسمنا، إلا أن ثمة بعض المسائل التي ينبغي أن يحتوي عليها هذا الفن، وكذلك أن يفقهها الطالب في هذا الباب.

قد علمنا أن الطهور هو الذي يجوز الوضوء به، وأن النجس لا يصح الوضوء به، وأن وقوع شيء من الطاهرات في الماء الذي لم يغيره عن مسمى الماء، الصحيح أنه يجوز الوضوء به، وعلى هذا فلا أثر لهذا التغير بالطاهرات، سواء كان يشق التحرز منه أو لا يشق التحرز منه، فمن أمثلة ما يشق التحرز منه: البئر الذي فيه بعض المباحات كالأشجار، فهذا يشق التحرز منه ومع ذلك فهو طهور.

ومن أمثلة ما لا يشق التحرز منه: أن يأتي طفل ببعض الأغصان وبعض الشجر فيضعها في الإناء الذي يتوضأ منه، فتغيره وهذا أيضاً لا يسلبه الطهورية، لكن الماء النجس لا يجوز الوضوء به بإجماع أهل العلم.

الشك في الماء هل هو طاهر أو نجس

الشيخ: عندنا سائل منها الشك في الماء، كمن عنده إناء فشك هل هو نجس أم طاهر، فإنه يبني على اليقين.

واليقين هو حال الماء قبل وجود الشك، فمثلاً وقوع شيء من الأشياء لا أعلم منها مثل روثة، الروثة إما أن تكون روثة ما يؤكل لحمه، وإما أن تكون روثة ما لا يؤكل لحمه كالحمار، فوجود هذه الروثة في الماء إن كانت مما يؤكل لحمه فلا يسلبه الطهورية، وإن كانت الروثة مما لا يؤكل لحمه كالحمار فإنها تسلبه الطهورية؛ لأن هذه الروثة نجسة؛ فإذا شك الإنسان في هذا الماء هل هو نجس أم طهور، فإنه ينظر إلى الماء قبل وجود هذا الشيء، بسبب روثة فيه فإن كان الأصل أنه طهور فإنه يجوز الوضوء به؛ لأن الأصل الطهورية، واليقين لا يزول بالشك، واليقين هو أن عندي ماء طهوراً، فوقوع شيء شككت فيه لم يتبين حاله فالأصل فيه الطهورية.

أما إذا كان الأصل فيه أنه نجس، فجئت فوجدت أن شخصاً قد سكب عليه بعض الماء فربما أن هذا الماء يؤثر فيغير الطهورية, وربما لا يغير الطهورية، يعني ربما يزيل النجاسة، وربما لا يزيل النجاسة.

وقد يكون الشك في وجود شيء من المباحات، وهنا نقول: إن إذا شككت فيه هل غيّر الماء أم لا؛ فانظر إلى الأصل في هذا الماء قبل ورود هذا الشيء عليه؛ فإن كان نجساً فيبقى على النجاسة وإن كان طاهراً يبقى على الطهارة، وهذا هو مذهب الجمهور، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا لم يتبين له شيء فإنه يبني على الأصل، أما إذا غلب على ظنه أن هذه الروثة هي روثة حمار، وعنده دراية في هذا, فإنه لا يبني على الأصل وهو الطهورية ولكنه يبني على غلبة الظن.

فإذا كان عند شخص إناء الأصل فيه أنه طهور فوقعت فيه روثة، فلم يعلم هذه الروثة أهي من روثة ما يؤكل لحمه فتكون طاهرة، أم روثة حمار فتكون نجسة، أو روثة ما لا يؤكل لحمه فتكون نجسة؛ فجاء شخص فقال: أنا أعرف هذه الروثة، ويغلب على ظني أنها روثة ما يؤكل لحمه، فنقول: ابق على غلبة الظن، وجاءنا آخر فقال: أنا يغلب على ظني أن هذه الروثة هي روثة حمار، هل نقول: بناءً على غلبة ظنه علم أن هذه الروثة روثة حمار، فلو أخذنا بالأصل يكون الماء طهوراً، وإذا أخذنا على غلبة ظنه بأن هذه روثة حمار يكون الماء نجساً.

