شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [10]


الحلقة مفرغة

شرح حديث المغيرة في مسح رسول الله على خفيه

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب المسح على الخفين.

حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني عباد بن زياد أن عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أنه سمع المغيرة رضي الله عنه يقول: (عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم فتبرز، ثم جاء فسكبت على يده من الإداوة فغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم حسر عن ذراعيه فضاق كُمَّا جبته فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة، فغسلهما إلى المرفق، ومسح برأسه، ثم توضأ على خفيه ثم ركب) ].

يعني: توضأ وعليه خفان ولم يخلعهما، قال صاحب عون المعبود: أي: مسح على خفيه كما في عامة الروايات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف ، فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، ففزع المسلمون فأكثروا التسبيح؛ لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: قد أصبتم أو قد أحسنتم) ].

هذا الحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله، والترمذي والنسائي . وفيه: أنه مسح على خفيه، ولم يقل: توضأ على خفيه، وليس فيه أنه سبح الناس.

والحديث فيه فوائد كثيرة أهمها: مشروعية المسح على الخفين، وأن المسح على الخفين سنة، وفيه: الرد على الرافضة الذين يمنعون المسح على الخفين، فإن الرافضة لا يرون المسح على الخفين، بل يجب عندهم خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، وإذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه يمسح ظاهر القدمين كما يمسح الرأس، فيبل يده ويمسح القدمين، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الأحاديث متواترة، والصحابة الذين رووا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وغسله ومسحه أكثر عدداً من الذين نقلوا نص الآية وهي آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، فالأحاديث متواترة في ذلك.

قال الإمام أحمد: رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعون صحابياً.

ومع ذلك أنكرت الرافضة هذه السنة المتواترة، ولهذا يذكرها العلماء في كتب العقائد، فيقولون: ونرى المسح على الخفين، ويقصدون من هذا الرد على الرافضة الذين أصبحت مسألة منع المسح على الخفين عقيدة عندهم، وإلا فإن المسح على الخفين مسألة فرعية تذكر في كتب الفروع، لكن يذكرها العلماء في كتب العقائد من أجل الرد على الرافضة الذين صارت لهم عقيدة، فهم يعتقدون أنه لا يجوز المسح على الخفين، وأنه يجب خلعهما ومسح ظهور القدمين، يعني: يجب مسح ظهور القدمين على كل حال، فإن كانت الرجلان مكشوفتين مسحوا ظهور القدمين، وإن كانت الرجلان فيهما خفان وجب خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، هكذا عند الرافضة، والرافضة فرقة ضالة، نسأل الله السلامة والعافية.

والحديث فيه من الفوائد أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر ليس رباً ولا إلهاً، فيصيبه ما يصيب البشر، ويأكل ويشرب، ويبول ويتغوط، ولهذا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته يتبرز، وليس هو نوراً كما يقول بعض الناس، بل هو لحم ودم، مخلوق من ذكر وأنثى، فاسم أبيه عبد الله ، واسم أمه آمنة بنت وهب، خلافاً للغلاة الذين غالوا فيه وعبدوه وجعلوه إلهاً، حتى قال بعضهم: إنه خلق من نور!

وفيه جواز الإعانة في الوضوء، فلا بأس أن يعينك أحد في الوضوء فيصب عليك وأنت تتوضأ.

والإعانة في الوضوء على حالتين:

الحالة الأولى: أن يأتي غيرك ويصب عليك الماء، وهذا لا بأس به.

الحالة الثانية: أن يأتي غيرك فيغسل الأعضاء، وهذا سائغ في حالة ما إذا كان الإنسان مريضاً، فلا بأس بأن ينوي هو ويأتي إنسان صحيح ويغسل وجهه.. إلخ، فالنية من المريض، والغسل من الصحيح، فيغسل يده ووجهه ورجليه.

وفي الحديث من الفوائد أن الإمام إذا تأخر فإن الناس يقدمون أحدهم يصلي بهم ولا يعطلون الجماعة، ولهذا لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته قدم الصحابة عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم صلاة الفجر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة وقد صلى عبد الرحمن ركعة، فصف هو والمغيرة خلف عبد الرحمن بن عوف ولم ينكر عليهم.

