أرشيف المقالات

يوم وقعت الواقعة. . .!

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
للأستاذ علي الطنطاوي أما رثاء الفقيد، وبيان جلال الرزء فيه، ومبلغ الحزن عليه، فتلك أمور كبرت عن أن يحيط بها (نظم من الشعر أو نثر من الخطب)، وبُعد منالها عن كاتب مثلي قصير القامة واليدين، فليكن همي أن أروي (ما رأيت وما سمعت)، ولقد رأيت عجباً وسمعت أعجب منه، وشاهدت أحوالاً ربما ظنها القراء الذين هم في غير بغداد مبالغة من نسج الخيال، ولكن الله يعلم وأهل بغداد يشهدون أن الذي أقوله حق كله، وأني ما زدت فيه ولكن نقصت منه، وأني لو ذهبت أتزيد فيه ما استطعت ولا بقي للخيال بعد الذي كان مجال والذي رأيت أني نزلت من (الأعظمية) مبكراً على عادتي، فلم أرى على الطريق ما أنكر إلا حركة عند (البلاط) ما ألقيت إليها بالاً، حتى إذا شارفت المدرسة (ومدرستنا في ظاهر بغداد قريبة من باب المعظم) رأيت طائفة من الطلاب مجتمعين يتهامسون، ولكن الوجوه غير الوجوه، فلما أبصروني أسرعوا إلي يسألونني عن (الحادثة)، فقلت وأنا خالي البال: أي حادثة؟ إني ما سمعت بعد بشيء! قالوا: لقد شاع في البلد أن الملك.
فاضطربت وتوقعت أن أسمع عنه نبأ لا يسر، ولقد أحببت الملك منذ شهور خلت حبّاً شديداً لم أكن أحبه من قبل مثله، وصرت أرى فيه معقد الأمل وباب الرجاء، فلما قال التلميذ ما قال خفق قلبي من توقع المكروه، وحب الاستطلاع، وروعة المفاجأة، وما يصيب المرء في العادة في موقف مثل هذا، وصحت بالولد أسأله: أن ما للملك؟ وبالغتُ في الصياح حتى روّعتُه، وأثرت أحزانه، فقال متعثراً يجرُ الحروف من فيه جرّاً: - يقولون أنه.

قد مات! فقلت: أعوذ بالله، أسكت ويحك، إن هذا كذب، فلا تنطق به.
وأسرعت إلى المدرسة، والطلاب معي، وأنا أرجو وهم يرجون أن يكون الخبر كذباً.
وتلبث بعض الطلاب قائمين على الطريق ينتظرون مرور الملك كما يمرّ كل يوم.
فلما بلغنا المدرسة وجدنا كل من كان فيها من مدرسين وطلاب قد سمعوا الذي سمعنا، وهم بين مصدق ومكذب.
ومرت ساعة ونحن على هذه الحال من القلق نسأل كل آت فلا نلقى عنده جواباً، ونستخبر الهاتف (التلفون) فلا نسمع خبراً.
ثم أبصرنا علم الثكنة العسكرية التي أمامنا قد نكس، وجاءنا الأمر بتنكيس العلم، وجمع الطلاب في غداة الغد للتشييع.
فعلمنا أن الناعي قد صدق، وأن الأمل قد خاب!!. وخرج المدير وهو الرجل القويُ المكتمل الرجولة ليعلن الأمر.
فما تمالك نفسه أن بكى وهو ينعى لشباب المدرسة (الغربية المتوسطة) سيد شباب العرب.
وما أمسك الطلاب أنفسهم أن يصيحوا: (وهم ثمانمائة شاب يعدون مثال النظام) صيحة واحدة، وأن يبكوا بنحيب وعويل، وأن يمزق بعضهم ثيابه، وأن يغمى على بعض.
وما أكتم القارئ أني حسبت ذلك رياء وتصنّعاً، وكرهته أول الأمر، واشمأزت منه نفسي، ولكني ما لبثت أن أيقنت أنه حق وصدق، وأنه منشأة هذا الحب العجيب للملك الجندي، وهذا الحزن البالغ على وفاته الفاجعة.
وخرج الطلاب بعد ذلك، وخرجت على الأثر.
فما دنوت من (باب المعظم) حتى سمعت نواح النساء ونحيبهّن، ورأيت الميدان كله ممتلئاً بالناس، يتدافعون ويستبقون إلى البلاط باكين مفجوعين.
مشهد للحزن ما أحسب أن أروع منه يكون؛ فخالفت الجماهير وقصدت شارع الرشيد، فلم أبلغ (الصابونية) حتى رأيت مئات من النساء، تحكي ثيابهّن ومظاهرهن الغنى والحشمة، وهن ينشدن شعراً عامياً، أو شبه شعر، ما فهمته ولكني تبينت فيه ذكر غازي وشبابه الغض، وذكر الموت.

وكلما قلن بيتاً لطمن وجوههن بشدة، وبكين بحرقة وألم.

