الروض المربع - كتاب البيع [23]


الحلقة مفرغة

مدة خيار التدليس الذي زيد به الثمن

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: (وخيار التدليس على التراخي).

يعني: لو علم المشتري بالتصرية بإخبار البائع أو وكيله بعد عقد البيع فهل يثبت له خيار الرد على الفور, أم يقال له: حتى لو علمت فلك الخيار ثلاثة أيام؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثة أيام ), الظاهر -والله أعلم- أن خيار التصرية لا يثبت على الفور؛ وذلك لأمور:

الأمر الأول: لظاهر الحديث: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), فالشارع جعل للمشتري الخيار, فلعل المشتري اشترى المعقود عليه وارتضاه لذاته لا للبنه, فجعل له الخيار ثلاثة أيام يشاور أمره, هل يرده؛ لوجود اللبن, أو يبقيه؛ لذات الدابة.

الأمر الثاني: ولأن الدابة أحياناً يدر لبنها في مكان ما لا يدر في مكان آخر! يعني: أن بعض الدواب إذا أبقيتها في مكان ربما لا يدر لبنها؛ لأنها تجد نفسها غير مرتاحة في هذا المكان أو في هذه الزريبة, لكنها لو وضعت في مكان آخر تجد أنها تدر؛ ولهذا يقول العوام: المغصوبة ما فيها لبن, وهذا معروف, فإن بعض الدواب تغضب من مالكها, فيحبس اللبن سبحان الله العظيم! وإذا رضيت وارتعت وبدأت تأكل ما تحب فإن اللبن يدر.

وأذكر من باب الطرائف, أن بقرة كما يذكر آباؤنا كانت عند جيرانهم وكانت لا ترضى أن تحلب إلا إذا أعطيت أكلاً, فإذا أعطيت المربوق درت, وإذا لم تعط لم تدر, حتى وضعوا لها الفلفل الحار في هذا المربوق فما أكلته بعد ذلك, وهذا يدل على أن الدواب تحبس أحياناً لبنها, فلربما حبسته عند بائعها, فإذا اشتراها المشتري درت؛ ولهذا حتى لو أخبر البائع المشتري بأنه قد صر الإبل فربما لا يكون ذلك عيباً حينما تنتقل إلى المشتري؛ فلهذا جعل له الخيار ثلاثة أيام؛ ولهذا قال: (منذ علم), يعني: لو أنه اشترى الدابة وحلبها, فلما كان اليوم الأول ما أعلفها, فجف ضرعها, فيظن المشتري أن الجفاف بسبب أنه لم يسرحها ويجعلها تأكل في المرعى, فلما كان اليوم الثاني أكلت, ولكنها ليس فيها لبن أيضاً, فظن أن ذلك بسبب جوعها في اليوم الأول, فلما كان اليوم الثالث وجد أن فيها جفافاً, فتيقن أن هذا بسبب التصرية, فيقول المؤلف: (فيخير ثلاثة أيام منذ علم), بالتصرية, فيكون له ثلاثة أيام منذ العلم بعد ثلاثة أيام من شرائها, فتصير لها عنده ستة أيام.

والقول الآخر: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), يعني: من أول ما يزول اللبن الذي في ضرعها, ولعل هذا القول أظهر, أي: القول الثاني, وليس بعد العلم؛ لأن المشتري أحياناً يكون ليس بفطن, ولا ثقف ولا من أهل هذه الصنعة, فربما لم يعلم بهذا الأمر إلا بعد زمن, فيقال له: وما يدرينا أنك لم تعلم؛ فلأجل قطع دابر الخصومة قال صلى الله عليه وسلم: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), فدل ذلك على أن الخيار إنما يبدأ بعد إزالة اللبن الذي في ضرعها, فتبدأ المدة التي يمكن بها معرفة ذلك, وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأيضاً ربما تضرر البائع من حبسها خلال أكثر من ثلاث, والقاعدة أن الضرر لا يزال بمثله, ومن أمثلة ذلك في الواقع المعاصر, إذا اشترى الشخص المعقود عليه وصار فيه عطب, وحاول أن يدلس البائع, مثل أن يكون في مكينة السيارة دخان كثير, فيأتي مهندس السيارات فيضع على المكينة زيت, فإذا اشتراها المشتري وشغل السيارة لم يجد دخاناً في الشكمان, فيظن أن السيارة جيدة, فإذا أخذها وأسرع بها ربما تأتي الأدخنة بعد أن يحترق الزيت, فيعلم المشتري أن هذا نوع من التدليس, فالراجح -والله أعلم- أنه متى ما علم بالتدليس يثبت له الخيار, فأما المصراة فيكون الخيار فيها بعد الحلب, وأما في التدليس بما يزيد به الثمن فهو بعد أن يعلم, والله أعلم.

