خطب ومحاضرات
عمدة الفقه - كتاب الحج [16]
الحلقة مفرغة
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلاً وسهلاً بكم أيها الأحبة المشاهدون في كل مكان في برنامجكم: الأكاديمية العلمية، نرحب بكم في هذه السلسلة المباركة من الدروس العلمية، ونسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بما نسمع ونقول.
أحبتنا نتواصل معكم في هذا اليوم المبارك في درس عمدة الفقه لـابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى، ويسعدنا أن يكون في ضيافتنا هذا اليوم وكل يوم بإذن الله تعالى صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي المساعد في المعهد العالي للقضاء، في مطلع هذه الحلقة نرحب بكم شيخ عبد الله فحياكم الله.
الشيخ: حياكم الله وبالإخوة المستمعين والمستمعات.
المقدم: الترحيب أيضاً موصول للإخوة الكرام طلاب الأكاديمية الإسلامية المفتوحة في كل مكان على تواصلهم معنا ودعمهم لبرنامجنا، والذي هو بعد عون الله تعالى خير دافع لنا في تقديم المزيد من مثل هذه البرامج، أحبتنا يسعدنا تواصلكم معنا عبر الموقع للأكاديمية (www.islamacademy.net) يسعدنا من خلاله تلقي اقتراحاتكم وملحوظاتكم، كما أيضاً نتلقى أسئلتكم عبر هذا الموقع، كذلك يسعدنا -أيها الأحبة- تلقي اتصالاتكم الهاتفية عبر هواتف البرنامج، والذي تظهر تباعاً على الشاشة، نرحب بكم مرة أخرى، ونسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لكل خير، ونطلب من الشيخ عبد الله يتفضل مشكوراً مأجوراً ببدء هذه الحلقة.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا المجلس مجلس خير وبركة، وأن يعمنا بفضله ورحمته، وأن تحفنا ملائكته بالرحمة والإنعام، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وصلنا إلى قول المؤلف: [ باب ما يفعله بعد الحل ] ونحن قد انتهينا من طواف الإفاضة، وبعد ما يطوف للإفاضة يرجع إلى منى، فلتقرأ -بارك الله فيك- شيئاً مما ذكره المؤلف في كتابه.
المقدم: قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب ما يفعله بعد الحل: [ ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها، فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها، كل جمرة بسبع حصيات، يبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة، ويرميها بسبع حصيات، كما رمى جمرة العقبة، ثم يتقدم فيقف فيدعو الله، ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها، ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك، فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب، فإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بمنى والرمي من غد، فإن كان متمتعاً أو قارناً فقد انقضى حجه وعمرته، وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه، ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموسى على رأسه، وقد تم حجه وعمرته، وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، لكن عليه وعلى المتمتع دم؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196] ].
المراد بقول المؤلف: (باب ما يفعله بعد الحل)
يعني: بعدما يتحلل التحلل الأول والثاني؛ لأننا قلنا أنه إذا رمى وحلق فقد تحلل التحلل الأول، وبقي عليه التحلل الثاني، فإذا طاف للإفاضة فقد تحلل التحلل الأول والثاني، وهذا مراد المؤلف بقوله: (باب ما يفعله بعد الحل) يعني: بعدما يطوف طواف الإفاضة؛ لأن الله يقول: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]، فإذا طاف الإنسان طواف الإفاضة -وإن كان متمتعاً أو قارناً أو مفرداً- ولم يكن قد سعى قبل عرفة فإنه يطوف ويسعى، والسعي هنا لا علاقة له بالتحلل على الراجح؛ لأن السعي واجب وليس بركن كما هي الرواية عند الحنابلة، وليس هو بسنة كما يقول الأحناف، وسوف نتحدث -إن شاء الله- عن حكم السعي، وهل هو ركن أو واجب وأدلة ذلك.
