الإمام ابن القيم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, أما بعد:

أحبتي الكرام! إن كل أمة من الأمم تعتز بتاريخها, وتفخر ببطولات رجالها وأبنائها, وإن أحق أمم الأرض بهذا الاعتزاز وهذا الافتخار هي أمة الإسلام، وهذا بشهادة العليم الغفار، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110], وليست هذه الخيرية خيرية ذاتية ولا عرقية ولا قومية ولا عنصرية, ولكنها خيرية مستمدة من رسالتها؛ لتكون أمة الإسلام أمة الخلود والبقاء لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا.

هذه الأمة التي أنجبت على طول تاريخها رجالاً وأبطالاً, وأطهاراً وعباداً، حتى يقف التاريخ أمام سيرهم ومآثرهم وقفة إعزاز وإكبار وإجلال وإعظام وافتخار, وإن سماع سير الأبطال ربما يكون خيراً لنا من قراءة كثير من النصائح والتوجيهات, والمواعظ والكلمات، كما قال أبو حنيفة النعمان رحمه الله: نحن إلى قليل من سير الرجال أحوج منا إلى كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم.

فسير الرجال وحياة الأبطال تنسي النفس همومها, وتسري عن الروح غمومها، فبها بعد عون الله وتوفيقه تشرق القلوب وتزدان النفوس, فسيرتهم تعيد للإيمان في النفوس بهجته, وتظهر للقوم حجته؛ لأنهم عاشوا للشريعة الغراء، وتفانوا للملة السمحاء, ونصروا وأعزوا ملة صاحب الشفاعة والإسراء؛ لأن الأمة كانت قبلهم في سبات عميق, وفي حضيض من الجهل سحيق, فبعثه الله على فترة من المرسلين, وانقطاع من النبيين, فأقام الله به صلى الله عليه وسلم الميزان, وأنزل عليه القرآن, وفرق به بين الكفر والبهتان, فهو -بأبي وأمي- معصوم من الزلل, محفوظ من الخلل, سليم من العلل, عصم قلبه من الزيغ والهوى, فما ضل أبداً وما غوى, وما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى.

اسمه ونسبه وولادته

تعالوا بنا أحبتي الكرام! كي ندخل واحة أعلام أئمة الإسلام, وحديقة نبلاء الإيمان, كي نقطف باقة من عبير السير لذاك الجيل الذي خاف وادكر.

نعم! ذلك الجيل من سلف هذه الأمة الذي وحد ربه، وأخشع قلبه، وأنار بصيرته, وليس من الصعوبة أخي أن تختار حلوة من بين مجموعة من الحصى, أو زهرة في صحراء من الثرى, ولكن الصعوبة تكمن، والاختيار يصعب إذا أردت أن تصطفي زهرة من باقة, أو حلوة من مجموعة حلوى.

ولكن هذه الصعوبة وهذا العناء قد كفانيه الإخوة الذين وضعوا هذه المحاضرات وجعلوا الاختيار لهم, فجعلوني أتحدث عن إمام من أئمة الإسلام هو شمس الدين أبو الخيرات وأبو البركات محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن سعد بن حريز الزرقي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بـابن قيم الجوزية .

وأنا حين أتحدث عن هذا الإمام العظيم عن أي شيء أتحدث؟ أتحدث عن أسرته وما حباها الله سبحانه وتعالى وأعطاها ومنَّ عليها من فضائله وإنعامه، حتى غدت واحة من أئمة الإسلام, أم أتحدث عن هذا الإمام وعبادته وخضوعه وانتشاره بين يدي رب العزة والجلال, أم أتحدث عن قلمه السيال، وما فتح الله عليه من حقائق الإيمان, ومن أسرار القرآن ما لم يفتحه على أحد من بني جلدته ومن بني جنسه ومن أئمة الإسلام في زمانه, حتى شهد له الأئمة بهذا الأمر.

أم أتحدث عن اعتصامه بالكتاب والسنة في وقت كان التعصب على أشده, ففتح الله عليه ما لم يفتحه على أحد من قومه، من اعتصام بالكتاب والسنة، والاهتداء بهما، وترك ما سواهما؟

أم أتحدث عن نصرته للحق, ودعوته لإحياء سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وترك البدع ومحاربتها, أم أتحدث عن سلامة قلبه وخلقه ونبله حتى غدا ذلك يتحدث به الغادي والرائح؟

عن ماذا أتحدث أحبتي الكرام؟ ولكن علي أذكر نقاطاً، والحر تكفيه الإشارة.

بادئ ذي بدء أتحدث عن ولادته: فقد اتفقت كتب التراجم على أن تاريخ ولادته رحمه الله سنة 691هـ, وذكر تلميذه الصفدي أن ولادته في اليوم السابع من شهر صفر بعام 691هـ.

أما عن شهرته بــابن قيم الجوزية ، والمتأخرون يقولون: ابن القيم فذكر أهل العلم المؤرخون والذين كتبوا في ترجمته أن سبب شهرته بــابن قيم الجوزية هو أن والده أبو بكر بن أيوب الزرعي كان قيماً على المدرسة الجوزية الموجودة آنذاك بدمشق، فاشتهر بــقيم الجوزية ، واشتهرت ذريته وأبناؤه وأبناء أبنائه, بل وأبناء بناته بهذا اللقب.