وعلى هذا فالراجح أنه إن كان عنده غلبة ظن بنى على غلبة ظنه، فإن لم يكن عنده غلبة ظن بنى على الأصل وهو اليقين، واليقين لا يزول بالشك، فإذا كان اليقين هو الطهورية فلا يزيله شك النجاسة، أو كان اليقين هو النجاسة فلا يزيله شك الطهورية.

أما إذا كان عنده غلبة ظن فيعمل بغلبة ظنه، وقد أخذ أهل العلم بهذا بناءً على ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا شك أحدكم فليتحر الصواب، وليبن عليه )، يعني: فليعمل بغلبة الظن وهو تحري الصواب، ولم يقل: ابن على اليقين, مما يدل على أنه إن كان عنده غلبة ظن فإنه يبني على غلبة ظنه، وإن لم يكن معه غلبة ظن فإنه يبني على اليقين.

انتهينا من هذه الصورة.

اشتباه ماء طهور بنجس

الشيخ: المسألة الثانية: إذا اشتبه طهور بنجس، إذا كان عندنا إناءان ومعلوم أن أحدهما طهور والآخر نجس، لكن لا يعلم أي الإناءين هو الطهور، ولا أي الإناءين هو النجس؛ فقال بعض أهل العلم: إذا كنت لا تعلم أيهما الطهور من النجس فيحرم استعمال أحدهما، ولا نقول: يبني على اليقين؛ لأنه ليس هناك يقين؛ فلذلك قال بعض أهل العلم: يحرم استعماله ويتيمم؛ لأنه ليس هناك يقين، والأصل هو أن الطهارة لا تثبت إلا بماء طهور، ولا يعلم أي الطهورين هو.

وذهب بعض أهل العلم -بناءً على القاعدة التي ذكرناها وهي البناء على غلبة الظن- إلى أنه إن كان يغلب على ظنه في أن أحد الإناءين أنه الطهور استعمل الطهور، أو غلب على ظنه في أحد الإناءين أنه هو النجس عمل بخلافه وهو الطهور. إذاً: إن كان يغلب على ظنه عمل بغلبة الظن ولا يجوز له أن يتيمم؛ لأنه لم يعدم الماء، وهذا القول أظهر، والله أعلم.

وصورة هذه المسألة أن يكون إناءان، فجاء الكلب فولغ في أحدهما، ومن المعلوم أن الكلب إذا ولغ في الإناء ينجسه -فقال الراعي: إن الكلب قد ولغ في أحدهما، فقلت أنت: سوف أسكب أحدهما، فذهب الراعي ولم يخبرك أي الإناءين ولغ فيه الكلب، فأنت حينئذٍ تريد أن تتوضأ فيصعب عليك أن تحدد أحدهما بيقين، فإما أن تبني على اليقين وليس هناك يقين، وإما أن تبني على غلبة ظن! وهنا ذهب بعض أهل العلم إلى أنك لا تبني على غلبة ظن, بل اليقين هو أن تتركهما جميعاً وتتيمم، قالوا: لأنه لما عسر أن يعلم أحد الطهورين فإنه يكون وجوده كعدمه، فيتيمم.

وقال بعض أهل العلم: بل يبني على غلبة الظن، فإن كان يغلب على ظنه أن الكلب قد ولغ في هذا، وأحس فيه نوع تغير فإنه حينئذٍ يعمل بالماء الآخر، وتكون صلاته صحيحة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

إذا قلنا: إن الراجح أن يعمل بغلبة ظنه، وأنه يتوضأ ولا يتيمم، فإن لم يكن عنده غلبة ظن, فإنه يتيمم، ولا يلزم بإراقة أحدهما؛ لأن بعض الفقهاء قال: لا بد من إراقة الماء إذا أراد أن يتيمم حتى يصدق عليه أنه عادم للماء، والصحيح أنه لا يلزم؛ لأن العدم إما أن يكون حسياً، وإما أن يكون شرعياً؛ فالشرعي حتى ولو كان الماء موجوداً فإن الشرع أباح التيمم؛ لأن هذا في حكم المعدوم، والله أعلم.