بيان مكان صلاة الظهر للحاج بعد التحلل
بالنسبة لرجوعه إلى منى قلنا: أنه يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يتجه إلى منى، فهل السنة أن يصلي الظهر بمكة، كما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر ، قال: ( ثم أفاض يوم النحر فصلى بمكة الظهر ثم رجع )، فهذا حديث جابر أنه صلى بمكة الظهر، أو يصلي الظهر بمنى كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه قال: ( أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه، وقال
اختلف العلماء في ذلك، فقيل: القول قول جابر: أنه صلى بمكة الظهر.
وقيل: القول قول ابن عمر أنه صلى بمنى الظهر.
وقيل -وهو القول الثالث-: أنه يجمع بينهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الظهر، ثم رجع فصلى بأصحابه أيضاً الذين كانوا قد بقوا في منى.
والأقرب -والله تبارك وتعالى أعلم- أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد صلاة الظهر في منى ولا في مكة، فنقول: السنة أن يطوف نهاراً بعد الرمي والحلق، فإذا اتفق وحضرت الصلاة وهو بمكة فالأقرب أن يصليها في مكة قصراً إلا إذا كان مع الإمام فيصليها مع الإمام، وإن كان قد اتفق أنه انتهى من طواف الإفاضة ثم رجع في طريقه قبل الأذان أو قبيل الأذان فلا ينتظر حتى يصلي، فإنه يذهب إلى منى فيصلي بمنى الظهر، أي أنه يفعل ما هو أيسر له، ولا يتقصد الصلاة في مكة أو في منى، بل كيفما اتفق، فالعبرة أنه ينهي أعمال النسك، ثم يتجه إلى منى، فإن أدرك الظهر في مكة صلى، وإلا فإنه يتجه فيصلي في منى الظهر، هذه المسألة الأولى.
المبيت بمنى أيام التشريق
اختلف العلماء في ذلك، فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المبيت بمنى واجب، وليس بسنة، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، وجاء أيضاً من حديث مالك بن أنس كما في موطئه من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في البيتوتة بمنى ) قال الحافظ ابن حجر : والتعبير بالرخصة دليل على أن مقابلها العزيمة، فهذا يدل على أن المبيت بمنى واجب، ولهذا رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وضد الرخصة العزيمة كما قال الحافظ ابن حجر ، و ابن قدامة أشار إلى نحو من ذلك، هذا دليلهم.
واستدلوا أيضاً بما رواه مالك من طريق نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يبيتن أحد من الحاج أيام منى من وراء العقبة، يعني: خلف جبل العقبة، وجبل العقبة هو الجمرة الكبرى، فالجمرة الكبرى هي آخر منى، وهي أقرب الجمار إلى مكة، فإذا تعداها قليلاً فقد خرج من منى، فقال عمر : لا يبيتن أحد من الحاج أيام منى من وراء العقبة، وكان يبعث رجالاً لا يدعون أحداً يبيت وراء العقبة، هذا القول الأول.
القول الثاني: قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عند الحنابلة، ذهبوا إلى أن المبيت بمنى سنة وليس بواجب، واستدلوا على ذلك بأدلة:
أولاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس مع أنه ليس ثمة حاجة للناس؛ لأنهم يستطيعون أن ينزلوا فيشربوا، فكونه رخص للعباس دليل على أنه ليس بواجب.
وقالوا: إنه لم يأمر العباس بشيء، ولو كان واجباً لأمره بشيء.