والجوزية من أعظم مدارس الحنابلة بدمشق, نسبة إلى واقفها ابن الجوزي ، وهو يوسف بن أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي الواعظ الشهير المتوفى سنة 656هـ, والجوزي بالفتح نسبة إلى محلة بالبصرة، وقيل إلى الجوز وبيعه؛ لأن أحد أجداد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي كان يبيع الجوز في الشام, وقيل: إنما اسمه الجوزي بالضم نسبة إلى طير صغير بلسان أصفهان الفارسية.

وهذه المدرسة العريقة لا يزال محلها معروفاً إلى الآن بدمشق في حي البزورية, والفائدة من ذكر مثل هذه المدارس أمور عدة، منها:

أولاً: حتى يعرف الناس أن أهل العلم، وأن رجال الأعمال كانوا يعتنون أيما اعتناء بالأوقاف وبالمدارس لتعليم النشء كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم, فقد كان العلماء في القديم يتخرجون من المدارس التي يوقفها أصحابها, فلم يكن التدريس في حلقات العلم في المساجد فحسب, كما يتخيله الكثير من الناس.

والذي يطلع على كتب الأوقاف في القرون الزاهية في العلم يجد أن أهم مهمات هذه الأوقاف هي الأوقاف على المدارس؛ شافعية كانت أو حنبلية أو حنفية, وقد ذكر أهل العلم أن ابن الصلاح الشافعي حينما حاول جاهداً أن يخرج إشراف المدرسة النظامية من الآمدي الأصولي الأشعري قال: فتح مدرسة النظامية وترك قيمها -يعني بذلك الآمدي - خير لنا من فتح عكا, وهذا من شدة اهتمامهم بالمدارس؛ لأن المدارس هي التي تبث أنوار النبوة, وهي التي تبث أعلام أئمة الإسلام.

ثانياً: من فوائد المدارس التي كان ابن القيم قد تخرج منها: أن القوة العلمية لدى أهل العلم في القديم هو بسبب التأصيل العلمي منذ النشأة العلمية لدى الطالب منذ صغره, فتجده يتنقل بين الكتب, بل بين كتب أئمة المذهب من صغير إلى كبير إلى أكبر، حتى يترقى طالب العلم، ويعرف أسرار أئمة الإسلام في كتبهم, فيتخرج وهو يعرف صغار العلم قبل كباره, وهكذا الرباني, قال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79], قال: الرباني الذي يعلم صغار العلم قبل كباره, ولقد كان الأئمة منذ صغرهم يدرسون في هذه المدارس التي يوقفها رجال الأعمال يتعلمون كتب الإسلام شيئاً فشيئاً، حتى يترقى طالب العلم في سلم طلب العلم، ويكون إماماً يقتدى به.

ومن المؤسف أن الكثير منا ربما يشار إليه بالبنان بمعرفته باباً من أبواب العلم, أو صنفاً من صنوف كتب أئمة الإسلام, لكنك لو جلست وتحدثت معه عن صغار مسائل العلم ربما تجده لا يعرف ذلك, وما سببه إلا أن كثيراً من طلاب العلم, وكثيراً ممن يدرسون ويدرسون في الحلق لم يهتموا بتدرج طالب العلم بالتأصيل العلمي.

ثالثاً: أن الطالب في السابق كان يفهم ألفاظ ومعاني كلمات أئمة وشيوخ كل مذهب, وبالتالي تكون اللغة المتداولة بينهم مفهومة, أما في الوقت الحاضر فأصبح غالب الطلبة يتتلمذ على الصحيفة, ومن كان شيخه كتابه, كان خطؤه أكثر من صوابه.

رابعاً: سعة إدراك رجال الأعمال آنذاك، وتفانيهم لخدمة العلم وأهله, فنجد أن انتشار هذه الأوقاف مما ساعد على انتشار العلم وأهل العلم, وأما اليوم فأصبح الأفق لدى بعض رجال الأعمال في الأعمال الخيرية ضيقاً, فلا يفهمونه إلا ببناء المساجد وطباعة الكتب, وهيئات الإغاثة وتغسيل الموتى ونحو ذلك, وإن كان الأمر أصبح فيه نوع وضوح، لكن ما زلنا نحتاج إلى تثقيف أعلى وأعلى حتى تكون هناك أوقاف لموقع من منتديات الإسلام التي تنافح عن الإسلام وأهله, وتبث السنة وتحارب البدعة.

البيئة الأسرية لابن القيم

البيئة الأسرية لإمامنا ابن القيم رحمه الله: ينبغي لمن أراد أن يبحث عن سيرة عالم من العلماء أو جهبذ من الجهابذة, أو يطلع على سيرة أي شخص صالح أو طالح ألا ينسى البيئة الأسرية لدى هذا المترجم له؛ لأن الأسرة لها تأثير كبير في سلوك واهتمامات هذا المترجم له؛ عالماً كان أو عابداً أو فيلسوفاً أو مفكراً أو قائداً أو إماماً, ولهذا رأيت أن أطلع على البيئة الأسرية التي عاش فيها هذا الإمام الجهبذ رحمه الله, فهذه إلمامة كإلمامة الطيف على أسرة ابن القيم رحمه الله.

