الاستدلال الفقهي بالقرآن


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أهمية تدبر القرآن والتأمل في معانيه

مازال أهل العلم رحمهم الله يوصي بعضهم بعضاً على التذاكر والاجتماع مع أهل العلم وطلبته للتدارس في أعظم كلام، وهو كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فما عنيت همم الناس بأعظم من الاهتمام بكتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأنه خير كتاب وهو أعظم ذكر يذكره العبد بينه وبين ربه، وقد قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه، يعني: بذلك كلامه سبحانه وتعالى، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أحب الكلام إلى الله بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر )، فقوله صلى الله عليه وسلم: (بعد القرآن) دليل على أن ذكر الله هو أعظم الأشياء.

ولأجل هذا فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن ليكون هداية للخلق، فهو أحسن تقويماً وأحسن هداية كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وقد وجدت بعض الكتب التي تبين سلوكيات الناس وتطوير الذات، وما أدراك ما تطوير الذات من دورات ومؤتمرات، لكن هذه تبقى محدوديتها في المعرفة قليلة إلا أن تدبر القرآن، والتأمل في معانيه، والتبصر في آياته، يعطي الإنسان قناعة تامة على أن هذا القرآن هو الصراط المستقيم، وهو الطريق القويم، ومن اهتدى به رشد، ومن تركه غفل.

وما أدراك ما المغضوب عليهم والضالين؟ الذين تركوا صراط الله المستقيم، فتشبه من تشبه منهم باليهود حينما قست قلوبهم ولم تلين بذكر الله، وتشبه منهم من تشبه بالنصارى حينما بالغوا في اللين حتى تركوا ما أمر الله به من إقامة شرعه وتوحيده، وإقامة حدوده، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ولأجل هذا كان أعظم ما صرفت فيه الهمم وتؤمل فيه من الكلام، هو كلام الله سبحانه وتعالى.

حال السلف مع القرآن

إذا قرأتم كتب السلف، فإن السلف رضي الله عنهم كان علمهم كله إنما هو من القرآن، لقول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، يقول أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) عند شرحه لحديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً: ( تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها )، قال: فإذا كان هذا هو القرآن الذي كان هو علمهم كما قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، فما بالك بمن جاء بعدهم من الذين بدأت لغتهم تتغير، ووجد القرآن ولم يعلموه، فإن تفلت العلم في حق المتأخرين أعظم من تفلت العلم في حق المتقدمين، أو كما قال رحمه الله.

فهذا يدل دلالة واضحة أن العالم -لا أقول: العامي- لو صرف جهده فيما يدل على فهم القرآن من آلاته، مثل: آلة التفسير، وآلة المصطلح، وآلة البلاغة، وآلة العربية. لكان أولى، لكنه عندما يفرط في وقته، فإنه سوف يندم حين لا ينفع الندم، فهذا أبو العباس بن تيمية رحمه الله الذي فطر على نصرة دينه، ونبذ البدع، ومحاربة المشركين، والملحدين والمناطقة، فإنه حينما حبس في القلعة المعروفة كان كتابه فقط هو القرآن، فندم على ضياع وقته حينما لم يتأمل القرآن.

أهمية الاستدلال السليم بالقرآن

فأقول نصيحة لي، ونصيحة لكم، ونصيحة للناس الذين يقرءون هذا الكلام: لا نغفل عن كتاب الله سبحانه وتعالى تدبراً وتأملاً، وطريقة الاستدلال، فإن طريقة الاستدلال من أهم المهمات.

وكثيرون هم الذين يستدلون على بعض بدعهم بالقرآن، وقد قال من قال من السلف: رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه؛ لأنه يحتج على نفسه بالقرآن، والقرآن حجة عليه وليس حجة له؛ ولأجل هذا اهتم السلف رضي الله عنهم بالاستدلال؛ لأن طريقة الاستدلال بالقرآن معنىً ودرساً وعلماً ومن لم يحصله ولم يأخذه من معينه ومن أهله فإنه يضل حتماً، ولأجل هذا ضل من ضل من المتأخرين الذين جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بطرق ليست هي طريقة الوحيين، وأتوا باستنباطات ليست هي استنباطات سلف هذه الأمة.