وفيه أن الإمام إذا تأخر لا ينبغي أن يشق على الناس أو أن يشدد على الناس بأن يأمرهم بإعادة الصلاة ونحو ذلك، وجاء في قصة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يصلح بين بني عوف، فجاء بلال إلى أبي بكر ليصلي بالناس وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حبس، أي: تأخر في بني عوف، فقال: نعم إن شئت. فتقدم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يشق الصفوف، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قصة عبد الرحمن لم يتقدم؛ لأن أبا بكر لم يصل ركعة، وعبد الرحمن كان قد صلى ركعة، فدل ذلك على أن الإمام بالخيار، فإن شاء تقدم إلى المحراب، وإن شاء صلى مع الناس، لكن الأولى إذا كان الإمام في أول صلاته أن يتقدم، وإن فاته شيء من الصلاة فالأولى ألا يتقدم؛ حتى لا يشوش على الناس، وإن تقدم فلا حرج، وحينئذٍ يصلي بهم، ثم ينتظرونه حتى يأتي بالركعة التي فاتته، ثم يسلم بهم.

وفيه -أيضاً- من الفوائد أن الاثنين إذا جاءا فصليا مع الإمام وقد فاتهما شيء من الصلاة فإن كل واحد منهما يقضي لنفسه ولا يقتدي أحدهما بالآخر، ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة التي فاتته هو والمغيرة ، ولم يقتد المغيرة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وإن اقتدى به فلا حرج، لكن الأولى ألا يقتدي أحدهما بالآخر.

وفيه -أيضاً- من الفوائد جواز لبس الضيق من الثياب كالضيقة الكمين، ولهذا لما أراد أن يغسل يديه ضاق عليه كم الجبة، فأخذها من تحتها، فدل على أنه لا بأس بأن يلبس الضيق، وفيه دليل على جواز لبس الثياب التي أتت من الكفار؛ لأن هذه جبة شامية من بلاد الروم، فلا بأس أن يلبس الإنسان الثياب التي جاءت من الكفار، فالأصل فيها الحل والطهارة.

وفيه دليل على اشتراط الطهارة في لبس الخفين؛ إذ جاء في اللفظ الآخر أن المغيرة : قال (فأهويت لأنزع الخفين، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، ثم مسح عليهما) ففيه دليل على اشتراط الطهارة للمسح على الخفين، وأنه لابد من الطهارة، فإن لبسهما على غير طهارة فلابد من نزعهما.

شرح حديث مسح رسول الله على الخفين والناصية والعمامة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد -، ح: وحدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن التيمي حدثنا بكر عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح ناصيته، وذكر فوق العمامة).

قال عن المعتمر : سمعت أبي يحدث عن بكر بن عبد الله عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن المغيرة (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين، وعلى ناصيته، وعلى عمامته)، قال بكر : وقد سمعته من ابن المغيرة ].

هذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي ، وفيه مشروعية المسح على الخفين، ومشروعية المسح على العمامة، وأنه إذا كانت العمامة غير ساترة للرأس فيمسح على الناصية وعلى العمامة، وإن كانت ساترة فيكتفى بالمسح على العمامة، وإن بدا شيء من الرأس مسحه مع العمامة.

شرح حديث (دع الخفين، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن الشعبي قال: سمعت عروة بن المغيرة بن شعبة يذكر عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركبه ومعي إداوة فخرج لحاجته، ثم أقبل فتلقيته بالإداوة، فأفرغت عليه، فغسل كفيه ووجهه، ثم أراد أن يخرج ذراعيه وعليه جبة من صوف من جباب الروم ضيقة الكمين فضاقت، فادرعهما ادراعاً، ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما، فقال لي: دع الخفين؛ فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان، فمسح عليهما).

قال أبي: قال الشعبي : شهد لي عروة عن أبيه، وشهد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

هذا الحديث فيه اشتراط الطهارة قبل لبس الخفين للمسح عليهما بعد ذلك، وفيه جواز لبس الصوف أو القطن أو الكتان، وأن جميع أنواع اللباس جائز، إلا الحرير والمغصوب والنجس في وقت الصلاة، وما عدا ذلك فهو حلال اللبس، سواء أكان من الصوف، أم من القطن أم من غيرهما.