واستدلوا أيضاً بما رواه ابن أبي شيبة من طريق زيد بن الحباب قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع ، قال: أخبرنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا رميت -يعني: الجمار- فبت حيث شئت، وهذا الحديث رجاله رجال مسلم ، ولكن اختلف في زيد بن الحباب ، فوثقه ابن المديني وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الإمام أحمد : كان صدوقاً، وكان يكتب ويضبط الحديث، ولكنه كان كثير الخطأ، فلعل هذا من أوهامه، أو يقال: إنه قول ابن عباس ، وقد خالفه غيره من الصحابة كـعمر الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن يطيعوا
لكننا نقول: إن الأقرب هو الوجوب، وكونه رخص للعباس دليل على أن كل من كان معذوراً عن البيتوتة بمنى إما بسببه كأن يكون مريضاً فجلس في المستشفى، أو كان مرافقاً لمريض، أو لم يجد مكاناً في منى، فإنه يبيت كيفما اتفق، أي يبيت حيث يشاء، وأما إذا لم يجد مكاناً فلا يلزم أن يبيت بمزدلفة، وما ذكره بعض مشايخنا أنه يلزمه أن يبيت قريباً من منى استدلالاً باتصال الصفوف، فيلزمه أن يبيت بمزدلفة، فنقول: إن البيتوتة بمنى مشعر، فإذا لم يجد مكاناً بمنى فسواء بات بمزدلفة أو بات بالعزيزية أو بات بشراء لا شيء في ذلك؛ لأن العبرة بمنى، فإذا لم يجد مكاناً في منى فإنه يبيت حيثما شاء، كما جاء في بعض الروايات: (فبت حيث شئت)، وإن كان في سنده ضعف.
وعلى هذا نقول: إذا لم يجد مكاناً بمنى، أو كانت الخيام غالية الثمن في حقه، أو هي أغلى من سعر مثلها، أو لا يستطيع فإننا نقول: لا يلزمه الشراء، ومن الأدلة على أنه لا يلزمه الشراء أن العلماء ذكروا أن من لم يجد ماء للوضوء إلا بسعر أعلى من مثله لا يلزمه الشراء، ونحن نقول: إن هذا يختلف بحسبه، فإذا وجد مكاناً بمنى مثل سعر الشراء فأرى -والله أعلم- أنه ينبغي له ألا يفرط فيشتري؛ لأن هذا بسعر مثله، وإذا كان غالي الثمن فلا يلزمه أن يشتري، والله أعلم.
إلا أننا نقول إن بقاءه قريباً من منى فيه استشعار عظمة الحج، ووجوده مع الحجيج يستشعر هذه العظمة أكثر مما لو جلس في شقة في العزيزية أو غيرها، ربما لا يستشعر أنه في حج، أو غير ذلك.
على كل حال نقول: إذا لم يجد مكاناً أو شق ذلك عليه فإنه يسقط في حقه المبيت، ولا يلزمه أن يجلس في الطرقات؛ لأن هذا لا يصلح لمثله، هذا واحد.
الثاني: أن بقاءه في الطرقات مضرة على نفسه.
الثالث: أن بقاءه في الطرقات مضرة على المسلمين، وكم يشق على الحجاج أولئك الإخوة الذين يفترشون الطرقات فإن هذا ضرر عظيم، وأرى أنه من الواجب منع الناس من هذا الأمر، ولو أن كل واحد من الحجاج وهو يسير في طريقه نصح إخوانه، وقال: هذا من الأذية، و (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) كما قال صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلمين ألا يزاحموا إخوانهم، ولا يلزمهم إذا لم يجدوا مكاناً أن يبيتوا في ذلك المكان، بل ينبغي لهم أن يبتعدوا، ولو اقترح جعل طرق معينة كبيرة ستة متر أو عشرة متر أو ثمانية متر طرقاً لا يمكن البيتوتة فيها، وما زاد على ذلك يسمح فيه لكان في ذلك تخفيف على الناس الذين يذهبون ويجولون، وأرى أن ذهاب الناس في الليل ربما يكون فيه من المشقة عليهم أشد من النهار؛ لأن الطريق إلى الرمي ربما يشق عليهم أكثر من زحامهم حين يرمون؛ ولهذا نقول: إنه ينبغي للحجاج ألا يفترشوا الطرقات؛ لأن في هذا مضرة على المسلمين، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
مقدار بيتوتة الحاج في منى
بعض الإخوة يرى أن مقدار البيتوتة ساعات يعني: يحدد ذلك بالساعات فيحسب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر فيقسمه على اثنين، ويزيد ساعة أو نصف ساعة؛ استدلالاً بما ذكره النووي في المجموع وكذا الحنابلة: أنه يبيت معظم الليل، قالوا: معظم الليل يكون أكثر من نصف الليل، وأرى -والله أعلم- أن هذا أحوط له، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص للعباس في البيتوتة، والبيتوتة تقتضي أموراً:
أولاً: أنه لا يلزم من البيتوتة النوم.