أولاً أبوه: أبوه هو أبو بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ، قال فيه ابن كثير في البداية والنهاية: هو الشيخ الصالح العابد الناسك أبو بكر بن أيوب بن سعد الدرعي الحنبلي، وأخطأ في هذا، ولعل هذا تطبيع ومن خطأ النساخ, فالصحيح أنه الزرعي وليس الدرعي, يقول ابن كثير : قيم الجوزية كان رجلاً صالحاً متعبداً قليل التكلم، وكان فاضلاً, وقد سمع شيئاً من دلائل النبوة على الرشيد العامري، توفي فجأة ليلة الأحد التاسع عشر من شهر ذي الحجة في المدرسة الجوزية نفسها, وصلي عليه بعد الظهر بالجامع، ودفن بباب الصغير، وقال: وكانت جنازته حافلة، وأثنى عليه الناس خيراً رحمه الله تعالى, وهو والد العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية صاحب المصنفات الكثيرة النافعة الكافية.

هذه الإشارة من ابن كثير رحمه الله تنبئك -وأنت خبير- على أن ابن القيم لم يكن خروجه بدعاً من سيرة, ولا بدعاً من تكلف, إنما خرج من مشكاة، إمام من أئمة الإسلام له قدم صدق في تربية النشء, ولا غرو في ذلك فقد استطاع أن ينشئ جيلاً من حنابلة زمانه، وقد كان هو بحد ذاته أمة واحدة, وسبب تسمية والده بـأبي بكر هو أنه في السابق وفي زمانهم كانوا يسمون بكنية الصالحين كما يقول أبو بكر, أبو خالد, أبو وليد أبو فلان، وهذا هو الصحيح من تسميته, فأبوه اسمه أبو بكر ، وليس هذا بكنية.

ثانياً: أما إخوته فهذا زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي بكر , وكان أصغر من إمامنا ابن القيم بسنتين, وشارك أخاه في أكثر شيوخه، ومن تلامذة أخيه الإمام المبجل عبد الرحمن بن رجب رحمه الله صاحب التصانيف الأعجوبات, كفتح الباري في شرح صحيح البخاري ، وكذا القواعد لمذهب الإمام أحمد .

وكذا ابنه عبد الله ، وكان عبد الله بن محمد مفرطاً في الذكاء والحفظ، وصلى بالناس حفظاً وهو ابن تسع سنين، وقد أطنب مترجموه في الثناء عليه علماً وصلاحاً وذكاء مفرطاً وغيرة على دين الله سبحانه وتعالى.

وهذا ابنه الثاني إبراهيم العلامة النحوي الفقيه المتفنن برهان الدين, وكان ثرياً صاحب مال عظيم استنفده في العلم والتحصيل.

وهذه البيئة تعطينا فائدة، وهي رسالة لأولياء الأمور ممن يريد أن يجعل أبناءه أئمة علم وتقوى, فالقدوة لها تأثير كبير في تعامل الفتى واهتمامه بعلياء الأمور دون سفاسفها, وتعطينا فائدة أخرى هي: أن العالم مهما انشغل في العلم والتحصيل والتعليم وقضايا الإصلاح فلا يمكن أن يشغله ذلك عن أهل بيته, فابن القيم الذي كان مشغولاً بالعلم والتأليف والتدريس لم يشغله ذلك عن أن يخرج لنا أئمة من أبنائه تتلمذوا عليه, وتسلموا التدريس والصدارة من بعده، كابنه عبد الله وابنه إبراهيم.

أخلاق ابن القيم

خامساً: أخلاق إمامنا: عرفنا من حياة والده أنه كان قيماً على المدرسة الجوزية, وأنه كان ذا علم وفضل ونبل في العلم والعبادة, ولا غرو أن يطبع هذا على أبنائه وفلذة كبده, ولم لا، وهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يرى هذه العبادة من والده, وهذا الاهتمام الحفي في الطلب والتعليم، فلا عجب إذاً إذا رأينا مترجميه يطبقون على أن ابن القيم هذا الإمام المترجم له إماماً حسن الخلق, لطيف المعاشرة، طيب السريرة, عالي الهمة، ثابت الجنان, واسع الأفق, معدود في الأكابر في السمت والصلاح, والعلم والفضائل والتهجد والتعبد.

قال فيه صاحبه وخليله ابن كثير في البداية: وكان حسن القراءة والخلق, كثير التودد، لا يحسد أحداً, ولا يؤذيهم، ولا يستعيبهم، ولا يحقد على أحد, وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة, وهذه الصفات وصفه بها لصيقه وخليله وصاحبه ابن كثير .

وقد كان يعتز بهذه الصحبة. يقول ابن كثير: وكنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه, يفتخر ابن كثير أن يكون هذا صاحبه، وهذه فائدة لطالب العلم إذا أراد أن يترقى في سلم الطلب فلينظر في أصدقائه، وفي خلّانه الذين يساميهم في العلم والترقي في الطلب، فإذا وجد طالب علم صاحب همة ضعيفة فليعلم أنه سوف يكون كذلك، وإذا رأى صاحبه صاحب همة عالية فإنه سوف يساميه ويشابهه، وهكذا كان ابن كثير رحمة الله تعالى على الجميع, وهذا ما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم, ذا تودد للخلق, وتسامح مع الزملاء, وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159], وطالب العلم خاصة والداعية الذي يكون حسن الخلق هذا بحد ذاته دعوة للخلق, لا ينبغي أن يحمل في قلبه حقداً ولا حسداً على أحد من المسلمين.