وكان أول من اقتبس بعض هذه الشعب من شعب الضلال وشبه الملاحدة هو الصبي الذي قرأ: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:1-3]، فقال: كيف هذا؟ فلما ذهب إلى عمر رضي الله عنه، قال: ما معنى وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]؟ فعرف عمر أن هذا يريد أن يشكك في القرآن؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يشكك في القرآن، ولا يشكك في الذات الإلهية إلا أن يكون عنده مخزون من معرفة متأكدة، ومخزون من معرفة ضالة، فيجعل ما يستأنسه من معلومات ويستروح لها دليلاً لكي يشكك في القرآن، فأخذ عمر فضربه بالدرة حتى أغمي عليه، فلما أفاق أراد عمر أن يضربه مرة ثانية فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فأحسن قتلتي، وإن كنت تريد دوائي فقد شفيت، يعني: شفيت من هذه الشبهة، ويا ليت! لنا عشراً من درة عمر؛ لنقيم بها الطريق المعوج مثل الذي في كتب ومقالات بعضنا، وحملة الأقلام الذين ربما ضلوا وأضلوا.

لأجل هذا كانت هذه المحاضرة؛ لأننا وجدنا من يستدل أحياناً بالقرآن لأجل توجهات سياسية، أو يستدل بالقرآن لأجل توجهات اقتصادية، أو يستدل بالقرآن لأجل توجهات من الإعجاز والمبالغة في ذلك.

نعم! القرآن معجزة لكنه معجزة غيبية، ومعجزة بلاغية وهي أطول وأعظم من أن تكون معجزة علمية، بمعنى النظر إلى الطبيعة، فإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وكل معنى لم تعرفه العرب في لغتها وقت التنزيل، فليس هو المقصود والمراد من كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وإنما المقصود من تنزيله كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. فهذا هو الأساس الذي نزل لأجله القرآن هداية للخلق، هداية للبشرية، هداية للإنسانية.

نعم القرآن هداية عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ولو لم يأت من القرآن سوى أن قراءته نور وهداية واطمئنان كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] لكفى، ولأجل هذا فإن من كرم الله وجوده وإحسانه أن الإنسان لا يقبل على كتابه إلا أعطاه الله من النور، والاطمئنان والسكينة، والخضوع، والرضا أعظم ممن لا يتأمل ذلك النص، ولو كان الذي لم يتأمل ذلك النص أعظم عند الله من حيث الحسنات من ذلك الرجل.

ولهذا تجدون بعض الذين ضلوا من المبتدعة، وهم بعض الصوفية الذين خالفوا كتاب الله وسنة رسوله، وليسوا على منهج الصوفية السلفية، كما كان عليه المتقدمون من أهل العلم، تجدونهم حينما يقبلون على القرآن يقع فيهم من الرضا، والطمأنينة والسكينة وهم ضالون؛ لأن الله كريم، ومن كرمه أن الإنسان لا يقبل عليه إلا هداه الله الصراط المستقيم، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( ولئن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ولئن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ولئن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

إننا نلاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الأخطاء في الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يسعفنا الوقت لأن نذكر أخطاء الناس في الاستدلال بالسنة، ولكننا سنذكر أخطاء الناس في الاستدلال بالقرآن، والإنسان إذا لم يأخذ علم الاستدلال بالقرآن من معين صافٍ من أهل العلم، فإنه حتماً سوف يخطئ، ولو أعطي من العقل والذكاء ما أعطي.

أشار الإمام الشاطبي رحمه الله إلى أن أهل العلم كانوا يأخذون العلم عند علمائهم بالجثي على الركب، وعابوا على الإمام ابن حزم رحمه الله مع أنه جهبذ من أذكياء العالم، كما يقول ابن تيمية رحمه الله، إلا أنه قل جلوسه بين يدي أهل العلم الذين أخذوه عن غيرهم، وهؤلاء أخذوه عن غيرهم ، فأصبحت ثمة مدارس هي مدرسة العراق على طريقة ابن مسعود ، ومدرسة الحجاز على طريقة عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر ، ومدرسة أهل الشام على طريقة معاذ بن جبل ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

فعابوا على ابن حزم حينما أخطأ في طريقة الاستدلال فأنكر القياس، وعابوا عليه حينما أنكر ظواهر النصوص في ذات الله سبحانه وتعالى، وإن كان معظماً للكتاب والسنة إلا أنه حينما لم يأخذ هذا العلم من طريقه ومن معينه أخطأ، فإذا كان ابن حزم الذي كان حفظه للسنة معلوم، وتأمله للنصوص معلوم أخطأ في هذا، فما بالك بمن جاء بعدهم.

ولأجل هذا فإن مجرد استرواح النفس على معنى من المعاني من القرآن لا يلزم أن تكون هي الحق، ولو وافق معنى لغوياً في القرآن؛ حتى يكون على طرق أئمة السلف، وحتى يكون على طرق أئمة أهل العلم، وحتى يكون موافقاً لتفسير الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، ولهذا يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فإن من قال بما سنح في وحله، وخطر على باله، من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ؛ لأنه خالف طريق أهل العلم، ثم قال: ومن استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو محمود.