واعلم أن الخيار ثلاثة أيام إنما هو في الدابة, أو في ما يحتاج إلى اختبار, وأما ما لا يحتاج إلى اختبار مثل تسويد شعر الجارية فإذا غسل وأزيل علم كبر تلك المرأة, فالراجح -والله أعلم- أنه على الفور, فخيار التدليس إن كان مما يحتاج إلى اختبار كالرحى أو المصراة فهو على الخيار ثلاثاً على التراخي, وأما إن كان مما لا يحتاج إلى اختبار وتجربة فالراجح والله أعلم أنه بمجرد العلم يكون على الفورية, وعلى هذا فإذا ادعى البائع أن المشتري أبقاه عنده بعد أن علم على سبيل الرضا فليس له إلا يمينه؛ لأن القاعدة أن اليمين لأقوى المتداعيين, والعلم هنا في الغالب عند المشتري.

التدليس بكتم عيب في المعقود عليه

النوع الثاني في خيار التدليس: أن يفعل البائع شيئاً يكتم به عيب المعقود عليه, فهذا ثابت عند الأئمة الأربعة؛ لأنه عيب, أما الأول فليس فيه عيب أصلاً؛ فلهذا يثبت الخيار والله أعلم, وهو ما يسمى بخيار التدليس للعيب أو بخيار العيب.

قول المؤلف: (بين إمساك بلا أرش ورد مع صاع تمر سليم), استدل الحنفية والمالكية ورواية عند الإمام أحمد بهذا الحديث على أن من اشترى معيباً فإنه بخير النظرين إما أن يمسكه بلا رد, وبلا مطالبة أرش, وبين أن يرده, فليس له إلا الفسخ أو الإمساك, أما أن يمسك ويطالب بأرش النقص الحاصل في المعقود عليه فهي معاوضة جديدة لا بد فيها من رضا المتعاقدين, وكون البائع ظلم المشتري يمكن إزالته بجعل الخيار للمشتري, أما أن يظلم البائع بأكثر من ذلك، بأن يملك المشتري المعقود عليه ويطالب البائع بالعوض فهذه معاوضة جديدة لا بد فيها من رضا الطرفين والقاعدة في هذا أنه: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ), كما في حديث ابن عباس , وهذا القول أقوى وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله خلافاً للمشهور عند الحنابلة والشافعية.

إخراج قيمة التمر عند عدمه في خيار التدليس

قول المؤلف: (فإن عدم التمر فقيمته), والمراد التمر الذي يأكلون منه؛ لأن التمر يختلف, هناك: خلاص وسكري، وشجر وشيشي وغيره فإن عدم أخرج قيمة التمر المتوسط عند الناس, فإذا قلنا: إن الصاع أربعة كيلو, تقريباً فتكون القيمة ستين ريالاً, والله أعلم.

قبول رد اللبن بحاله في خيار التدليس

قول المؤلف: (ويقبل رد اللبن بحاله), المذهب إن كان اللبن الذي حلب باقياً لم يتغير طعمه رده المشتري؛ لأن هذا اللبن هو الذي كان موجوداً وقت إبرام العقد, وليس للبائع الرد؛ لأنه لم يتغير طعمه, فأما إن تغير طعمه فإن للبائع مطالبة المشتري بالصاع؛ لأن هذا بعد الحموضة ربما يرغب عنه, فيكون وجوده كعدمه والله أعلم.

والقول الثاني: لا بد فيه من التمر، والراجح -والله أعلم- أن التمر حكومة, فإن رضي البائع بقبول اللبن جاز ذلك, فهي معاوضة بينهما, فصار اللبن المردود بدلاً عن التمر, وأما إذا لم يقبل فالأصل هو التمر, فإذا ادعى أنه ناقص ولم يثبت المشتري أنه لم يكن ناقصاً فالأصل أن البائع له التمر, فإن أثبت المشتري أن هذا اللبن هو الذي حصل به الحل وأثبت على ذلك البينة فإن له أن يرده والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: (وخيار التدليس على التراخي).

يعني: لو علم المشتري بالتصرية بإخبار البائع أو وكيله بعد عقد البيع فهل يثبت له خيار الرد على الفور, أم يقال له: حتى لو علمت فلك الخيار ثلاثة أيام؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثة أيام ), الظاهر -والله أعلم- أن خيار التصرية لا يثبت على الفور؛ وذلك لأمور:

الأمر الأول: لظاهر الحديث: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), فالشارع جعل للمشتري الخيار, فلعل المشتري اشترى المعقود عليه وارتضاه لذاته لا للبنه, فجعل له الخيار ثلاثة أيام يشاور أمره, هل يرده؛ لوجود اللبن, أو يبقيه؛ لذات الدابة.