إسناد آخر لحديث: (دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان)

حكم سجدتي السهو لمدرك الفرد من الصلاة

قوله: [ قال أبو داود : أبو سعيد الخدري وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم يقولون: من أدرك الفرد من الصلاة عليه سجدتا السهو ].

أي أن من أدرك وتراً من صلاة إمامه فعليه أن يسجد للسهو؛ لأنه يجلس للتشهد مع الإمام في غير موضع الجلوس، ففيه مخالفة للإمام، وبه قال جماعة من أهل العلم، منهم: عطاء وطاوس ومجاهد وإسحاق ، وهذا قول مرجوح، والصواب أنه لا يسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس خلف عبد الرحمن ولم يسجد، ولا أمر به المغيرة ، وأيضاً: ليس السجود إلا للسهو، ولا سهو هاهنا، ثم إن متابعة الإمام واجبة، فلا يسجد لفعلها كسائر الواجبات والله أعلم، وهذا إن صح عن الصحابة فهو اجتهاد منهم رضي الله عنهم.

شرح حديث بلال في مسح النبي صلى الله عليه وسلم على عمامته وموقيه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بكر -يعني ابن حفص بن عمر بن سعد - سمع أبا عبد الله عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه شهد عبد الرحمن بن عوف يسأل بلالاً عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يخرج يقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه).

قال أبو داود : هو أبو عبد الله مولى بني تميم بن مرة ].

الموق هو الخف أو الجورب، وفي الحديث مشروعية المسح على الخفين، وعلى الجوربين، وعلى العمامة.

شرح حديث جرير في المسح على الخفين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا علي بن الحسين الدرهمي حدثنا ابن داود عن بكير بن عامر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير : (أن جريراً

رضي الله عنه بال، ثم توضأ فمسح على الخفين، وقال: ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح، قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة
) ].

الحديث دليل على مشروعية المسح على الخفين، وكان العلماء يعجبهم هذا الحديث؛ لما فيه من الرد على من يقول: إن المسح على الخفين منسوخ بآية الوضوء، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، ولما قيل لـجرير بن عبد الله : إن المسح كان قبل نزول المائدة قال: ما أسلمت إلا بعد المائدة.

قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث همام بن الحارث النخعي عن جرير ، -وهو ابن عبد الله البجلي - رضي الله عنه.

وعلي بن الحسين الدرهمي هو علي بن الحسين بن مطر الدرهمي نسبة إلى درهم، وهو البصري، قال الحافظ : قال أبو حاتم : صدوق، وقال النسائي : ثقة، وقال في موضع آخر: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال مسلمة بن قاسم : ثقة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين.

وقال في موضع آخر: لا بأس به، مات سنة مائتين وثلاث وخمسين.

وأما بكير بن عامر فقد قال عنه في التقريب: إنه ضعيف، لكن الحديث ثابت في الصحيحين.

شرح حديث مسحه صلى الله عليه وسلم على خفين أسودين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد وأحمد بن أبي شعيب الحراني قالا: حدثنا وكيع حدثنا دلهم بن صالح عن حجير بن عبد الله عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن النجاشي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما).

قال مسدد : عن دلهم بن صالح ، قال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل البصرة ].

قوله: (ساذجين) أي: ليس فيهما نقوش.

ودلهم بن صالح قال عنه في التقريب: ضعيف، وحجير قال عنه: مقبول.

وعلى كل فالحديث ضعيف، لكن المسح على الخفين ثابت بالأحاديث المتواترة.

شرح حديث المغيرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن حي هو الحسن بن صالح عن بكير بن عامر البجلي عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله! أنسيت؟ قال: بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل) ].

عبد الرحمن بن أبي نعم -بسكون المهملة- البجلي هو أبو الحكم الكوفي ، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من عباد الكوفة ممن يصبر على الجوع الدائم.

وثقه ابن سعد والنسائي ، وقال ابن أبي حيثمة عن ابن معين : ضعيف.

وبكير تقدم أنه ضعيف.

فالحديث ضعيف، ولكن المسح ثابت بأحاديث متواترة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب المسح على الخفين.

حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني عباد بن زياد أن عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أنه سمع المغيرة رضي الله عنه يقول: (عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في غزوة تبوك قبل الفجر فعدلت معه، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم فتبرز، ثم جاء فسكبت على يده من الإداوة فغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم حسر عن ذراعيه فضاق كُمَّا جبته فأدخل يديه فأخرجهما من تحت الجبة، فغسلهما إلى المرفق، ومسح برأسه، ثم توضأ على خفيه ثم ركب) ].