ولو فتشت أخي عن سيرة إمام من أئمة الإسلام, له قدم صدق في العلم والتعليم, وله وصمة حسنة في جبين التاريخ لرأيت أن من أهم مهمات صفاته سلامة قلبه وصدره على إخوانه المسلمين, هذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم ولم ينسبوا لي منه شيئاً, وحينما كان بينه وبين يونس الصدفي بعض الخلاف الذي يحصل مع الإخوة, أتى إليه الإمام الشافعي ولقيه وسلم عليه, وابتسم وهش إليه وبش, وقال: يا يونس ! ألا يستقيم أن نتصالح في بعض أمورنا وإن اختلفنا في بعض, فيجد يونس هذا الفضل والنبل من الإمام الشافعي ويقول: ما رأيت أعقل من الشافعي !

وهذا الإمام المبجل إمام أهل السنة والجماعة الذي يفتخر الواحد منا إذا قيل له: أنت على عقيدة من؟ قال بملء فيه: أنا على عقيدة أحمد بن حنبل رحمه الله, هذا الإمام لم يكن إماماً يقتدى به لأنه حفظ فقط ألف ألف حديث, ولا لأنه كتب كتابه المسند؛ بل لأنه يحمل في قلبه من المودة ومن الرحمة للخلق الشيء الكثير, اسمع كيف يصفه لنا ابنه صالح كما ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد رحمه الله. يقول: حينما خرج أبي من فتنة خلق القرآن وقد جلد لأجل ذلك ثمان وعشرين شهراً, يقول ابنه صالح : حتى إن كنت لأضع كفي على بعض فجوات ظهر أبي من شدة الضرب, يخرج إلى المسجد ولا يستطيع أن يتكئ على ظهره من شدة الألم ويجلس جلسة القرفصاء, والناس حوله يسألونه ويستفتونه, يقول ابنه صالح : وإذا رجل بعيد عن الحلقة, حسن البزة والهندام كأنه من أهل الشرط, قال: فلما خرج الناس ونفروا عن الإمام أحمد اقترب إليه وجثا على ركبته وطأطأ رأسه وقال: أبا عبد الله استغفر لي, قال: فرفع أبي رأسه وقال: مم ذاك؟ قال: كنت أحد الشرط الذين يضربونك على خلق القرآن, قال: فسكت أبي هنيهة وطأطأ رأسه ثم رفعها وقال: يا هذا! أحدث لله توبة, قلت: أبا عبد الله ما جئتك إلا تائباً من ذنبي, مستغفراً لربي، وأنا جئت أستسمحك, قال: فرأيت أبي قد طأطأ رأسه وإذا له نشيج وهو يبكي وقد خضبت لحيته دمعاً, وقال: قم قد غفرت لك، إني لا أحب أن يؤذى مسلم بسبـبي, إني جعلت كل من آذاني في حل إلا أهل البدعة!

هذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله اقتدى به غيره من أئمة الإسلام كـأبي العباس بن تيمية رحمه الله, حتى يصفه لنا ابن القيم رحمه الله فيقول في مدارج السالكين في سلامة القلب: ولم تر عيناي رجلاً حقق هذا الأصل -يعني: سلامة القلب- أعظم مما رأيت وشاهدت من شيخي أبي العباس بن تيمية , حتى لقد توفي ألد أعدائه إليه, وكان قد أرغمه وآذاه وسبب له دخوله السجن, قال: فلما هلك جئت إلى شيخي أبي العباس مستبشراً لهلاك هذا العدو, قلت: أبشر أبشر أبا العباس قد أهلك الله عدوك, قال: من؟ قلت: فلان ابن فلان, قال: اسكت. ثم استرجع وطأطأ رأسه يظهر الحزن على وجهه, ثم خرج واشترى بعض الحلوى وبعض الطعام والألبسة، ثم دخل على أهل الميت وعزاهم في ميتهم, وقال لهم: أنا لكم بمنزلة الوالد!

هذا إمامنا رحمه الله تأثر بمن تتلمذ عليه وهو أبو العباس بن تيمية ، وقبل ذلك محمد صلى الله عليه وسلم, وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

وعلى هذا يا طلبة العلم! من أحب أن يترقى في سلم هؤلاء الأئمة فليعرض جانباً، وليعرض صفحاً عن الكلام الذي يكون بين الأقران, فكلام الأقران يطوى ولا يروى, ويقول سعيد بن المسيب: كلام الأقران بعضهم في بعض كتناطح التيوس في الزريبة, وانظر إلى تناطح التيوس في الزريبة كيف يكون, وعلى هذا أخي! تتلمذ على جادة سلف هؤلاء الأئمة، وهؤلاء الذين اصطفاهم الله وأعلى مكانهم وشأنهم تكن من خير الناس.

واعلم أن سلوكك هذا الطريق، ومحاولة تبريره باسم الجرح والتعديل تارة, وباسم جادة سلف أهل العلم تارة, اعلم أنك به على وبال خطير، وأنك لست على جادة سلف هذه الأمة, وأما أئمة الإسلام فهم كما قال الله: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35], ولأجل انطباع هذه الأخلاق وهذه السير في ابن القيم اسمعه وهو يقول في مدارج السالكين: من أساء إليك، ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً, وتكل سريرته إلى الله كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو, فلما قدم جاءوا يعتذرون، فقبل أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله, انتهى كلامه رحمه الله.