الأمر الثاني: ولأن الدابة أحياناً يدر لبنها في مكان ما لا يدر في مكان آخر! يعني: أن بعض الدواب إذا أبقيتها في مكان ربما لا يدر لبنها؛ لأنها تجد نفسها غير مرتاحة في هذا المكان أو في هذه الزريبة, لكنها لو وضعت في مكان آخر تجد أنها تدر؛ ولهذا يقول العوام: المغصوبة ما فيها لبن, وهذا معروف, فإن بعض الدواب تغضب من مالكها, فيحبس اللبن سبحان الله العظيم! وإذا رضيت وارتعت وبدأت تأكل ما تحب فإن اللبن يدر.

وأذكر من باب الطرائف, أن بقرة كما يذكر آباؤنا كانت عند جيرانهم وكانت لا ترضى أن تحلب إلا إذا أعطيت أكلاً, فإذا أعطيت المربوق درت, وإذا لم تعط لم تدر, حتى وضعوا لها الفلفل الحار في هذا المربوق فما أكلته بعد ذلك, وهذا يدل على أن الدواب تحبس أحياناً لبنها, فلربما حبسته عند بائعها, فإذا اشتراها المشتري درت؛ ولهذا حتى لو أخبر البائع المشتري بأنه قد صر الإبل فربما لا يكون ذلك عيباً حينما تنتقل إلى المشتري؛ فلهذا جعل له الخيار ثلاثة أيام؛ ولهذا قال: (منذ علم), يعني: لو أنه اشترى الدابة وحلبها, فلما كان اليوم الأول ما أعلفها, فجف ضرعها, فيظن المشتري أن الجفاف بسبب أنه لم يسرحها ويجعلها تأكل في المرعى, فلما كان اليوم الثاني أكلت, ولكنها ليس فيها لبن أيضاً, فظن أن ذلك بسبب جوعها في اليوم الأول, فلما كان اليوم الثالث وجد أن فيها جفافاً, فتيقن أن هذا بسبب التصرية, فيقول المؤلف: (فيخير ثلاثة أيام منذ علم), بالتصرية, فيكون له ثلاثة أيام منذ العلم بعد ثلاثة أيام من شرائها, فتصير لها عنده ستة أيام.

والقول الآخر: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), يعني: من أول ما يزول اللبن الذي في ضرعها, ولعل هذا القول أظهر, أي: القول الثاني, وليس بعد العلم؛ لأن المشتري أحياناً يكون ليس بفطن, ولا ثقف ولا من أهل هذه الصنعة, فربما لم يعلم بهذا الأمر إلا بعد زمن, فيقال له: وما يدرينا أنك لم تعلم؛ فلأجل قطع دابر الخصومة قال صلى الله عليه وسلم: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), فدل ذلك على أن الخيار إنما يبدأ بعد إزالة اللبن الذي في ضرعها, فتبدأ المدة التي يمكن بها معرفة ذلك, وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وأيضاً ربما تضرر البائع من حبسها خلال أكثر من ثلاث, والقاعدة أن الضرر لا يزال بمثله, ومن أمثلة ذلك في الواقع المعاصر, إذا اشترى الشخص المعقود عليه وصار فيه عطب, وحاول أن يدلس البائع, مثل أن يكون في مكينة السيارة دخان كثير, فيأتي مهندس السيارات فيضع على المكينة زيت, فإذا اشتراها المشتري وشغل السيارة لم يجد دخاناً في الشكمان, فيظن أن السيارة جيدة, فإذا أخذها وأسرع بها ربما تأتي الأدخنة بعد أن يحترق الزيت, فيعلم المشتري أن هذا نوع من التدليس, فالراجح -والله أعلم- أنه متى ما علم بالتدليس يثبت له الخيار, فأما المصراة فيكون الخيار فيها بعد الحلب, وأما في التدليس بما يزيد به الثمن فهو بعد أن يعلم, والله أعلم.

واعلم أن الخيار ثلاثة أيام إنما هو في الدابة, أو في ما يحتاج إلى اختبار, وأما ما لا يحتاج إلى اختبار مثل تسويد شعر الجارية فإذا غسل وأزيل علم كبر تلك المرأة, فالراجح -والله أعلم- أنه على الفور, فخيار التدليس إن كان مما يحتاج إلى اختبار كالرحى أو المصراة فهو على الخيار ثلاثاً على التراخي, وأما إن كان مما لا يحتاج إلى اختبار وتجربة فالراجح والله أعلم أنه بمجرد العلم يكون على الفورية, وعلى هذا فإذا ادعى البائع أن المشتري أبقاه عنده بعد أن علم على سبيل الرضا فليس له إلا يمينه؛ لأن القاعدة أن اليمين لأقوى المتداعيين, والعلم هنا في الغالب عند المشتري.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2626 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2583 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2542 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2541 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2516 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2448 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2382 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2370 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2351 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2349 استماع