الثاني: أن البيتوتة المقصود بها البقاء في الليل.
الثالث: أن البيتوتة كل ما صدق عليه إطلاقه في اللغة أن فلاناً بات، فإنه يجزئه، وهذا يحصل بمعظم الليل أو أقل من ذلك، وعلى هذا نقول: إذا جلس أربع ساعات أو ثلاث ساعات ونصف أو خمس ساعات فإنه يجزئه إن شاء الله؛ لأنه يصدق عليه أنه بات، وقد تكون البيتوتة ساعتان أو ثلاثاً إذا كانت في آخر الليل؛ لأن البيتوتة تطلق في الغالب على آخر الليل، وقد روى أهل السنن ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت هو و
المقدم: نعم، شيخ عبد الله الآن نتحدث أن السنة أن يبيت في منى، ولكن تطبيق السنة في هذا الوقت يعجز عنها الإنسان.
الشيخ: نحن نقول: واجب وليس سنة، ولكن إذا لم يجد مكاناً فإنه يسقط في حقه، وإذا بحث في أول يوم ولم يجد فلا يلزم أن يبحث كل يوم؛ لأن منى الآن امتلأت خياماً، فلا يلزمه أن يخرج في كل يوم يبحث، بل يكفي مرة واحدة، أو يغلب على ظنه أنه لن يجد شيئاً، أو قال: وجدت الخيام غالية الثمن، ولا يصلح لمثله فإنه لا يلزم أن يخرج؛ لأن هذا من باب إخبار الثقة بأمر يحصل به الاعتماد عليه في الشرع.
ما يلزم من ترك المبيت بمنى
قلنا: كل من ترك واجباً فإنه يلزمه أن يريق دماً، كما روى ابن عباس من طريق عطاء أنه قال: من ترك نسكاً أو نسيه فليرق دماً، ومعنى ترك نسكاً: ترك واجباً، وقول بعض الفضلاء: إن هذا معناه أنه يلزم من ترك نسكاً سواء كان هذا النسك واجباً، أو كان هذا النسك مستحباً، قلنا: إنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الصلاة: ( فإذا سها فليسجد سجدتين )، ومعلوم أن السهو هنا المراد به السهو في من ترك واجباً وليس في من ترك ركناً؛ لأنه لم يؤد الصلاة، وكذلك ليس هو في من ترك مستحباً، لكن من ترك مستحباً ومثله لا يتركه فإنه يشرع له أن يسجد للسهو، كما لو كان من عادته أنه لا يفرط في دعاء الاستفتاح فنسيه مرة، فنقول: يشرع له أن يسجد للسهو، كذلك يقال هنا: إنه من ترك نسكاً من المستحبات فالأفضل له أن يتصدق أو يذبح دم، لكن الذي يجب عليه هو الذي ترك واجباً، كذلك يقال هنا، ولا يمكن أن يقال: إن هذا قول ابن عباس وليس بمشتهر، بل إن هذا من أعظم الاشتهار، فأنت تعرف أن المدارس بعد عصر الصحابة أربع مدارس: مدرسة الحجاز، ومدرسة مصر، ومدرسة العراق، ومدرسة الشام، فأربع مدارس من مدارس المسلمين كل من كان فيها يرى وجوب الدم لمن ترك واجباً، كما نقل ذلك الإجماع غير واحد من أهل العلم كـابن قدامة و ابن المنذر و النووي و الخطابي و ابن حجر و ابن تيمية ، و ابن رشد ، وغير واحد من أهل العلم قالوا: إن من ترك واجباً فليرق دماً، واختلاف الصحابة أو اختلاف التابعين على أنه لا يلزم شيء، لا لأنهم لا يرون وجوب الدم على من ترك واجباً، بل لأنهم يرون أن هذه المسألة ليست بواجبة حتى يلزم بدم.