يعني: توضأ وعليه خفان ولم يخلعهما، قال صاحب عون المعبود: أي: مسح على خفيه كما في عامة الروايات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (فأقبلنا نسير حتى نجد الناس في الصلاة قد قدموا عبد الرحمن بن عوف ، فصلى بهم حين كان وقت الصلاة، ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، ففزع المسلمون فأكثروا التسبيح؛ لأنهم سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: قد أصبتم أو قد أحسنتم) ].

هذا الحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله، والترمذي والنسائي . وفيه: أنه مسح على خفيه، ولم يقل: توضأ على خفيه، وليس فيه أنه سبح الناس.

والحديث فيه فوائد كثيرة أهمها: مشروعية المسح على الخفين، وأن المسح على الخفين سنة، وفيه: الرد على الرافضة الذين يمنعون المسح على الخفين، فإن الرافضة لا يرون المسح على الخفين، بل يجب عندهم خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، وإذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه يمسح ظاهر القدمين كما يمسح الرأس، فيبل يده ويمسح القدمين، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الأحاديث متواترة، والصحابة الذين رووا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وغسله ومسحه أكثر عدداً من الذين نقلوا نص الآية وهي آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، فالأحاديث متواترة في ذلك.

قال الإمام أحمد: رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعون صحابياً.

ومع ذلك أنكرت الرافضة هذه السنة المتواترة، ولهذا يذكرها العلماء في كتب العقائد، فيقولون: ونرى المسح على الخفين، ويقصدون من هذا الرد على الرافضة الذين أصبحت مسألة منع المسح على الخفين عقيدة عندهم، وإلا فإن المسح على الخفين مسألة فرعية تذكر في كتب الفروع، لكن يذكرها العلماء في كتب العقائد من أجل الرد على الرافضة الذين صارت لهم عقيدة، فهم يعتقدون أنه لا يجوز المسح على الخفين، وأنه يجب خلعهما ومسح ظهور القدمين، يعني: يجب مسح ظهور القدمين على كل حال، فإن كانت الرجلان مكشوفتين مسحوا ظهور القدمين، وإن كانت الرجلان فيهما خفان وجب خلع الخفين ومسح ظهور القدمين، هكذا عند الرافضة، والرافضة فرقة ضالة، نسأل الله السلامة والعافية.

والحديث فيه من الفوائد أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر ليس رباً ولا إلهاً، فيصيبه ما يصيب البشر، ويأكل ويشرب، ويبول ويتغوط، ولهذا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته يتبرز، وليس هو نوراً كما يقول بعض الناس، بل هو لحم ودم، مخلوق من ذكر وأنثى، فاسم أبيه عبد الله ، واسم أمه آمنة بنت وهب، خلافاً للغلاة الذين غالوا فيه وعبدوه وجعلوه إلهاً، حتى قال بعضهم: إنه خلق من نور!

وفيه جواز الإعانة في الوضوء، فلا بأس أن يعينك أحد في الوضوء فيصب عليك وأنت تتوضأ.

والإعانة في الوضوء على حالتين:

الحالة الأولى: أن يأتي غيرك ويصب عليك الماء، وهذا لا بأس به.

الحالة الثانية: أن يأتي غيرك فيغسل الأعضاء، وهذا سائغ في حالة ما إذا كان الإنسان مريضاً، فلا بأس بأن ينوي هو ويأتي إنسان صحيح ويغسل وجهه.. إلخ، فالنية من المريض، والغسل من الصحيح، فيغسل يده ووجهه ورجليه.

وفي الحديث من الفوائد أن الإمام إذا تأخر فإن الناس يقدمون أحدهم يصلي بهم ولا يعطلون الجماعة، ولهذا لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته قدم الصحابة عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم صلاة الفجر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة وقد صلى عبد الرحمن ركعة، فصف هو والمغيرة خلف عبد الرحمن بن عوف ولم ينكر عليهم.