الشيخ: عندنا سائل منها الشك في الماء، كمن عنده إناء فشك هل هو نجس أم طاهر، فإنه يبني على اليقين.

واليقين هو حال الماء قبل وجود الشك، فمثلاً وقوع شيء من الأشياء لا أعلم منها مثل روثة، الروثة إما أن تكون روثة ما يؤكل لحمه، وإما أن تكون روثة ما لا يؤكل لحمه كالحمار، فوجود هذه الروثة في الماء إن كانت مما يؤكل لحمه فلا يسلبه الطهورية، وإن كانت الروثة مما لا يؤكل لحمه كالحمار فإنها تسلبه الطهورية؛ لأن هذه الروثة نجسة؛ فإذا شك الإنسان في هذا الماء هل هو نجس أم طهور، فإنه ينظر إلى الماء قبل وجود هذا الشيء، بسبب روثة فيه فإن كان الأصل أنه طهور فإنه يجوز الوضوء به؛ لأن الأصل الطهورية، واليقين لا يزول بالشك، واليقين هو أن عندي ماء طهوراً، فوقوع شيء شككت فيه لم يتبين حاله فالأصل فيه الطهورية.

أما إذا كان الأصل فيه أنه نجس، فجئت فوجدت أن شخصاً قد سكب عليه بعض الماء فربما أن هذا الماء يؤثر فيغير الطهورية, وربما لا يغير الطهورية، يعني ربما يزيل النجاسة، وربما لا يزيل النجاسة.

وقد يكون الشك في وجود شيء من المباحات، وهنا نقول: إن إذا شككت فيه هل غيّر الماء أم لا؛ فانظر إلى الأصل في هذا الماء قبل ورود هذا الشيء عليه؛ فإن كان نجساً فيبقى على النجاسة وإن كان طاهراً يبقى على الطهارة، وهذا هو مذهب الجمهور، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا لم يتبين له شيء فإنه يبني على الأصل، أما إذا غلب على ظنه أن هذه الروثة هي روثة حمار، وعنده دراية في هذا, فإنه لا يبني على الأصل وهو الطهورية ولكنه يبني على غلبة الظن.

فإذا كان عند شخص إناء الأصل فيه أنه طهور فوقعت فيه روثة، فلم يعلم هذه الروثة أهي من روثة ما يؤكل لحمه فتكون طاهرة، أم روثة حمار فتكون نجسة، أو روثة ما لا يؤكل لحمه فتكون نجسة؛ فجاء شخص فقال: أنا أعرف هذه الروثة، ويغلب على ظني أنها روثة ما يؤكل لحمه، فنقول: ابق على غلبة الظن، وجاءنا آخر فقال: أنا يغلب على ظني أن هذه الروثة هي روثة حمار، هل نقول: بناءً على غلبة ظنه علم أن هذه الروثة روثة حمار، فلو أخذنا بالأصل يكون الماء طهوراً، وإذا أخذنا على غلبة ظنه بأن هذه روثة حمار يكون الماء نجساً.

وعلى هذا فالراجح أنه إن كان عنده غلبة ظن بنى على غلبة ظنه، فإن لم يكن عنده غلبة ظن بنى على الأصل وهو اليقين، واليقين لا يزول بالشك، فإذا كان اليقين هو الطهورية فلا يزيله شك النجاسة، أو كان اليقين هو النجاسة فلا يزيله شك الطهورية.

أما إذا كان عنده غلبة ظن فيعمل بغلبة ظنه، وقد أخذ أهل العلم بهذا بناءً على ما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا شك أحدكم فليتحر الصواب، وليبن عليه )، يعني: فليعمل بغلبة الظن وهو تحري الصواب، ولم يقل: ابن على اليقين, مما يدل على أنه إن كان عنده غلبة ظن فإنه يبني على غلبة ظنه، وإن لم يكن معه غلبة ظن فإنه يبني على اليقين.

انتهينا من هذه الصورة.

