الصبر على أقدار الله - عبد المحسن بن محمد القاسم
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
ملخص الخطبة
1- تقدير الله للأرزاق والآجال.
2- سنة الابتلاء والحكمة منها.
3- فضل الصبر عند الشدائد.
4- صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
5- ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها.
6- انتظار الفرج.
7- الاعتصام بالله عند الشدائد.
8- الحث على الدعاء .
9- التوكل على الله والرضا بقضائه.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى ، فبالتقوى زيادة النعم، ودفع النقم.
أيها المسلمون، لقد قدر الله مقادير الخلائق وآجالهم، ونسخ آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم، وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
والإيمان بقضاء الله وقدره ركن من أركان الإيمان ، وما في الأرض من حركة أو سكون إلا بمشيئة الله وإرادته، وما في الكون كائن بتقدير الله وإيجاده.
والدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال، والعوارضُ والمحنُ فيها هي كالحر والبرد لا بد للعبد منها، {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، والقواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، والنفس لا تزكو إلا بالتمحيص، والبلايا تُظهر الرجال، يقول ابن الجوزي: "من أراد أن تدوم له السلامة والعافية من غير بلاء فما عرف التكليف ولا أدرك التسليم"[1].
ولا بد من حصول الألم لكل نفس، سواء آمنت أم كفرت، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار، ولا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم، والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن.
آدم عليه السلام سجدت له الملائكة ، ثم بعد بُرهة يُخرج من الجنة .
وما الابتلاء إلا عكس المقاصد وخلاف الأماني، والكل حتم يُتجرّع مرارته، ولكن ما بين مقِلٍّ ومستكثر، يُبتلى المؤمن ليهذَّب لا ليعذَّب، فتن في السراء، ومحن في الضراء، {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، والمكروه قد يأتي بالمحبوب، والمرغوب قد يأتي بالمكروه، فلا تأمن أن توافيك المضرة من جانب المسرة، ولا تيأس أن تأتيك المسرة من جانب المضرة، قال عز وجل: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
فوطّن نفسك على المصائب قبل وقوعها، ليهن عليك وقعها، ولا تجزع بالمصائب، فللبلايا أمد محدود عند الله، ولا تسخط بالمقال، فرب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، ولا يتغير فؤاده ولا ينطق بالشكوى لسانه، وخفف المصاب على نفسك بوعد الأجر وتسهيل الأمر، لتذهب المحن بلا شكوى، وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصاب لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء، والمصيبة إن بدت لعدوّ سُرَّ واستبشر بها، وكتمان المصائب والأوجاع من شيم النبلاء، فصابر هجير البلاء، فما أسرع زواله، وغاية الأمر صبر أيام قلائل، وما هلك الهالكون إلا من نفاد الجَلَد، والصابرون مجزيون بخير الثواب، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، وأجورهم مضاعفة، {أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54]، بل وبغير حساب، والله معهم، والنصر والفرج معلق بصبرهم، وما منعك ربك ـ أيها المبتلى ـ إلا لتعطى، ولا ابتلاك إلا لتعافى، ولا امتحنك إلا لتصَفَّى، يبتلي بالنعم، وينعم بالبلاء، فلا تضيّع زمانك بهمّك بما ضمن لك من الرزق ، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا، قال تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وإذا أغلق عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه.
بالابتلاء يُرفع شأن الأخيار، ويعظم أجر الأبرار، يقول سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءٌ؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» [رواه الترمذي وهو حسن صحيح][2].
وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي في النار الخليل، وأضجِع للذبح إسماعيل، وألقي في بطن الحوت يونس، وقاسى الضر أيوب، وبيع بثمن بخس يوسف، وألقي في الجب إفكاً، وفي السجن ظلماً، وعالج أنواع الأذى نبينا محمد، وأنت على سنة الابتلاء سائر، والدنيا لم تصفُ لأحد، ولو نال منها ما عساه أن ينال، يقول المصطفى: «من يرد الله به خيراً يصب منه» [رواه البخاري ] [3].
قال بعض أهل العلم : "من خلقه الله للجنة لم تزل تأتيه المكاره"، والمصيبة حقاً إنما هي المصيبة في الدين، وما سواها من المصائب فهي عافية، فيها رفع الدرجات، وحط السيئات، وكل نعمة لا تُقرّب من الله فهي بلية، والمصاب من حُرِم الثواب، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا، فنوازلها أحداث، وأحاديثها غموم، وطوارقها هموم، الناس معذبون فيها على قدر هممهم بها، الفرح بها هو عين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها، وأحزانها من أفراحها، يقول أبو الدرداء : "من هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها" [4].