وفيه أن الإمام إذا تأخر لا ينبغي أن يشق على الناس أو أن يشدد على الناس بأن يأمرهم بإعادة الصلاة ونحو ذلك، وجاء في قصة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب يصلح بين بني عوف، فجاء بلال إلى أبي بكر ليصلي بالناس وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حبس، أي: تأخر في بني عوف، فقال: نعم إن شئت. فتقدم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يشق الصفوف، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قصة عبد الرحمن لم يتقدم؛ لأن أبا بكر لم يصل ركعة، وعبد الرحمن كان قد صلى ركعة، فدل ذلك على أن الإمام بالخيار، فإن شاء تقدم إلى المحراب، وإن شاء صلى مع الناس، لكن الأولى إذا كان الإمام في أول صلاته أن يتقدم، وإن فاته شيء من الصلاة فالأولى ألا يتقدم؛ حتى لا يشوش على الناس، وإن تقدم فلا حرج، وحينئذٍ يصلي بهم، ثم ينتظرونه حتى يأتي بالركعة التي فاتته، ثم يسلم بهم.

وفيه -أيضاً- من الفوائد أن الاثنين إذا جاءا فصليا مع الإمام وقد فاتهما شيء من الصلاة فإن كل واحد منهما يقضي لنفسه ولا يقتدي أحدهما بالآخر، ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم يقضي الركعة التي فاتته هو والمغيرة ، ولم يقتد المغيرة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وإن اقتدى به فلا حرج، لكن الأولى ألا يقتدي أحدهما بالآخر.

وفيه -أيضاً- من الفوائد جواز لبس الضيق من الثياب كالضيقة الكمين، ولهذا لما أراد أن يغسل يديه ضاق عليه كم الجبة، فأخذها من تحتها، فدل على أنه لا بأس بأن يلبس الضيق، وفيه دليل على جواز لبس الثياب التي أتت من الكفار؛ لأن هذه جبة شامية من بلاد الروم، فلا بأس أن يلبس الإنسان الثياب التي جاءت من الكفار، فالأصل فيها الحل والطهارة.

وفيه دليل على اشتراط الطهارة في لبس الخفين؛ إذ جاء في اللفظ الآخر أن المغيرة : قال (فأهويت لأنزع الخفين، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، ثم مسح عليهما) ففيه دليل على اشتراط الطهارة للمسح على الخفين، وأنه لابد من الطهارة، فإن لبسهما على غير طهارة فلابد من نزعهما.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد -، ح: وحدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن التيمي حدثنا بكر عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح ناصيته، وذكر فوق العمامة).

قال عن المعتمر : سمعت أبي يحدث عن بكر بن عبد الله عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن المغيرة (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين، وعلى ناصيته، وعلى عمامته)، قال بكر : وقد سمعته من ابن المغيرة ].

هذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي ، وفيه مشروعية المسح على الخفين، ومشروعية المسح على العمامة، وأنه إذا كانت العمامة غير ساترة للرأس فيمسح على الناصية وعلى العمامة، وإن كانت ساترة فيكتفى بالمسح على العمامة، وإن بدا شيء من الرأس مسحه مع العمامة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن الشعبي قال: سمعت عروة بن المغيرة بن شعبة يذكر عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركبه ومعي إداوة فخرج لحاجته، ثم أقبل فتلقيته بالإداوة، فأفرغت عليه، فغسل كفيه ووجهه، ثم أراد أن يخرج ذراعيه وعليه جبة من صوف من جباب الروم ضيقة الكمين فضاقت، فادرعهما ادراعاً، ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما، فقال لي: دع الخفين؛ فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان، فمسح عليهما).

قال أبي: قال الشعبي : شهد لي عروة عن أبيه، وشهد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ].

هذا الحديث فيه اشتراط الطهارة قبل لبس الخفين للمسح عليهما بعد ذلك، وفيه جواز لبس الصوف أو القطن أو الكتان، وأن جميع أنواع اللباس جائز، إلا الحرير والمغصوب والنجس في وقت الصلاة، وما عدا ذلك فهو حلال اللبس، سواء أكان من الصوف، أم من القطن أم من غيرهما.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [25] 2608 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [20] 2121 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [6] 1989 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [7] 1969 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [22] 1951 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [4] 1889 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [14] 1847 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [9] 1780 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [19] 1772 استماع
شرح سنن أبي داود كتاب الطهارة [3] 1750 استماع