ويقول أيضاً: فصل: المشهد السادس, مشهد السلامة وبرد القلب, وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى, وطلب الوصول إلى درك ثأره, وشفاء نفسه, بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه, فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه, فيكون بذلك مغبون، والرشيد لا يرضى بذلك, ويرى أنه من تصرفات السفيه, فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام, الله أكبر! كلام يكتب بماء الذهب, ويعطيك دلالة واضحة على أن أئمة الإسلام لم ينبلوا، ولم يرتفع صيتهم، ولم يرفع الله شأوهم بسبب ما نالوه من تعليم وتدريس فقط؛ بل بما نالوه من صفاء قلوبهم، وسلامة صدورهم للخلق, رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.

عبادة ابن القيم وزهده

أما عبادته وزهده فتعال معي يا طالب العلم! كي تعرف أن العلم بدون العبادة هباء, وأن الاجتهاد بدون انطراح بين يدي الخالق عناء, وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23], وأي دعوة تريد لها النجاح, وأي داعية يريد الصلاح والفلاح فعليه أن يدلف من باب الاستقامة، وبابها هو المحراب, وإذا ظن صاحب المتع والدنيوي أن جناته في دنياه وفي تجارته ونسائه فليعلم الداعية أن تجارته الحقيقية هي مع الله سبحانه وتعالى والانطراح بين يديه، هذا الإمام العابد الذي من اطلع على أي كتاب ترجم له رآه قد شهد له بهذا الفضل وهذا الكرم وهذا النبل.

يقول ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة المجلد الثاني صفحة أربعمائة وخمسين: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد, وطول صلاة إلى الغاية القصوى, وتأله ولهج بالذكر, وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله, والانكسار له, والانطراح بين يديه على عتبة العبودية، لم أشاهد مثله في ذلك, ولا رأيت أوسع منه علماً, ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله, وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين -يعني: أبا العباس بن تيمية- في المرة الأخيرة, ولم يخرج حتى مات شيخ الإسلام ، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن, بالتدبر والتفكير, ففتح عليه من ذلك خير كثير, وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة, وحج مرات كثيرة, وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه, انتهى كلام ابن رجب رحمه الله.

هذه السيرة ذكرها ابن رجب أحد تلاميذه, لكن أحد التلاميذ بطبيعة الحال قد يعجب ويتعجب من شيخه, وربما بالغ في المدح أكثر مما لو تحدث صاحبه وقريبه عنه, هذا ابن كثير الصاحب الخل الذي لازمه وتابع معه تتلمذه وطلبه للعلم, يقول في البداية والنهاية: لا أعرف في هذا العالم -اسمع الكلام الخطير- لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه, الله أكبر.

وكانت له طريقة في الصلاة؛ يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها, ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان, فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى, بل إن من يقرأ مؤلفات إمامنا ابن القيم رحمه الله خاصة كتاب مدارج السالكين يخرج بدلالة واضحة على أن لهذا الشيخ الجليل الكثير من عمارة القلب باليقين بالله, والافتقار إليه, والتبتل والخوف والخشية والخنوع والانكسار والانطراح بين يدي الله, حتى كان يقول كما ذكر ابن حجر في الدرر الكامنة: بالصبر والفقر تنال الإمامة في الدين, وكان يقول: لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه.

تواضع ابن القيم

أما تواضعه فلعلي أذكر فقط قصيدته في هضم نفسه وتواضعه رحمه الله، كما ذكر ذلك تلميذه الصفدي الذي أملى ابن القيم عليه, يقول:

بني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم

بني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم

بني أبي بكر غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علم

بني أبي بكر يروم ترقياً إلى جنة المأوى وليس له عزم

بني أبي بكر يرى الغرم في الذي يزول ويفنى والذي تركه الغنم

بني أبي بكر لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهم

بني أبي بكر كما قال ربه هلوع كنود وصفه الجهل والظلم

بني أبي بكر وأمثاله غدوا بفتواهم هذي الخليقة تأتم

وليس لهم في العلم باع ولا التقى ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم

فو الله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم

قارن أخي بين هذا التواضع العظيم وبين ما إذا سألت أحد طلاب العلم فوجدته يتكلم بكلام العظماء, قلت، وأنا، وهذا لا أستحبه, وأرجو ألا يكون به بأس, وهذا أكرهه، وأجد نفسي تعافه, وغير ذلك من المصطلحات التي ربما لو رآه إمام من أئمة الإسلام لحنق وغضب وقال له: لا تتزبب قبل أن تتحصرم -يعني: لا تكن زبيباً قبل أن تتحصرم، يعني: قبل الزبيب يكون هذا العنب الحامض- فلا بد من الترقي في سلم العلم والتقوى.

ومن المؤسف أيضاً أنك ربما تقرأ بعض كتب الناس من المعاصرين, فترى كلمات فجة, وعبارات عظيمة، ربما لا تصلح إلا لإمام من أئمة الإسلام, وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن علم هذا الشخص مدخول.

يقول ابن القيم رحمه الله: إذا رأيت قلبك لا يبكي عند قراءة القرآن, ولا يخشع عند الصلاة, ولا يبتهل لله سبحانه وتعالى فاعلم أن قلبك مدخول, وعلى هذا فينبغي لطالب العلم أن يتواضع في كلماته وفي مشيته وفي حديثه، ولا يتكلم كلام الكبار؛ لأن في ذلك مزلة الأقدام.