مازال أهل العلم رحمهم الله يوصي بعضهم بعضاً على التذاكر والاجتماع مع أهل العلم وطلبته للتدارس في أعظم كلام، وهو كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فما عنيت همم الناس بأعظم من الاهتمام بكتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأنه خير كتاب وهو أعظم ذكر يذكره العبد بينه وبين ربه، وقد قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه، يعني: بذلك كلامه سبحانه وتعالى، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أحب الكلام إلى الله بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر )، فقوله صلى الله عليه وسلم: (بعد القرآن) دليل على أن ذكر الله هو أعظم الأشياء.

ولأجل هذا فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن ليكون هداية للخلق، فهو أحسن تقويماً وأحسن هداية كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وقد وجدت بعض الكتب التي تبين سلوكيات الناس وتطوير الذات، وما أدراك ما تطوير الذات من دورات ومؤتمرات، لكن هذه تبقى محدوديتها في المعرفة قليلة إلا أن تدبر القرآن، والتأمل في معانيه، والتبصر في آياته، يعطي الإنسان قناعة تامة على أن هذا القرآن هو الصراط المستقيم، وهو الطريق القويم، ومن اهتدى به رشد، ومن تركه غفل.

وما أدراك ما المغضوب عليهم والضالين؟ الذين تركوا صراط الله المستقيم، فتشبه من تشبه منهم باليهود حينما قست قلوبهم ولم تلين بذكر الله، وتشبه منهم من تشبه بالنصارى حينما بالغوا في اللين حتى تركوا ما أمر الله به من إقامة شرعه وتوحيده، وإقامة حدوده، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ولأجل هذا كان أعظم ما صرفت فيه الهمم وتؤمل فيه من الكلام، هو كلام الله سبحانه وتعالى.

إذا قرأتم كتب السلف، فإن السلف رضي الله عنهم كان علمهم كله إنما هو من القرآن، لقول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، يقول أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) عند شرحه لحديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً: ( تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها )، قال: فإذا كان هذا هو القرآن الذي كان هو علمهم كما قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، فما بالك بمن جاء بعدهم من الذين بدأت لغتهم تتغير، ووجد القرآن ولم يعلموه، فإن تفلت العلم في حق المتأخرين أعظم من تفلت العلم في حق المتقدمين، أو كما قال رحمه الله.

فهذا يدل دلالة واضحة أن العالم -لا أقول: العامي- لو صرف جهده فيما يدل على فهم القرآن من آلاته، مثل: آلة التفسير، وآلة المصطلح، وآلة البلاغة، وآلة العربية. لكان أولى، لكنه عندما يفرط في وقته، فإنه سوف يندم حين لا ينفع الندم، فهذا أبو العباس بن تيمية رحمه الله الذي فطر على نصرة دينه، ونبذ البدع، ومحاربة المشركين، والملحدين والمناطقة، فإنه حينما حبس في القلعة المعروفة كان كتابه فقط هو القرآن، فندم على ضياع وقته حينما لم يتأمل القرآن.

فأقول نصيحة لي، ونصيحة لكم، ونصيحة للناس الذين يقرءون هذا الكلام: لا نغفل عن كتاب الله سبحانه وتعالى تدبراً وتأملاً، وطريقة الاستدلال، فإن طريقة الاستدلال من أهم المهمات.

وكثيرون هم الذين يستدلون على بعض بدعهم بالقرآن، وقد قال من قال من السلف: رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه؛ لأنه يحتج على نفسه بالقرآن، والقرآن حجة عليه وليس حجة له؛ ولأجل هذا اهتم السلف رضي الله عنهم بالاستدلال؛ لأن طريقة الاستدلال بالقرآن معنىً ودرساً وعلماً ومن لم يحصله ولم يأخذه من معينه ومن أهله فإنه يضل حتماً، ولأجل هذا ضل من ضل من المتأخرين الذين جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بطرق ليست هي طريقة الوحيين، وأتوا باستنباطات ليست هي استنباطات سلف هذه الأمة.

وكان أول من اقتبس بعض هذه الشعب من شعب الضلال وشبه الملاحدة هو الصبي الذي قرأ: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:1-3]، فقال: كيف هذا؟ فلما ذهب إلى عمر رضي الله عنه، قال: ما معنى وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]؟ فعرف عمر أن هذا يريد أن يشكك في القرآن؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يشكك في القرآن، ولا يشكك في الذات الإلهية إلا أن يكون عنده مخزون من معرفة متأكدة، ومخزون من معرفة ضالة، فيجعل ما يستأنسه من معلومات ويستروح لها دليلاً لكي يشكك في القرآن، فأخذ عمر فضربه بالدرة حتى أغمي عليه، فلما أفاق أراد عمر أن يضربه مرة ثانية فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فأحسن قتلتي، وإن كنت تريد دوائي فقد شفيت، يعني: شفيت من هذه الشبهة، ويا ليت! لنا عشراً من درة عمر؛ لنقيم بها الطريق المعوج مثل الذي في كتب ومقالات بعضنا، وحملة الأقلام الذين ربما ضلوا وأضلوا.