فتشاغل بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل، أو اعتذار عن زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب، وتلمّح سرعة زوال بليتك تهن، فلولا كرب الشدة ما رُجيت سعة الراحة، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس تكن أغناهم، ولا تقنط فتُخذل، وتذكر كثرة نعم الله عليك، وادفع الحزن بالرضا بمحتوم القضا، فطول الليل وإن تناهى فالصبح له انفلاج، وآخر الهم أول الفرج، والدهر لا يبقى على حال، بل كل أمر بعده أمر، وما من شدة إلا ستهون، ولا تيأس وإن تضايقت الكروب، فلن يغلب عسر يسرين، واضرع إلى الله يزهو نحوك الفرج، وما تجرّع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه المخرج، يعقوب عليه السلام لما فقد ولداً وطال عليه الأمد، لم ييأس من الفرج، ولما أُخد ولده الآخر لم ينقطع أمله من الواحد الأحد، بل قال: {عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83].
وربنا وحده له الحمد، وإليه المشتكى، فإذا تكالبت عليك الأيام، وأغلقت في وجهك المسالك والدروب، فلا ترجُ إلا الله في رفع مصيبتك ودفع بليتك، وإذا ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، قلب وجهك في ظلمات الليل في السماء، وارفع أكف الضراعة، وناد الكريم أن يفرج كربك، ويسهل أمرك، وإذا قوي الرجاء، وجمع القلب في الدعاء لم يرد النداء، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، وتوكل على القدير، والجأ إليه بقلب خاشع ذليل يفتح لك الباب، يقول الفضيل بن عياض: "لو يئست من الخلق لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك كل ما تريد" [5].
إبراهيم عليه السلام ترك هاجر وابنه إسماعيل بواد لا زرع فيه ولا ماء، فإذا هو نبيٌ يأمر أهله بالصلاة والزكاة، ومضى يونس مجرداً في العراء، ومن فوّض أمره إلى مولاه حاز مناه، وأكثر من دعوة ذي النون: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، يقول العلماء : ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه، يقول ابن القيم : "وقد جُرب أن من قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، سبع مرات كشف الله ضره"[6]، فألقِ كنفك بين يدي الله، وعلّق رجاءك به، وسلِّم الأمر للرحيم، واسأله الفرج، واقطع العلائق عن الخلائق، وتحرّ أوقات الإجابة، كالسجود وآخر الليل، وإياك أن تستطيل زمن البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء، متعبَّد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء، فالفرج قريب، وسل فاتح الأبواب فهو الكريم، {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس: 107]، وهو الفعال لما يريد.
بلغ زكريا عليه السلام من الكبر عتيا، ثم وُهب بسيد من فضلاء البشر وأنبيائهم، وإبراهيم بُشر بولد وامرأته تقول بعد يأس من حالها: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، وإن استبطأت الرزق فأكثر من التوبة والاستغفار، فإن الزلل يوجب العقوبة، وإذا لم تر للإجابة أثراً فتفقد أمرك، فربما لم تصدق توبتك فصححها، ثم أقبل على الدعاء، فلا أعظم جوداً ولا أسمح يداً من الجواد، وتفقد ذوي المسكنة، فالصدقة ترفع وتدفع البلاء، وإذا كشفت عنك المحنة فأكثر من الحمد والثناء، واعلم أن الاغترار بالسلامة من أعظم المحن، فإن العقوبة قد تتأخر، والعاقل من تلمَّح العواقب، فأيقن دوماً بقدر الله وخلقه وتدبيره، واصبر على بلائه وحكمه، واستسلم لأمره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صيد الخاصر (3830) بتصرف يسير.
[2] أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4022) وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح" ، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (1/40، 41) والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة وعزاه من بين ما عزاه للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في الصحيحة (143).
[3] صحيح البخاري ، كتاب المرضى (5645) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] قال القرطبي في تفسيره (6/415): "روي عن النبي أنه قال" ثم ذكره.
[5] انظر: جامع العلوم والحكم (ص197).
[6] الفوائد (ص201).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً.
أما بعد:
أيها المسلمون، الأحوال لا تثبت على حال، والسعيد من لازم التقوى، إن استغنى زانته، وإن افتقر أغنته، وإن ابتلي جملته، فلازم التقوى في كل حال، فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، ولا في المرض إلا العافية، ولا في الفقر إلى الغنى، والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُقدّر لا حيلة في تحصيله، والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، والله هو المتفرد بالاختيار والتدبير، وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وهو أرحم به منه بنفسه، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات"[1]، ومن رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به، ومع هذا فلا خروج عما قُدّر عليك.
قيل لبعض الحكماء: "ما الغنى؟"، قال: "قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك".
يقول شريح رحمه الله: "ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان له فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت، وأن الله رزقه الصبر عليها إذ صبر".
ثم صلوا وسلموا ـ عباد الله ـ على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير (2/351) بنحوه.