الشيخ: المسألة الثانية: إذا اشتبه طهور بنجس، إذا كان عندنا إناءان ومعلوم أن أحدهما طهور والآخر نجس، لكن لا يعلم أي الإناءين هو الطهور، ولا أي الإناءين هو النجس؛ فقال بعض أهل العلم: إذا كنت لا تعلم أيهما الطهور من النجس فيحرم استعمال أحدهما، ولا نقول: يبني على اليقين؛ لأنه ليس هناك يقين؛ فلذلك قال بعض أهل العلم: يحرم استعماله ويتيمم؛ لأنه ليس هناك يقين، والأصل هو أن الطهارة لا تثبت إلا بماء طهور، ولا يعلم أي الطهورين هو.

وذهب بعض أهل العلم -بناءً على القاعدة التي ذكرناها وهي البناء على غلبة الظن- إلى أنه إن كان يغلب على ظنه في أن أحد الإناءين أنه الطهور استعمل الطهور، أو غلب على ظنه في أحد الإناءين أنه هو النجس عمل بخلافه وهو الطهور. إذاً: إن كان يغلب على ظنه عمل بغلبة الظن ولا يجوز له أن يتيمم؛ لأنه لم يعدم الماء، وهذا القول أظهر، والله أعلم.

وصورة هذه المسألة أن يكون إناءان، فجاء الكلب فولغ في أحدهما، ومن المعلوم أن الكلب إذا ولغ في الإناء ينجسه -فقال الراعي: إن الكلب قد ولغ في أحدهما، فقلت أنت: سوف أسكب أحدهما، فذهب الراعي ولم يخبرك أي الإناءين ولغ فيه الكلب، فأنت حينئذٍ تريد أن تتوضأ فيصعب عليك أن تحدد أحدهما بيقين، فإما أن تبني على اليقين وليس هناك يقين، وإما أن تبني على غلبة ظن! وهنا ذهب بعض أهل العلم إلى أنك لا تبني على غلبة ظن, بل اليقين هو أن تتركهما جميعاً وتتيمم، قالوا: لأنه لما عسر أن يعلم أحد الطهورين فإنه يكون وجوده كعدمه، فيتيمم.

وقال بعض أهل العلم: بل يبني على غلبة الظن، فإن كان يغلب على ظنه أن الكلب قد ولغ في هذا، وأحس فيه نوع تغير فإنه حينئذٍ يعمل بالماء الآخر، وتكون صلاته صحيحة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

إذا قلنا: إن الراجح أن يعمل بغلبة ظنه، وأنه يتوضأ ولا يتيمم، فإن لم يكن عنده غلبة ظن, فإنه يتيمم، ولا يلزم بإراقة أحدهما؛ لأن بعض الفقهاء قال: لا بد من إراقة الماء إذا أراد أن يتيمم حتى يصدق عليه أنه عادم للماء، والصحيح أنه لا يلزم؛ لأن العدم إما أن يكون حسياً، وإما أن يكون شرعياً؛ فالشرعي حتى ولو كان الماء موجوداً فإن الشرع أباح التيمم؛ لأن هذا في حكم المعدوم، والله أعلم.

الأصل في الأواني الطاهرة الإباحة إلا الذهب والفضة

الشيخ: وهنا مسألة وهي أنه إذا علم أن الماء المتطهر به لا بد له من إناء، فلا بد أن نتحدث عن الإناء؛ لأنه في الغالب أن الناس يتوضئون بإناء، صحيح أن في هذا الوقت أحياناً يتوضأ الإنسان من الصنبور فهو ليس بحاجة إلى الإناء، ولكنه أحياناً يحتاج إلى الإناء؛ فلا بد من ذكره، وقد كان الفقهاء رحمهم الله يذكرون بعد باب المياه باب الآنية، إذاً لا بد أن ندلف إلى باب الآنية فنقول: كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله، إلا آنية ذهب أو فضة.

وقولنا: كل إناء طاهر يبين أن الأصل في الأواني الطهورية.