وهذه المسألة يسميها علماء الأصول الاختلاف في تحقيق المناط، نحن نتفق على أن من ترك واجباً فليهرق دماً، لكنهم يختلفون هل من ترك البيتوتة ترك واجباً أم لا.
فـأبو حنيفة يقول: من ترك واجباً فليهرق دماً، لكن لا يلزمه في من ترك المبيت بمنى؛ لأنه لا يرى وجوب المبيت بمنى، فهل قول أبي حنيفة أنه لا يلزمه دم، دليل على أنه لا يرى الدم في من ترك واجباً؟ نقول: لا، بل إنه يرى أن تحقيق المناط في مسألة ترك الواجب لم يتحقق في مسألة البيتوتة، وعلى هذا فقس.
مقدار ما يوجب الدم من ترك البيتوتة في منى
اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة، فبعضهم قال: لو ترك ليلة فعليه نصف درهم، وقال بعضهم: لو ترك ليلة فعليه درهم، وغير ذلك من القياس، وقد قال ابن قدامة في المغني: وليس في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الدينار ونصف الدينار. والأقرب أن نقول: إن من ترك النسك وهو ليلتان لمن تعجل أو ثلاث ليال لمن لم يتعجل، وهي ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر أو ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر لمن يتعجل، فإذا تركهما فإنه يلزمه دم، أما لو تعجل وترك ليلة فإننا نرى -والله أعلم- أنه لم يترك الواجب، إنما ترك بعض الواجب، فعلى هذا نقول: لو تصدق حسن، ولكن لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يترك المبيت، وهذا هو رأي بعض علماء الحنابلة وبعض علماء الشافعية، وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز : أنه لا يلزمه الدم إلا إذا ترك الليالي كلها، فإذا ترك بعضاً وفعل بعضاً فقد أساء وخالف السنة وأثم، ولكن لا يلزمه؛ لأنه لم يترك النسك كاملاً.
الشيخ: يقول المؤلف: (باب ما يفعله بعد الحل).
يعني: بعدما يتحلل التحلل الأول والثاني؛ لأننا قلنا أنه إذا رمى وحلق فقد تحلل التحلل الأول، وبقي عليه التحلل الثاني، فإذا طاف للإفاضة فقد تحلل التحلل الأول والثاني، وهذا مراد المؤلف بقوله: (باب ما يفعله بعد الحل) يعني: بعدما يطوف طواف الإفاضة؛ لأن الله يقول: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]، فإذا طاف الإنسان طواف الإفاضة -وإن كان متمتعاً أو قارناً أو مفرداً- ولم يكن قد سعى قبل عرفة فإنه يطوف ويسعى، والسعي هنا لا علاقة له بالتحلل على الراجح؛ لأن السعي واجب وليس بركن كما هي الرواية عند الحنابلة، وليس هو بسنة كما يقول الأحناف، وسوف نتحدث -إن شاء الله- عن حكم السعي، وهل هو ركن أو واجب وأدلة ذلك.
الشيخ: يقول المؤلف: (ثم يرجع إلى منى).
بالنسبة لرجوعه إلى منى قلنا: أنه يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يتجه إلى منى، فهل السنة أن يصلي الظهر بمكة، كما روى مسلم في صحيحه من حديث جابر ، قال: ( ثم أفاض يوم النحر فصلى بمكة الظهر ثم رجع )، فهذا حديث جابر أنه صلى بمكة الظهر، أو يصلي الظهر بمنى كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه قال: ( أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه، وقال
اختلف العلماء في ذلك، فقيل: القول قول جابر: أنه صلى بمكة الظهر.
وقيل: القول قول ابن عمر أنه صلى بمنى الظهر.