حج ابن القيم ومجاورته بمكة

حجات ابن القيم ومجاورته بمكة: كان أهل العلم يقولون: لا ينبغي لطالب العلم أن يتصدر للفتوى حتى يكثر من الرحلة في طلب العلم, وما ذاك إلا لأن الرحلة في طلب العلم تعطي طالب العلم انطباعاً عريضاً في فهم السنة وتطبيقها في واقع المجتمع, وطالب العلم الذي يكون متقوقعاً في بيئته وفي أسرته, أو في مجتمعه أو في حارته تجده يتحدث عن حارته, ويتحدث عن مجتمعه, ولا يتحدث ولا يفقه الواقع, ومعنى فقه الواقع: تطبيق الحكم الشرعي وتطبيقه على واقع الناس.

وكل عالم من أئمة الإسلام أكثر من الرحلة في طلب العلم؛ لأن الرحلة في طلب العلم تعطي طالب العلم سعة أفق، وإدراكاً أعظم مما يعطيه ترك الرحلة, وهذا ابن القيم يذكر مناسبات في رحلاته، خاصة مجاورته إلى مكة, منها تأليفه لكتابه مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، وقد ألفه مدة مقامه بمكة حرسها الله، فيقول في أواخر مقدمته: وكان هذا من بعض النزول والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته, وإلقاء نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً, وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً, فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلا, الله أكبر, لا يكاد يؤلف إلا وينطرح بين يدي رب العزة والجلال, يتفرغ للعبادة قبل أن يتفرغ للتأليف, ويسأل ربه أن يلهمه الصواب والفلاح والرشاد والسداد، وهذا مصداق ما أخبر به الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسيلم, كما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا علي ! قل: اللهم إني أسألك الهدى والسداد, واذكر بالسداد سدادك السهم, وبالهدى هدايتك الطريق ).

فهذا الإمام رحمه الله مع كثرة كتبه يسأل ربه أن يفتح الله عليه من محامده وثنائه ومن اطلاع العلم ما لم يفتح لأحد مثله، فحقق الله مراده, وكل من تواضع وانطرح بين يدي الله سبحانه وتعالى فسوف يفتح الله عليه, وهكذا كان شيخه أبو العباس بن تيمية رحمه الله يقول: وإذا عسر علي فهم آية فلا أزال أطلع حتى ربما اطلعت في تفسير آية مائة تفسير, فإذا لم يفتح الله علي فلا أزال أمرغ جبيني بين يدي الله سبحانه وتعالى كثرة استغفار وصلاة وتبتل وانكسار حتى يفتح الله علي شيئاً لا أكاد رأيته عن أحد من أئمة الإسلام.

استشفاء ابن القيم وتفاؤله

أما استشفاؤه رحمه الله بماء زمزم, فيقول كما في مفتاح دار السعادة: ولقد أصابني أيام مقامي بمكة أسقام مختلفة، ولا طبيب هناك ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم, ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً، وهذه فائدة يستفيد منها طالب العلم, وهي قضية مجربة، وهو الاستشفاء بالعسل وبماء زمزم.

أما تعالجه بالرقية وشرب ماء زمزم فيقول في مدارج السالكين في معرض كلامه عن الرقية: لقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أموراً عجيبة, ولا سيما مدة المقام بمكة, فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني, وذلك في أثناء الطواف وغيره, فأبادر إلى قراءة الفاتحة, وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدة، ومن المؤسف أن الإنسان إذا أصيب بزكام أو أصيب بصداع قال: هذا من العين الذي أصابني به فلان, وهذا كله بسبب الجن أو بسبب كذا, وربما بحث أياماً وليالي وشهوراً عله يجد أحداً يرقيه، ويترك رقيته لنفسه، ورقيته لنفسه مع الاعتصام والتوكل والإلحاح ربما تكون أعظم من ذهابه لأصحاب الرقى.

أيضاً تفاؤله رحمه الله وهو منقطع عن الناس, حينما ظل وضاع ابنه زمن حجته في يوم التروية؛ لأن ابن القيم رحمه الله حج فلما حج ضاع ابنه يوم التروية, وضاق ذرعاً أهله وزوجه في ذلك, أما ابن القيم رحمه الله المتعلق بالله سبحانه وتعالى -وقد فعل الأسباب- فكان متفائلاً أشد التفاؤل بالله سبحانه وتعالى, وقد أشار رحمه الله في زاد المعاد إلى أن العبد ينبغي أن يتفاءل في أموره، وأن يحسن الظن بالله, ولا يكون ظنه كظن أهل الجاهلية.

يقول رحمه الله في مفتاح دار السعادة: وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك, وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بمكة وكان طفلاً، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن, فلم أقدر له على خبر, فأيست منه، فقال لي إنسان: إن هذا عجز -الله أكبر يا إخوان! أحياناً العالم يستفيد من صغير, بل من جاهل، بل من رجل ربما لا يكتب ولا يحسن الكتابة, يقول: فقال لي إنسان مجهول لا يعلم، لكنه يستفيد منه, فالحكمة ضالة المؤمن- هذا عجز، اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه, فركبت فرساً، فما هو إلا أن استقبلت جماعة يتحدثون في سواد الليل في الطريق وأحدهم يقول: ضاع لي شيء فلقيته, فلا أدري انقضاء كلمتي أسرع أم وجود الطفل مع بعض أهل مكة في محمله عرفته بصوته.

