شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [7]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب ما يجزئ من الماء في الوضوء.

حدثنا محمد بن كثير حدثنا همام عن قتادة عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد).

قال أبو داود : رواه أبان عن قتادة قال: سمعت صفية ].

هذا ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ: (كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد)، وهذا فيه مشروعية الاقتصاد في الماء.

والمد: ملء كفي الرجل المتوسط اليدين خلقة إذا مد يديه؛ ولهذا تسمى مد، يملؤه ثم يمد يديه، والصاع أربعة أمداد، فالمد حفنة، والصاع أربع حفنات، كل حفنة ملء كفي الرجل المتوسط.

والصاع أربعمائة وثمانون مثقالاً، والمثقال اثنتان وسبعون حبة شعير، هكذا قدرت، فالضابط: أن الصاع أربع حفنات، كل حفنة ملء كفي الرجل المتوسط، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد).

وجاء: أنه عليه الصلاة والسلام توضأ بثلث المد كما سيأتي، واغتسل هو وبعض أزواجه في إناء يسع ثلاثة آصع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا هشيم قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد) ].

وهذا الحديث ضعيف؛ لأن يزيد بن أبي زياد هذا ضعيف، لكن الحديث ثابت رواه الشيخان وغيرهما بلفظ: (كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، إلى خمسة أمداد).

قال في التقريب: يزيد بن أبي زياد ضعيف، كبر فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً.

فهو ضعيف، لكن الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن حبيب الأنصاري قال: سمعت عباد بن تميم عن جدته وهي أم عمارة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فأتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد) ].

وهذا أقل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ به، ثلثي المد، والمد: ملء كفي الرجل المتوسط، وهذا فيه مشروعية الاقتصاد بالماء، وعدم الإسراف والإكثار، وأنه يتوضأ بالمد وبثلثي المد فإنه مع التبليغ يكفي.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا شريك عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن جبر عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بإناء يسع رطلين، ويغتسل بالصاع) .

قال أبو داود : ورواه شعبة قال: حدثني عبد الله بن عبد الله بن جبر سمعت أنساً إلا أنه قال: (يتوضأ بمكوك) ولم يذكر (رطلين) ].

والمكوك: هو المد، فكان عليه الصلاة والسلام يتوضأ بالمد إلى خمسة أمداد، يعني: يغتسل بخمسة مكاكيك.

قال في ضبط المكوك: بفتح الميم وضم الكاف الأولى وتشديدها، جمعه مكاكيك ومكاكي، ولعل المراد بالمكوك هاهنا: المد، قاله النووي .

وقال ابن الأثير : أراد بالمكوك: المد، وقيل: الصاع، والأول أشبه، وجمعه: المكاكي، بإبدال الياء من الكاف الأخيرة، والمكوك: اسم من المكيال، ويختلف مقداره باختلاف الاصطلاح في البلاد. انتهى.

قلت: المراد بالمكوك هاهنا: المد لا غير؛ لأنه جاء في حديث آخر مفسراً بالمد.

قال القرطبي : الصحيح: أن المراد به هاهنا المد؛ بدليل الرواية الأخرى.

وقال الشيخ وليد بن عراقي في صحيح ابن حبان في آخر الحديث: قال أبو خيثمة : المكوك: المد.

وزاد النسائي : (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمكوك، ويغتسل إلى خمس أمداد)، وفي الحديث الذي رواه مسلم : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بمكوك) .

وهذا ثابت في الصحيحين: (كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد)، والمكوك: هو المد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو داود : ورواه يحيى بن آدم عن شريك قال: عن ابن جبر بن عتيك قال: ورواه سفيان عن عبد الله بن عيسى قال: حدثني جبر بن عبد الله .

قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول: الصاع: خمسة أرطال. قال أبو داود : وهو صاع ابن أبي ذئب ، وهو صاع النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: الإسراف في الوضوء.

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا سعيد الجريري عن أبي نعامة : أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني! سل الله الجنة، وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء) ].