وقيل -وهو القول الثالث-: أنه يجمع بينهما؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الظهر، ثم رجع فصلى بأصحابه أيضاً الذين كانوا قد بقوا في منى.
والأقرب -والله تبارك وتعالى أعلم- أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد صلاة الظهر في منى ولا في مكة، فنقول: السنة أن يطوف نهاراً بعد الرمي والحلق، فإذا اتفق وحضرت الصلاة وهو بمكة فالأقرب أن يصليها في مكة قصراً إلا إذا كان مع الإمام فيصليها مع الإمام، وإن كان قد اتفق أنه انتهى من طواف الإفاضة ثم رجع في طريقه قبل الأذان أو قبيل الأذان فلا ينتظر حتى يصلي، فإنه يذهب إلى منى فيصلي بمنى الظهر، أي أنه يفعل ما هو أيسر له، ولا يتقصد الصلاة في مكة أو في منى، بل كيفما اتفق، فالعبرة أنه ينهي أعمال النسك، ثم يتجه إلى منى، فإن أدرك الظهر في مكة صلى، وإلا فإنه يتجه فيصلي في منى الظهر، هذه المسألة الأولى.
الشيخ: المسألة الثانية: قول المؤلف: (ولا يبيت لياليها إلا بها)، هذه مسألة حكم المبيت بمنى أيام التشريق.
اختلف العلماء في ذلك، فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المبيت بمنى واجب، وليس بسنة، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، وجاء أيضاً من حديث مالك بن أنس كما في موطئه من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في البيتوتة بمنى ) قال الحافظ ابن حجر : والتعبير بالرخصة دليل على أن مقابلها العزيمة، فهذا يدل على أن المبيت بمنى واجب، ولهذا رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وضد الرخصة العزيمة كما قال الحافظ ابن حجر ، و ابن قدامة أشار إلى نحو من ذلك، هذا دليلهم.
واستدلوا أيضاً بما رواه مالك من طريق نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يبيتن أحد من الحاج أيام منى من وراء العقبة، يعني: خلف جبل العقبة، وجبل العقبة هو الجمرة الكبرى، فالجمرة الكبرى هي آخر منى، وهي أقرب الجمار إلى مكة، فإذا تعداها قليلاً فقد خرج من منى، فقال عمر : لا يبيتن أحد من الحاج أيام منى من وراء العقبة، وكان يبعث رجالاً لا يدعون أحداً يبيت وراء العقبة، هذا القول الأول.
القول الثاني: قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عند الحنابلة، ذهبوا إلى أن المبيت بمنى سنة وليس بواجب، واستدلوا على ذلك بأدلة:
أولاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس مع أنه ليس ثمة حاجة للناس؛ لأنهم يستطيعون أن ينزلوا فيشربوا، فكونه رخص للعباس دليل على أنه ليس بواجب.
وقالوا: إنه لم يأمر العباس بشيء، ولو كان واجباً لأمره بشيء.
واستدلوا أيضاً بما رواه ابن أبي شيبة من طريق زيد بن الحباب قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع ، قال: أخبرنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا رميت -يعني: الجمار- فبت حيث شئت، وهذا الحديث رجاله رجال مسلم ، ولكن اختلف في زيد بن الحباب ، فوثقه ابن المديني وقال أبو حاتم: صدوق، وقال الإمام أحمد : كان صدوقاً، وكان يكتب ويضبط الحديث، ولكنه كان كثير الخطأ، فلعل هذا من أوهامه، أو يقال: إنه قول ابن عباس ، وقد خالفه غيره من الصحابة كـعمر الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن يطيعوا
لكننا نقول: إن الأقرب هو الوجوب، وكونه رخص للعباس دليل على أن كل من كان معذوراً عن البيتوتة بمنى إما بسببه كأن يكون مريضاً فجلس في المستشفى، أو كان مرافقاً لمريض، أو لم يجد مكاناً في منى، فإنه يبيت كيفما اتفق، أي يبيت حيث يشاء، وأما إذا لم يجد مكاناً فلا يلزم أن يبيت بمزدلفة، وما ذكره بعض مشايخنا أنه يلزمه أن يبيت قريباً من منى استدلالاً باتصال الصفوف، فيلزمه أن يبيت بمزدلفة، فنقول: إن البيتوتة بمنى مشعر، فإذا لم يجد مكاناً بمنى فسواء بات بمزدلفة أو بات بالعزيزية أو بات بشراء لا شيء في ذلك؛ لأن العبرة بمنى، فإذا لم يجد مكاناً في منى فإنه يبيت حيثما شاء، كما جاء في بعض الروايات: (فبت حيث شئت)، وإن كان في سنده ضعف.