قد يقال: من أخبرك بهذا؟

فنقول: استدلال أهل العلم بالأدلة الظاهرة المتواترة بالمعنى على أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل، كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]. إذاً فالله خلق لنا كل ما في الأرض لأجل أن نتنعم بها في طاعة الله سبحانه وتعالى وفيما يعين على ذلك.

ومن الأدلة على ذلك ما جاء في البخاري من حديث عبد الله بن زيد قال: ( أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور، فتوضأ به ).

والتور: إناء من نحاس، فدل ذلك على أن كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله، إذاً الأصل أن كل شيء يباح اتخاذه واستعماله ولو كان غالي الثمن، ولو كان هذا الإناء من الماس، ولو كان هذا الإناء من الزمرد أو الجواهر؛ فكون الشيء غالباً أم ليس بغال لا يمنع من جواز استعماله.

اتخاذ أواني الذهب والفضة واستعمالها

الشيخ: أما آنية الذهب والفضة فلا يجوز استعمالهما لورود النص الشرعي، وهو ما جاء في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ).

إذاً: نهانا الشارع أن نتخذ أو نستعمل الذهب والفضة نصاً.

وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أم سلمة : ( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )، والعياذ بالله! قال أهل العلم: فإذا منع الإنسان من الشرب في الإناء من الفضة دل ذلك على أن الذهب من باب أولى وأحرى، هذا هو سبب المنع في آنية الذهب والفضة، فأما الذهب والفضة فلا يجوز استعمالهما.

قولنا: يباح اتخاذه واستعماله، إلا آنية الذهب والفضة، يعني: أن آنية الذهب والفضة يحرم اتخاذها واستعمالها، والفرق بين الاتخاذ والاستعمال أن الاتخاذ أن الإناء يقتنى للزينة، فتأتي أنت بتحفة فتضعها في زاوية من زوايا البيت، أو أن تأتي بتحفة فتضعها في المطبخ، هذا يسمى اقتناء، أو أن تستعملها أحياناً للحاجة، مثل أن تضع قارورة صغيرة فيها بعض الأشياء، فهذا استعمال للحاجة.

أما الاستعمال: فهو التلبس بالشيء، كاللباس، والاغتسال به، والوضوء به، وغير ذلك، فالاستعمال هو التلبس بالانتفاع، مثل أن يلبس ساعةً من ذهب، أو أن يضع شيئاً من ثياب أو قرط أو غير ذلك.

فآنية الذهب والفضة لا يجوز على مذهب جمهور أهل العلم اتخاذها ولا استعمالها ولا غيره، وهذا هو الراجح والله أعلم؛ وذلك لأنه قد جاءت أحاديث منها حديث علي بن أبي طالب ، وحديث أبي موسى الأشعري ، وإن كانت الأحاديث فيها بعض الانقطاع إلا أنها تدل على أن لها أصلاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع حريراً وذهباً وقال: هذان محرمان على ذكور أمتي، حل لإناثهم ).

أقسام استعمال الذهب والفضة

الشيخ: استعمال الذهب والفضة ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: استعمالهما في الأكل والشرب فيهما، إذا أكل الإنسان أو شرب في آنية الذهب والفضة فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب لقوله صلى الله عليه وسلم: ( الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم )، وكل عقوبة توعد الشارع فيها بلعنة أو غضب أو نار فإنها تكون كبيرة، فإذا كان هذا في الشرب بالفضة فالذهب من باب أولى.

ولحديث حذيفة : ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما )، هذا في الأكل والشرب.

القسم الثاني: استعمالهما في اللباس، أما بالنسبة للنساء حلال؛ فيجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من قرط، أو من ساعة، أو من قلم، أو غير ذلك؛ لأنه لما جاز للمرأة أن تلبس الذهب أو الفضة جاز لها أن تستخدمها كقلم، أو أن تستخدمه كساعة وغير ذلك، فيجوز للنساء لقول الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن ) فدل ذلك على أن النساء تصنع الحلي وتلبسه، فدل ذلك على أن الحلي للنساء جائز ذهباً أو فضة.