والاعتداء في الدعاء: أن يكون السؤال فيه تعنت، وسؤال ما لا يليق به أن يسأله، والسؤال بإثم أو قطيعة رحم، أو كأن يسأل منازل الأنبياء، هذا من الاعتداء، قال عز وجل: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، وهذا من الاعتداء، وكقوله: اللهم إني أسألك القصر الأبيض إذا دخلت الجنة، هذا أيضاً من الاعتداء؛ ولهذا أنكر عليه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، وقال: (سل الله الجنة، واستعذ به من النار)، وإذا دخلت الجنة حصلت على كل خير، فمن دخل الجنة فله الكرامة وله النعيم.

فلا ينبغي للإنسان أن يعتدي فيقول: أسألك كذا وكذا، أو أسألك منازل الأنبياء، هذا اعتداء وعدوان، أو يدعو بإثم أو قطيعة رحم، هذا من العدوان.

وكذلك الاعتداء في الطهور في الإسراف، ومجاوزة الثلاث في غسل الأعضاء، أو الإكثار من صب الماء.

قال في تخريجه: صحيح أخرجه ابن ماجة وأحمد وابن حبان في صحيحه.

وله شواهده من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55] .

فلا ينبغي للإنسان أن يعتدي، وإنما يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، ولا يتجاوز الحد، ولا يدع على غير من ظلمه، ولا يدع بإثم ولا بقطيعة رحم، ولا يسأل شيئاً لا يليق به أن يسأله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب في إسباغ الوضوء.

حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً وأعقابهم تلوح فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء) ].

وهذا فيه الوعيد على من لم يسبغ أعضاء الوضوء.

وجاء في الرواية الأخرى: (أن الصحابة أرهقتهم الصلاة فتأخروا، فجعلوا يسرعون في الوضوء، فجاء إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ورأى أعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار) وفي لفظ: (ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار، أسبغوا الوضوء).

وإسباغ الوضوء يعني: إكماله وإبلاغه، وإيصال الماء إلى الأعضاء من دون إسراف.

وهذا الحديث رواه الشيخان بسند آخر.

قال المنذري في هذا الحديث: وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة ، واتفق البخاري ومسلم على إخراجه عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو بنحوه.

و(ويل) قيل: إنه وادٍ في جهنم، لكن هذا قول ضعيف، والصواب: أنه شدة العذاب والهلاك، وقيل: إنه وادٍ في جهنم بعيد قعره، خبيث طعمه، هذا جاء لكنه لا يثبت.

ولا شك أنه لا يجوز المسح على النعلين إلا إذا كان على وضوء، وثبت عن علي رضي الله عنه: أنه مسح على نعليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث. فإذا كان على وضوء ولم يحدث يجدد الوضوء ويمسح على النعلين.

وهذا الوعيد الذي مر مثل: (ما أسفل من الكعبين ففي النار)، يعني: أنه يعاقب في هذا الموضع، لكن المعلوم أن الإنسان يتألم، كما في الحديث الآخر: (كمثل الجسد الواحد إذا تألم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

فإذا أصيب شيء من جسم الإنسان فإنه يتألم بقية الجسم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الوضوء في آنية الصفر.

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرني صاحب لي عن هشام بن عروة : أن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في تور من شبه) ].

التور: آنية مثل الطست أو أقل من الطست، والشبه: الصفر، سمي (شبه) لأنه يشبه الذهب في البريق واللمعان، والحديث منقطع؛ لأن هشام بن عروة لم يسمع من عائشة ، وكذلك فيه رجل مبهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن العلاء أن إسحاق بن منصور حدثهم عن حماد بن سلمة عن رجل عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ].

وهذا متصل؛ لأن هشام بن عروة رواه عن أبيه، لكن بقي فيه رجل مبهم، قيل: إن هذا الرجل المبهم هو شعبة ، وعلى هذا فلا إشكال، والحديث متصل.