فما رآهن أحد إلا بكى أشد بكاء؛ ورأيت من بعد آلافاً من الناس قد حملوا شاعراً عامياً فهو يقرأ لهم شعراً كله تفجع وألم، وهم يلطمون ويضربون صدورهم أو يشيرون باللطم، فلم أطق المسير ولا الشهود فملت إلى المدرسة (الثانوية) وكانت خالية مقفرة، وعلى بابها علمان متشحان بالسواد، فغادرتها أفتش عن أخي أنور العطار.
فما هي حتى جمعني الله به.
فقلت له: إن المسير في شارع الرشيد مستحيل، والصبر على رؤية هذه المواكب الباكية أشد استحالة، وحسبنا ما في نفوسنا من الألم، فهلم بنا إلى الدار (في الكرخ) فإنها أهدأ.
ورأى ما رأيت، فسرنا نؤم الجسر، وكان اليوم عاصفاً مخيفاً، والنهر مضطرباً مرعباً؛ كأن الطبيعة قد روّعها من النبأ ما روّعنا؛ ففقدت هي أيضاً اتّزانها وهدوءها، فما ظننا والله إلا أن الجسر منقطع بنا، لما كان يضطرب ويرقص، وتلعب الرياح والمياه بالعوامات التي يقوم عليها، ولكن الله سلّم فبلغنا الكرخ، وإذا بالكرخ قد نشرت الأعلام، أعلام (السباية) السود، ودقت طبول المأتم وخرج أهلوها على بكرة أبيهم، مواكب مواكب: النساء ينحن ويلطمن الوجوه، والرجال ينشدون ويضربون الصدور، وقد تعروا وتكشفوا فعل المتهيئ للصراع، حتى رأيت الصدور وهي من الاحمرار كأنما دامية.
والأطفال، يا لله ما فعل الأطفال! لقد تعروا مثلما فعل الرجال، وطفقوا يضربون صدوراً علم الله أنها ما تحمل الضرب ولا تطيقه.

وكانت المواكب في كل شارع، وفي كل زقاق.
فكلما تركنا واحداً منها اصطدمنا بآخر، حتى أزمعنا آخر الأمر أن نعود إلى جانب الرصافة من الجسر الآخر، فما بلغناها حتى رأينا فيها ما أنسانا فعل أهل الكرخ، وكان كل موكب يحمل صورة للملك الشاب مجللة بالسواد، وينشد أشعاراً لم أحفظها ولكن فهمت منها كثيراً، فما فهمت مقالة قوم: الله أكبر يا عربْ ...
غازي انفقدْ من دارَهْ واهتزتْ أركانْ السماء ...
من صدمةِ السَّيارةْ وقول قوم ما معناه: قولوا لفيصل في القبر يستقبل وليده.

في أشعار كثيرة هذا سبيلها، ولعل القراء لا يدركون قوتها ووزنها، لأني لم أحسن كتابتها ونقلها، ولكنهم لو سمعوها من أفواه أصحابها ورأوا بكاهم، وشاهدوا صدورهم المحمرّة، لعرفوا أي شيء هي، ولعلموا أن بغداد تعرف كيف تفرح وكيف تغضب وكيف تحزن! ومن أعجب ما شاهدت فتيات المدارس وهن يلطمن وجوهاً يؤذيها المسّ، ويدميها النسيم، لا يشفقن على أنفسهن، ولا يفتأن ما سرن يَبكين ويُبكين، ويا ليتني فهمت ما كنّ يقلن فإنه أشجى وأعجب مما كان الرجال يقولون! وبقيت المدينة على هذه الحال إلى صباح اليوم التالي، إلى ساعة التشييع التي أعلن العجز عن وصفها.
فلما تم الدفن، وأودع الثرى الملك الشاب الذي كان يفيض قوة وحياة، وحوّمت الطيارات الوطنية تحمل شارات الحزن السود الطوال على الملك الطيّار، وانطلقت المدافع تعلن انتهاء الدفن، وأيقن الناس أن المصيبة قد تمت، وأن الرجاء قد أمحى، أفاقوا كمن يفيق من نومة مزعجة رأى فيها الحلم المروّع، فيرى الواقع أشد إزعاجاً وترويعاً، فأسلموا الأمر إلى الله، وصمتت هذه الألسن التي طالما أنشدت ورثت، وتفجعت، وجفت هذه الدموع التي طالما جرت وذرفت، وانفضت هذه الجموع واجمة ما فيها من يتكلم أو ينبس، وفي القلوب نيران تتأجج، وبين الأضالع لهيب يستعر، ولم تسكت آخر طلقة من طلقات المدافع التسع والتسعين، حتى عمّ المدينة صمت عميق، وغدت كأنها قبر واحد، قبر غازي الملك الحبيب الذي أمّ الناس قصره قبل عشرة أيام مهنئين بالميلاد السعيد، فانصرفوا الساعة من زيارة قبره الجديد، مودعين حبيباً لن يروه إلى يوم القيامة.
وهمس رجل، فسار الهمس على كل لسان: رحمة الله على غازي، ولفيصل أبنه التوفيق والسعادة والحياة! (بغداد) علي الطنطاوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