أما الرجال فيحرم عليهم الذهب، ولا يجوز استعماله للرجال إلا في حالين:

الحال الأولى: الضرورة لما جاء عند أبي داود وعند البيهقي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعرفجة حينما قطع أنفه في معركة يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فنتن، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب). فدل ذلك على أنه إذا كان للضرورة فلا حرج.

الحالة الثانية: أن يكون مغموراً لا أثر له، ومعنى المغمور: أنه لو عرض على النار لم يبق منه شيء، مثل المشالح فيها (زَرِيْ), يقولون: فيها عشرة غرامات، لكنك لو عرضت هذه (الزَّرِي) على النار لذاب، ولم يكن فيه شيء، فدل ذلك على أنه إنما قصد به إبقاء اللمعة واللون، فإذا بقي شيء منه وهو كثير فإنه يحرم.

واليوم نجد بعض النساء أو بعض الرجال يضعون سناً من ذهب، وهذا إن كان لضرورة فيجوز، مثل أن يكون في بلد لا يوجد فيها أنواع أخرى، مثل الآن (برسلان) وأنواع أخرى، فإذا كان هناك غير الذهب ويؤدي الغرض فلا يجوز استخدامه للرجال، وأما النساء فتركه أولى خوفاً من أن يكون وهذا استعمال في أكل أو شرب، وإن كان بعضهم يرى أنه نوع من اللباس.

الحكم باختصار أن نقول: أما الرجال فلا يجوز؛ لأنه يوجد بديل وقد يكون أفضل أحياناً، وأما النساء فالأصل فيها الجواز، وتركه أولى، والله أعلم.

هذا في اللباس، وعلى هذا فما حكم الخاتم للرجال من الذهب لا يجوز، وحكم القلم من الذهب لا يجوز، وحكم الساعة للرجال من الذهب لا يجوز؛ لأنها ظاهرة.

أما الفضة للرجال فيجوز استدامها كخاتم؛ ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره.

وأما حكم استخدام شيء من الفضة غير الخاتم، فذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا المستعمل إن كان بمقدار حجم الخاتم فلا حرج؛ لأن الشارع حينما أباح لبس الخاتم من الفضة للرجال دل ذلك على أنه يباح من باب التخفيف، فهذا الخاتم وزنه بالجرام تقريباً مائتا جرام، أو مائة وخمسون جراماً يعني أنه لا يزيد عن مائتين وخمسين جراماً تقريباً -فدل ذلك على أن مائة وخمسين جراماً تقريباً يجوز أن يوضع في الكبك للرجال، وكذلك يجوز وضع الأزرة بمقدار لا يزيد عن مائة وخمسين جراماً، وهذا رأي أبي العباس بن تيمية ورواية عند الإمام أحمد ، وهو قول للحنفية.

وأما ما زاد على ذلك فلا ينبغي؛ لأنه في حكم عموم النهي عن الذهب والفضة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن الأكل والشرب إنما خرج مخرج الغالب، والغالب في استخدام الذهب والفضة إنما هو في الأكل والشرب، فليس معنى ذلك أنه في غير الأكل والشرب يجوز الاستعمال؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب كما قال الله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، يقول بعضهم: إن هذا مخرج الغالب، وبعضهم يقول: وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، فقوله: (من حجوركم) قالوا: خرج مخرج الغالب.

فالأولى ألا يزاد لبس الفضة على مقدار ما يلبس من الخاتم، يعني مائة وخمسين جراماً، ويجوز أن يوضع في ساعة، أو يوضع في الكبك، هذا اختيار أبي العباس بن تيمية ، ورواية عند الإمام أحمد ، وهو قول لبعض الحنفية، واستدلوا بما عند أبي داود : ( وأما الفضة فالعبوا فيهما )، ولكن الحديث فيه ضعف.

القسم الثالث: اتخاذه للرجال والنساء، الأصل والله أعلم أنه يمنع؛ لأنه لا حاجة في ذلك.