وهذا يدل على أن جواز الوضوء في إناء النحاس، ومثله الإناء من الزجاج أو من حجر أو من معدن أو من حديد، إلا الذهب والفضة فإنه لا يجوز للمسلم أن يتوضأ بها رجلاً كان أو امرأة، أما المرأة فإنها تتحلى بالذهب والفضة، تتحلى في يديها وفي رجليها وفي أصابعها، وما عدا ذلك فالرجل والمرأة سواء، لا يجوز للرجل والمرأة أن يشربا من آنية الفضة، ولا أن يتوضأ أحدهما بهما، ولا أن يجعلا مكحلاً من ذهب أو فضة، أو نظارة من الذهب أو الفضة، والرجل لا يستعمل الذهب، والمرأة لا بأس أن تستعمل الذهب؛ لأن هذا من باب التحلي.

والمقصود: أنه لا بأس بالوضوء من أي إناء سواء كان من النحاس، كما في هذا الحديث، فإنه عليه الصلاة والسلام توضأ في إناء من شبه الصفر، وسمي شبه لأنه يشبه الذهب في اللون، فلا بأس أن يتوضأ الإنسان ويشرب من إناء صفر أو حديد أو معدن أو زجاج أو حجر أو خشب إلا الذهب والفضة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو الوليد وسهل بن حماد قالا: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: (جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور من صفر فتوضأ) ].

والصفر: النحاس،استدل بهذا على أنه لا بأس بالوضوء من إناء النحاس.

قال في تخريجه: أخرجه البخاري وابن ماجة وأحمد.

[ باب في التسمية على الوضوء.

حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا محمد بن موسى عن يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ].

وهذا الحديث ضعيف؛ لأن يعقوب بن سلمة هذا فيه كلام، ولم يسمع من أبيه، وكذلك أبوه لم يسمع من أبي هريرة ، وكذلك الأحاديث التي في التسمية في الوضوء كلها ضعيفة؛ ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن التسمية مستحبة.

وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى وجوب التسمية عند الوضوء، ورأى أن أحاديث التسمية وإن كانت ضعيفة إلا أنها يشد بعضها بعضاً، ويقوي بعضها بعضاً، فتكون من باب الحسن لغيره، وذهب إلى هذا الحافظ ابن كثير رحمه الله أيضاً في كتاب الإرشاد، وفي كتاب التفسير، وكذلك الحافظ ابن حجر وابن الصلاح قالوا: إن الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، وقالوا: وإن كان كل فرد منها ضعيفاً إلا أنه يقوي بعضها بعضاً؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن التسمية واجبة مع الذكر، وإذا نسي فلا حرج، لكن مع التذكر يجب عليه أن يسمي.

والجمهور على أن التسمية مستحبة؛ لأن الأحاديث فيها ضعيفة، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن يعقوب هذا فيه كلام، ولم يسمع من أبيه، وكذلك أبوه لم يسمع من أبي هريرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن الدراوردي قال: وذكر ربيعة : أن تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه): أنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءاً للصلاة ولا غسلاً للجنابة ].

وتأويل ربيعة هذا ضعيف مخالف لظاهر الحديث، فقوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) فسره ربيعة بأن الذي لا ينوي الوضوء لا وضوء له، والذي لا ينوي الغسل لا غسل له، وهذا صحيح، لكن ليس هذا معنى الحديث، فتفسير التسمية بالنية من ربيعة هذا تفسير ضعيف مخالف لظاهر الحديث، فالحديث فيه التسمية؛ فإنه قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله) أي: لا وضوء لمن لم يسم.

أما تأويله التسمية بأنها من النية، وأن المعنى: لا وضوء لمن لم ينو الوضوء، ولا غسل لمن لم ينو الغسل، فليس بظاهر، وكونه إذا اغتسل ونوى التبرد ولم ينو الوضوء لا غسل له، وإذا غسل أعضاءه ولو كان مرتين وهو لم ينو الوضوء لا وضوء له، نعم هذا صحيح، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، لكن تفسير التسمية بالنية في هذا الحديث ليس بظاهر.