هذه فوائد أحببت أن اذكرها لك علك أن تعرف فوائد الرحلة في طلب العلم, فالإنسان ربما يفتح الله عليه في بعض المواطن والأزمان والأمكنة ما لا يفتح لأحد.

شغف ابن القيم بالعلم وبراءته من التعصب

أما غرام ابن القيم في كتبه, فـابن القيم معروف لدى كل من ترجم له أنه صاحب التصانيف وصاحب الكتب العظيمة, يقول تلميذه ابن رجب: وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه واقتناء الكتب, واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره, وكذا ذكر ذلك ابن كثير , وكذا القنوجي صديق خان , وكذا ابن العماد ، وكذا الحافظ ابن حجر ، ولا أطيل عليك.

أما مذهب ابن القيم, فـابن القيم رحمه الله موصوف بأنه من أئمة الحنابلة، غير أن حنبليته هذه لم تؤثر فيه في اعتصامه بالكتاب والسنة, فهو وإن كانت أصوله على مذهب الإمام أحمد إلا أنه بعد التأني والتحري والتثبت والتؤدة في بحثه للمسائل وعدم النظرة السطحية تجده يقتنص هذا الدليل ويعتمد عليه، ولا يبالي بعد ذلك من خالفه, وبعض طلاب العلم أو بعض صغار الطلبة حين ترقيهم يسمع كلام ابن القيم رحمه الله حين يقول: والذي أدين الله به وأرى أن غيره لا يحل لي مخالفته هو أن آخذ بكذا وكذا, فيأتي طالب العلم فيأخذ هذه اللفظة ويقول: الذي أدين الله به هو فعل كذا وكذا, ولا ينبغي لطالب العلم أن يصنع هذا.

فإذا حصل طالب العلم على تكامل في الشخصية العلمية من معرفة في اللغة, ومعرفة في الحديث، ومعرفة في أسرار البلاغة, ومعرفة في الفقه, ومعرفة في الأصول، حتى يكون قد اشتد باعه, واشتد عوده في الطلب، فحينئذ يستطيع أن يختار ما يختار من الأقوال, أما وهو ما زال حصراً فإنه لا ينبغي له أن يخالف أئمته وشيوخه؛ لأن في مخالفتهم العطب، وكثرة الاعتداد بالرأي.

ابن القيم رحمه الله لم يعتمد على الدليل إلا بعد أن ترقى شيئاً فشيئاً في الطلب حتى اشتد عوده في طلب العلم, اسمعه وهو يقول في مناشدة الدليل مع احترامه لأئمة الإسلام, كما في أعلام الموقعين المجلد الرابع صفحة مائة وسبع وسبعين يقول: وكثيراً ما ترد المسألة, نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده, فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ونقول: هذا هو الصواب, وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق, يرجح ثم تنتهي المسألة, أما أن يكون همه الرد على الرد, ورد الرد على الرد فلا, فبهذا تضيع الأعمار، يكون همه فقط الرد على فلان, إذ لم يهتم بهذا الدليل، وقد قامت كتب أئمة الإسلام في أقوالهم وعلمهم على ذكر المسألة عرضاً، ثم يذكرون القول الراجح ويردون على

تعالوا بنا أحبتي الكرام! كي ندخل واحة أعلام أئمة الإسلام, وحديقة نبلاء الإيمان, كي نقطف باقة من عبير السير لذاك الجيل الذي خاف وادكر.

نعم! ذلك الجيل من سلف هذه الأمة الذي وحد ربه، وأخشع قلبه، وأنار بصيرته, وليس من الصعوبة أخي أن تختار حلوة من بين مجموعة من الحصى, أو زهرة في صحراء من الثرى, ولكن الصعوبة تكمن، والاختيار يصعب إذا أردت أن تصطفي زهرة من باقة, أو حلوة من مجموعة حلوى.

ولكن هذه الصعوبة وهذا العناء قد كفانيه الإخوة الذين وضعوا هذه المحاضرات وجعلوا الاختيار لهم, فجعلوني أتحدث عن إمام من أئمة الإسلام هو شمس الدين أبو الخيرات وأبو البركات محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن سعد بن حريز الزرقي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بـابن قيم الجوزية .

وأنا حين أتحدث عن هذا الإمام العظيم عن أي شيء أتحدث؟ أتحدث عن أسرته وما حباها الله سبحانه وتعالى وأعطاها ومنَّ عليها من فضائله وإنعامه، حتى غدت واحة من أئمة الإسلام, أم أتحدث عن هذا الإمام وعبادته وخضوعه وانتشاره بين يدي رب العزة والجلال, أم أتحدث عن قلمه السيال، وما فتح الله عليه من حقائق الإيمان, ومن أسرار القرآن ما لم يفتحه على أحد من بني جلدته ومن بني جنسه ومن أئمة الإسلام في زمانه, حتى شهد له الأئمة بهذا الأمر.

أم أتحدث عن اعتصامه بالكتاب والسنة في وقت كان التعصب على أشده, ففتح الله عليه ما لم يفتحه على أحد من قومه، من اعتصام بالكتاب والسنة، والاهتداء بهما، وترك ما سواهما؟

أم أتحدث عن نصرته للحق, ودعوته لإحياء سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وترك البدع ومحاربتها, أم أتحدث عن سلامة قلبه وخلقه ونبله حتى غدا ذلك يتحدث به الغادي والرائح؟

عن ماذا أتحدث أحبتي الكرام؟ ولكن علي أذكر نقاطاً، والحر تكفيه الإشارة.