وعلى هذا نقول: إذا لم يجد مكاناً بمنى، أو كانت الخيام غالية الثمن في حقه، أو هي أغلى من سعر مثلها، أو لا يستطيع فإننا نقول: لا يلزمه الشراء، ومن الأدلة على أنه لا يلزمه الشراء أن العلماء ذكروا أن من لم يجد ماء للوضوء إلا بسعر أعلى من مثله لا يلزمه الشراء، ونحن نقول: إن هذا يختلف بحسبه، فإذا وجد مكاناً بمنى مثل سعر الشراء فأرى -والله أعلم- أنه ينبغي له ألا يفرط فيشتري؛ لأن هذا بسعر مثله، وإذا كان غالي الثمن فلا يلزمه أن يشتري، والله أعلم.
إلا أننا نقول إن بقاءه قريباً من منى فيه استشعار عظمة الحج، ووجوده مع الحجيج يستشعر هذه العظمة أكثر مما لو جلس في شقة في العزيزية أو غيرها، ربما لا يستشعر أنه في حج، أو غير ذلك.
على كل حال نقول: إذا لم يجد مكاناً أو شق ذلك عليه فإنه يسقط في حقه المبيت، ولا يلزمه أن يجلس في الطرقات؛ لأن هذا لا يصلح لمثله، هذا واحد.
الثاني: أن بقاءه في الطرقات مضرة على نفسه.
الثالث: أن بقاءه في الطرقات مضرة على المسلمين، وكم يشق على الحجاج أولئك الإخوة الذين يفترشون الطرقات فإن هذا ضرر عظيم، وأرى أنه من الواجب منع الناس من هذا الأمر، ولو أن كل واحد من الحجاج وهو يسير في طريقه نصح إخوانه، وقال: هذا من الأذية، و (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) كما قال صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلمين ألا يزاحموا إخوانهم، ولا يلزمهم إذا لم يجدوا مكاناً أن يبيتوا في ذلك المكان، بل ينبغي لهم أن يبتعدوا، ولو اقترح جعل طرق معينة كبيرة ستة متر أو عشرة متر أو ثمانية متر طرقاً لا يمكن البيتوتة فيها، وما زاد على ذلك يسمح فيه لكان في ذلك تخفيف على الناس الذين يذهبون ويجولون، وأرى أن ذهاب الناس في الليل ربما يكون فيه من المشقة عليهم أشد من النهار؛ لأن الطريق إلى الرمي ربما يشق عليهم أكثر من زحامهم حين يرمون؛ ولهذا نقول: إنه ينبغي للحجاج ألا يفترشوا الطرقات؛ لأن في هذا مضرة على المسلمين، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
عمدة الفقه - كتاب الحج [3] | 2651 استماع |
عمدة الفقه - كتاب البيع [1] | 2533 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [1] | 2450 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [17] | 2396 استماع |
عمدة الفقه - كتاب النكاح [4] | 2316 استماع |
عمدة الفقه - كتاب النكاح [16] | 2169 استماع |
عمدة الفقه - كتاب النكاح [5] | 2166 استماع |
عمدة الفقه - كتاب البيع [4] | 2128 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [2] | 2110 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [21] | 2107 استماع |