وبعضهم يقول: إذا جاز للمرأة أن تلبس الذهب، وجاز للمرأة أن تلبس الفضة، فما الفرق بين اللباس وبين الاتخاذ؟

ونحن نقول: الجواب: أن الاتخاذ ليس فيه حاجة أصلاً، وأما المرأة في لباسها فإنها تحتاج.

والأولى ألا يتخذ الذهب والفضة من حيث الاتخاذ، قد يشتهر في بعض البلدان كبلاد المغرب الإسلامي أنهم يضعون إبريقاً من فضة, أو بعض بلاد الشرق والغرب، أو بعض الذين يأكلون بملاعق فيها فضة، وهذا لا يجوز، إلا أن يكون لونها لوناً فضياً، وليس فيها مادة الفضة فهذه لا حرج من استعمالها، فإذا كان فيه مادة الفضة فلا يجوز إذا كانت كثيرة، وأما إذا كانت نوع من إبقاء اللون بحيث لو عرض على النار لم يبق شيء فهذا لا بأس به، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

إذاً: قلنا: إن الذهب والفضة لا يجوز استعمالهما في الأكل والشرب، ولكن هل يجوز أن يوجد إناء من ذهب أو فضة فيتوضأ فيه الإنسان ويتطهر؟

الطهارة بإناء من ذهب أو فضة تصح مع الإثم، فلو توضأ إنسان بإناء من ذهب أو بإناء فضة فإن طهارته صحيحة، هذا قول عامة أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن النهي عن استعمال الذهب والفضة لا علاقة له بفساد عبادة الطهارة؛ لأن الماء طهور وما هذه إلا نوع من الآلات، فهذا الإناء المستعمل هو خارج عن ماهية العبادة التي هي الطهارة، فلا بأس بذلك، وهذا هو الراجح.

إذا: الطهارة تصح لكنها مع المنع والإثم.

وجوه استعمال الذهب والفضة في الطهارة

الشيخ: الإنسان يتطهر بالإناء الذي فيه ذهب أو فضة من أربعة وجوه:

أولاً: يتطهر فيهما.

ثانياً: يتطهر بهما.

ثالثاً: يتطهر منهما.

رابعاً: يتطهر إليهما.

فالأول: يتطهر فيهما، يكون الإناء كبيراً، فيدخل في الإناء فيغتسل أو يتوضأ وهو داخل الإناء المليء، هذا هو معنى (يتطهر فيهما)، أي أنه يكون الإناء ظرفاً للإنسان.

الثاني: يتطهر بهما، معناه: أن يجعل الإناء آلةً لأن يتوضأ الإنسان منه؛ مثل أن يوضع الماء في إبريق من ذهب أو من فضة، فيصب عليه وهو يتوضأ منه، وهذا معناه: يتطهر بهما.

والثالث: يتطهر منهما، ومعناه أن يكون هناك إناء فيغترف به من إناء ذهب إلى شيء، فيقول: آخذ هذا بيدي، ثم يصبه على شخص آخر، فيكون الآلة ليست ذهباً أو فضة، ولكن آخذ الماء من آنية الذهب والفضة.

الرابع: (يتطهر إليهما) يعني: وأنت تتوضأ ما سقط من أعضائك وقع في آنية ذهب أو فضة، وهذا جائز؛ لأنك لم تستعمله، حتى إناء يتطهر منهما جائز؛ لأنه لم يستخدمه وإن كان الأفضل ألا يستخدمه ألبتة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

استخدام آنية الكفار

الشيخ: الإنسان قد يستخدم هذه الآنية في بلاد أهل الإسلام، وفي بلاد غير أهل الإسلام، أما إن كان من آنية الكفار فإن القاعدة قلنا: كل إناء طاهر فإنه يباح اتخاذه واستعماله، ومن ذلك آنية الكفار فإنه يباح استعمالها ما لم يعلم نجاستها، فإن علم نجاستها حرم استعمالهما، فأما إذا لم يعلم فالأصل فيها أنها طاهرة، والدليل ما جاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ هو وأصحابه من مزادة مشركة )، والمزادة نوع من القربة الصغيرة أي: مزادة ماء، ( وأعطى رجلاً من أصحابه أن يغتسل حينما أجنب, قال: خذ هذا فأفرغه عليك )، وفي رواية: ( فأفرغه على جسدك )، فدل ذلك على أن استعمال آنية الكفار لا بأس به ولا حرج.