بادئ ذي بدء أتحدث عن ولادته: فقد اتفقت كتب التراجم على أن تاريخ ولادته رحمه الله سنة 691هـ, وذكر تلميذه الصفدي أن ولادته في اليوم السابع من شهر صفر بعام 691هـ.

أما عن شهرته بــابن قيم الجوزية ، والمتأخرون يقولون: ابن القيم فذكر أهل العلم المؤرخون والذين كتبوا في ترجمته أن سبب شهرته بــابن قيم الجوزية هو أن والده أبو بكر بن أيوب الزرعي كان قيماً على المدرسة الجوزية الموجودة آنذاك بدمشق، فاشتهر بــقيم الجوزية ، واشتهرت ذريته وأبناؤه وأبناء أبنائه, بل وأبناء بناته بهذا اللقب.

والجوزية من أعظم مدارس الحنابلة بدمشق, نسبة إلى واقفها ابن الجوزي ، وهو يوسف بن أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي الواعظ الشهير المتوفى سنة 656هـ, والجوزي بالفتح نسبة إلى محلة بالبصرة، وقيل إلى الجوز وبيعه؛ لأن أحد أجداد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي كان يبيع الجوز في الشام, وقيل: إنما اسمه الجوزي بالضم نسبة إلى طير صغير بلسان أصفهان الفارسية.

وهذه المدرسة العريقة لا يزال محلها معروفاً إلى الآن بدمشق في حي البزورية, والفائدة من ذكر مثل هذه المدارس أمور عدة، منها:

أولاً: حتى يعرف الناس أن أهل العلم، وأن رجال الأعمال كانوا يعتنون أيما اعتناء بالأوقاف وبالمدارس لتعليم النشء كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم, فقد كان العلماء في القديم يتخرجون من المدارس التي يوقفها أصحابها, فلم يكن التدريس في حلقات العلم في المساجد فحسب, كما يتخيله الكثير من الناس.

والذي يطلع على كتب الأوقاف في القرون الزاهية في العلم يجد أن أهم مهمات هذه الأوقاف هي الأوقاف على المدارس؛ شافعية كانت أو حنبلية أو حنفية, وقد ذكر أهل العلم أن ابن الصلاح الشافعي حينما حاول جاهداً أن يخرج إشراف المدرسة النظامية من الآمدي الأصولي الأشعري قال: فتح مدرسة النظامية وترك قيمها -يعني بذلك الآمدي - خير لنا من فتح عكا, وهذا من شدة اهتمامهم بالمدارس؛ لأن المدارس هي التي تبث أنوار النبوة, وهي التي تبث أعلام أئمة الإسلام.

ثانياً: من فوائد المدارس التي كان ابن القيم قد تخرج منها: أن القوة العلمية لدى أهل العلم في القديم هو بسبب التأصيل العلمي منذ النشأة العلمية لدى الطالب منذ صغره, فتجده يتنقل بين الكتب, بل بين كتب أئمة المذهب من صغير إلى كبير إلى أكبر، حتى يترقى طالب العلم، ويعرف أسرار أئمة الإسلام في كتبهم, فيتخرج وهو يعرف صغار العلم قبل كباره, وهكذا الرباني, قال الإمام البخاري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79], قال: الرباني الذي يعلم صغار العلم قبل كباره, ولقد كان الأئمة منذ صغرهم يدرسون في هذه المدارس التي يوقفها رجال الأعمال يتعلمون كتب الإسلام شيئاً فشيئاً، حتى يترقى طالب العلم في سلم طلب العلم، ويكون إماماً يقتدى به.

ومن المؤسف أن الكثير منا ربما يشار إليه بالبنان بمعرفته باباً من أبواب العلم, أو صنفاً من صنوف كتب أئمة الإسلام, لكنك لو جلست وتحدثت معه عن صغار مسائل العلم ربما تجده لا يعرف ذلك, وما سببه إلا أن كثيراً من طلاب العلم, وكثيراً ممن يدرسون ويدرسون في الحلق لم يهتموا بتدرج طالب العلم بالتأصيل العلمي.

ثالثاً: أن الطالب في السابق كان يفهم ألفاظ ومعاني كلمات أئمة وشيوخ كل مذهب, وبالتالي تكون اللغة المتداولة بينهم مفهومة, أما في الوقت الحاضر فأصبح غالب الطلبة يتتلمذ على الصحيفة, ومن كان شيخه كتابه, كان خطؤه أكثر من صوابه.

رابعاً: سعة إدراك رجال الأعمال آنذاك، وتفانيهم لخدمة العلم وأهله, فنجد أن انتشار هذه الأوقاف مما ساعد على انتشار العلم وأهل العلم, وأما اليوم فأصبح الأفق لدى بعض رجال الأعمال في الأعمال الخيرية ضيقاً, فلا يفهمونه إلا ببناء المساجد وطباعة الكتب, وهيئات الإغاثة وتغسيل الموتى ونحو ذلك, وإن كان الأمر أصبح فيه نوع وضوح، لكن ما زلنا نحتاج إلى تثقيف أعلى وأعلى حتى تكون هناك أوقاف لموقع من منتديات الإسلام التي تنافح عن الإسلام وأهله, وتبث السنة وتحارب البدعة.