لأجل هذا كانت هذه المحاضرة؛ لأننا وجدنا من يستدل أحياناً بالقرآن لأجل توجهات سياسية، أو يستدل بالقرآن لأجل توجهات اقتصادية، أو يستدل بالقرآن لأجل توجهات من الإعجاز والمبالغة في ذلك.

نعم! القرآن معجزة لكنه معجزة غيبية، ومعجزة بلاغية وهي أطول وأعظم من أن تكون معجزة علمية، بمعنى النظر إلى الطبيعة، فإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وكل معنى لم تعرفه العرب في لغتها وقت التنزيل، فليس هو المقصود والمراد من كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وإنما المقصود من تنزيله كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. فهذا هو الأساس الذي نزل لأجله القرآن هداية للخلق، هداية للبشرية، هداية للإنسانية.

نعم القرآن هداية عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ولو لم يأت من القرآن سوى أن قراءته نور وهداية واطمئنان كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] لكفى، ولأجل هذا فإن من كرم الله وجوده وإحسانه أن الإنسان لا يقبل على كتابه إلا أعطاه الله من النور، والاطمئنان والسكينة، والخضوع، والرضا أعظم ممن لا يتأمل ذلك النص، ولو كان الذي لم يتأمل ذلك النص أعظم عند الله من حيث الحسنات من ذلك الرجل.

ولهذا تجدون بعض الذين ضلوا من المبتدعة، وهم بعض الصوفية الذين خالفوا كتاب الله وسنة رسوله، وليسوا على منهج الصوفية السلفية، كما كان عليه المتقدمون من أهل العلم، تجدونهم حينما يقبلون على القرآن يقع فيهم من الرضا، والطمأنينة والسكينة وهم ضالون؛ لأن الله كريم، ومن كرمه أن الإنسان لا يقبل عليه إلا هداه الله الصراط المستقيم، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( ولئن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ولئن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ولئن أتاني يمشي أتيته هرولة ).

إننا نلاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الأخطاء في الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن يسعفنا الوقت لأن نذكر أخطاء الناس في الاستدلال بالسنة، ولكننا سنذكر أخطاء الناس في الاستدلال بالقرآن، والإنسان إذا لم يأخذ علم الاستدلال بالقرآن من معين صافٍ من أهل العلم، فإنه حتماً سوف يخطئ، ولو أعطي من العقل والذكاء ما أعطي.

أشار الإمام الشاطبي رحمه الله إلى أن أهل العلم كانوا يأخذون العلم عند علمائهم بالجثي على الركب، وعابوا على الإمام ابن حزم رحمه الله مع أنه جهبذ من أذكياء العالم، كما يقول ابن تيمية رحمه الله، إلا أنه قل جلوسه بين يدي أهل العلم الذين أخذوه عن غيرهم، وهؤلاء أخذوه عن غيرهم ، فأصبحت ثمة مدارس هي مدرسة العراق على طريقة ابن مسعود ، ومدرسة الحجاز على طريقة عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر ، ومدرسة أهل الشام على طريقة معاذ بن جبل ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

فعابوا على ابن حزم حينما أخطأ في طريقة الاستدلال فأنكر القياس، وعابوا عليه حينما أنكر ظواهر النصوص في ذات الله سبحانه وتعالى، وإن كان معظماً للكتاب والسنة إلا أنه حينما لم يأخذ هذا العلم من طريقه ومن معينه أخطأ، فإذا كان ابن حزم الذي كان حفظه للسنة معلوم، وتأمله للنصوص معلوم أخطأ في هذا، فما بالك بمن جاء بعدهم.

ولأجل هذا فإن مجرد استرواح النفس على معنى من المعاني من القرآن لا يلزم أن تكون هي الحق، ولو وافق معنى لغوياً في القرآن؛ حتى يكون على طرق أئمة السلف، وحتى يكون على طرق أئمة أهل العلم، وحتى يكون موافقاً لتفسير الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، ولهذا يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فإن من قال بما سنح في وحله، وخطر على باله، من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ؛ لأنه خالف طريق أهل العلم، ثم قال: ومن استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها فهو محمود.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2615 استماع
عبادة القلوب 2463 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2445 استماع
التأصيل العلمي 2088 استماع
عبادة القلب 2044 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1948 استماع
أعمال القلوب 1930 استماع
العبادة زمن الفتن 1927 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1863 استماع
الرزق الحلال وآثاره 1807 استماع