أما ما جاء في الصحيحين من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ( أنه قال: يا رسول الله! إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها )، فيس المقصود به المنع من استعمالها ابتداءً ولا أن الأصل في آنية الكفار هو المنع؛ بل نقول: يا لابد أن يعلم أن ظاهر الحديث لا يؤخذ به على الإطلاق، فأحياناً يكون الراوي أو المصنف قد كتب هذا الحديث مختصراً ولم يجمع جميع طرق الحديث؛ لأن تتبع الطرق وجمع الروايات يظهر فيها معنىً غير المعنى الذي اختصر في هذا الحديث، فيكون المعنى أنه جاء في بعض الروايات أن أبا ثعلبة الخشني يقول: ( يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب، فيؤتى بأوانيهم قد أكلوا فيها الخنزير، وشربوا فيها الخمر، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا )، خوفاً من أن يكون قد بقي وعلق في هذا الإناء شيء من لحم الخنزير، ولحم الخنزير رجس بالإجماع، أو أن يكون قد علق شيء من الخمر, فلربما يكون الإنسان حديث عهد بإسلام، وكان يشرب الخمر، فيشرب من هذا الإناء ولا يعلم فيسكر وهو لا يدري؛ لأن الإنسان الذي ما فطم -يعني ما ترك هذا الأمر- لأنه حديث عهد بإسلام لربما وقع في المحظور، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها ).

فدل ذلك على أن هذا الحديث لم يكن منعاً على الإطلاق، ولكنه إنما قصد به حالة خاصة قد أتى بها صلى الله عليه وسلم جواباً لسؤال، فيقال قاعدة أصولية: السؤال معاد فيه الجواب، يعني: أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل معنىً من المعاني سئل عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون إن كانت فيها خمر أو خنزير؛ فلا يجوز الأكل بها إلا أن تغسل، ومعنى النهي (لا تأكلوا فيها من باب التوقي والورع، وإلا فإذا كانت طاهرة فلا حرج أن يستعملها أهل الإسلام؛ لأنها ما دامت طاهرة فلا بأس بذلك، فيكون منع النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً إنما هو من باب الورع، ومن باب التوقي، ومن باب الابتعاد عن سائر النجاسات، والله أعلم.

الشيخ: وهنا مسألة وهي أنه إذا علم أن الماء المتطهر به لا بد له من إناء، فلا بد أن نتحدث عن الإناء؛ لأنه في الغالب أن الناس يتوضئون بإناء، صحيح أن في هذا الوقت أحياناً يتوضأ الإنسان من الصنبور فهو ليس بحاجة إلى الإناء، ولكنه أحياناً يحتاج إلى الإناء؛ فلا بد من ذكره، وقد كان الفقهاء رحمهم الله يذكرون بعد باب المياه باب الآنية، إذاً لا بد أن ندلف إلى باب الآنية فنقول: كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله، إلا آنية ذهب أو فضة.

وقولنا: كل إناء طاهر يبين أن الأصل في الأواني الطهورية.

قد يقال: من أخبرك بهذا؟

فنقول: استدلال أهل العلم بالأدلة الظاهرة المتواترة بالمعنى على أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل، كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]. إذاً فالله خلق لنا كل ما في الأرض لأجل أن نتنعم بها في طاعة الله سبحانه وتعالى وفيما يعين على ذلك.

ومن الأدلة على ذلك ما جاء في البخاري من حديث عبد الله بن زيد قال: ( أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور، فتوضأ به ).

والتور: إناء من نحاس، فدل ذلك على أن كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله، إذاً الأصل أن كل شيء يباح اتخاذه واستعماله ولو كان غالي الثمن، ولو كان هذا الإناء من الماس، ولو كان هذا الإناء من الزمرد أو الجواهر؛ فكون الشيء غالباً أم ليس بغال لا يمنع من جواز استعماله.