و ربيعة المذكور هنا هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، المشهور بربيعة الرأي.

قال في تخريجه: هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ المعروف بـربيعة الرأي ، وثقه العجلي وأبو حاتم والنسائي ، وقال يعقوب بن شيبة : ثقة ثبت، أحد مفتي المدينة.

وقال مصعب بن الزبير : أدرك بعض الصحابة والأكابر من التابعين، وكان صاحب الفتوى في المدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس في المدينة، وكان يحصى في مجلسه أربعون معتماً، قال مطرف : سمعت مالكاً يقول: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة .

وقال عبد العزيز بن أبي سلمة : يا أهل العراق! تقولون: ربيعة الرأي ! والله! ما رأيت أحداً أحفظ للسنة منه.

مات سنة مائة وست وثلاثين في المدينة أو في الأنبار.

وهو الشيخ الإمام ابن مالك رحمه الله، لكن تأويله هذا ليس بوجيه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها.

حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي رزين بن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده) ].

وهذا رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه النهي عن غسل اليد في الإناء من القائم من نوم الليل، والنهي للتنزيه عند الجمهور، وعند غيرهم للتحريم؛ لأن هذا هو الأصل، ولا يصرف عن التحريم إلا بدليل، أما الجمهور فإنهم حملوه على التنزيه، وهذا خاص بالقائم من نوم الليل؛ لقوله: (لا يدري أين باتت يده)؛ لأن البيتوتة إنما تكون في الليل.

أما من استيقظ من نوم النهار وكذلك غير النائم فلا ينهى عنه، لكن يستحب له أن يغسلها ثلاثاً قبل أن يدخلها في الإناء، كما جاء في حديث عمران وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه غسل يديه ثلاث مرات)، لكن من نوم الليل، فيجب عليه أن يغسلها ثلاثاً على الصحيح، ويحرم أن يدخلها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، وإن كان الجمهور يرون أنه للتنزيه، وأن الأمر للاستحباب.

وإذا غمس يده في الإناء فلا ينجس الماء على الصحيح، وقيل: ينجس.

والصواب: أنه لا ينجس، ولا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه، فإذا كانت في يده نجاسة وتغير أحد أوصافه ينجس، وإلا فلا ينجس؛ لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الماء الطهور لا ينجسه شيء).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: بهذا الحديث- قال: (مرتين أو ثلاثاً) ولم يذكر أبا رزين ].

يعني: يغسل يده مرتين أو ثلاثاً، والصواب: أنه يغسلها ثلاثاً.

قال في تخريجه: رواه أحمد، والبخاري في الوضوء باب الاستجمار وتراً، ومسلم في الطهارة، وابن ماجة والترمذي والنسائي .

وكونه يغسلها ثلاثاً ثم يتوضأ هذا يستحب في كل وضوء ثلاثاً، لكن يتأكد عند الاستيقاظ من نوم الليل.

فالغسل هذا مستحب، فقبل أن يتوضأ يغسلها ثلاثاً حتى ولو من غير نوم الليل، لكن في نوم الليل الأفضل أن يغسلها ثلاثاً، يعني: الغسل المطلوب، حتى لو لم يكن يريد أن يغسلهما؛ لأنه قد يحتمل أن يكون فيهما أذى، فلو لم يغسلهما وتوضأ وفيهما بعض الأذى فقد يكون فيهما نجاسة، وقد يكون أصابه دم من بعض الحشرات، قال بعضهم عن أهل الحجاز: إنهم يستجمرون والبلاد حارة، وربما أصابت يده دبره، المقصود: أنه يغسلها ثلاثاً حتى ولو لم يرد؛ لتنظيفها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ومحمد بن سلمة المرادي قالا: حدثنا ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي مريم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، أو أين كانت تطوف يده) ].

والبيتوتة إنما تكون في الليل.

قال في تخريجه: إسناده صحيح.